التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعٗا فَقَالَ ٱلضُّعَفَـٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعٗا فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا مِنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ قَالُواْ لَوۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَيۡنَٰكُمۡۖ سَوَآءٌ عَلَيۡنَآ أَجَزِعۡنَآ أَمۡ صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٖ} (21)

ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانباً من الحوار الذى يدور يوم القيامة بين الضعفاء والمستكبرين ، بين الأتباع والمتبوعين . . فقال - تعالى - : { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ . . . }

وقوله { وبرزوا } من البروز بمعنى الظهور ، مأخوذ من البراز وهو الفضاء الواسع ، الذى يظهر فيه الناس بدون استتار . أى : وخرج الكافرون جميعاً من قبورهم يوم القيامة وظهوراً ظهوراً لا خفاء معه ، لكى يحاسبهم - سبحانه - على أعمالهم فى الدنيا .

وقال - سبحانه - { وبرزوا } بلفظ الفعل الماضى مع أن الحديث عن يوم القيامة ، للتنبيه على تحقق وقوع هذا الخروج ، وأنه كائن لا محالة .

وعبر - سبحانه - بهذا التعبير ، مع أنهم لا يخفون عليه سواء أبرزوا أم لم يبرزوا ، لأنهم كانوا فى الدنيا يستترون عن العيون عند اجتراحهم السيئات ويظنون أن ذلك يخفى على الله - عز وجل - .

ثم بين - سبحانه - ما سيقوله الضعفاء للمستكبرين فى هذا الموقف العصيب فقال :

{ فَقَالَ الضعفاء } وهم العوام والأتباع الذين فقدوا نعمة التفكير ، ونعمة حرية الإِرادة ، فهانوا وذلوا . .

قال هؤلاء الضعفاء { لِلَّذِينَ استكبروا } وهم السادة المتبوعون الذين كانوا يقودون أتباعهم إلى طريق الغى والضلال .

{ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ } - أيها السادة - { تبعا } جمع تابع كخادم وخدم .

أى : إنا كنا فى الدنيا تابعين لكم ، ومنقادين لأمركم ، فى تكذيب الرسل ، وفى كل ما تريدونه منا .

والاستفهام فى قوله - سبحانه - { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } للتقريع والتفجع .

ومغنون من الإِغناء بمعنى الدفاع والنصرة .

قال الشوكانى : " يقال : أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى ، وأغناه إذا أوصل إليه النفع " .

أى : فهل أنتم - أيها المستكبرون - دافعون عنا شيئا من عذاب الله النازل لنا ، حتى ولو كان هذا الشئ المدفوع قليلا ؟ إن كان فى إمكانكم ذلك فاظهروه لنا ، فقد كنتم فى الدنيا سادتنا وكبراءنا ، وكنتم تزعمون أنكم أصحاب الحظوة يوم القيامة .

قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : أى فرق بين " من " فى { مِنْ عَذَابِ الله } وبينه فى { مِن شَيْءٍ } ؟

قلت : الأولى للتنبيه ، والثانية للتبعيض ، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشئ الذى هو عذاب الله ؟ ويجوز أن يكون للتبعيض معا بمعنى : هل أنتم مغنون عنا بعض شئ ، هو بعض عذاب الله ؟ أى : بعض بعض عذاب الله " .

ثم حكى - سبحانه - رد المستكبرين على المستضعفين فقال : { قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ . . . }

أى : قال المستكبرون - بضيق وتحسر - فى ردهم على المستضعفين : لو هدانا الله - تعالى - إلى الإِيمن الموصل إلى النجاة من هذا العذاب الأليم { لهديناكم } إليه ، ولكن ضللنا عنه وأضللناكم معنا ، واخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا ، ولو كنا نستطيع النفع لنفعنا أنفسنا .

ثم أضافوا إلى ذلك قولهم : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } .

والجزع : حزن يصرف الإِنسان عما هو بصدده لشدة اضطرابه وذهوله .

يقال : جزع فلان يجزع جزعا وجزوعا ، إذا ضعف عن حمل ما نزل به ولم يجد صبرا .

والمحيص : المهرب والمنجى من العذاب . يقال : حاص فلان عن الشئ يحيص حيصا ومحيصا ، إذا عدل عنه على وجه الهرب والفرار .

أى : مستو عندنا الجزع مما نحن فيه من عذاب ، أو الصبر على ذلك ، وليس لنا من مهرب أو منجى من هذا المصير الأليم .

فالآية الكريمة تحكى أقوال الضعفاء يوم القيامة ، وهى أقوال يبدو فيها طابع الذلة والمهانة كما هو شأنهم فى الدنيا ، كما تحكى رد المستكبرين عليهم ، وهو رد يبدو فيه التبرم والتفجع والتأنيب من طرف خفى لهؤلاء الضعفاء ، والتسليم بالواقع الأليم الذى لا محيص لهم عنه .

قال الإِمام ابن كثير : " قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا ، فإنما إدراك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله - تعالى - ، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله ، فبكوا وتضرعوا ، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا : تعالوا ، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر ، تعالوا حتى نصبر ، فصبروا صبرا لم ير مثله ، فلم ينفعهم ذلك . فعند ذلك قالوا : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعٗا فَقَالَ ٱلضُّعَفَـٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعٗا فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا مِنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ قَالُواْ لَوۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَيۡنَٰكُمۡۖ سَوَآءٌ عَلَيۡنَآ أَجَزِعۡنَآ أَمۡ صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٖ} (21)

يقول : { وَبَرَزُوا [ لِلَّهِ ]{[15798]} } أي : برزت الخلائق كلها ، برها وفاجرها لله وحده الواحد القهار ، أي : اجتمعوا له في براز{[15799]} من الأرض ، وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحدا .

{ فَقَالَ الضُّعَفَاءُ } وهم الأتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم الذين استكبروا عن عبادة .

الله وحده لا شريك له ، وعن موافقة الرسل ، فقالوا لهم : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } أي : مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا ، { فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي : فهل تدفعون عنا شيئًا من عذاب الله ، كما كنتم تعدوننا وتمنوننا ؟ فقالت القادة لهم : { لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ } ولكن حق علينا قول ربنا ، وسبق فينا وفيكم قدر الله ، وحقت كلمة العذاب على الكافرين .

{ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ } أي : ليس لنا خَلاص مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه .

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا ، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله ، عز وجل ، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله فبكوا وتضرعوا ، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا : تعالوا ، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر ، تعالوا حتى نصبر فصبروا صبرا لم ير مثله ، فلم ينفعهم ذلك ، فعند ذلك قالوا{[15800]} { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ }

قلت : والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها ، كما قال تعالى : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } [ غافر : 47 ، 48 ] ، وقال تعالى : { قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ{[15801]} النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الأعراف : 38 ، 39 ] ،

وقال تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [ الأحزاب : 66 - 68 ] .

وأما تخاصمهم في المحشر ، فقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ{[15802]} مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا{[15803]} النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ سبأ : 31 - 33 ] .


[15798]:- زيادة من أ.
[15799]:- في ت : "برار".
[15800]:- في أ : "فقالوا".
[15801]:- في ت : "في".
[15802]:- في ت ، أ : "المجرمون" وهو خطأ.
[15803]:- في ت : "وأسر وهو خطأ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعٗا فَقَالَ ٱلضُّعَفَـٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعٗا فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا مِنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ قَالُواْ لَوۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَيۡنَٰكُمۡۖ سَوَآءٌ عَلَيۡنَآ أَجَزِعۡنَآ أَمۡ صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٖ} (21)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَبَرَزُواْ للّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضّعَفَاءُ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُوَاْ إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مّغْنُونَ عَنّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مّحِيصٍ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : وَبَرَزُوا لِلّهِ جَمِيعا وظهر هؤلاء الذين كفروا به يوم القيامة من قبورهم فصاروا بالبزار من الأرض جميعا ، يعني كلهم . فَقالَ الضّعَفاءُ للّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يقول : فقال التباع منهم للمتبوعين ، وهم الذين كانوا يستكبرون في الدنيا عن إخلاص العبادة لله واتباع الرسل الذين أرسلوا إليهم : إنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعا في الدنيا ، والتّبَع : جمع تابع ، كما الغَيَبُ جمع غائب . وإنما عَنَوا بقولهم : إنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعَا أنهم كانوا أتباعهم في الدنيا يأتمرون لما يأمرونهم به من عبادة الأوثان والكفر بالله ، وينتهون عما نهوهم عنه من اتباع رسل الله . فَهَلْ أنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ يعنون : فهل أنتم دافعون عنا اليوم من عذاب الله من شيء . وكان ابن جريج يقول نحو ذلك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَقالَ الضّعَفاءُ قال : الأتباع للّذِينَ اسْتَكْبَرُوا قال : للقادة .

وقوله : لَوْ هَدَانا اللّهُ لَهَدَيْناكُمْ يقول عزّ ذكره : قالت القادة على الكفر بالله لتباعها : لَوْ هَدَانا اللّهُ يعنون : لو بين لنا شيئا ندفع به عذابه عنا اليوم ، لَهَدْينَاكُمْ لبيّنا ذلك لكم حتى تدفعوا العذاب عن أنفسكم ، ولكنا قد جزعنا من العذاب فلم ينفعنا جزعنا منه وصبرنا عليها . سَوَاءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ يعنون : ما لهم من مزاغ يزوغون عنه ، يقال منه : حاص عن كذا إذا زاغ عنه يحِيص حَيْصا وحُيُوصا وحَيَصانا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن الحكم ، عن عمر بن أبي ليلى أحد بني عامر ، قال : سمعت محمد بن كعب القُرَظِيّ يقول : بلغني أو ذُكر لي أن أهل النار قال بعضهم لبعض : يا هؤلاء ، إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما قد تَرْون ، فهلمّ فلنصبر ، فلعلّ الصبر ينفعنا كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا قال : فيجمعون رأيهم على الصبر ، قال : فصبروا فطال صبرهم ، ثم جزعوا فنادوا : سَوَاءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ أي مَنْجي .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : سَوَاءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ قال : إن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالَوا ، فإنما أدرك أهل الجنة الجنَة ببكائهم وتضرّعهم إلى الله ، فتعالَوا نبكي ونتضِرّع إلى الله قال : فبكَوا ، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا : تعالوا ، فما أدرك أهل الجنة الجنَة إلا بالصبر ، تعالَوا نصبر فصَبروا صبرا لم يُر مثله ، فلم ينفعهم ذلك فعند ذلك قالوا سَوَاءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعٗا فَقَالَ ٱلضُّعَفَـٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعٗا فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا مِنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ قَالُواْ لَوۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَيۡنَٰكُمۡۖ سَوَآءٌ عَلَيۡنَآ أَجَزِعۡنَآ أَمۡ صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٖ} (21)

{ وبرزوا لله جميعا } أي يبرزون من قبورهم يوم القيامة لأمر الله تعالى ومحاسبته ، أو { لله } على ظنهم فإنهم كانوا يخفون ارتكاب الفواحش ويظنون أنها تخفى على الله تعالى ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم ، وإنما ذكر بلفظ الماضي لتحقيق وقوعه . { فقال الضعفاء } الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعاف الرأي ، وإنما كتبت بالواو على لفظ من بفخم الألف قبل الهمزة في فيمليها إلى الواو . { للذين استكبروا } لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم . { إنا كنا لكم تبعا } في تكذيب الرسل والإعراض عن نصائحهم ، وهو جمع تابع كغائب وغيب ، أو مصدر نعت به للمبالغة أو على إضمار مضاف . { فهل أنتم مغنون عنا } دافعون عنا . { من عذاب الله من شيء } من الأولى للبيان واقعة موقع الحال ، والثانية للتبغيض واقعة موقع المفعول أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله ، ويجوز أن تكونا للتبعيض أي بعض شيء هو بعض عذاب الله ، والأعراب ما سبق ويحتمل أن تكون الأولى مفعولا والثانية مصدرا ، أي فهل أنتم مغنون بعض العذاب بعض الإغناء . { قالوا } أي الذين استكبروا جوابا عن معاتبة الأتباع واعتذار عما فعلوا بهم . { لو هدانا الله } للإيمان ووفقنا له . { لهديناكم } ولكن ضللنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا ، أو لو هدنا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم كما عرضناكم له ، لكن سد دوننا طريق الخلاص . { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } مستويان علينا الجزع والصبر . { ما لنا من محيص } منجى ومهرب من العذاب ، من الحيص وهو العدل على جهة الفرار ، وهو يحتمل أن يكون مكانا كالمبيت ومصدرا كالمغيب ، ويجوز أن يكون قوله { سواء علينا } من كلام الفريقين ويؤيده ما روي أنهم يقولون : تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم ، فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون كذلك ثم يقولون { سواء علينا } .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعٗا فَقَالَ ٱلضُّعَفَـٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعٗا فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا مِنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ قَالُواْ لَوۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَيۡنَٰكُمۡۖ سَوَآءٌ عَلَيۡنَآ أَجَزِعۡنَآ أَمۡ صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٖ} (21)

عطف على جملة { إن يشأ يذهبكم } [ إبراهيم : 20 ] باعتبار جواب الشرط وهو الإذهاب ، وفي الكلام محذوف ، إذ التقدير : فأذْهَبهم وبرزوا لله جميعاً ، أي يوم القيامة .

وكان مقتضى الظاهر أن يقول : ويبرزون لله ، فعدل عن المضارع إلى الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد وقع ، مثل قوله تعالى : { أتى أمر الله } [ سورة النحل : 1 ] .

والبروز : الخروج من مكان حاجب من بيت أو قرية . والمعنى : حشروا من القبور .

وجميعاً } تأكيد ليشمل جميعهم من سادة ولفيففٍ .

وقد جيء في هذه الآية بوصف حَال الفرق يوم القيامة ، ومجادلة أهل الضلالة مع قادتهم ، ومجادلة الجميع للشيطان ، وكون المؤمنين في شغل عن ذلك بنُزل الكرامة . والغرض من ذلك تنبيه الناس إلى تدارك شأنهم قبل الفوات . فالمقصود : التحذير مما يفضي إلى سوء المصير .

واللام الجارة لاسم الجلالة معدية فعل { برزوا } إلى المجرور . يقال : برز لفلان ، إذا ظهر له ، أي حضر بين يديه ، كما يقال : ظهر له .

والضعفاء : عوامّ الناس والأتباع . والذين استكبروا : السادة ، لأنهم يتكبرون على العموم وكان التكبر شعار السادة . والسين والتاء للمبالغة في الكبر . والتَبع : اسم جمع التابع مثل الخَدَم والخَوَل ، والفاء لتفريع الاستكبار على التبعية لأنها سبب يقتضي الشفاعة لهم .

وموجب تقديم المسند إليه على المسند في { فهل أنتم مغنون عنا } أن المستفهم عنه كون المستكبرين يغنون عنهم لا أصل الغَناء عنهم ، لأنهم آيسون منه لما رأوا آثار الغضب الإلهي عليهم وعلى سادتهم . كما تدلّ عليه حكاية قول المستكبرين { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } ، فعلموا أنهم قد غروهم في الدنيا ، فتعيّن أن الاستفهام مستعمل في التورّك والتوبيخ والتبكيت ، أي فأظهروا مكانتكم عند الله التي كنتم تدعونها وتغروننا بها في الدنيا . فإيلاء المسند إليه حرف الاستفهام قرينة على أنه استفهام غير حقيقي ، وبينه ما في نظيره من سورة غافر ( 47 ، 48 ) { وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد . و{ مِنْ } في قوله : { من عذاب الله } بدلية ، أي غناء بدلاً عن عذاب الله . .

و { مِنْ } في قوله : { من شيء } مزيدة لوقوع مدخولها في سياق الاستفهام بحرف هل . و { شيء } في معنى المصدر ، وحقه النصب على أنه مفعول مطلق فوقع جرّه بحرف الجر الزائد . والمعنى : هل تغنون عنا شيئاً .

وجواب المستكبرين اعتذار عن تغريرهم بأنهم ما قصدوا به توريط أتباعهم كيف وقد ورّطوا أنفسهم أيضاً ، أي لو كنا نافعين لنفعنا أنفسنا . وهذا الجواب جار على معنى الاستفهام التوبيخي العتابي إذ لم يجيبوهم بأنا لا نملك لكم غناء ولكن ابتدأوا بالاعتذار عما صدر منهم نحوهم في الدنيا علماً بأن الضعفاء عالمون بأنهم لا يملكون لهم غناء من العذاب .

وجملة { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } من كلام الذين استكبروا . وهي مستأنفة تبيين عن سؤال من الضعفاء يستفتون المستكبرين أيصبرون أم يجزعون تطلباً للخلاص من العذاب ، فأرادوا تأييسهم من ذلك يقولون : لا يفيدنا جزع ولا صبر ، فلا نجاة من العذاب . فضمير المتكلم المشارك شامل للمتكلمين والمجابين ، جمعوا أنفسهم إتماماً للاعتذار عن توريطهم .

والجزع : حزن مشوب باضطراب ، والصبر تقدم .

وجملة { ما لنا من محيص } واقعة موقع التعليل لمعنى الاستواء ، أي حيث لا محيص ولا نجاة فسواء الجَزع والصبر .

والمحيص : مصدر ميمي كالمغيب والمشيب وهو النجاة . يقال : حاص عنه ، أي نجا منه . ويجوز أن يكون اسمَ مكان من حاص أيضاً ، أي ما لنا ملجأ ومكان نَنْجو فيه .