ثم بين - سبحانه - أن أهل الكتاب إن آمنوا بما دعوتموهم إليه معشر المسلمين ، فقد أصابوا الهدى ، وإن نأوا وأعرضوا فهم معاندون مستكبرون فقال تعالى : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السميع العليم } .
والفاء التي صدرت بها الآية الكريمة لترتيب ما بعدها على ما قبلها . لأن قول المؤمنين { آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ } إلخ .
من شأنه أن يرقق القلوب الجاحدة ، ويستميل النفوس الشاردة ، لبعده عن التعصب والعناد ، لأنه الحق الذي تؤيده العقول السليمة ، وإذا لم يؤمنوا به فمرد ذلك إلى شدة عنادهم والتواء أفكارهم .
وقوله تعالى : { فَقَدِ اهتدوا } ترغيب لهم في اتباع الحق الذي اتبعه المؤمنون ، أي : فإن آمنوا مثل إيمانكم فقد اهتدوا ورشدوا .
وكلمة : ( مثل ) في الآية الكريمة معناها ، نفس الشيء وحقيقته . المراد فإن آمنوا بنفس ما آمنتم به فقد اهتدوا ، ومنه قول العرب : " مثلك لا يبخل " ولامراد أنت لا تبخل . ويرى بعض المفسرين أن كلمة " مثل " هنا على حقيقتها وهي الشبية والنظير ، وأن المماثلة وقعت بين الإِيمانيين ، وأنها لا تقتضي تعدد ما أمرنا الله أن نؤمن به .
قال الإِمام القرطبي : " المعنى : فإن آمنوا مثل إيمانكم ، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا " .
وقال ابن جرير : فإن صدقوا مثل تصديقكم بجميع ما أنزل عليكم من كتب الله وأنبيائه ، فقد اهتدوا فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والاقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء ، كقول القائل : ( مر عمرو بأخيك مثل ما مررت به ) يعني ذلك ( مر عمرو بأخيك مثل مروري به ) والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين لا بين عمرو وبين المتكلم ، فكذلك قوله : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } إنما وقع التمثيل بين الإِيمانين لا بين المؤمن به " .
وقوله تعالى : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السميع العليم } بيان لحالهم عند إعراضهم ، عن دعوة الحق ، ووعد من الله - تعالى - للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنصر عليهم ، والعصمة من شرورهم .
والشقاق : المنازعة والمخالفة وأصله من الشق سوهو الجانب فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه .
وقيل : إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه .
والمعنى : وإن أعرض هؤلاء الذين زعموا أن الهداية ميلهم عن الإِيمان الذي تدعوهم إليه - يا محمد - فاعلم أن إعراضهم سببه المخالفة والمعاندة والمعاداة إذ لا حجة أوضح من حجتك ، وما داموا هم كذلك فسيقيك الله شرهم ، وينصرك عليهم ، فهو سميع لما يقولونه فيك ، عليه بما يبيتونه لك ولأتباعك من مكر وكيد ، وهو الكفيل بكف بأسهم ، وقطع دابرهم .
وعبر - سبحانه - عن شدة مخالفتهم بقوله : " فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ " مبالغة في وصفهم بالشقاق حيث جعله مستوليا عليهم استيلاء الظرف على ما يوضع فيه .
ورتب قوله : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } على قوله { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لأن إعلامهم أن أهل الكتاب في مخالفة ومعاداة لهم قد يحملهم على الخوف منهم بسبب كثرتهم وقوتهم ، فبشر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم مهما بلغت قوتهم فلن يستطيعوا أن يصلوا إليك بأذى . وأنه - سبحانه - سيكفيك شرهم .
وقد أوفى الله - تعالى - بوعده ، فنصر نبيه صلى الله عليه وسلم وعصمه من كيدهم بإلقاء العداوة بينهم وطرد من يستحق الطرد منهم ، وقتل من لا بد من قتله بسبب خيانته وغيدره . فالآية الكريمة قد تضمنت وعداً للمؤمنين بالنصر ، ووعيداً لليهود ومن على شاكلتهم بالهزيمة والخيبة .
يقول تعالى : { فَإِنْ آمَنُوا } أي{[2851]} : الكفار من أهل الكتاب وغيرهم { بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ } أيها المؤمنون ، من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ، ولم يفرقوا بين أحد منهم { فَقَدِ اهْتَدَوْا } أي : فقد أصابوا الحق ، وأرشدوا إليه { وَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : عن الحق إلى الباطل ، بعد قيام الحجة عليهم { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } أي : فسينصرك عليهم ويُظْفِرُك بهم { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب ، حدثنا زياد بن يونس ، حدثنا نافع بن أبي نُعَيم ، قال : أرسل إليَّ بعض الخلفاء مصحفَ عثمان بن عفان ليصلحه . قال زياد : فقلت له : إن الناس يقولون : إن مصحفه كان في حجره حين قُتِل ، فوقع الدم على
{ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فقال نافع : بَصُرت عيني بالدم على هذه الآية وقد قَدُم{[2852]} .
{ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وّإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ }
يعني تعالى ذكره بقوله : { فإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ } فإن صدق اليهود والنصارى بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم ، وأقرّوا بذلك مثل ما صدقتم أنتم به أيها المؤمنون وأقررتم ، فقد وُفّقوا ورَشِدُوا ولزموا طريق الحقّ واهتدوا ، وهم حينئذ منكم وأنتم منهم بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك . فدلّ تعالى ذكره بهذه الآية على أنه لم يقبل من أحد عملاً إلا بالإيمان بهذه المعاني التي عدها قبلها . كما :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { فإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدُوا } ونحو هذا ، قال : أخبر الله سبحانه أن الإيمان هو العروة الوثقى ، وأنه لا يقبل عملاً إلا به ، ولا تَحْرُمُ الجنة إلا على من تركه .
وقد روي عن ابن عباس في ذلك قراءة جاءت مصاحف المسلمين بخلافها ، وأجمعت قرّاء القرآن على تركها . وذلك ما :
حدثنا به محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، قال : قال ابن عباس : لا تقولوا : { فإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا } فإنه ليس لله مثل ، ولكن قولوا : «فإن آمنوا بالذين آمنتم به فقد اهتدوا » ، أو قال : «فإن آمنوا بما آمنتم به » . فكأن ابن عباس في هذه الرواية إن كانت صحيحة عنه يوجه تأويل قراءة من قرأ : فإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ : فإن آمنوا بمثل الله ، وبمثل ما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وذلك إذا صرف إلى هذا الوجه شرك لا شكّ بالله العظيم ، لأنه لا مثل لله تعالى ذكره ، فنؤمن أو نكفر به . ولكن تأويل ذلك على غير المعنى الذي وجه إليه تأويله ، وإنما معناه ما وصفنا ، وهو : فإن صدّقوا مثل تصديقكم بما صدقتم به من جميع ما عددنا عليكم من كتب الله وأنبيائه ، فقد اهتدوا . فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والإقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء ، كقول القائل : مرّ عمرو بأخيك مثل ما مررت به ، يعني بذلك مرّ عمرو بأخيك مثل مروري به ، والتمثيل إنما دخل تمثيلاً بين المروريين ، لا بين عمرو وبين المتكلم فكذلك قوله : { فإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ } إنما وقع التمثيل بين الإيمانيين لا بين المُؤْمنَ به .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ تَوَلّوْا فإنّمَا هُمْ فِي شِقاقٍ } .
يعني تعالى ذكر بقوله : { وَإنْ تَوَلّوْا } وإن تولى هؤلاء الذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه كونوا هودا أو نصارى ، فأعرضوا ، فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيها المؤمنون بالله ، وبما جاءت به الأنبياء ، وابتعثت به الرسل ، وفرقوا بين رسل الله ، وبين الله ورسله ، فصدّقوا ببعض وكفروا ببعض ، فاعلموا أيها المؤمنون أنهم إنما هم في عصيان وفراق وحرب لله ولرسوله ولكم . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن قتادة : { فَإنّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } أي في فراق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فإنمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } يعني فراق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَإنْ تَوَلّوْا فَإنّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } قال : الشقاق : الفراق والمحاربة ، إذا شاقّ فقد حارب ، وإذا حارب فقد شاق ، وهما واحد في كلام العرب . وقرأ : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرّسُولَ } .
وأصل الشقاق عندنا والله أعلم مأخوذ من قول القائل : «شقّ عليه هذا الأمر » إذا كَرَبه وآذاه ، ثم قيل : «شاق فلان فلانا » بمعنى : نال كل واحد منهما من صاحبه ما كَرَبه وآذاه وأثقلته مساءته ، ومنه قول الله تعالى ذكره : وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا بمعنى فراق بينهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَسَيَكْفِيكَهُم الله وَهُوَ السّمِيعُ العَلِيمُ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : د فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ } فسيكفيك الله يا محمد هؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك : «كونوا هودا أو نصارى تهتدوا » من اليهود والنصارى ، إن هم تولوا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله ، وبما أنزل إليك ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر الأنبياء غيرهم ، وفرقوا بين الله ورسله ، إما بقتل السيف ، وإما بجلاء عن جوارك ، وغير ذلك من العقوبات ، فإن الله هو السميع لما يقولون لك بألسنتهم ويبدون لك بأفواههم من الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضالة ، العليم بما يبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحسد والبغضاء . ففعل الله بهم ذلك عاجلاً وأنجز وعده ، فكفي نبيه صلى الله عليه وسلم بتسليطه إياه عليهم حتى قتل بعضهم وأجلى بعضا وأذلّ بعضا وأخزاه بالجزية والصّغار .
{ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا } من باب التعجيز والتبكيت ، كقوله تعالى : { فائتوا بسورة من مثله } إذ لا مثل لما آمن به المسلمون ، ولا دين كدين الإسلام . وقيل : الباء للآلة دون التعدية ، والمعنى إن تحروا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم ، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق ، أو مزيدة للتأكيد كقوله تعالى : { جزاء سيئة بمثلها } . والمعنى فإن آمنوا بالله إيمانا مثل إيمانكم به ، أو المثل مقحم كما في قوله : { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } أي عليه ، ويشهد له قراءة من قرأ بما آمنتم به أو بالذي آمنتم به { وإن تولوا فإنما هم في شقاق } أي إن أعرضوا عن الإيمان ، أو عما تقولون لهم فما هم إلا في شقاق الحق ، وهو المناوأة والمخالفة ، فإن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر
{ فسيكفيكهم الله } تسلية وتسكين للمؤمنين ، ووعد لهم بالحفظ والنصرة على من ناوأهم { وهو السميع العليم } إما من تمام الوعد ، بمعنى أنه يسمع أقوالكم ويعلم إخلاصكم وهو مجازيكم لا محالة ، أو وعيد للمعرضين ، بمعنى أنه يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون وهو معاقبهم عليه .
{ فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ( 137 )
وقوله تعالى : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } الآية ، خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته .
والمعنى إن صدقوا تصديقاً مثل تصديقكم ، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين( {[1317]} ) ، هذا قول بعض المتأولين ، وقيل الباء زائدة مؤكدة ، والتقدير آمنوا مثل ، والضمير في { به } عائد كالضمير في { له } ، فكأن الكلام فإن آمنوا بالله مثل ما آمنتم به ، ويظهر عود الضمير على { ما } ، وقيل { مثل } زائدة كما هي في قوله { ليس كمثله شيء }( {[1318]} ) [ الشورى : 11 ] ، وقالت فرقة : هذا من مجاز الكلام ، تقول هذا أمر لا يفعله مثلك أي لا تفعله أنت ، فالمعنى فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، هذا قول ابن عباس ، وقد حكاه عنه الطبري قراءة ، ثم أسند إليه أنه قال : «لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ، فإنه لا مثل لله تعالى ، ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم أو بما آمنتم به » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا على جهة التفسير( {[1319]} ) ، أي هكذا فليتأول ، وحكاهما أبو عمرو الداني قراءتين عن ابن عباس( {[1320]} ) فالله أعلم .
وقوله تعالى : { وإن تولوا } أي أعرضوا ، يعني به اليهود والنصارى ، والشقاق المشاقة والمحادة والمخالفة ، أي في شقاق لك هم في شق وأنت في شق ، وقيل : شاق معناه شق كل واحد وصل ما بينه وبين صاحبه ، ثم وعده تعالى أنه سيكفيه إياهم( {[1321]} ) ويغلبه عليهم ، فكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء النضير .
وهذا الوعد وانتجازه من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، و { السميع } لقول كل قائل ، { العليم } بما يجب أن ينفذ في عباده .