التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

ثم أرشد الله - تعالى - : المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله عند لقائهم لأعدائهم ، وبعد انتصارهم عليهم ، كما بين لهم الحكمة مشروعية القتال . والجزاء الحسن الذى أعده للمجاهدين ، فقال - تعالى - : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين . . . عَرَّفَهَا لَهُمْ } .

والفاء فى قوله - تعالى - : { فَإِذَا لَقِيتُمُ } لترتيب ما بعدها من إرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله عند قتل أعدائهم ، على ما قبلها وهو بيان حال الكفار .

فالمراد باللقاء هنا : القتال لا مجرد اللقاء والرؤية . كما أن المراد بالذين كفروا هنا المشركون وكل من كان على شاكلتهم ممن ليس بيننا وبينهم عهد بل بيننا وبينهم حرب وقتال .

وقوله - سبحانه - : { فَضَرْبَ الرقاب } أمر للمؤمنين بما يجب فعله عند لقائهم لأعدائهم . وقوله : { فَضَرْبَ } منصوب على أنه مصدر لفعل محذوف . أى : فإذا كان حال الذين كفروا كما ذكرت لكم من إحباط أعمالهم بسبب اتباعهم الباطل وإعراضهم عن الحق ، فإذا لقيتموهم للقتال ، فلا تأخذكم بهم رأفة ، بل اضربوا رقابهم ضربا شديدا .

والتعبير عن القتل بقوله : { فَضَرْبَ الرقاب } ، لتصويره فى أفظع صوره . ولتهويل أمر القتال ، ولإِرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله .

قال صاحب الكشاف : قوله : { لَقِيتُمُ } من اللقاء وهو الحرب { فَضَرْبَ الرقاب } أصله : فاضرب الرقاب ضربا ، فحذف الفعل وقدم المصدر ، فأنيب منابه مضافا إلى المفعول ، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد ، لأنك تذكر المصدر ، وتدل على الفعل بالنصبة التى فيه .

وضرب الرقاب : عبارة عن القتل . . وذلك أن قتل الإِنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، فوقع عبارة عن القتل ، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل .

على أن فى هذه العبارة من الغلظة والشدة ، ما ليس سفى لفظ القتل ، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة ، وهو حز العنق ، وإطارة العضو الذى هو رأس البدن .

وقوله - سبحانه - : { حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق } بيان لما يكون من المؤمنين بعد مثل حركة أعدائهم ، وإنزال الهزيمة بهم .

وقوله : { أَثْخَنتُمُوهُمْ } من الإِثخان بمعنى كثرة الجراح ، مأخوذ من الشئ الثخين ، أى : الغليظ ، يقال : أثخن الجيش فى عدوه ، إذا بالغ فى إنزاله الجراحة الشديدة به ، حتى أضعفه وأزال قوته .

والوثاق - بفتح الواو وكسرها - اسم الشئ الى يوثق به الأسير كالرباط أى : عند لقائكم - أيها المؤمنون - لأعدائكم ، فاضربوا أعناقكم ، فإذا ما تغلتم عليهم وقهرتموهم ، وأنزلتم بهم الجراح التى تجعلهم عاجزين عن مقاومتكم ، فأحكموا قيد من أسرتموه منهم ، حتى لا يستطيع التفلت أو الهرب منكم .

وقوله - سبحانه - { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } إرشاد لما يفعلونه بعد ذلك .

والمن : الإِطلاق بغير عوض ، يقال : مَّن فلان على فلان إذا أنعم عليه بدون مقابل .

والفداء : ما يقدمه الأسير من أموال أو غيرها لكى يفتدى بها نفسه من الأسر .

وقوله : { مَنًّا } و { فِدَآءً } منصوبان على المصدرية بفعل محذوف : أى : فإما تمنون عليهم بعد السر منا بأن تطلقوا سراحهم بدون مقابل ، وإما أن تفدوا فداء بأن تأخذوا منهم فدية فى مقابل إطلاق سراحهم .

وقوله - سبحانه - { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } غاية لهذه الأوامر والإِرشادات .

وأوزار الحرب : آلاتها وأثقالها الى لا تقوم إلا بها ، كالسلاح وما يشبه .

قال الشاعر :

وأعددتَ للحرب أوزارها . . . رماحا طوالاً وخيلا ذكورا

أى : افعلوا بهم ما أمرناكم بفعله ، واستمروا على ذلك حتى تنتهى الحرب التى بينكم وبين أعدئاكم بهزيمتهم وانتصارهم عليهم .

وسميت آلات الحرب وأحمالها بالأوزار ، لأن الحرب لما كانت لا تقوم إلا بها ، فكأنها تحملها وتستقل بها ، فإذا انقضت الحرب فكأنها وضعت أحمالها وانفصلت عنها .

ثم بين - سبحانه - الحكمة من مشروعية قتال الأعداء ، مع أنه - سبحانه - قادر على إهلاك هؤلاء الأعداء ، فقال : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } .

واسم الإِشارة : خبر لمبتدأ محذوف ، أى : الأمر ذلك ، أو فى محل نصب على المفعولية بفعل محذوف ، أى : افعلوا ذلك الذى أمرناكم به وأرشدناكم إليه واعلموا أنه - سبحانه - لو يشاء الانتصار من هؤلاء الكافرين والانتقام منهم لفعل ، أى : لو يشاء إهلاكهم لأهلكم ، ولكنه - سبحانه - لم يفعل ذلك بل أمركم بمحاربتهم ليختبر بعضكم ببعض ، فيتميز عن طريق هذا الاختبار والامتحان ، قوى الإِيمان من ضعيفه . كما قال - تعالى - : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما أعده للمجاهدين من ثواب عظيم فقال : { والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } أى : والذين استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله .

{ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أى : فلن يضيع أعمالهم ولن يبطلها .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

يقول تعالى مرشدا للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } أي : إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدا بالسيوف ، { حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا } أي : أهلكتموهم قتلا { فشدوا } [ وثاق ] {[26607]} الأسارى الذين تأسرونهم ، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم ، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا ، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه . والظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر ، فإن الله ، سبحانه ، عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ ليأخذوا منهم الفداء ، والتقلل من القتل يومئذ فقال : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 67 ، 68 ] .

ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية - المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه - منسوخة بقوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ] } {[26608]} الآية [ التوبة : 5 ] ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقاله قتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن جُرَيْج .

وقال الآخرون - وهم الأكثرون - : ليست بمنسوخة .

ثم قال بعضهم : إنما الإمام مُخَيَّر بين المن على الأسير ومفاداته فقط ، ولا يجوز له قتله .

وقال آخرون منهم : بل له أن يقتله إن شاء ، لحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي مُعَيط من أسارى بدر ، وقال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له : " ما عندك يا ثمامة ؟ " فقال : إن تَقْتَلْ تَقْتُلْ ذا دَمٍ ، وإن تمنن تمنن على شاكر ، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تُعطَ منه ما شئت{[26609]} .

وزاد الشافعي ، رحمه الله ، فقال : الإمام مخير بين قتله أو المن عليه ، أو مفاداته أو استرقاقه أيضا . وهذه المسألة مُحَرّرة في علم الفروع ، وقد دللنا على ذلك في كتابنا " الأحكام " ، ولله الحمد والمنة .

وقوله : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } قال مجاهد : حتى ينزل عيسى ابن مريم [ عليه السلام ] . {[26610]} وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال " {[26611]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إبراهيم بن سليمان ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي {[26612]} ، عن جُبَير بن نُفيَر ؛ أن سلمة بن نُفيَل أخبرهم : أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني سَيَّبْتُ الخيل ، وألقيت السلاح ، ووضعت الحرب أوزارها ، وقلت : " لا قتال " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " الآن جاء القتال ، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يُزيغ{[26613]} الله قلوب أقوام فيقاتلونهم : ويرزقهم الله {[26614]} منهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك . ألا إن عُقْرَ دار المؤمنين الشام ، والخيلُ معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " .

وهكذا رواه النسائي من طريقين ، عن جُبَيْر بن نُفَير ، عن سلمة بن نُفَيْل السكوني ، به{[26615]} .

وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن رُشَيْد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن محمد بن مهاجر ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي ، عن جبير بن نُفَير ، عن النواس بن سمعان قال : لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتْح فقالوا : يا رسول الله ، سيبت الخيل ، ووضعت السلاح ، ووضعت الحرب أوزارها ، قالوا : لا قتال ، قال : " كذبوا ، الآن ، جاء القتال ، لا يزال الله يُرَفِّع {[26616]} قلوب قوم يقاتلونهم ، فيرزقهم منهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ، وعُقْر دار المسلمين بالشام " .

وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رُشَيْد ، به {[26617]} . والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نُفَيْل كما تقدم . وهذا يقوي القول بعدم النسخ ، كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى ألا يبقى حرب .

وقال قتادة : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } حتى لا يبقى شرك . وهذا كقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } [ البقرة : 193 ] . ثم قال بعضهم : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي : أوزار المحاربين ، وهم المشركون ، بأن يتوبوا إلى الله عز وجل . وقيل : أوزار أهلها {[26618]} بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله ، عز وجل .

وقوله : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي : هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونَكَال من عنده ، { وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي : ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم ، ويبلو أخباركم . كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي " آل عمران " و " براءة " في قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] .

وقال في سورة براءة : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 14 ، 15 ] .

ثم لما كان من شأن القتال أن يُقتل كثيرٌ من المؤمنين ، قال : { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها . ومنهم من يجري عليه عمله في طول بَرْزَخه ، كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ، حيث قال :

حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن كثير بن مُرّة {[26619]} ، عن قيس الجذامي - رجل كانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه : يُكَفر عنه كل خطيئة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويزوج من الحور العين ، ويؤمن من الفزع الأكبر ، ومن عذاب القبر ، ويحلى حُلَّة {[26620]} الإيمان " {[26621]} . تفرد {[26622]} به أحمد رحمه الله .

حديث آخر : قال أحمد{[26623]} أيضا : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن بَحِير{[26624]} ابن سعيد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن المقدام بن معد يكرب الكندي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دَفْعَة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حُلَّة{[26625]} الإيمان ، ويزوج من الحور العين ، ويجار من عذاب القبر ، ويَأمَن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويُشَفَّع في سبعين إنسانا من أقاربه " .

وقد أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه{[26626]} .

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عَمْرو ، وعن أبي قتادة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدَّيْن " {[26627]} . وروي من حديث جماعة من الصحابة ، وقال أبو الدرداء : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته " . ورواه أبو داود{[26628]} . والأحاديث في فضل الشهيد{[26629]} كثيرة جدا .


[26607]:- (1) زيادة من ت، أ.
[26608]:- (2) زيادة من أ.
[26609]:- (3) رواه البخاري في صحيحه برقم (4372) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[26610]:- (1) زيادة من ت.
[26611]:- (2) رواه أبو داود في السنن برقم (2484) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
[26612]:- (3) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
[26613]:- (4) في أ: "يرفع".
[26614]:- (5) في أ: "قاتلونهم ويرزقه الله".
[26615]:- (6) المسند (4/104) وسنن النسائي (6/214).
[26616]:- (7) في أ: "يرفع".
[26617]:- (8) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1617) "موارد" من طريق أبي يعلى عن داود بن رشيد به، ورواه النسائي في السنن (6/214) من طريق إبراهيم بن أبي عبلة، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، عن جبير بن نفير عن سلمة بن نفيل مرفوعا بنحوه.
[26618]:- (9) في ت، أ: "وقيل: أوزارها".
[26619]:- (1) في ت: "أحمد بإسناده".
[26620]:- (2) في أ: "بحلة".
[26621]:- (3) المسند (4/200) قال الهيثمي في المجمع (5/293): "فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وثقه أبو حاتم وجماعة وضعفه جماعة".
[26622]:- (4) في ت: "انفرد".
[26623]:- (5) في ت: "وروى أحمد".
[26624]:- (6) في م، أ: "يحيى".
[26625]:- (7) في ت، م، أ: "حلية".
[26626]:- (8) المسند (4/131) وسنن الترمذي برقم (1663) وسنن ابن ماجه برقم (2799).
[26627]:- (9) صحيح مسلم برقم (1886).
[26628]:- (10) سنن أبي داود برقم (2522).
[26629]:- (11) في ت، م: "الشهداء".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرّقَابِ حَتّىَ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدّواْ الْوَثَاقَ فَإِمّا مَنّا بَعْدُ وَإِمّا فِدَآءً حَتّىَ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلََكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَن يُضِلّ أَعْمَالَهُمْ } .

يقول تعالى ذكره لفريق الإيمان به وبرسوله : فَإذَا لَقِيُتمُ الّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله من أهل الحرب ، فاضربوا رقابهم .

وقوله : حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ يقول : حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم ، فصاروا في أيديكم أسرى فَشُدّوا الوَثاقَ يقول : فشدّوهم في الوثاق كيلا يقتلوكم ، فيهربوا منكم .

وقوله : فإمّا مَنّا بَعْدُ وإمّا فِدَاءً يقول : فإذا أسرتموهم بعد الإثخان ، فإما أن تمنوا عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر ، وتحرروهم بغير عوض ولا فدية ، وإما أن يفادوكم فداء بأن يعطوكم من أنفسهم عوضا حتى تطلقوهم ، وتخلوا لهم السبيل .

واختلف أهل العلم في قوله : حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ ، فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً فقال بعضهم : هو منسوخ نسخه قوله : فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم وقوله فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ في الحَرْب فَشَرّدْ بِهِمْ مِنْ خَلْفِهُمْ . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حُمَيد وابن عيسى الدامغانيّ ، قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جُرَيج أنه كان يقول ، في قوله : فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً نسخها قوله : فاقْتُلوا المشْرِكِينَ حَيْثُ وَجدْتُموهُمْ .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً قال : نسخها فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً نسخها قوله : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإذَا لَقِيُتمُ الّذينَ كَفَرُوا إلى قوله : وَإمّا فِدَاءً كان المسلمون إذا لقوا المشركين قاتلوهم ، فإذا أسروا منهم أسيرا ، فليس لهم إلا أن يُفادوه ، أو يمنوا عليه ، ثم يرسلوه ، فنسخ ذلك بعد قوله : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ : أي عظ بهم من سواهم من الناس لعلهم يذّكرون .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، قال : كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه في أسير أُسر ، فذكر أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا ، فقال أبو بكر : اقتلوه ، لقتلُ رجل من المشركين ، أحبّ إليّ من كذا وكذا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فإذَا لَقِيُتمُ الّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقابِ . . . إلى آخر الآية ، قال : الفداء منسوخ ، نسختها : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ . . . إلى كُلّ مَرْصَدٍ قال : فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا حرمة بعد براءة ، وانسلاخ الأشهر الحَرم .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً هذا منسوخ ، نسخه قوله : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة بعد براءة .

وقال آخرون : هي محكمة وليست بمنسوخة ، وقالوا : لا يجوز قتل الأسير ، وإنما يجوز المنّ عليه والفداء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو عتاب سهل بن حماد ، قال : حدثنا خالد بن جعفر ، عن الحسن ، قال : أتى الحجاج بأسارى ، فدفع إلى ابن عمر رجلاً يقتله ، فقال ابن عمر : ليس بهذا أُمرنا ، قال الله عزّ وجلّ حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ ، فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً قال : البكا بين يديه فقال الحسن : لو كان هذا وأصحابه لابتدروا إليهم .

حدثنا ابن حميد وابن عيسى الدامغانيّ ، قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء أنه كان يكره قتل المشرك صبرا ، قال : ويتلو هذه الآية فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، قال : لا تقتل الأُسارى إلا في الحرب يهيب بهم العدوّ .

قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : كان عمر بن عبد العزيز يفديهم الرجل بالرجل ، وكان الحسن يكره أن يفادي بالمال .

قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن رجل من أهل الشأم ممن كان يحرس عمر بن عبد العزيز ، وهو من بني أسد ، قال : ما رأيت عمر رحمه الله قتل أسيرا إلا واحدا من الترك كان جيء بأسارى من الترك ، فأمر بهم أن يُسترقوا ، فقال رجل ممن جاء بهم : يا أمير المؤمنين ، لو كنت رأيت هذا لأحدهم وهو يقتل المسلمين لكثر بكاؤك عليهم ، فقال عمر : فدونك فاقتله ، فقام إليه فقتله .

والصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ما قد بيّنا في غير موضع في كتابنا إنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة ، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الاَخر ، وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المنّ والفداء والقتل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة ، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية ، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى ، وذلك قوله : فَاقْتُلُوا المُشْركِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . . . . الآية ، بل ذلك كذلك ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب ، فيقتل بعضا ، ويفادي ببعض ، ويمنّ على بعض ، مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي مُعَيْط وقد أُتي به أسيرا ، وقتل بني قُرَيظة ، وقد نزلوا على حكم سعد ، وصاروا في يده سلِما ، وهو على فدائهم ، والمنّ عليهم قادر ، وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أُسروا ببدر ، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ ، وهو أسير في يده ، ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له بحربهم ، إلى أن قبضه إليه صلى الله عليه وسلم دائما ذلك فيهم ، وإنما ذكر جلّ ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى ، فخصّ ذكرهما فيها ، لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكرّرا ، فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بما ذكر في هذه الآية من المنّ والفداء ماله فيهم مع القتل .

وقوله : حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها يقول تعالى ذكره : فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم ، وافعلوا بأسراهم ما بيّنت لكم ، حتى تضع الحرب آثامها وأثقال أهلها ، المشركين بالله بأن يتوبوا إلى الله من شركهم ، فيؤمنوا به وبرسوله ، ويطيعوه في أمره ونهيه ، فذلك وضع الحرب أوزارها ، وقيل : حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها والمعنى : حتى تلقي الحرب أوزار أهلها . وقيل : معنى ذلك : حتى يضع المحارب أوزاره . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : حتى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزَارَها قال : حتى يخرج عيسى ابن مريم ، فيسلم كلّ يهوديّ ونصرانيّ وصاحب ملة ، وتأمن الشاة من الذئب ، ولا تقرض فأرة جِرابا ، وتذهب العداوة من الأشياء كلها ، ذلك ظهور الإسلام على الدين كله ، وينعم الرجل المسلم حتى تقطر رجله دما إذا وضعها .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها حتى لا يكون شرك .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها قال : حتى لا يكون شرك .

ذكر من قال : عُنِي بالحرب في هذا الموضع : المحاربون .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور عن معمر ، عن قتادة حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها قال الحرب : من كان يقاتلهم سماهم حربا .

وقوله : ذلكَ وَلَوْ يَشاءُ اللّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ يقول تعالى ذكره : هذا الذي أمرتكم به أيها المؤمنون من قتل المشركين إذا لقيتموهم في حرب ، وشدّهم وثاقا بعد قهرهم ، وأسرهم ، والمنّ والفداء حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها هو الحقّ الذي ألزمكم ربكم ولو يشاء ربكم ، ويريد لانتصر من هؤلاء المشركين الذين بين هذا الحكم فيهم بعقوبة منه لهم عاجلة ، وكفاكم ذلك كله ، ولكنه تعالى ذكره كره الانتصار منهم ، وعقوبتهم عاجلاً إلا بأيديكم أيها المؤمنون لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ يقول : ليختبركم بهم ، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين ، ويبلوهم بكم ، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم ، ويتعظ من شاء منهم بمن أهلك بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحقّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلَوْ يَشاءُ اللّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ إي والله بجنوده الكثيرة كلّ خلقه له جند ، ولو سلط أضعف خلقه لكان جندا .

وقوله : «وَالّذِينَ قاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ » اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة «وَالّذِينَ قاتَلُوا » بمعنى : حاربوا المشركين ، وجاهدوهم ، بالألف وكان الحسن البصري فيما ذُكر عنه يقرأه قُتّلُوا بضم القاف وتشديد التاء ، بمعنى : أنه قتلهم المشركون بعضهم بعد بعض ، غير أنه لم يسمّ الفاعلون . وذُكر عن الجحدريّ عاصم أنه كان يقرأه «وَالّذِينَ قَتَلُوا » بفتح القاف وتخفيف التاء ، بمعنى : والذين قتلوا المشركون بالله . وكان أبو عمرو يقرأه قُتِلُوا بضم القاف وتخفيف التاء بمعنى : والذين قتلهم المشركون ، ثم أسقط الفاعلين ، فجعلهم لم يسمّ فاعل ذلك بهم .

وأولى القراءات بالصواب قراءة من قرأه «وَالّذِينَ قاتَلُوا » لاتفاق الحجة من القرّاء ، وإن كان لجميعها وجوه مفهومة .

وإذ كان ذلك أولى القراءات عندنا بالصواب ، فتأويل الكلام : والذين قاتلوا منكم أيها المؤمنون أعداء الله من الكفار في دين الله ، وفي نصرة ما بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ، فجاهدوهم في ذلك فَلَنْ يُضِلّ أعمالَهُمْ فلن يجعل الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا ضلالاً عليهم كما أضلّ أعمال الكافرين . وذُكر أن هذه الآية عُنِي بها أهل أُحد . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَالّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلّ أعمالَهُمْ ذُكر لنا أن هذه الآية أُنزلت يوم أُحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشّعْب ، وقد فَشَت فيهم الجراحات والقتل ، وقد نادى المشركون يومئذٍ : أُعْلُ هُبَلْ ، فنادى المسلمون : الله أعلى وأجلّ ، فنادى المشركون : يوم بيوم ، إن الحرب سجال ، إن لنا عُزّى ، ولا عُزّى لكم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُ مَوْلانا وَلا مَوْلَى لَكْمُ . إنّ القَتْلَى مُخْتَلِفَةٌ ، أمّا قَتْلانا فأَحْياءٌ يُرْزَقُونَ ، وأمّا قَتْلاكُمْ فَفِي النّارِ يُعَذّبُونَ » .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَالّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلّ أعمالَهُمْ قال : الذين قُتلوا يوم أُحد .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

{ فإذا لقيتم الذين كفروا } في المحاربة . { فضرب الرقاب } أصله فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدم المصدر ، وأنيب منابه مضافا إلى المفعول ضما إلى التأكيد والإختصار . والتعبير به عن القتل إشعارا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقاب حيث أمكن ، وتصوير له بأشنع صورة . { حتى إذا أثخنتموهم } أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الثخين وهو الغليظ . { فشدوا الوثاق } فأسروهم واحفظوهم ، والوثاق بالفتح والكسر ما يوثق به . { فإما منا بعد وإما فداء } أي فإما تمنون منا أو تفدون فداء ، والمراد التخيير بعد الأسر بين المن والإطلاق وبين أخذ الفداء ، وهو ثابت عندنا فإن الذكر الحر المكلف إذا أسر تخير الإمام بين القتل والمن والفداء ، والاسترقاق منسوخ عند الحنفية أو مخصوص بحرب بدر فإنهم قالوا يتعين القتل أو الاسترقاق . وقرئ " فدا " كعصا . { حتى تضع الحرب أوزارها } آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع ، أي تنقضي الحرب ولم يبق إلا مسلم أو مسالم . وقيل آثامها والمعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم ، وهو غاية للضرب أو الشد أو للمن والفداء أو للمجموع بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيها حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم . وقيل بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام { ذلك } أي الأمر ذلك ، أو افعلوا بهم ذلك ، { ولو يشاء الله لأنتصر منهم } لانتقم منهم بالاستئصال ، { ولكن ليبلوا بعضكم ببعض } ولكن أمركم بالقتال ليبلوا المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب العظيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر . { والذين قاتلوا في سبيل الله } أي جاهدوا ، وقرأ البصريان وحفص " قتلوا " أي استشهدوا . { فلن يضل أعمالهم } فلن يضيعها ، وقرئ " يضل " من ضل ويضل على البناء للمفعول .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

قال ابن عباس وقتادة وابن جريج والسدي : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف التي في براءة : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[10349]} [ التوبة : 5 ] وإن الأسر والمن والفداء مرتفع ، فمتى وقع أسر فإنما معه القتل ولا بد ، وروي نحوه عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه{[10350]} . وقال ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء ما معناه : إن هذه الآية محكمة مبينة لتلك ، والمن والفداء ثابت ، وقد منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال ، وفادى أسرى بدر ، وقاله الحسن ، وقال : لا يقتل الأسير إلا في الحرب ، يهيب بذلك على العدو . وكان عمر بن عبد العزيز يفادي رجلاً برجل ، ومنع الحسن أن يفادوا بالمال . وقد أمر عمر بن عبد العزيز بقتل أسير من الترك ذكر له أنه قتل مسلمين . وقالت فرقة : هذه الآية خصصت من الأخرى أهل الكتاب فقط ، ففيهم المن والفداء ، وعباد الأوثان ليس فيهم إلا القتل . وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان . وقوله هنا : { فضرب الرقاب } بمثابة قوله هناك : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[10351]} [ التوبة : 5 ] وصرح هنا بذكر المن والفداء ، ولم يصرح به هنالك ، وهو مراد متقرر ، وهذا هو القول القوي .

وقوله : { فضرب الرقاب } مصدر بمعنى الفعل ، أي فاضربوا رقابهم وعين من أنواع القتل أشهره وأعرفه فذكره ، والمراد : اقتلوهم بأي وجه أمكن ، وقد زادت آية : { واضربوا منهم كل بنان }{[10352]} [ الأنفال : 12 ] وهي من أنكى ضربات الحرب ، لأنها تعطل من المضروب جميع جسده ، إذ البنان أعظم آلة المقاتل وأصلها . و : { أثخنتموهم } معناه : بالقتل . والإثخان في القوم : أن يكثر فيهم القتلى والجرحى ، والمعنى : فشدوا الوثاق بمن لم يقتل ولم يترتب عليه إلا الأسر . و : { مناً } و : { فداء } مصدران منصوبان بفعلين مضمرين . وقرأ جمهور الناس : «فداء » . وقرأ شبل عن ابن كثير : «فدى » مقصوراً .

وإمام المسلمين مخير في أسراه في خمسة أوجه : القتل ، أو الاسترقاق ، أو ضرب الجزية ، أو الفداء ، أو المن . ويترجح النظر في أسير أسر بحسب حاله من إذاية المسلمين أو ضد ذلك .

وقوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } معناه : حتى تذهب وتزول أثقالها . والأوزار : الأثقال فيها والآلات لها ، ومنه قول الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي :

[ المتقارب ]

وأعددت للحرب أوزارها . . . رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا{[10353]}

وقال الثعلبي : وقيل الأوزار في هذه الآية : الآثام ، جمع وزر ، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين .

واختلف المتأولون في الغاية التي عندها { تضع الحرب أوزارها } ، فقال قتادة : حتى يسلم الجميع فتضع الحرب أوزارها . وقال حذاق أهل النظر : حتى تغلبوهم وتقتلوهم .

وقال مجاهد حتى ينزل عيسى ابن مريم .

قال القاضي أبو محمد : وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبداً ، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها ، فجاء هذا كما تقول : أنا أفعل كذا إلى يوم القيامة ، فإنما تريد : إنك تفعله دائماً .

وقوله تعالى : { ذلك } تقديره : الأمر ذلك . ثم قال : { ولو يشاء الله لانتصر منهم } أي بعذاب من عنده يهلكهم به في حين واحد ، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين وأن يبلو بعض الناس ببعض .

وقرأ جمهور الناس : «قاتلوا » وقرأ عاصم الجحدري بخلاف عنه : «قَتَلوا » بفتح القاف والتاء . وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم والأعرج وقتادة والأعمش : «قُتِلوا » بضم القاف وكسر التاء . وقرأ زيد بن ثابت والحسن والجحدري وأبو رجاء : «قُتِّلوا » بضم القاف وكسر التاء وشدها ، والقراءة الأولى أعمها وأوضحها معنى .

وقال قتادة : نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم أحد من المؤمنين .


[10349]:من الآية (5) من سورة (التوبة)، قالوا: وهي منسوخة أيضا بقوله تبارك وتعالى:{وقاتلوا المشركين كافة}، وبقوله:{ فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم}.
[10350]:قال عبد الكريم الجوزي:"كُتب إلى أبي بكر في أسير أسر، فذكروا أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال: اقتلوه، لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا".
[10351]:في بعض النسخ:"وهو مراد متقرر".
[10352]:من الآية(12) من سورة (الأنفال).
[10353]:ليس هذا البيت من قول بن معد يكرب، بل هو للأعشى، وهو من قصيدة طويلة له، قالها يمدح هوزة بن علي الحنفي، ومطلعها: غشيت لليلى بليل خدورا وطالبتها ونذرت النذورا والخطاب لهوزة هذا في القصيدة كلها، يقول له: إنك أعددت للحرب عدتها وآلاتها وهي الرماح الطويلة وذكور الخيل القوية، و(رماحا) منصوبة على أنها بدل من (أوزار).