التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

وكما حضهم - سبحانه - على الثبات على الإيمان . . . حضهم أيضاً مرة أخرى على الإنفاق فى سبيله بأبلغ أسلوب ، فقال : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } .

والاستفهام فى قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ . . } للتعجيب من حال من يمسك عن الإنفاق فى سبيل الله ، مع أن كل المقتضيات تدعوه إلى هذا الإنفاق . والكلام فى قوله - تعالى - : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } على حذف مضاف ، والجملة حال من فاعل { تُنفِقُواْ } ، أو من مفعوله المعلوم مما تقدم .

وإضافة ميراث إلى السموات والأرض ، من إضافة المصدر إلى المفعول أى : وأى سبب يحملكم على البخل وعدم الإنفاق فى سبيل إعلاء كلمة الله ، والحال أن لله - تعالى - ميراث أهل السموات وأهل الأرض .

إنه لا عذر لكم فى الشح والإمساك بعد أن بينت لكم ما بينت من وجوب الإنفاق فى سبيل الله .

قال الآلوسى : قوله : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } أى : يرث كل شىء فيهما ، ولا يبقى لأحد مال ، على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن ميراث ما فيهما ، لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف . وجوز أن يراد : يرثهما وما فيهما ، واختير الأول ، لأنه يكفى لتوبيخهم ، إذ لا علاقة لأخذ السموات والأرض هنا . . . والجملة مؤكدة للتوبيخ ، فإن ترك الإنفاق بغير سبب قبيح منكر ، ومع تحقيق ما يوجب الإنفاق أشد فى القبح ، وأدخل فى الإنكار .

ثم قال - تعالى - : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ } .

والمراد بمن أنفق من قبل الفتح وقاتل : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، الذين أنفقوا الكثير من أموالهم ، قيل فتح مكة . . . وقيل : المراد بالفتح : صلح الحديبية .

وإنما كان الذين أنفقوا وقاتلوا قبل هذا الوقت ، أعظم درجة ممن فعل ذلك بعد هذا الوقت ، لأن الأيام التى سبقت الفتح تعرض المسلمون خلالها لكثير من المصائب والخوف والجوع ونقص الثمرات . . فكان الإنفاق والجهاد فيها أشق على النفس ، والثواب على قدر المشقة .

أى : لا يستوى منكم - أيها المؤمنون - فى الفضيلة والدرجة من أنفق الكثير من ماله ، من قبل أن تفتح مكة ، وجاهد فى سبيل الله - تعالى - جهادا كبيرا ، أولئك الذين فعلوا ذلك ، أعظم درجة ومنزلة من الذين انفقوا وقاتلوا بعد أن فتحت مكة .

فالجملة الكريمة بيان لتفاوت الدرجات ، على حسب تفاوت الأحوال والأعمال ، وعطف - سبحانه - القتال فى قوله { وَقَاتَلُواْ } على الإنفاق فى قوله : { أَنفَقُواْ } للإشعار بشدة ارتباطهما ، وأنه لا غنى لأحدهما عن الآخر .

قال القرطبى : أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح : فتح مكة . وقال الشعبى والزهرى : فتح الحديبية . . . وفى الكلام حذف . أى : لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، ومن أنفق من بعد الفتح وقائل ، فحذف لدلالة الكلام عليه .

وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم ، لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام ، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق ، والأجر على قدر النصب .

وقوله - تعالى - : { مَّنْ أَنفَقَ . . } عام يشمل جميع من بذل ماله قبل الفتح فى سبيل الله .

وقيل : المراد به أبو بكر الصديق - رضى الله عنه - لأنه أول من أسلم ، وأول من أنفق .

وقوله - عز وجل - : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } مدح للفريقين ، ودفع للتوهم من أن يظن ظان أن الفريق الثانى وهو الذى أنفق من بعد الفتح وقاتل ، محروم من الأجر .

أى : وكلا الفريقين وعده الله - تعالى - المثوبة الحسنى وهى الجنة ، إلا أن الذين انفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد ذلك .

فهذه الآية أصل فى تفاضل أهل الفضل فيما بينهم ، وأن الفضل ثابت لهم جميعا إلا أنهم تفاوتوا على حسب أعمالهم وجهادهم وسبقهم .

ثم حتم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أى : أنه - تعالى - لا تخفى عليه خافية من أعمالكم الظاهرة أو الباطنة فأخلصوا أقوالكم وأفعالكم لله - تعالى - لتنالوا أجره وثوابه .

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث التى تدل على فضل الصحابة - رضوان الله عليهم - ومنها ما جاء فى الحديث الصحيح " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : " لا تسبوا أصحابى ، فوالذى نفسى بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " " .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

ولما أمرهم أولا بالإيمان والإنفاق ، ثم حثهم على الإيمان ، وبين أنه قد أزال عنهم موانعه ، حثهم{[28229]} أيضًا على الإنفاق . فقال : { وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : أنفقوا ولا تخشَوا فقرًا{[28230]} وإقلالا فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض ، وبيده مقاليدهما ، وعنده خزائنهما ، وهو مالك العرش بما حوى ، وهو القائل : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [ سبأ : 39 ] ، وقال { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } [ النحل : 96 ] فمن توكل على الله أنفق ، ولم يخش من ذي العرش إقلالا وعلم أن الله سيخلفه عليه .

وقوله : { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي : لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله ، وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديدًا ، فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون ، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهورًا عظيمًا ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ؛ ولهذا قال : { أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى }

والجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا فتح مكة . وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح هاهنا : صلح الحديبية ، وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد :

حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا زُهَير ، حدثنا حُمَيد الطويل ، عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ؟ فبلغنا أن ذلك ذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده ، لو أنفقتم مثل أحد - أو مثل الجبال - ذهبًا ، ما بلغتم أعمالهم " {[28231]}

ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة ، وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جَذيمة الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد الفتح ، فجعلوا يقولون : " صبأنا ، صبأنا " ، فلم يحسنوا أن يقولوا : " أسلمنا " ، فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم ، فخالفه عبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن عمر وغيرهما . فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك{[28232]}

والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده ، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ، ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نَصيفه " {[28233]}

وروى ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من حديث ابن وهب : أخبرنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم " فقلنا : من هم يا رسول الله أقريش ؟ قال : لا ولكن أهل اليمن ، هم أرق أفئدةً وألين قلوبًا " . فقلنا : أهم خير منا يا رسول الله ؟ قال : " لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ، ما أدرك مُدّ أحدكم ولا نَصيفه ، ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس ، { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } {[28234]} ]وهذا الحديث غريب بهذا السياق ، والذي في الصحيحين من رواية جماعة ، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد - ذَكَر الخوارج - : " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " {[28235]} الحديث . ولكن روى ابن جرير هذا الحديث من وجه آخر ، فقال :

حدثني بن البرقي ، حدثنا بن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر ، أخبرني زيد بن أسلم ، عن أبي سعيد التمار ، عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم " . قلنا : من هم يا رسول الله ؟ قريش ؟ قال : " لا ولكن أهل اليمن ، لأنهم أرق أفئدة ، وألين قلوبًا " . وأشار بيده إلى اليمن ، فقال : " هم أهل اليمن ، ألا إن الإيمان يمان ، والحكمة يمانية " . فقلنا : يا رسول الله ، هم خير منا ؟ قال : " والذي نفسي بيده ، لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مُدّ أحدكم ولا نصيفه " . ثم جمع أصابعه ومد خنصره ، وقال : " ألا إن هذا فضلُ ما بيننا وبين الناس ، { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ] " {[28236]} {[28237]}

فهذا السياق ليس فيه ذكر الحديبية فإن كان ذلك محفوظا كما تقدم ، فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح إخبارا عما بعده ، كما في قوله تعالى في سورة " المزمل " - وهي مكية ، من أوائل ما نزل - : { وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [ المزمل : 20 ] فهي بشارة بما يستقبل ، وهكذا هذه والله أعلم .

وقوله : { وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } يعني المنفقين قبل الفتح وبعده ، كلهم لهم ثواب على ما عملوا ، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء كما قال : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 95 ] . وهكذا{[28238]} الحديث الذي في الصحيح : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير " {[28239]} وإنما نَبَّه بهذا لئلا يُهدرَ جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر ، فيتوهم متوهم ذمه ؛ فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه ، مع تفضيل الأول عليه ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، ومن فعل ذلك بعد ذلك ، وما ذلك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام ، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق . وفي الحديث : " سبق درهم مائة ألف " {[28240]} ولا شك عند أهل الإيمان أن الصديق أبا بكر ، رضي الله عنه ، له الحظ الأوفر من هذه الآية ، فإنه سيّد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء ، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله ، عز وجل ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها .

وقد قال أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي عند تفسير هذه الآية أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي{[28241]} أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد ، أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب ، أخبرنا محمد بن يونس ، حدثنا العلاء بن عمرو الشيباني ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، حدثنا سفيان بن سعيد ، عن آدم بن علي ، عن ابن عمر قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق ، وعليه عباءة قد خَلَّها في صدره بخلال ، فنزل جبريل فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خَلَّها في صدره بِخلال ؟ فقال : " أنفق ماله عليَّ قبل الفتح " قال : فإن الله يقول : اقرأ عليه السلام ، وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله : " يا أبا بكر ، إن الله يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : أراض أنت عَني في فقرك هذا أم ساخط ؟ " فقال : أبو بكر ، رضي الله عنه : أسخط على ربي عز وجل ؟ إني عن ربي راض{[28242]}

هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه .


[28229]:- (1) في م: "ثم حثهم".
[28230]:- (2) في أ: "قترًا".
[28231]:- (3) المسند (3/266).
[28232]:- (4) رواه البخاري في صحيحه برقم (7189) من حديث بن عمر، رضي الله عنه.
[28233]:- (5) صحيح البخاري برقم (3673) وصحيح مسلم برقم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.
[28234]:- (1) تفسير الطبري (27/127).
[28235]:- (2) صحيح البخاري برقم (6931) وصحيح مسلم برقم (4601).
[28236]:- (3) زيادة من م، أ.
[28237]:- (4) تفسير الطبري (17/127).
[28238]:- (5) في م، أ: "وهذا".
[28239]:- (1) صحيح مسلم برقم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[28240]:- (2) رواه النسائي في السنن (5/59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[28241]:- (3) في أ: "الشرعي".
[28242]:- (4) معالم التنزيل للبغوي (8/34) وفيه: "إني عن ربي راض" مرتين، ووجه ضعفه أنه فيه العلاء بن عمرو. قال ابن حبان: "يروى أبي إسحاق الفزاري العجائب، لا يجوز الاحتجاج به بحال" وساق الحديث.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلاّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلََئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

يقول تعالى ذكره : وما لكم أيها الناس لا تنفقوا مما رزقكم الله في سبيل الله وإلى الله صائرٌ أموالكم إن لم تنفقوها في حياتكم في سبيل الله ، لأن له ميراث السموات والأرض ، وإنما حثهم جلّ ثناؤه بذلك على حظهم ، فقال لهم : أنفقوا أموالكم في سبيل الله ، ليكون ذلكم لكم ذخرا عند الله من قبل أن تموتوا ، فلا تقدروا على ذلك ، وتصير الأموال ميراثا لمن له السموات والأرض .

وقوله : لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْح وَقاتَلَ .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : لا يستوي منكم أيها الناس من آمن قبل فتح مكة وهاجر . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ قال : آمن فأنفق ، يقول : من هاجر ليس كمن لم يهاجر .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ يقول : من آمن .

قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال : يقول غير ذلك .

وقال آخرون : عني بالفتح فتح مكة ، وبالنفقة : النفقة في جهاد المشركين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدِ وَقاتَلُوا وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى قال : كان قتالان ، أحدهما أفضل من الاَخر ، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ، كانت النفقة والقتال من قبل الفتح «فتح مكة » أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ قال : فتح مكة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم في هذه الآية لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتحِ قال : فتح مكة .

وقال آخرون : عني بالفتح في هذا الموضع : صلح الحديبية . ذكر من قال ذلك :

حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عامر ، قال : فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية ، يقول تعالى ذكره : لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْح وَقاتَلَ . . . الآية .

حدثني حُمَيد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، في هذه الآية ، قوله : لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ منْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَل قال : فتح الحديبية ، قال : فصل ما بين العمرتين فتح الحديبية .

حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، قال : فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية . وأُنزلت لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلَ الفَتْحِ . . . إلى وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فقالوا : يا رسول الله فتحٌ هو ؟ قال : «نَعَمْ عَظِيمٌ » .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، قال : فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية ، ثم تلا هنا الآية لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ . . . الآية .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية : «يُوشِكُ أنْ يأتِي قَوْمٌ تَحَقِرُونَ أعمالَكُمْ مَعَ أعمالِهِمْ » ، قلنا : من هم يا رسول الله ، أقريش هم ؟ قال : «لا ، وَلَكَنْ أهْلُ اليَمَنِ أرَقّ أفْئِدَةً وألْيَنُ قُلُوبا » ، فقلنا : هم خير منا يا رسول الله ، فقال : «لَوْ كانَ لأَحَدَهِمْ جَبَلٌ مِنْ ذَهَب فأنْفَقَهُ ما أدْرَكَ مُدّ أحَدِكُمْ وَلا نَصِيفَهُ ، ألا إنّ هَذَا فَصْلُ ما بَيْنَنا وَبَينَ النّاسِ ، لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ . . . الآية ، إلى قوله : وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ » .

حدثني ابن البَرْقيّ ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرني زيد بن أسلم ، عن أبي سعيد التمار ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يُوشِكُ أنْ يأَتِي قَوْمٌ تَحَقِرُونَ أعمالَكُمْ مع أعمالَهُمْ » ، فقلنا : من هم يا رسولَ الله ، أقريش ؟ قال : «لا ، هُمْ أرَقّ أفْئَدَةً وألْيَنُ قُلُوبا » ، وأشار بيده إلى اليمن ، فقال : «هُمْ أهْلُ اليَمَنِ ، ألا إنّ الإيمانَ يمانِ ، والْحِكْمَةُ يَمانِيَةٌ » فقلنا : يا رسول الله هم خير منا ؟ قال : «وَالّذِي نَفْسِي بِيَده لَوْ كان لأحَدِهِمْ جَبَلُ ذَهَب يُنْفِقَهُ ما أدْرَكَ مُدّ أحَدِكُمْ وَلا نَصِيفَهُ » ، ثم جمع أصابعه ، ومدّ خنصره وقال : «إلا إنّ هَذَا فَصْلُ ما بَيْنَنا وَبَيَنَ النّاسِ » لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَل أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال : معنى ذلك لا يستوي منكم أيها الناس من أنفق في سبيل الله من قبل فتح الحُدَيبية للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي رويناه عن أبي سعيد الخُدريّ عنه ، وقاتل المشركين بمن أنفق بعد ذلك ، وقاتل وترك ذكر من أنفق بعد ذلك ، وقاتل استغناء بدلالة الكلام الذي ذُكر عليه من ذكره أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين أنفقوا في سبيل الله من قبل فتح الحديبية ، وقاتلوا المشركين أعظم درجة في الجنة عند الله من الذين أنفقوا من بعد ذلك ، وقاتلوا .

وقوله : وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى يقول تعالى ذكره : وكلّ هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، وعد الله الجنة بإنفاقهم في سبيله ، وقتالهم أعداءه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا وآمَنُوا وكُلاّ وَعَدَ الله الْحُسْنَى قال : الجنة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى قال : الجنة .

وقوله : وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يقول تعالى ذكره : والله بما تعملون من النفقة في سبيل الله ، وقتال أعدائه ، وغير ذلك من أعمالكم التي تعملون ، خبير لا يخفى عليه منها شيء ، وهو مجازيكم على جميع ذلك يوم القيامة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

وما لكم ألا تنفقوا وأي شيء لكم في ألا تنفقوا في سبيل الله فيما يكون قربة إليه ولله ميراث السموات والأرض يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال وإذا كان كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضا يبقى وهو الثواب كان أولى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم من السبق وقوة اليقين وتحري الحاجات حثا على تحري الأفضل منها بعد الحث على الإنفاق وذكر القتال للاستطراد وقسيم من أنفق محذوف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه و الفتح فتح مكة إذ عز الإسلام به وكثر أهله وقلت الحاجة إلى المقاتلة والإنفاق من الذين أنفقوا من بعد أي من بعد الفتح وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى أي وعد الله كلا من المنفقين المثوبة الحسنى وهي الجنة وقرأ ابن عامر وكل بالرفع على الابتداء أي وكل وعده الله ليطابق ما عطف عليه والله بما تعملون خبير عالم بظاهره وباطنه فيجازيكم على حسبه والآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإنه أول من آمن وأنفق في سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضربا أشرف به على الهلاك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

والمعنى : { وما لكم لا تنفقوا في سبيل الله } وأنتم تموتون وتتركون أموالكم ، فناب مناب هذا القول قوله : { ولله ميراث السماوات والأرض } ، وفيه زيادة تذكير بالله وعبرة ، وعنه يلزم القول الذي قدرناه .

وقوله تعالى : { لا يستوي منكم } الآية ، روي أنها نزلت بسبب أن جماعة من الصحابة أنفقت نفقات كثيرة حتى قال ناس : هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق قديماً ، فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل الفتح أعظم أجراً .

وهذا التأويل على أن الآية نزلت بعد الفتح ، وقد قيل إنها نزلت قبل الفتح تحريضاً على الإنفاق ، والأول أشهر وحكى الثعلبي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي ونفقاته{[10955]} ، وفي معناه قول النبي عليه السلام لخالد بن الوليد : «اتركوا لي أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه »{[10956]} .

واختلف الناس في { الفتح } المشار إليه في هذه الآية . فقال أبو سعيد الخدري والشعبي : هو فتح الحديبية . وقد تقدم في سورة «الفتح » تقرير كونه فتحاً ، ورفعه أبو سعيد الخدري إلى النبي عليه السلام أن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبية{[10957]} . وقال قتادة ومجاهد وزيد بن أسلم : هو فتح مكة الذي أزال الهجرة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو المشهور الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية »{[10958]} ، وقال له رجل بعد فتح مكة : أبايعك على الهجرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الهجرة قد ذهبت بما فيها » . ( وإن الهجرة شأنها شديد ، ولكن أبايعك على الجهاد ){[10959]} ، وحكم الآية باق غابر الدهر من أنفق في وقت حاجة السبيل أعظم أجراً ممن أنفق مع استغناء السبيل .

وأكثر المفسرين على أن قوله : { يستوي } مسند إلى { من } ، وترك ذكر المعادل الذي لا يستوي معه ، لأن قوله تعالى : { من الذين أنفقوا من بعد } قد فسره وبينه . ويحتمل أن يكون فاعل { يستوي } محذوفاً تقديره : لا يستوي منكم الإنفاق ، ويؤيد ذلك أن ذكره قد تقدم في قوله : { وما لكم ألا تنفقوا } ويكون قوله : { من } ابتداء وخبره الجملة الآتية بعد{[10960]} .

وقرأ جمهور السبعة : «وكلاً وعد الله الحسنى » وهي الوجه ، لأن وعد الله ليس يعوقه عائق على أن ينصب المفعول المقدم . وقرأ ابن عامر : «وكل وعد الله الحسنى » ، فأما سيبويه رحمه الله فقدر الفعل خبر الابتداء ، وفيه ضمير عائد وحذفه عنده قبيح لا يجري إلا في شعر ونحوه ، ومنه قول الشاعر [ جرير بن عطية ] : [ الرجز ]

قد أصبحت أم الخيار تدعي . . . عليّ ذنباً كله لم أصنع{[10961]}

قال : ولكن حملوا الخبر على الصفات كقول جرير : [ الوافر ]

وما شيء حميت بمستباح . . . {[10962]}

وعلى الصلات كقوله تعالى : { أهذا الذي بعث الله رسولاً }{[10963]} [ الفرقان : 41 ] وذهب غير سيبويه إلى أن { وعد } في موضع الصفة ، كأنه قال : «أولئك كل وعد الله الحسنى » ، وصاحب هذا المذهب حصل في هذا التعسف في المعنى فراراً من حذف الضمير في خبر المبتدأ . و : { الحسنى } الجنة ، قاله مجاهد وقتادة ، والوعد يتضمن ما قبل الجنة من نصر وغنيمة .

وقوله تعالى : { والله بما تعملون خبير } قول فيه وعد ووعيد .


[10955]:ذكر ذلك الواحدي في كتابه"أسباب النزول" عن محمد بن غزوان عن الكللبي، ولكن الكلبي متهم بالكذب، كذلك رواه الواحدي بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما، وفي سنده ضعف، وذكره ابن كثير في تفسيره ثم قال:"هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه والله أعلم". وفضل أبي بكر رضي الله عنه وإنفاقه في سبيل الله أمران معروفان، ولا يقلل من ذلك ضعف هذا الحديث، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير يؤكد فضله وسبقه.
[10956]:أخرجه الإمام أحمد عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن ابن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها. فبلغنا أن ذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:(دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد، أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم)، قال ابن كثير بعد أن ذكر هذا الحديث:"ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة، وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جذيمة الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد الفتح، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا، فخالفه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهما، فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك، والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه).
[10957]:أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي اللع عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم، قلنا: من هم يا رسول الله؟ أقريش؟ قال: لا، ولكنهم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبا، فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مُد أحدكم ولا نصيفه، ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس،{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} الآية. قال ابن كثير بعد أن أورد هذا الحديث: وهذا الحديث غريب بهذا السياق، والذي في الصحيحين من رواية جماعة عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد ذكر الخوارج:(تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية...) الحديث، ولكن روى ابن جرير هذا الحديث من وجه آخر، وساق الحديث من هذا الوجه ثم قال: فهذا السياق ليس فيه ذكر الحديبية، فإن كان ذاك-أي رواية الأولى- محفوظا كما تقدم فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح إخبارا عما بعده.
[10958]:أخرجه البخاري في الصيد والجهاد ومناقب الأنصار والمغازي، ومسلم في الإمارة، والترمذي في السير، والنسائي في البيعة، وابن ماجه في الكفارات، والدارمي في السير، وأحمد في أكثر من موضع من مسنده، ولفظه كما جاء في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا).
[10959]:أخرجه البخاري في المغازي عن مجاشع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخي بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة، قال: ذهب أهل الهجرة بما فيها، فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد، فلقيت أبا معبد بعد-وكان أكبرهما- فسألته، فقال: صدق مجاشع.
[10960]:وهي قوله تعالى:{أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا}. وقد ذكر أبو حيان هذا الرأي ووصفه بالبعد، وقال:" وهذا فيه تفكيك للكلام، وخروج عن الظاهر لغير موجب".
[10961]:هذا الرجز قاله أبو النجم العجلي،و"أم الخيار" هي زوجته، و"الذنب" الذي ادعته عليه وهو لم يصنعه هو الشيب والصلع والشيخوخة، يقول: إنها تلومني على شيبتي وشيخوختي وهو ذنب لم أرتكبه أنا، والشعر في خزانة الأدب للبغدادي، وفي كتاب سيبويه، وفي شرح شواهد المغني، وأمالي ابن الشجري ومغني اللبيب، وقد أكثر النحويون والبيانيون الكلام في هذا البيت، واختلفوا فيه اختلافا كبيرا بين نصب (كله) ورفعه، وابن عطية ينقل عن سيبويه أن في الفعل(أصنع) ضمير يعود على المبتدأ وهو (كل)، وأن التقدير:"لم أصنعه"، والحذف عنده قبيح ولا يقبل إلا في الشعر، ولكن غير سيبويه يجيز ذلك كالفراء والكسائي وابن مالك، والبيانيون يقولون: إن رفع"كل" أفضل لأنه يقتضي أنه لم يصنع شيئا من هذا الذي ادعته عليه من ذنوب، فالنفي ينصب على كل ذنب من الذنوب، وأما النصب فيقتضي أنه لم يصنع الذنوب مجتمعة، وهذا لا ينفي أنه قد صنع بعضها، وبعض العلماء ينقض ذلك، راجع خزانة الأدب، والمحتسب، والتسهيل وغيرها. ومثل هذا البيت قوله صلى الله عليه وسلم-حين قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟-:"كل ذلك لم يكن"، أي: لم تقصر الصلاة ولم أنس.
[10962]:هذا عجز بيت قاله جرير يخاطب عبد الملك بن مروان، والبيت بتمامه: أبحت حمى تِهامة بعد نجد وما شيء حميت بمُستباح يقول له: ملكت العرب وأبحت حماها بعد إبائها عليك، وما حميته لا يستطيع أحد أن يستبيحه لقوة سلطانك، وتهامة: ما هبط ونزل من بلاد العرب، ونجد: ما علا وارتفع منها، يعني ملكت جميع البلاد العربية، والبيت شاهد لجواز حذف الهاء من الفعل إذا وقعت جملته نعتا؛ لأن النعت مع المنعوت كالصلة مع الموصول، وحذفها في الصلة حسن فضارعها النعت في ذلك، وتقدير الكلام:"وما شيء حميته بمستباح"، والبيت في الديوان، وفي الكتاب لسيبويه، وأمالي ابن الشجري، ومغني اللبيب.
[10963]:من الآية(94) من سورة (الإسراء).