التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرُوٓاْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ} (2)

ثم بين - سبحانه - لونا من ألوان قدرته ، ورحمته بعباده ، حيث أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، فقال تعالى - : { يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ . . . } .

والمراد بالملائكة هنا : جبريل - عليه السلام - ومن معه من حفظة الوحى . أو المراد بهم جبريل خاصة ، ولا مانع من ذلك ، لأن الواحد قد يسمى باسم الجمع إذا كان رئيسا عظيما .

والمراد بالروح : كلام الله - تعالى - ووحيه الذى ينزل به جبريل ، ليبلغه إلى من أمره الله بتبليغه إياه .

وقد جاء ذكر الروح بمعنى الوحى فى آيات منها قوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا . . . } والمعنى : ينزل - سبحانه - الملائكة بكلامه ووحيه ، على من يشاء إنزالهم إليه من عباده المصطفين الأخيار .

وأطلق - سبحانه - على وحيه اسم الروح ، على سبيل التشبيه ، ووجه الشبه : أن بسببهما تكون الحياة الحقة .

فكما أن بالروح تحيا الأبدان والأجساد ، فكذلك بالوحى تحيا القلوب والنفوس وتؤدى رسالتها فى هذه الحياة .

وفى قوله - سبحانه - : { من أمره } إشارة إلى أن نزول الملائكة بالوحى ، لا يكون إلا بسبب أمر الله لهم بذلك ، كما قال - تعالى - حكاية عنهم : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } وقوله : { على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } رد على مطالب المشركين المتعنتة ، والتى من بينها ما حكاه الله تعالى - عنهم فى قوله : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ . . . } فالآية الكريمة تبين أن نزول الملائكة بالوحى ، إنما هو على من يختاره الله - تعالى - لنزول الوحى عليه ، لا على من يختارونه هم ، وأن النبوة هبة من الله - تعالى - لمن يصطفيه من عباده . قال - تعالى - : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وقوله : { أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون } بيان للمقصود من نزول الملائكة بالوحى على الأنبياء .

أى : أنزل - سبحانه - ملائكته بوحيه على أنبيائه ، لكى ينذر هؤلاء الأنبياء الناس ، ويخوفوهم من سوء عاقبة الإِشراك بالله ، ويدعوهم إلى أن يخلصوا العبادة لله - تعالى - وحده ، ويبينوا لهم أن الألوهية لا يصح أن تكون لغيره - سبحانه - .

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : { أن أنذروا } بدل من { الروح } على أن " أن " هى التى من شأنها أن تنصب المضارع ، وصلت بالأمر كما وصلت به فى قولهم : كتبت إليه بأن قم .

وجوز بعضهم كون " أن " هنا مفسرة ، فلا موضع لها من الإِعراب ، وذلك لما فى " ينزل الملائكة بالوحى ، من معنى القول ، كأنه قيل : يقول - سبحانه - بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أن أنذروا . . . " .

واقتصر هنا على الإِنذار الذى هو بمعنى التخويف ، لأن الحديث مع المشركين ، الذين استعجلوا العذاب ، واتخذوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى .

والفاء فى قوله { فاتقون } فصيجة : أى ، إذا كان الأمر كذلك ، من أن الألوهية لا تكون لغير الله ، فعليكم أن تتقوا عقوبتى لمن خالف أمرى ، وعبد غيرى .

قال الجمل : " وفى قوله { فاتقون } تنبيه على الأحكام الفرعية بعد التنبيه على الأحكام العلمية بقوله ، { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ } ، فقد جمعت الآية بين الأحكام الأصلية والفرعية " .

وبعد أن بين - سبحانه - أنه منزه عن أن يكون له شريك ، وأنه قد أنزل الملائكة بوحيه على من يشاء من عباده ، وأنه لا إله يستحق العبادة سواه .

بعد كل ذلك ، بين الأدلة الدالة على قدرته ووحدانيته ، بأسلوب بديع ، جمع فيه بين دلالة المخلوق على الخالق ، ودلالة النعمة على منعمها ، ووبخ المشركين على شركهم ، تارة عن طريق خلقه وحده - سبحانه - للسموات والأرض ، وتارة عن طريق خلقه للإِنسان ، وتارة عن طريق خلقه للحيوان وللنبات ، ولغير ذلك من المخلوقات التى لا تحصى .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرُوٓاْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ} (2)

يقول تعالى : { يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ } أي : الوحي كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] .

وقوله : { عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وهم الأنبياء ، كما قال : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، وقال : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ } [ الحج : 75 ] ، وقال : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ غافر : 15 ، 16 ] .

وقوله : { أَنْ أَنْذِرُوا } أي : لينذروا { أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا } [ كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا } ]{[16314]} { فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال في هذه [ الآية ]{[16315]} : { فَاتَّقُونِ } أي : فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري .


[16314]:زيادة من ت، ف، أ.
[16315]:زيادة من ت، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرُوٓاْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ} (2)

القول في تأويل قوله تعالى : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون }

اختلفت القراء في قراءة قوله : { ينزل الملائكة } فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والكوفة : { ينزل الملائكة } بالياء وتشديد الزاي ونصب الملائكة ، بمعنى ينزل الله الملائكة بالروح ، وقرأ ذلك بعض البصريين وبعض المكيين : " يُنَزِّلُ المَلائٍكَةَ " بالياء وتخفيف الزاي ونصب الملائكة . وحكي عن بعض الكوفيين أنه كان يقرؤه : " تنزل الملائكة " بالتاء وتشديد الزاي والملائكة بالرفع ، على اختلاف عنه في ذلك . وقد روي عنه موافقة سائر قراء بلده .

وأولى القراءات بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ : { ينزل الملائكة } بمعنى : ينزل الله الملائكة . وإنما اخترت ذلك . لأن الله هو المنزل ملائكته بوحيه إلى رسله ، فإضافة فعل ذلك إليه أولى وأحق واخترت " ينزل " بالتشديد على التخفيف ، لأنه تعالى ذكره كان ينزل من الوحي على من نزله شيئا بعد شيء ، والتشديد به إذ كان ذلك معناه أولى من التخفيف .

فتأويل الكلام : ينزل الله ملائكته بما يحيا به الحق ويضمحل به الباطل من أمره { على من يشاء من عباده } يعني على من يشاء من رسله { أن أنذروا } ف " أنْ " الأولى في موضع خفض ، ردا على " الروح " ، والثانية في موضع نصب ب " أنذروا " . ومعنى الكلام : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ، بأن أنذروا عبادي سطوتي على كفرهم بي وإشراكهم في اتخاذهم معي الآلهة والأوثان ، فإنه { لا إله إلا أنا } يقول : لا تنبغي الألوهة إلا لي ، ولا يصلح أن يعبد شيء سواي ، { فاتقون } يقول : فاحذروني بأداء فرائضي وإفراد العبادة وإخلاص الربوبية لي ، فإن ذلك نجاتكم من الهلكة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : { ينزل الملائكة بالروح } يقول : بالوحي .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره ، على من يشاء من عباده } يقول : ينزل الملائكة . . . .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ؛ وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ؛ وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { بالروح من أمره } إنه لا ينزل ملك إلا ومعه روح .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : قوله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره } قال : لا ينزل ملك إلا معه روح { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده } قال : بالنبوة . قال ابن جريج : وسمعت أن الروح خلق من الملائكة نزل به الروح { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } قال : كل كلم تكلم به ربنا فهو روح منه ، { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } [ الشورى : 52 ] . . إلى قوله : { ألا إلى الله تصير الأمور } [ الشورى : 53 ] .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره } يقول : ينزل بالرحمة والوحي من أمره ، { على من يشاء من عباده } فيصطفي منهم رسلا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده } قال : بالوحي والرحمة .

وأما قوله : { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } فقد بينا معناه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } إنما بعث الله المرسلين أن يوحد الله وحده ، ويطاع أمره ، ويجتنب سخطه .