ثم عادت السورة الكريمة - بعد هذا الحديث الجامع عن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وعن فضله - إلى الحديث عن جانب من أحاكم الزواج والطلاق ، فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ . . . . } .
والمراد بالنكاح هنا فى قوله { إِذَا نَكَحْتُمُ } العقد ، لأن الحديث فى حكم المرأة التى تم طلاقها قبل الدخول بها .
وهذا الحكم شامل للمؤمنات ولغيرهن كالكتابيات ، إلا أن الآية الكريمة خصت المؤمنات بالذكر ، للتنبيه على أن من ساق المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيرا للنطفة .
والعدة : هى الشئ المعدود . وعدة المرأة معناها : المدة التى بانقضائها يحل لها الزواج من شخص آخر ، غير الذى كان زوجا لها .
والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإِيمان ، { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات } أى : إذا عقدتم عليهن عقد النكاح ، ولم يبق بينكم وبينهن سوى الدخول بهن .
{ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } أى : ثم طلقتموهن من قبل أن تجامعوهن .
قال الآلوسى : وفائدة المجئ بثم مع أن الحكم ثابت لمن تزوج امرأة وطلقها على الفور كثبوته لمن تزوجها وطلقها بعد مدة مديدة ، إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخى الطلاق ، له دخل فى إيجاب العدة ، لاحتمال الملاقاة والجماع سرا . .
أى : أن الحكم الذى اشتملت عليه الآية الكريمة ، ثابت سواء تم الطلاق بعد عقد الزواج مباشرة ، أم بعده بمدة طويلة .
وفى التعبير عن الجماع بالمس كناية لطيفة . من شأنها أن تربى فى الإِنسان حسن الأدب ، وسلامة التعبير ، وتجنب النطق بالألفاظ التى تخدش الحياء .
وقوله : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } جواب إذا ، وبيان للحكم المترتب على طلاق المرأة قبل الدخول بها .
أى : إذا طلقتموهن قبل الدخول بهن ، فلا عدة عليهن ، بل من حقهن أن يتزوجن بغيركم ، بعد طلاقكم لهن بدون التقيد بأية مدة من الزمان .
قال الجمل : وقوله : { تَعْتَدُّونَهَا } صفة لعدة . وتعتدونها تفتعلونها ، إما عن العد ، وإما عن الاعتداد ، أى : تحسبونها أو تستوفون عددها ، من قولك : عد فلان الدراهم فاعتدها ، أى : فاستوفى عددها . .
فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن المطلقة قبل الدخول بها لا عدة عليها إطلاقا بنص الكتاب وإجماع الأمة ، أما المطلقة بعد الدخول بها فعليها العدة إجماعا .
وقوله - سبحانه - : { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } بيان لما يجب على المؤمنين أن يفعلوه ، بالنسبة لمن طلقت قبل الدخول بها .
وأصل المتعة والمتاع ، ما ينتفع بها الإِنسان من مال أو كسوة أو غير ذلك . ثم أطلقت المتعة على ما يعطيه الرجل للمرأة من مال أو غيره عند طلاقها منه ، لتنتفع به ، جبرا لخاطرها ، وتعويضا لها عما نالها بسبب هذا الفراق .
وأصل التسريح : أن ترعى الإِبل السرح ، وهو شجر له ثمرة ، ثم أطلق على كل إرسال فى الرعى ، ثم على كل إرسال وإخراج .
والتسريح الجميل : هو الذى لا ضرر معه . وإنما معه الكلام الطيب ، والفعل الحسن .
والمعنى : إذا طلقتموهن قبل الدخول بهن ، فأعطوهن من المال ما يجبر خاطرهن ، وما يكون عوضا عن فراقهن .
. وأطلقوا سراحهن ليستأنفن حياة جديدة مع غيركم ، وساعدوهن على ذلك إن استطعتم ، فإن من شأن العقلاء ، يعاشروا أزواجهن بالمعروف ، وأن يفارقوهن - أيضا - بالمعروف .
ومن العلماء من يرى أن المتعة واجبة للمرأة على الرجل فى حال مفارقتها قبل الدخول بها ، لأن الآية الكريمة قد أمرت بذلك ، والأمر بقتضى الوجوب .
وقد بينا ذلك بالتفصيل عند تفسيرها لقوله - تعالى - فى سورة البقرة : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ومن مجموع هذه الآيات : نرى أحكم التشريعات ، وأسمى التوجيهات .
هذه الآية الكريمة فيها أحكام{[23647]} كثيرة . منها : إطلاق النكاح على العقد وحده ، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها ، وقد اختلفوا في النكاح : هل هو حقيقة في العقد وحده ، أو في الوطء ، أو فيهما ؟ على ثلاثة أقوال ، واستعمال القرآن إنما هو في العقد والوطء بعده ، إلا في هذه الآية فإنه استعمل في العقد وحده ؛ لقوله : { إِذَا نَكَحْتُمُ{[23648]} الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } . وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها .
وقوله : { الْمُؤْمِنَاتِ } خرج مخرج الغالب ؛ إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق . وقد استدل ابن عباس ، وسعيد بن المسَيَّب ، والحسن البصري ، وعلي بن الحسين ، زين العابدين ، وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح ؛ لأن الله تعالى قال : { إِذَا نَكَحْتُمُ{[23649]} الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ، فعقب النكاح بالطلاق ، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله . وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وطائفة كثيرة من السلف والخلف ، رحمهم الله تعالى .
وذهب مالك وأبو حنيفة ، رحمهما الله ، إلى صحة الطلاق قبل النكاح ؛ فيما إذا قال : " إن تزوجت فلانة فهي طالق " . فعندهما متى تزوجها طلقت منه . واختلفا فيما إذا قال : " كل امرأة أتزوجها فهي طالق " . فقال مالك : لا تطلق حتى يعين المرأة . وقال أبو حنيفة ، رحمه الله : كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه ، فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور المروزي ، حدثنا النضر بن شُمَيْل ، حدثنا يونس - يعني : ابن أبي إسحاق - سمعت آدم مولى خالد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : [ إذا قال ]{[23650]} : كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، قال : ليس بشيء من أجل أن الله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } الآية .
وحدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسِي ، حدثنا وَكِيع ، عن مطر ، عن الحسن بن مسلم بن يَنّاق{[23651]} ، عن ابن عباس قال : إنما قال الله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ، ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح ؟ !
وهكذا روى محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال الله : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فلا طلاق [ قبل النكاح ]{[23652]} .
وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك " . رواه الإمام أحمد والترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه{[23653]} . وقال الترمذي : " هذا حديث حسن " . وهو أحسن شيء روي في هذا الباب . وهكذا روى ابن ماجه عن علي ، والمِسْوَر بن مَخْرَمَة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا طلاق قبل نكاح " {[23654]} .
[ وفي الآية دليل على أن المسيس مطلق ، ويراد به الوطء ]{[23655]} .
وقوله{[23656]} : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } : هذا أمر مجمع عليه بين العلماء : أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها فتذهب فتتزوج في فورها مَنْ{[23657]} شاءت ، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها ، فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرا ، وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضا .
وقوله : { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } : المتعة هاهنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى ، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها ، قال الله تعالى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] ، وقال { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 236 ] .
وفي صحيح البخاري ، عن سهل بن سعد وأبي أسيد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شَرَاحيل ، فلما أدخلت{[23658]} عليه بسط يده إليها ، فكأنها كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيَّين{[23659]} .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : إن كان سمى لها صداقا ، فليس لها إلا النصف ، وإن لم يكن سمى لها صداقا فأمتعها على قدر عسره ويسره ، وهو السراح الجميل .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسّوهُنّ يعني من قبل أن تجامعوهنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّوَنها يعني : من إحصاء أقراء ، ولا أشهر تحصونها عليهنّ ، فمتعوهنّ يقول : أعطوهنّ ما يستمتعن به من عرض أو عين مال . وقوله : وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحا جَمِيلاً يقول : وخلوا سبيلهنّ تخلية بالمعروف ، وهو التسريح الجميل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْل أنْ تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّوَنها فهذا في الرجل يتزوّج المرأة ، ثم يطلقها من قبل أن يمسها ، فإذا طلقها واحدة بانت منه ، ولا عدّة عليها تتزوّج من شاءت ، ثم قرأ : فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحا جَمِيلاً يقول : إن كان سمى لها صداقا ، فليس لها إلا النصف ، فإن لم يكن سمى لها صداقا ، متّعها على قدر عسره ويُسره ، وهو السراح الجميل .
وقال بعضهم : المتعة في هذا الموضع منسوخة بقوله : فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنات . . . إلى قوله : سَرَاحا جَمِيلاً قال : قال سعيد بن المسيب : ثم نسخ هذا الحرف المتعة وَإنْ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْل أنَ تَمَسّوهُنّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنّ فَريضَةً فنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدّث عن سعيد بن المسيب ، قال : نسخت هذه الاَية يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْل أنْ تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّوَنها فَمَتّعُوهُنّ قال : نسخت هذه الاَية التي في البقرة .