التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزۡجِي سَحَابٗا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيۡنَهُۥ ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ رُكَامٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٖ فِيهَا مِنۢ بَرَدٖ فَيُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ وَيَصۡرِفُهُۥ عَن مَّن يَشَآءُۖ يَكَادُ سَنَا بَرۡقِهِۦ يَذۡهَبُ بِٱلۡأَبۡصَٰرِ} (43)

ثم لفت - سبحانه - بعد ذلك أنظار عباده إلى مظاهر قدرته فى هذا الكون ، حيث يزجى السحاب ، ثم يؤلف بينه ، ثم يجعله ركاما . . . وحيث نوع مخلوقاته مع أنها جميعا من أصل واحد فقال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ . . . . } .

قوله - تعالى - { يُزْجِي } من الإزجاء بمعنى الدفع بأناة ورفق . يقال : زجى الراعى إبله تزجية ، إذا ساقها برفق . وأزجت الريح السحاب ، أى : دفعته .

والمعنى : لقد علمت - أيها العاقل - ورأيت بعينيك ، أن الله - تعالى - يسوق بقدرته السحاب الذى فى الجو ، سوقا رفيقا إلى حيث يريد .

{ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أى : يسوق - سبحانه - السحاب سوقا هادئا سهلا . ثم بعد ذلك يصل بعضه ببعض ، ويجمع بعضه مع بعض ، ثم بعد ذلك { يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أى : متراكما بعضه فوق بعض . يقال ركم فلان الشىء يركمه ركما ، إذا جمعه ، وألقى بعضه على بعض ، ومنه : الرمل المتراكم ، أى : المجتمع .

وهذا الذى حكاه القرآن من سوق الله - تعالى - للسحب ثم تجميعها ، ثم تحويلها إلى قطع ضخمة متراكمة متكاثفة كقطع الجبال ، يراه الراكب للطائرات بوضوح وتسليم بقدرة الله - تعالى - ، الذى أحسن كل شىء خلقه .

وقوله - سبحانه - : { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } بيان لما يترتب على هذا السوق الرفيق ، والتجمع الدقيق من آثار .

والودق : المطر . وهو فى الأصل مصدر ودَق السحاب يدِق وَدْقاً ، إذا نزل منه المطر . والخلال : جمع خلل - كجبال وجبل - والمارد بها التفوق والشقوق .

قال القرطبى : فى " الودق " قولان : أحدهما : أنه البرق . . . والثانى : أنه المطر . وهو قول الجمهور يقال : ودقت السحابة فهى وادقة . وودق المطر يدق ودقا . أى : قطر .

أى : يسوق الله - تعالى - السحاب إلى حيث يشاء بقدرته ، ثم يؤلف بينه ، ثم يجعله متراكما بعضه فوق بعض ، فترى - أيها العاقل - المطر يخرج من فتوق هذا السحاب المتراكم ومن فروجه ، تارة بشدة وعنف ، وتارة بهدوء ورفق .

وقوله - تعالى - : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ . . . } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - سبحانه - .

أى : وينزل - سبحانه - من جهة السماء قطعا من السحاب الكثير من البرد ، وهو شىء ينزل من السحاب يشبه الحصى ، ويسمى حب الغمام : وحب المزن

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما الفرق بين " من " الأولى ، والثانية ، والثالثة فى قوله { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } ؟

قلت الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، والثالثة للبيان ، أو الأوليان للابتداء ، والآخرة للتبعيض .

فإن قلت : ما معنى " من جبال فيها من برد " ؟ قلت : فيه معنيان : أحدهما : أن يخلق الله فى السماء جبال برد . كما فى الأرض جبال حجر ، والثانى : أن يريد الكثرة بذكر الجبال ، كما يقال : فلان يملك جبالا من ذهب .

وقوله - تعالى - : { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } أى : فيصيب بالذى ينزله من هذا البرد من يشاء إصابته من عباده ، ويصرفه عمن يشاء صرفه عنهم ، إذ الإصابة والصرف بمقتضى حكمته وإرادته .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار } . والسنا : شدة الضوء . يقال : سنا الشىء يسنو سنا ، إذا أضاء .

أى : يكاد ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف والتراكم . . . يخطف الأبصار من شدة إضاءته ، وزيادة لمعانه وسرعة توهجه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزۡجِي سَحَابٗا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيۡنَهُۥ ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ رُكَامٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٖ فِيهَا مِنۢ بَرَدٖ فَيُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ وَيَصۡرِفُهُۥ عَن مَّن يَشَآءُۖ يَكَادُ سَنَا بَرۡقِهِۦ يَذۡهَبُ بِٱلۡأَبۡصَٰرِ} (43)

ومشهد آخر من مشاهد هذا الكون التي يمر عليها الناس غافلين ؛ وفيها متعة للنظر ، وعبرة للقلب ، ومجال للتأمل في صنع الله وآياته ، وفي دلائل النور والهدى والإيمان :

ألم تر أن الله يزجي سحابا ، ثم يؤلف بينه ، ثم يجعله ركاما ، فترى الودق يخرج من خلاله . وينزل من السماء من جبال فيها من برد ، فيصيب به من يشاء ، ويصرفه عمن يشاء ، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار . .

والمشهد يعرض على مهل وفي إطالة ، وتترك أجزاؤه للتأمل قبل أن تلتقي وتتجمع . كل أولئك لتؤدي الغرض من عرضها في لمس القلب وإيقاظه ، وبعثه إلى التأمل والعبرة ، وتدبر ما وراءها من صنع الله .

إن يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان . ثم تؤلف بينه وتجمعه ، فإذا هو ركام بعضه فوق بعض . فإذا ثقل خرج منه الماء ، والوبل الهاطل ، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة ، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة . . ومشهد السحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها ، فإذا المشهد مشهد الجبال حقا ، بضخامتها ، ومساقطها ، وارتفاعاتها وانخفاضاتها . وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس ، إلا بعد ما ركبوا الطائرات .

وهذه الجبال مسخرة بأمر الله ، وفق ناموسه الذي يحكم الكون ؛ ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر من يشاء ، ويصرفه عمن يشاء . . وتكملة المشهد الضخم : ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار )ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض ، على طريقة التناسق في التصوير .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزۡجِي سَحَابٗا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيۡنَهُۥ ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ رُكَامٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٖ فِيهَا مِنۢ بَرَدٖ فَيُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ وَيَصۡرِفُهُۥ عَن مَّن يَشَآءُۖ يَكَادُ سَنَا بَرۡقِهِۦ يَذۡهَبُ بِٱلۡأَبۡصَٰرِ} (43)

أعقب الدلالة على إعطاء الهدى في قوانين الإلهام في العجماوات بالدلالة على خلق الخصائص في الجماد بحيث تسير على السير الذي قدره الله لها سيراً لا يتغير ، فهي بذلك أهدى من فريق الكافرين الذين لهم عقول وحواس لا يهتدون بها إلى معرفة الله تعالى والنظر في أدلتها ، وفي ذلك دلالة على عظم القدرة وسعة العلم ووحدانية التصرف . وهذا استدلال بنظام بعض حوادث الجو حتى آل إلى قوله { فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء } .

وقد حصل من هذا حسن التخلص للانتقال إلى الاستدلال على عظم القدرة وسمو الحكمة وسعة العلم الإلهي .

و { يزجي } : يسوق . يقال : أزجى الإبل إزجاء .

وأطلق الإزجاء على دنو بعض السحاب من بعض بتقدير الله تعالى الشبيهِ بالسوْق حتى يصير سحاباً كثيفاً ، فانضمام بعض السحاب إلى بعض عبر عنه بالتأليف بين أجزائه بقوله تعالى : { ثم يؤلف بينه } الخ .

وتقدم الكلام على السحاب في سورة البقرة ( 164 ) في قوله : { والسحاب المسخر } وفي أول سورة الرعد ( 12 ) .

ودخلت ( بين ) على ضمير السحاب لأن السحاب ذو أجزاء كقول امرىء القيس :

بَيْن الدخول فحَوْمَل

أي يؤلف بين السحابات منه .

والركام : مشتق من الركم . والركم : الجمع والضم . ووزن فُعال وفُعالة يدل على معنى المفعول . فالركام بمعنى المركوم كما جاء في قوله تعالى : { وإن يَروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم } في سورة الطور ( 44 ) .

فإذا تراكم السحاب بعضه على بعض حدث فيه ما يسمى في علم حوادث الجو بالسيال الكهربائي وهو البرق . فقال بعض المفسرين : هو الودق . وأكثر المفسرين على أن الودق هو المطر ، وهو الذي اقتصرت عليه دواوين اللغة ، والمطر يخرج من خلال السحاب .

والخلال : الفتوق ، جمع خَلَل كجبل وجبال . وتقدم { خلال الديار } في سورة الإسراء ( 5 ) .

ومعنى { ينزل من السماء } يُسقط من علو إلى سفل ، أي يُنزل من جو السماء إلى الأرض . والسماء : الجو الذي فوق جهة من الأرض .

وقوله : { من جبال } بدل من { السماء } بإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه وهو بدل بعض لأن المراد بالجبال سحاب أمثال الجبال .

وإطلاق الجبال في تشبيه الكثرة معروف . يقال : فلان جبل علم ، وطود علم . وفي حديث البخاري من طريق أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو كان لي مثل أحُد ذهباً لسَرّني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئاً أرصده لدين » أي ما كان يسرني ، فالكلام بمعنى النفي ، أي لمَا سرني . أو لما كان سرني الخ .

وحرف { من } الأول للابتداء و { من } الثاني كذلك و { من } في قوله { من برد } مزيدة في الإثبات على رأي الذين جوزوا زيادة { من } في الإثبات .

أو تكون { من } اسماً بمعنى بعض .

ومفعول { ينزل } محذوف يدل عليه قوله : { فيها من برد } والتقدير : يُنزل بَرداً .

ووقوع { من } زائدة لقصد مشاكلة قوله : { من جبال } .

وقوله : { فيصيب به من يشاء } جعل نزول البرد إصابة لأن الإصابة إذا أطلقت في كلامهم دلت على أنها حلول مكروه . ومن ذلك سميت المصيبةَ الحادثةُ المكروهة . وأما قوله تعالى : { إن تصبك حسنة تسؤهم } [ التوبة : 50 ] فلأن قوله : { حسنة } قرينة على إطلاق الإصابة على مطلق الحدوث إما مجازاً مرسلاً وإما مشتركاً لفظياً أو مشتركاً معنوياً فإن ( أصاب ) مشتق من الصوب وهو النزول ومنه صوب المطر ، فجعل نزول البرَد إصابة لأنه يفسد الزرع والثمرة ، فضمير { به } للبرَد .

وجملة : { يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار } وصف ل { سحاباً } . وضمير { برقه } عائد إلى { سحاباً } . وفائدة هذه الصفة تنبيه العقول إلى التدبر في هذه التغيرات إذ كان شعور الناس بحدوث البرق أوضح وأكثر من شعورهم بتكوّن السحاب وتراكمه ونزول المطر والبرَد ، إذ قد يغفل الناس عن ذلك لكثرة حدوثه وتعودهم به بخلاف اشتداد البرْق فإنه لا يخلو أحد من أن يكون قد عرض له مرات ، فإن أصحاب الأبصار التي حركها خفق البرق يتذكرون تلك الحالة العجيبة الدالة على القدرة . ولهذه النكتة خصصت هذه الحالة من أحوال البرق بالذكر .

والسنا مقصوراً : ضوء البرق وضوء النار . وأما السناء الممدود فهو الرفعة . قال ابن دريد في أبيات له في متشابه المقصور والممدود :

زال السنا عن ناظري *** ه وزال عن شرف السناء

ولام التعريف في { بالأبصار } لام الحقيقة . وقوله : { يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار } هو كقوله في سورة البقرة ( 20 ) { يكاد البرق يخطف أبصارهم } سوى أن هذه الآية زيد فيها لفط { سنا } لأن هذه الآية واردة في مقام الاعتبار بتكوين السحاب وإنزال الغيث فكان المقام مقتضياً للتنويه بهذا البرق وشدة ضيائه حتى يكون الاعتبار بأمرين : بتكوين البرق في السحاب . وبقوة ضيائه حتى يكاد يذهب بالأبصار . وآية البقرة واردة في مقام التهديد والتشويه لحالهم حين كانوا مظهرين الإسلام ومنطوين على الكفر والجحود فكانت حالهم كحالة الغيث المشتمل على صواعق ورعد وبرق فظاهره منفعة وفي باطنه قوارع ومصائب .

ومن أجل اختلاف المقامين وضع التعبير هنا ب { يذهب بالأبصار } وهنالك بقوله : { يخطف أبصارهم } لأن في الخطف من معنى النكاية بهم والتسلط عليهم ما ليس في { يذهب } إذ هو مجرد الاستلاب .

وأما التعبير هنا ب { الأبصار } معرفاً باللام فلأن المقصود أن البرق مقارب أن يزيل طائفة من جنس الأبصار إذ اللام هنا لام الحقيقة كما في قوله : { أن يأكله الذئب } [ يوسف : 13 ] وقولهم : ادخل السوق ، لأن الحكم على حالة البرق الشديد من حيث هي . بخلاف آية البقرة فإنها في مقام التوبيخ لهم بأن ما شأنه أن ينتفع الناس به قد أشرف على الضر بهم فلذلك ذكر لفظ أبصار مضافاً إلى ضميرهم مع ما في هذا التخالف من تفنين الكلام الواحد على أفانين مختلفة حتى لا يكون الكلام معاداً وإن كان المعنى متحداً ولا تجد حق الإيجاز فائتاً فإن هذين الكلامين في حد التساوي في الحروف والنطق . وهكذا نرى بلاغة القرآن وإعجازه وحلاوة نظمه .

وقرأ الجمهور { يذهب } بفتح التحتية وفتح الهاء ، فالباء للتعدية ، أي يُذهب الأبصار . وقرأه أبو جعفر وحده بضم التحتية وكسر الهاء فتكون الباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] .