وبعد أن أمرهم - سبحانه - بتكميل أنفسهم عن طريق خشيته وتقواه والاعتصام بدينه وبكتابه ، عقب ذلك بأمرهم بالعمل على تكميل غيرهم وإصلاح شأنه عن طريق دعوته إلى الخير وإبعاده عن الشر فقال - تعالى - :
{ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } .
الأمة : الجماعة التى تؤم وتقصد لأمر ما وتطلق على أتباع الأنبياء كما تقول : نحن من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى الرجل الجامع للخير الذى يقتدى به كقوله - تعالى -
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } وعلى الدين والملة كقوله - تعالى - { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ } وعلى الحين والزمان كقوله - تعالى - : { وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } والمراد بالأمة هنا الطائفة من الناس التى تصلح لمباشرة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
والمراد بالخير ما فيه صلاح للناس دينى أو دنيوى .
والمراد بالمعروف ما حسنه الشرع وتعارف العقلاء على حسنه والمنكر ضد ذلك .
والمعنى : ولتكن منكم أيها المؤمنون طائفة قوية الإيمان عظيمة الإخلاص ، تبذلى أقصى طاقتها وجهدها فى الدعوة إلى الخير الذي يصلح من شأن الناس ، وفى أمرهم بالتمسك بالتعاليم وبالأخلاق التى توافق الكتاب والسنة والعقول السليمة ، وفى نهيهم عن المنكر الذى يأباه شرع الله ، وتنفر منه الطباع الحسنة .
وقوله : { وَلْتَكُن } صيغة وجوب من الله - تعالى - على كل من يصلح لمهمة الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
وتكن إما من كان التامة أى : ولتوجد منكم أمة . فيكون قوله : { أُمَّةٌ } فاعلا لتكن وجملة { يَدْعُونَ } صفة لأمة ، و { مِّنْكُمْ } متعلق بتكن .
وإما من كان الناقصة فيكون قوله : { أُمَّةٌ } اسمها ، وجملة { يَدْعُونَ } صفة لأمة ، و { مِّنْكُمْ } متعلق بكان الناقصة ، أو بمحذوف وقع حالا من أمة .
و { مِّنْ } فى قوله - تعالى - { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } يرى أكثر العلماء أنها للتبعيض .
أى : ليكن بعض منكم أمة أى طائفة تبذل جهدها فى تبليغ رسالات الله وفى دعوة الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر .
وفى هذا التبعيض وتنكير أمة تنبيه على قلة العاملين بذلك وأنه لا يخاطب به إلا الخواص . ومن هذا الأسلوب قوله - تعالى - : { اتقوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } فقد وجه الخطاب إلى نفس منكرة تنبيها على قلة الناظر فى معاده .
وعلى هذا فكأن الآية الكريمة قد اشتملت على طلبين :
أحدهما : وجه إلى الأمة كلها يطالبها بأن تعد طائفة من بينها لهذه المهمة السامية وهى دعوة الناس إلى الخير وأن تزود هذه الطائفة الصالحة لهذه المهمة بكل ما يمكنها من أداء مهمتها .
وثانيهما : موجه إلى تلك الطائفة الصالحة لهذه المهمة ، بأن تخلص فيها ، وتؤديها على الوجه الأكمل الذى يرضى الله - تعالى - .
ويرى بعض العلماء أن " من " فى قوله - تعالى - { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } بيانية .
فيكون المعنى أن الأمة كلها عليها واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا على سبيل الفرض الكفائى ، بل على سبيل الفرض العينى .
أى : لتكونوا أيها المؤمنون جميعا أمة تدعون إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فمن هنا ليس المراد بها التبعيض على هذا الرأى بل المراد بها البيان ، وذلك كقولك : لفلان من أولاده جند ، وللأمير ن غلمانه عسكر ، تريد بذلك جميع أولاجه وغلمانه .
ويبدو لنا أن الرأى الأول وهو أن " من " للتبعيض أقرب إلى الصواب ، لأن الأمة كلها برجالها ونسائها وشبابها وشيوخها لا تصلح لهذه المهمة السامية ، وإنما يصلح لها من يجيدها ويحسنها بأن تكون عنده القدرة العقلية ، والعلمية ، والنفسية ، والخلقية ، لأدائها .
ولذا قال صاحب الكشاف مرجحا أن " من " للتبعيض : قوله : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } من للتبعيض ، لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفايات ، لأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر ، وعلم كيف يرتب الأمر فى إقامته وكيف يباشره فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر ، وربما عرف الحكم فى مذهبه وجهله فى مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر . وقد يغلظ في موضع اللين ، ويلين فى موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا ، أو على من الإنكار عليه عبث .
وقيل " من " للتبيين ، بمعنى : وكونوا أمة تأمرون ، كقوله - تعالى - { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } وقوله - تعالى - { وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } معطوف على قوله : { يَدْعُونَ إِلَى الخير } من باب عطف الخاص على العام .
وفائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا على هذين الوجهين وهما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، لأنهما أشرف ألوان الدعوة إلى الخير .
وقوله : { يَدْعُونَ إِلَى الخير } المفعول فيه محذوف وكذلك فى قوله : " يأمرون وينهون " والتقدير يدعون الناس إلى الخير ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر .
وحذف المفعول للإيذان بظهوره . أو للقصد إلى إيجاد نفس الفعل . أى يفعلون الدعاء إلى الخير ، أو لقصد التعميم أى يدعون كل من تتأتى له الدعوة .
وقد ختم - سبحانه - الآية الكريمة بتبشير هؤلاء الداعين إلى الخير بالفلاح فقال { وأولئك هُمُ المفلحون } والفلاح هو الظفر وإدراك البغية .
أى : وأولئك القائمون بواجب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هم الكاملون في الفلاح والنجاح ، ولا يمكن أن يفلح سواهم ممن لم يقم بهذا الواجب الذى هو مناط عزة الجماعات والأفراد ، وأساس رفعتهم وقوتهم وسعادتهم .
قال بعض العلماء : فى الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة ، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة ، وأصل عظيم من أصولها ، وركن مشيد من أركانها ، وبه يرتفع سنامها ويكمل نظامها .
وقال الإمام الغزالى : فى هذه الآية بيان الإيجاب . فإن قوله : { وَلْتَكُن } أمر . وظاهر الأمر الإيجاب ، وفيها بيان أن الفلاح منوط به . إذ حصر وقال : { وأولئك هُمُ المفلحون } وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين وأنه إذا قام به البعض سقط الفرض عن الآخرين ، إذ لم يقل كونوا كلكم آمرين بالمعروف ، بل قال : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } وإن تقاعد عنه الخلق جميعا عم الإثم كافة القادرين عليه لا محالة .
هذا وقد وردت أحاديث متعددة فى فضل الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وفى بيان العاقبة السيئة التى تترتب على ترك هذا الواجب ، ومن ذلك :
ما رواه مسلم والترمذى وابن ماجة النسائي عن أبى سعيد الخدرى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " .
وروى الترمذى عن جابر بن عبد الله عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فامره ونهاه فقتله " .
وروى الشيخان عن جرير بن عبد الله قال : بايعت النبى صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقننى فيما استطعت والنصح لكل مسلم .
وروى أبو داود والترمذى وابن ماجه والنسائى عن أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - قال : ياأيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " .
فأما وظيفة الجماعة المسلمة التي تقوم على هاتين الركيزتين لكي تنهض بها . . هذه الوظيفة الضرورية لإقامة منهج الله في الأرض ، ولتغليب الحق على الباطل ، والمعروف على المنكر ، والخير على الشر . . هذه الوظيفة التي من أجلها أنشئت الجماعة المسلمة بيد الله وعلى عينه ، ووفق منهجه . . فهي التي تقررها الآية التالية :
( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون ) . .
فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته . فهناك " دعوة " إلى الخير . ولكن هناك كذلك " أمر " بالمعروف . وهناك " نهي " عن المنكر . وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان ، فإن " الأمر والنهي " لا يقوم بهما إلا ذو سلطان . .
هذا هو تصور الإسلام للمسألة . . إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى . . سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر . . سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله . . سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر . . وتحقيق هذا المنهج يقتضي " دعوة " إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج . ويقتضي سلطة " تأمر " بالمعروف " وتنهى " عن المنكر . . فتطاع . . والله يقول : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) . . فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان . فهذا شطر . أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي ، على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية ، وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة ، وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرىء برأيه وبتصوره ، زاعما أن هذا هو الخير والمعروف والصواب !
والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من ثم - تكليف ليس بالهين ولا باليسير ، إذا نظرنا إلى طبيعته ، وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم ، ومصالح بعضهم ومنافعهم ، وغرور بعضهم وكبريائهم . وفيهم الجبار الغاشم . وفيهم الحاكم المتسلط . وفيهم الهابط الذي يكره الصعود . وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد . وفيهم المنحل الذي يكره الجد . وفيهم الظالم الذي يكره العدل . وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة . . وفيهم وفيهم ممن ينكرون المعروف ، ويعرفون المنكر . ولا تفلح الأمة ، ولا تفلح البشرية ، إلا أن يسود الخير ، وإلا أن يكون المعروف معروفا ، والمنكر منكرا . . وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى . . وتطاع . .
ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين الركيزتين : الإيمان بالله والأخوة في الله . لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى ثم بقوة الحب والألفة ، وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة ، وكلفها به هذا التكليف . وجعل القيام به شريطة الفلاح . فقال عن الذين ينهضون به :
إن قيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي ذاته . فهذه الجماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية . هو الوسط الخير المتكافل المتعاون على دعوة الخير . المعروف فيه هو الخير والفضيلة والحق والعدل . والمنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم . . عمل الخير فيه أيسر من عمل الشر . والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة . والحق فيه أقوى من الباطل . والعدل فيه أنفع من الظلم . . فاعل الخير فيه يجد على الخير اعوانا . وصانع الشر فيه يجد مقاومة وخذلانا . . ومن هنا قيمة هذا التجمع . .
إنه البيئة التي ينمو فيها الخير والحق بلا كبير جهد ، لأن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه . والتي لا ينمو فيها الشر والباطل إلا بعسر ومشقة ، لأن كل ما حوله يعارضه ويقاومه .
والتصور الإسلامي عن الوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص . . يختلف في هذا كله عن التصورات الجاهلية اختلافا جوهريا أصيلا . فلا بد إذن من وسط خاص يعيش فيه هذا التصور بكل قيمه الخاصة . لا بد له من وسط غير الوسط الجاهلي ، ومن بيئة غير البيئة الجاهلية .
هذا الوسط الخاص يعيش بالتصور الإسلامي ويعيش له ؛ فيحيا فيه هذا التصور ، ويتنفس أنفاسه الطبيعية في طلاقة وحرية ، وينمو نموه الذاتي بلا عوائق من داخله تؤخر هذا النمو أو تقاومه . وحين توجد هذه العوائق تقابلها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وحين توجد القوة الغاشمة التي تصد عن سبيل الله تجد من يدافعها دون منهج الله في الحياة .
هذا الوسط يتمثل في الجماعة المسلمة القائمة على ركيزتي الإيمان والأخوة . الإيمان بالله كي يتوحد تصورها للوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص ، وترجع إلى ميزان واحد تقوم به كل ما يعرض لها في الحياة ، وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله ، وتتجه بولائها كله إلى القيادة القائمة على تحقيق منهج الله في الأرض . . والأخوة في الله . كي يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة ، وتتضاعف بهما مشاعر الإيثار . الإيثار المنطلق في يسر ، المندفع في حرارة ، المطمئن الواثق المرتاح .
وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى - في المدينة - على هاتين الركيزتين . . على الإيمان بالله : ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله - سبحانه - وتمثل صفاه في الضمائر ؛ وتقواه ومراقبته ، واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال . وعلى الحب . الحب الفياض الرائق ، والود . الود العذب الجميل ، والتكافل . التكافل الجاد العميق . . وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغا ، لولا أنه وقع ، لعد من أحلام الحالمين ! وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة ، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة ! وهي قصة وقعت في هذه الأرض . ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان !
وعلى مثل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان . .
هذا مفرّع عن الكلام السَّابق : لأنَّه لمّا أظهر لهم نعمة نقلهم من حالتي شقاء وشناعة إلى حالتي نعيم وكَمال ، وكانوا قد ذاقوا بين الحالتين الأمَرّيْن ثُمّ الأَحْلَوَيْن ، فحلبوا الدّهر أشطريه ، كانوا أحرياء بأن يَسعوا بكل عزمهم إلى انتشال غيرهم من سُوء ما هو فيه إلى حُسنى ما هُم عليه حتَّى يكون النَّاس أمَّة واحدة خيِّرة . وفي غريزة البشر حبّ المشاركة في الخير لذلك تجد الصّبي إذا رأى شيئاً أعجبه نادى من هو حوله ليراه معه .
ولذلك كان هذا الكلام حرياً بأن يعطف بالفاء ، ولو عطف بها لكان أسلوباً عربياً إلاّ أنّه عُدل عن العطف بالفاء تنبيهاً على أن مضمون هذا الكلام مقصود لذاته بحيث لو لم يسبقه الكلام السابق لكان هو حريّاً بأن يؤمر به ، فلا يكونُ مذكوراً لأجل التفرّع عن غيره والتبع .
وفيه من حسن المقابلة في التَّقسيم ضرب من ضروب الخطابة : وذلك أنَّه أنكر على أهل الكتاب كفرهم وصدّهم النَّاس عن الإيمان ، فقال : { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله } [ آل عمران : 98 ، 99 ] الآية .
وقابل ذلك بأن أمر المؤمنين بالإيمان والدعاء إليه إذ قال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } [ آل عمران : 102 ] وقوله : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } الآية .
وصيغة { ولتكن منكم أمَّة } صيغة وجوب لأنَّها أصرح في الأمر من صيغة افعلوا لأنَّها أصلها . فإذا كان الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر غير معلوم بينهم من قبل نزولِ هذه الآية ، فالأمرُ لتشريع الوجوب ، وإذا كان ذلك حاصلاً بينهم من قبل كما يدلّ عليه قوله : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه ، وفيه زيادة الأمر بالدّعوة إلى الخير وقد كان الوجوب مقرّراً من قبل بآيات أخرى مثل : { وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } [ العصر : 3 ] ، أو بأوامر نبويَّة . فالأمر لتأكيد الوجوب أيضا للدلالة على الدّوام والثبات عليه ، مثل { يأيها الذين آمنوا آمنوا باللَّه } [ النساء : 136 ] .
والأمَّة الجماعة والطائفة كقوله تعالى : { كلما دخلت أمة لعنت أختها } [ الأعراف : 38 ] .
وأصل الأمَّة في كلام العرب الطَّائفة من النَّاس الَّتي تؤمّ قصداً واحداً : من نسب أو موطن أو دين ، أو مجموع ذلك ، ويتعيّن ما يجمعها بالإضافة أو الوصف كقولهم : أمَّة العرب وأمّة غسان وأمّة النصارى .
والمخاطب بضمير ( منكم ) إن كان هم أصحابَ رسول الله كما هو ظاهر الخطابات السابقة آنِفاً جاز أن تكون ( مِن ) بَيانيَّة وَقُدّم البيانُ على المبيَّن ويكون ما صْدق الأمّة نفس الصّحابة ، وهم أهل العصر الأول من المسلمين فيكون المعنى : ولتكونوا أمَّة يدعون إلى الخير فهذه الأمَّة أصحاب هذا الوصف قد أمروا بأن يكوِّنوا من مجموعهم الأمَّة الموصوفة بأنهم يدعون إلى الخير ، والمقصود تكوين هذا الوصف ، لأنّ الواجب عليهم هو التَّخلق بهذا الخلق فإذا تخلّقوا به تكوّنت الأمَّة المطلوبة .
وهي أفضل الأمم . وهي أهل المدينة الفاضلة المنشود للحكماء من قبل ، فجَاءت الآية بهذا الأمر على هذا الأسلوب البليغ الموجز .
وفي هذا محسِّن التجريد : جُرّدت من المخاطبين أمَّة أخرى للمبالغة في هذا الحكم كما يقال : لِفلان من بنيه أنصار . والمقصود : ولتكونوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر حتَّى تكونوا أمَّة هذه صفتها ، وهذا هو الأظهر فيكون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خوطبوا بأن يكونوا دعاة إلى الخير ، ولا جرم فهم الَّذين تلقوا الشَّريعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة ، فهم أولى النَّاس بتبليغها . وأعلم بمشَاهِدها وأحوالها ، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة : « ليبلغ الشاهد الغائب أَلاَ هل بلّغت » وإلى هذا المحمل مال الزجاج وغير واحد من المفسّرين ، كما قاله ابن عطية .
ويجوز أيضاً على اعتبار الضّمير خطابا لأصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم أن تكون ( من ) للتبعيض ، والمراد من الأمّة الجماعة والفريق ، أي : وليكن بعضكم فريقاً يدعون إلى الخير فيكون الوجوب على جماعة من الصّحابة فقد قال ابن عطية : قال الضّحاك ، والطبري : أمر المؤمنين أن تكون منهم جماعة بهذه الصّفة . فهم خاصّة أصحاب الرسول وهم خاصّة الرواة .
وأقول : على هذا يثبت حكم الوجوب على كلّ جيل بعدهم بطريق القياس لئلا يتعطّل الهدى . ومن النَّاس من لا يستطيع الدّعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر قال تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم } [ التوبة : 122 ] الآية .
وإن كان الخطاب بالضّمير لجميع المؤمنين تبعاً لكون المخاطب بيَأيها الّذين آمنوا إيَّاهم أيضاً ، كانت ( مِنْ ) للتبعيض لا محالة ، وكان المراد بالأمّة الطائفة إذ لا يكون المؤمنون كُلّهم مأمورين بالدعاء إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بل يكون الواجب على الكفاية وإلى هذا المعنى ذهب ابن عطية ، والطبري ، ومن تبعهم ، وعلى هذا فيكون المأمور جماعة غير معيّنة وإنما المقصود حصول هذا الفعل الَّذى فُرض على الأمَّة وقُوعُه .
على أنّ هذا الاعتبار لا يمنع من أن تكون ( مِن ) بيانية بمعنى أن يكونوا هم الأمّة ويكون المراد بكونهم يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، إقامة ذلك فيهم وأن لا يخلُوا عن ذلك على حسب الحاجة ومقدار الكفاءة للقيام بذلك ، ويكون هذا جارياً على المعتاد عند العرب من وصف القبيلة بالصّفات الشائعة فيها الغالبة على أفرادها كقولهم : بَاهِلَة لِئَام ، وعُذْرةُ عُشَّاق .