ثم حكى - سبحانه - ما نزل بهم من عذاب بسبب إصرارهم على كفرهم ، وبسبب غرورهم وبطرهم فقال : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا . . . } .
ولفظ " صرصرا " من الصر - بفتح الصاد - وهو شدة الحر ، أى من الصر - بكسر الصاد - وهو شدة البرد الذى يقبض البدن ، أو من الصرة التى هى الصيحة المزعجة ، ومنه قوله - تعالى -
{ فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ . . . } أى : فى صيحة .
ولا مانع من أن تكون هذه الريح التى أرسلها الله - تعالى - عليهم ، قد اجتمع فيها الصوت الشديد المزعج ، والبرد الشديد القاتل .
وقوله : { نَّحِسَاتٍ } جمع نحسة - بفتح النون وكسر الحاء - صفة مشبهة من نحس - كفرح وكرم - ضد سعد .
أى : فأرسلنا على قوم عاد ريحا شديدة الهبوب والصوت ، وشديدة البرودة أو الحرارة فى أيام نحاست أو مشئومات نكدات عليهم بسبب إصرارهم على كفرهم وفعلنا ذلك معهم لنذيقهم العذاب المخزى لهم فى الحياة الدنيا .
{ وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى } أى : أشد خزيا وإهانة لهم من عذاب الدنيا .
{ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } أى : وهم لا يجدون أحدا يدفع عنهم هذا العذاب بحال من الأحوال .
وبينما هم في هذا المشهد يعرضون عضلاتهم ! ويتباهون بقوتهم . إذا المشهد التالي في الآية التالية هو المصرع المناسب لهذا العجب المرذول :
( فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات . لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ) . .
إنها العاصفة الهوجاء المجتاحة الباردة في أيام نحس عليهم . وإنه الخزي في الحياة الدنيا . الخزي اللائق بالمستكبرين المتباهين المختالين على العباد . .
والريح : تموُّج في الهواء يحدث من تعاكس الحرارة والبرودة ، وتنتقل موجاته كما تنتقل أمواج البحر والريح الذي أصاب عاداً هو الريح الدَّبور ، وهو الذي يهبّ من جهة مغرب الشمس ، سميت دبوراً بفتح الدال وتخفيف الباء لأنها تهبّ من جهة دُبر الكعبة قال النبي صلى الله عليه وسلم { نُصِرتُ بالصبا وأهلكتْ عاد بالدبور } وإنما كانت الريح التي أصابت عاداً بهذه القوة بسبب قوة انضغاط في الهواء غير معتاد فإن الانضغاط يصير الشيء الضعيف قوياً ، كما شوهد في عصرنا أن الأجسام الدقيقة من أجزاء كيمياوية تسمى الذَّرة تصير بالانضغاط قادرة على نسف مدينة كاملة ، وتسمى الطاقة الذَّرية ، وقد نُسف بها جزء عظيم من بلاد اليابان في الحرب العامة .
والصرصر : الريح العاصفة التي يكون لها صرصرة ، أي دويّ في هبوبها من شدة سرعة تنقلها . وتضعيف عينه للمبالغة في شدتها بين أفراد نوعها كتضعيف كبكب للمبالغة في كَبّ . وأصله صَرَّ ، أي صاح ، وهو وصف لا يؤنث لفظه لأنه لا يجري إلا على الريح وهي مقدرة التأنيث .
والنحسات بفتح النون وسكون الحاء : جمع نَحس بدون تأنيث لأنه مصدر أو اسم مصدر لفعل نَحِس كَعَلِم ، كقوله تعالى : { في يوم نحس مستمر } [ القمر : 19 ] . H
وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بسكون الحاء . ويجوز كسر الحاء وبه قرأ البقية على أنه صفة مشبهة من ( نَحِس ) إذا أصابه النحْس إصابة سوء أو ضر شديد . وضده البخت في أوهام العامة ، ولا حقيقة للنحس ولا للبخت ولكنهما عارضان للإنسان ، فالنحس يَعرض له من سوء خِلقه مزاجه أو من تفريطه أو من فساد بيئته أو قومِه ، والبخت يعرض من جراء عكس ذلك . وبعض النوعين أمور اتفاقية وربما كان بعضها جزاءً من الله على عمل خيرٍ أو شر من عباده أو في دينه كما حل بعاد وأهل الجاهلية . وعامة الأمم يتوهمون النحس والبخت من نوع الطِّيرَة ومن التشاؤم والتيمّن ، ومنه الزجر والعيافة عند العرب في الجاهلية ومنه تَطَلُّع الحدثَان من طوالع الكواكب والأياممِ عند معظم الأمم الجاهلة أو المختلَّة العقيدة . وكل ذلك أبطله الإسلام ، أي كشف بطلانه ، بما لم يسبقه تعليم من الأديان التي ظهرت قبل الإِسلام .
فمعنى وصف الأيام بالنحسات : أنها أيام سوء شديد أصابهم وهو عذاب الريح ، وهي ثمانية أيام كما جاء في قوله تعالى : { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً } [ الحاقة : 7 ] ، فالمراد : أن تلك الأيام بخصوصها كانت نحساً وأن نَحْسها عليهم دون غيرهم من أهل الأرض لأن عاداً هم المقصودون بالعذاب . وليس المراد أن تلك الأيام من كل عام هي أيام نحس على البشر لأن ذلك لا يستقيم لاقتضائه أن تكون جميع الأمم حلّ بها سوء في تلك الأيام .
ووُصفت تلك الأيام بأنها { نَّحِسَاتٍ } لأنها لم يحدث فيها إلا السوء لهم من إصابة آلام الهَشْم المحقققِ إفضاؤه إلى الموت ، ومشاهدة الأموات من ذويهم ، وموت أنعامهم ، واقتلاع نخيلهم .
وقد اخترع أهل القصص تسمية أيام ثمانية نصفُها آخر شهر ( شُباط ) ونصفها شهر ( آذار ) تكثر فيها الرياح غالباً دَعَوها أيام الحسوم ثم ركبوا على ذلك أنها الموصوفة بحسوم في قوله تعالى في سورة الحاقة ( 7 ) { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً } فزعموا أنها الأيام الموافقة لأيام الريح التي أصابت عاداً ، ثم ركَّبوا على ذلك أنها أيام نحس من كل عام وكَذَبوا على بعض السلف مثل ابن عباس أكاذيب في ذلك وذلك ضغْث على إبالة ، وتفنن في أوهام الضلالة .
وجُمع { نّحِسَاتٍ } بالألف والتاء لأنه صفة لجمععِ غير العاقل وهو { أَيَّامٍ } .
واللام في { لنُذِيقَهُم } للتعليل وهي متعلقة ب ( أرسلنا ) . والإِذاقة تخييل لمكنية ، شُبه العذاب بطعام هُيِّىء لهم على وجه التهكم كما سمَّى عمرو بن كلثوم الغارة قِرَى في قوله :
قرينَاكُمْ فعجَّلْنَا قِراكم *** قُبيل الصُّبح مِردَاةً طَحُونا
والإِذاقة : تخييل من ملائمات الطعام المشبه به .
والخزي : الذلّ . وإضافة { عَذَابَ } إلى { الخِزْي } من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل مقابلته بقوله : { ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أخزى } ، أي أشد إخزاء من إخزاء عذاب الدنيا ، وذلك باعتبار أن الخزي وصف للعذاب من باب الوصف بالمصدر أو اسم المصدر للمبالغة في كون ذلك العذاب مخزياً للذي يعذب به . ومعنى كون العذاب مخزياً : أنه سببُ خزي فوصْفُ العذاب بأنه خزي بمعنى مُخز من باب المجازِ العقلي ، ويُقدر قبل الإضافة : لنذيقهم عذاباً خزياً ، أي مُخْزياً ، فلما أريدت إضافة الموصوف إلى صفته قيل : { عذابَ الخزي } ، للمبالغة أيضاً لأن إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف حتى جعلت الصفة بمنزلة شخص آخر يضاف إليه الموصوف وهو قريب من محسِّن التجريد فحصلت مبالغتان في قوله : { عَذَابَ الخِزْي } مبالغةُ الوصف بالمصدر ، ومبالغة إضافة الموصوف إلى الصفة .
وجملة { ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أخزى } احتراس لئلا يحسِب السامعون أن حظ أولئك من العقاب هو عذاب الإِهلاك بالريح فعطف عليه الإِخبار بأن عذاب الآخرة أخزَى ، أي لهم ولكل من عذّب عذاباً في الدنيا لغضب الله عليه . وأخْزى : اسم تفضيل جرى على غير قياس ، وقياسه أن يقال : أشد إخزاء ، لأنه لا يقال : خَزاه ، بمعنى أخزاه ، أي أهانه ، ومثل هذا في صوغ اسم التفضيل كثير في الاستعمال .
وجملة { وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ } تذييل ، أي لا ينصرهم من يدفع العذاب عنهم ، ولا من يشفع لهم ، ولا من يخرجهم منه بعد مهلة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.