التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوٓءَۢا بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (54)

السلام والسلامة مصدران من الثلاثى . يقال سلم فلان من المرض أو من البلاء سلاماً وسلامة ومعناهما البراءة والعافية . ويستعمل السلام فى التحية ، وهو بمعنى الدعاء بالسلامة من كل سوء ، فهو آية المودة والأمان والصفاء .

والمعنى : وإذا حضر إلى مجالسك يا محمد أولئك الذين يؤمنون بآياتنا ويعتقدون صحتها فقل لهم : تحية لكم من خالقكم وبشارة لكم بمغفرته ورضوانه ما دمتم متبعين لهديه ، ومحافظين على فرائضه .

{ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } أى أنه سبحانه أوجب على نفسه الرحمة لعباده تفضلا منه وكرما .

ثم بين سبحانه أصلا من أصول الدين فى هذه الرحمة المكتوبة فقال { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

أى أنه من عمل منكم عملا تسوء عاقبته متلبساً بجهالة دفعته إلى ذلك السوء كغضب شديد ثم تاب من بعد تكل الجهالة وأصلح خطأه وندم على ما بدر منه ، ورد المظالم إلى أهلها ، فالله سبحانه شأنه فى معاملته لهذا التائب النادم " أنه غفور رحيم " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوٓءَۢا بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (54)

50

ويمضي السياق يأمر رسول الله [ ص ] وهو رسول الله أن يبدأ أولئك الذين أسبغ عليهم فضل السبق بالاسلام ؛ والذين يسخر منهم أولئك الكبراء الأشراف ! . . أن يبدأهم بالسلام . . وأن يبشرهم بما كتبه الله على نفسه من الرحمة ؛ متمثلا في معفرته لمن عمل منهم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح :

( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ، ثم تاب من بعده وأصلح ، فأنه غفور رحيم ) . .

وهو التكريم - بعد نعمة الإيمان واليسر في الحساب ، والرحمة في الجزاء ، حتى ليجعل الله - سبحانه - الرحمة كتابا على نفسه للذين آمنوا بآياته ؛ ويأمر رسوله [ ص ] أن يبلغهم ما كتبه ربهم عل نفسه . وحتى لتبلغ الرحمة أن يشمل العفو والمغفرة الذنب كله ، متى تابوا من بعده وأصلحوا - إذ يفسر بعضهم الجهالة بأنها ملازمة لارتكاب الذنب ؛ فما يذنب الإنسان إلا من جهالة ؛ وعلى ذلك يكون النص شاملا لكل سوء يعمله صاحبه ؛ متى تاب من بعده وأصلح . ويؤيد هذا الفهم النصوص الأخرى التي تجعل التوبة من الذنب - أيا كان - والإصلاح بعده ، مستوجبة للمغفرة بما كتب الله على نفسه من الرحمة . .

ونعود - قبل الانتهاء من استعراض هذه الفقرة من السورة - إلى بعض الآثار التي وردت عن ملابسات نزول هذه الآيات ؛ وعن دلالة هذه الآثار مع النصوص القرآنية على حقيقة النقلة الهائلة التي كان هذا الدين ينقل إليها البشرية يومذاك ؛ والتي ما تزال البشرية حتى اليوم دون القمة التي بلغتها يومها ثم تراجعت عنها جدا . .

قال أبو جعفر الطبري : حدثنا هناد بن السري ، حدثنا أبو زبيد ، عن أشعث ، عن كردوس الثعلبي ، عن ابن مسعود ، قال : مر الملأ من قريش بالنبي [ ص ] وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ، ونحوهم من ضعفاء المسلمين . فقالوا : يا محمد ، رضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك ! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ! فنزلت هذه الآية : ( ولا تطردالذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . . ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ) إلى آخر الآية .

وقال : حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن أبى سعيد الأزدي - وكان قارى ء الأزد - عن أبى الكنود ، عن خباب في قول الله تعالى ذكره : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . . إلى قوله : فتكون من الظالمين . . قال : جاء الأقرع ابن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري ، فوجد النبي [ ص ] قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب ، في أناس من الضعفاء من المؤمنين . فلما رأوهم حقروهم . فأتوه فقالوا : إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك ، فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ؛ فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ؛ فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت ! قال : نعم ! قالوا : فاكتب لنا عليك بذلك كتابا . قال : فدعا بالصحيفة ، ودعا عليا ليكتب . قال : ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل جبريل بهذه الآية :

( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء ، فتطردهم ، فتكون من الظالمين ) . . ثم قال( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين ؟ ) ثم قال : ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة ) . . فألقى رسول الله [ ص ] الصحيفة من يده ؛ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول : " سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة " . . فكنا نقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا . فأنزل الله تعالى : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) . . [ سورة الكهف : 28 ] قال : فكان رسول الله [ ص ] يقعد معنا بعد ، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم !

وكان [ ص ] بعدها إذا رآهم بدأهم بالسلام ، وقال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني ربي أن أبدأهم بالسلام " .

وفي صحيح مسلم : عن عائذ بن عمرو ، أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ، ونفر . فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها ! قال : فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟ فأتى النبي [ ص ] فأخبره . فقال : " يا أبا بكر ، لعلك أغضبتهم . لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك " . فأتاهم أبو بكر فقال : يا إخوتاه ، أغضبتكم ؟ قالوا : لا يغفر الله لك يا أخي . .

نحن في حاجة إلى وقفة طويلة أمام هذه النصوص . . والبشرية بجملتها في حاجة إلى هذه الوقفة كذلك . . إن هذه النصوص لا تمثل مجرد مبادى ء وقيم ونظريات في " حقوق الإنسان ! " . . إنها أكبر من ذلك بكثير . . إنها تمثل شيئا هائلا تحقق في حياة البشرية فعلا . . تمثل نقلة واسعة نقلها هذا الدين للبشرية بجملتها . . تمثل خطا وضيئا على الأفق بلغته هذه البشرية ذات يوم في حياتها الحقيقة . . ومهما يكن من تراجع البشرية عن هذا الخط الوضيء الذي صعدت إليه في خطو ثابت على حداء هذا الدين ، فإن هذا لا يقلل من عظمة تلك النقلة ؛ ومن ضخامة هذا الشيء الذي تحقق يوما ؛ ومن أهمية هذا الخط الذي ارتسم بالفعل في حياة البشرالواقعية . . إن قيمة ارتسام هذا الخط وبلوغه ذات يوم . أن تحاول البشرية مرة ومرة ومرة الارتفاع إليه ؛ ما دام أنها قد بلغته ؛ فهو في طوقها إذن وفي وسعها . . والخط هناك على الأفق ، والبشرية هي البشرية ؛ وهذا الدين هو هذا الدين . . فلا يبقى إلا العزم والثقة واليقين . .

وقيمة هذه النصوص أنها ترسم للبشرية اليوم ذلك الخط الصاعد بكل نقطه ومراحله . . من سفح الجاهلية الذي التقط الإسلام منه العرب ، إلى القمة السامقة التي بلغ بهم إليها ، وأطلعتهم في الأرض يأخذون بيد البشرية من ذلك السفح نفسه إلى تلك القمة التي بلغوها !

فأما ذلك السفح الهابط الذي كان فيه العرب في جاهليتهم - وكانت في البشرية كلها - فهو يتمثل واضحا في قوله : " الملأ " من قريش : " يا محمد ، رضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نكون تبعًا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك ! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ! " . . أو في احتقار الأقرع بن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري ، للسابقين من أصحاب رسول الله [ ص ] بلال ، وصهيب ، وعمار ، وخباب ، وأمثالهم من الضعفاء ؛ وقولهما للنبي [ ص ] : إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا ؛ فإن وفود العرب تأتيك ، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ! " . .

. . هنا تتبدى الجاهلية بوجهها الكالح ! وقيمها الهزيلة ، واعتباراتها الصغيرة . . عصبية النسب والجنس واعتبارات المال والطبقة . . وما إلى ذلك من اعتبارات . هؤلاء بعضهم ليسوا من العرب ! وبعضهم ليسوا من طبقة الأشراف ! وبعضهم ليسوا من ذوي الثراء ! . . ذات القيم التي تروج في كل جاهلية ! والتي لا ترتفع عليها جاهليات الأرض اليوم في نعراتها القومية والجنسية والطبقية !

هذا هو سفح الجاهلية . . وعلى القمة السامقة الإسلام ! الذي لا يقيم وزنا لهذه القيم الهزيلة ولهذه الاعتبارات الصغيرة ، ولهذه النعرات السخيفة ! . . الإسلام الذي نزل من السماء ولم ينبت من الأرض . فالأرض كانت هي هذا السفح . . هذا السفح الذي لا يمكن أن ينبت هذه النبتة الغريبة الجديدة الكريمة . . الإسلام الذي يأتمر به - أول من يأتمر - محمد [ ص ] محمد رسول الله الذي يأتيه الوحي من السماء ؛ والذي هو من قبل في الذؤابة من بني هاشم في الذروة من قريش . . والذي يأتمر به أبو بكر صاحب رسول الله [ ص ] ؛ في شأن " هؤلاء الأعبد " . . نعم هؤلاء الأعبد الذين خلعوا عبودية كل أحد ؛ وصاروا أعبدا لله وحده ؛ فكان من أمرهم ما كان !

وكما أن سفح الجاهلية الهابط يرتسم في كلمات الملأ من قريش ، وفي مشاعر الأقرع وعيينة . . فإن قمة الإسلام السامقة ترتسم في أمر الله العلي الكبير ، لرسوله [ ص ] - :

( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين . وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين ؟ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة : أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ، ثم تاب من بعده وأصلح ، فأنه غفور رحيم ) . .

ويتمثل في سلوك رسول الله [ ص ] مع " هؤلاء الأعبد " . . الذين أمره ربهم أن يبدأهم بالسلام وأن يصبر معهم فلا يقوم حتى يقوموا وهو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم - وهو بعد ذلك - رسول الله وخير خلق الله ، وأعظم من شرفت بهم الحياة !

ثم يتمثل في نظرة " هؤلاء الأعبد " لمكانهم عند الله ؛ ونظرتهم لسيوفهم واعتبارها " سيوف الله " ونظرتهملأبي سفيان " شيخ قريش وسيدهم " بعد أن أخره في الصف المسلم كونه من الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح وذهبوا طلقاء عفو رسول الله [ ص ] وقدمهم هم في الصف كونهم من السابقين إلى الإسلام وهو في شدة الابتلاء . . فلما أن عاتبهم أبو بكر - رضي الله عنه - في أمر أبى سفيان ، حذره صاحبه رسول الله [ ص ] أن يكون قد أغضب " هؤلاء الأعبد " ! فيكون قد أغضب الله - يا الله ! فما يملك أي تعليق أن يبلغ هذا المدى وما نملك إلا أن نتملاه ! ويذهب أبو بكر - رضي الله عنه - يترضى " الأعبد " ليرضى الله : " يا إخوتاه . أغضبتكم " ؟ فيقولون : " لا يا أخي . يغفر الله لك " !

أي شيء هائل هذا الذي تحقق في حياة البشرية ؟ أية نقلة واسعة هذه التي قد تمت في واقع الناس ؟ أي تبدل في القيم والأوضاع ، وفي المشاعر والتصورات ، في آن ؟ والأرض هي الأرض والبيئة هي البيئة ، والناس هم الناس ، والاقتصاد هو الاقتصاد . . وكل شيء على ما كان ، إلا أن وحيا نزل من السماء ، على رجل من البشر ، فيه من الله سلطان . . يخاطب فطرة البشر من وراء الركام ، ويحدو للهابطين هنالك عند السفح ، فيستجيشهم الحداء - على طول الطريق - إلى القمة السامقة . . فوق . . فوق . . هنالك عند الإسلام !

ثم تتراجع البشرية عن القمة السامقة ؛ وتنحدر مرة أخرى إلى السفح . وتقوم - مرة أخرى - في نيويورك ، وواشنطن ، وشيكاغو . . وفي جوهانسبرج . . وفي غيرها من أرض " الحضارة ! " تلك العصبيات النتنة . عصبيات الجنس واللون ، وتقوم هنا وهناك عصبيات " وطنية " و " قومية " و " طبقية " لا تقل نتنا عن تلك العصبيات . .

ويبقى الإسلام هناك على القمة . . حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته البشرية . . يبقى الإسلام هناك - رحمة من الله بالبشرية - لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل ، وترفع عينيها عن الحمأة . . وتتطلع مرة أخرى إلى الخط الوضيء ؛ وتسمع مرة أخرى حداء هذا الدين ؛ وتعرج مرة أخرى إلى القمة السامقة على حداء الإسلام . .

ونحن لا نملك - في حدود منهجنا في هذه الظلال - أن نستطرد إلى أبعد من هذه الإشارة . . لا نملك أن نقف هنا تلك " الوقفة الطويلة " التي ندعو البشرية كلها أن تقفها أمام هذه النصوص ودلالتها . لتحاول أن تستشرف المدى الهائل الذي يرتسم من خلالها في تاريخ البشرية ؛ وهي تصعد على حداء الإسلام من سفح الجاهلية الهابط ، إلى تلك القمة السامقة البعيدة . . ثم تهبط مرة أخرى على عواء " الحضارة المادية " الخاوية من الروح والعقيدة ! . . ولتحاول كذلك أن تدرك إلى أين يملك الإسلام اليوم أن يقود خطاها مرة أخرى ؛ بعد أن فشلت جميع التجارب ، وجميع المذاهب ، وجميع الأوضاع ، وجميع الأنظمة ، وجميع الأفكار ؛ وجميع التصورات ، التي ابتدعها البشر لأنفسهم بعيدا عن منهج الله وهداه . . فشلت في أن ترتفع بالبشرية مرة أخرى إلى تلك القمة ؛ وأن تضمن للإنسان حقوقه الكريمة في هذه الصورة الوضيئة ؛ وأن تفيض على القلوب الطمأنينة - مع هذه النقلة الهائلة - وهي تنقل البشرية إليها بلا مذابح ؛ وبلا اضطهادات ؛ وبلا إجراءات استثنائية تقضي على الحريات الأساسية ؛ وبلا رعب ، وبلا فزع ، وبلا تعذيب ، وبلا جوع ، وبلا فقر ، وبلا عرض واحد من أعراض النقلات التي يحاولها البشر في ظل الأنظمة البائسة التي يضعها البشر ؛ ويتعبد فيها بعضهم بعضا من دون الله . .

فحسبنا هذا القدر هنا . . وحسبنا الإيحاءات القوية العميقة التي تفيض بها النصوص ذاتها ، وتسكبها في القلوب المستنيرة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوٓءَۢا بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (54)

قال جمهور المفسرين : { الذين } يراد بهم القوم الذين كان ُعرض طردهم فنهى الله عز وجل عن طردهم ، وشفع ذلك بأن أمر بأن يسلم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ويؤنسهم ، وقال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد { الذين } يراد بهم القوم من المؤمنين الذين صوبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة فأمر الله نبيه أن يسلم عليهم ويعلمهم أن الله يغفر لهم مع توبتهم من ذلك السوء وغيره ، وأسند الطبري عن ماهان أنه قال نزلت الآية في قوم من المؤمنين استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب سلفت منهم فنزلت الآية بسببهم .

قال القاضي أبو محمد : وهي على هذا تعم جميع المؤمنين دون أن تشير إلى فرقة ، وقال الفضيل بن عياض : قال قوم للنبي صلى الله عليه وسلم إنَّا قد أصبنا ذنوباً فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت الآية ، وقوله { بآياتنا } يعم آيات القرآن وأيضاً علامات النبوة كلها ، و { سلام عليكم } ابتداء والتقدير : سلام ثابت أو واجب عليكم ، والمعنى : أمنة لكم من عذاب الله في الدنيا والآخرة ، وقيل المعنى أن الله يسلم عليكم .

قال القاضي أبو محمد : وهذا معنى لا يقتضيه لفظ الآية حكاه المهدوي ، ولفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء ، وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت ، و { كتب } بمعنى أوجب ، والله تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً إلا إذا أعلمنا أنه قد حتم بشيء ما فذلك الشيء واجب ، وفي : أين هذا الكتاب اختلاف ؟ قيل في اللوح المحفوظ ، وقيل في كتاب غيره لقوله عليه السلام في صحيح البخاري : إن الله تعالى كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي{[4933]} .

وقرأ عاصم وابن عامر : «أنه » بفتح الهمزة في الأولى والثانية ، ف «أنه » الأولى بدل من الرحمة و «أنه » الثانية خبر ابتداء مضمر تقديره : فأمره أنه غفور رحيم ، هذا مذهب سيبويه وقال أبو حاتم «فإنه » ابتداء ولا يجوز هذا عند سيبويه ، وقال النحاس : هي عطف على الأولى وتكرير لها لطول الكلام ، قال أبو علي . ذلك لا يجوز لأن { من } لا يخلو أن تكون موصولة بمعنى الذي فتحتاج إلى خبر أو تكون شرطية فتحتاج إلى جواب ، وإذا جعلنا «فأنه » تكريراً للأولى عطفاً عليها بقي المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جواب ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «إنه » بكسر الهمزة في الأولى والثانية ، وهذا على جهة التفسير للرحمة في الأولى والقطع فيها ، وفي الثانية إما في موضع الخبر أو موضع جواب الشرط وحكم ما بعد الفاء إنما هو الابتداء ، وقرأ نافع بفتح الأولى وكسر الثانية ، وهذا على أن أبدل من الرحمة واستأنف بعد الفاء ، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاه الزهراوي عن الأعرج وأظنه وهماً ، لأن سيبويه حكاه عن الأعرج مثل قراءة نافع ، وقال أبو عمرو الداني : قراءة الأعرج ضد قراءة نافع ، و «الجهالة » في هذا الموضع تعم التي تضاد العلم والتي ُتَشَّبه بها ، وذلك أن المتعمد لفعل الشيء الذي قد نهي عنه تشمل معصيته تلك جهالة ، إذ قد فعل ما يفعله الذي لم يتقدم له علم ، قال مجاهد : من الجهالة أن لا يعلم حلالاً من حرام ومن جهالته أن يركب الأمر ، ومن هذا الذي لا يضاد العلم قول النبي عليه السلام في استعاذته «أو أجهل أو يجهل عليّ »{[4934]} ، ومنه قول الشاعر [ عمرو بن كثلوم ] : [ الوافر ]

ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أحَدُ عَلَيْنَا . . . فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا{[4935]}

والجهالة المشبهة ليست بعذر في الشرع جملة والجهالة الحقيقية يعذر بها في بعض ما يخف من الذنوب ولا يعذر بها في كبيرة ، و «التوبة » الرجوع ، وصحتها مشروطة باستدامة الإصلاح بعدها في الشيء الذي تيب منه .


[4933]:-الحديث في الصحيحين، ورواه الإمام أحمد عن همام بن منبه قال: هذا ما حدث أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله على الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي). وقد رواه ابن مردويه من طريق الحكم ابن أبان عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق أخرج كتابا من تحت العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة أو قبضتين فيخرج من النار خلقا لم يعملوا خيرا مكتوب بين أعينهم: عتقاء الله).
[4934]:- الحديث: (اللهم إني أعوذ بك أن أجهل أو يُجهل عليّ إلى آخره). رواه ابن ماجة في (دعاء)، وأبو داود في (الأدب) والنسائي في (الاستعاذة)و الترمذي في (دعوات).
[4935]:- البيت لعمرو بن كلثوم من قصيدته المشهورة التي بدأها بقوله: ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقى خمور الأندرينا ومعنى قوله: "فنجهل فوق جهل الجاهلينا" أننا نهلكهم ونعاقبهم بما هو أعظم من جهلهم وقد نسب الجهل إلى نفسه وهو يريد المعاقبة الشديدة ليزدوج اللفظان فتكون اللفظة الثانية مثل اللفظة الأولى مع اختلاف المعنى، لأن ذلك أخف على اللسان، قال تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} فسمى المعاقبة على العدوان عدوانا مع أن هذه المعاقبة عدل وحق، وقال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} والثانية ليست سيئة في الحقيقة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوٓءَۢا بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (54)

عطف على قوله { ولا تطرد الذين يدعون ربّهم } [ الأنعام : 52 ] وهو ارتقاء في إكرام الذين يدْعون ربَّهم بالغداة والعشي . فهم المراد بقوله : { الذين يؤمنون بآياتنا } .

ومعنى { يؤمنون بآياتنا } أنَّهم يوقنون بأنّ الله قادر على أن ينزّل آيات جمَّة . فهم يؤمنون بما نزّل من الآيات وبخاصّة آيات القرآن وهو من الآيات ، قال تعالى : { أو لم يكفهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } [ العنكبوت : 51 ] .

وقوله : { فقل سلام عليكم } قيل : معناه حَيِّهم بتحيَّة الإسلام ، وهي كلمة ( سلام عليكم ) ، وقيل : أبلغهم السلام من الله تعالى تكرمة لهم لمضادّة طلب المشركين طردَهم .

وقد أكرمهم الله كرامتين الأولى أن يبدأهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام حين دخولهم عليه وهي مزيَّة لهم ، لأنّ شأن السلام أن يبتدئه الداخل ، ثم يحتمل أنّ هذا حكم مستمرّ معهم كلّما أدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنّه للمرّة التي يبلّغهم فيها هذه البشارة ، فنزّل هو منزلة القادم عليهم لأنَّه زفّ إليهم هذه البشرى .

والكرامةُ الثانية هي بشارتهم برضى الله عنهم بأنّ غفر لهم ما يعملون من سوء إذا تابوا من بعده وأصلحوا . وهذا الخبر وإن كان يعمّ المسلمين كلّهم فلعلّه لم يكن معلوماً ، فكانت البشارة به في وجوه المؤمنين يومئذٍ تكرمة لهم ليكونوا ميموني النقيبة على بقية إخوانهم والذين يجيئون من بعدهم .

والسلام : الأمان ، كلمة قالتها العرب عند لقاء المرء بغيره دلالة على أنَّه مسالم لا مُحارب لأنّ العرب كانت بينهم دماء وتِرات وكانوا يثأرون لأنفسهم ولو بغير المعتدي من قبيلته ، فكان الرجل إذا لقي من لا يعرفه لا يأمن أن يكون بينه وبين قبيلته إحَن وحفائظ فيؤمِّن أحدهما الآخر بقوله : السلام عليكم ، أو سلام ، أو نحو ذلك . وقد حكاها الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ثم شاع هذا اللفظ فصار مستعملاً في التكرمة . ومصدر سلَّم التسليم . والسلام اسم مصدر ، وهو يأتي في الاستعمال منكّراً مرفوعاً ومنصوباً ؛ ومعرّفاً باللام مرفوعاً لا غير . فأمَّا تنكيره مع الرفع كما في هذه الآية ، فهو على اعتباره اسماً بمعنى الأمان ، وساغ الابتداء به لأنّ المقصود النوعية لا فرد معيّن . وإنّما لم يقدّم الخبر لاهتمام القادم بإدخال الطمأنينة في نفس المقدوم عليه ، أنَّه طارق خير لا طارق شرّ . فهو من التقديم لضرب من التفاؤل . وأمَّا تعريفه مع الرفع فلدخول لام تعريف الجنس عليه .

وكلمة ( على ) في الحالتين للدلالة على تمكّن التلبّس بالأمان ، أي الأمان مستقرّ منكم متلبِّس بكم ، أي لا تخف .

وأمّا إن نصبوا مع التنكير فعلى اعتباره كمصدر سلم ، فهو مفعول مطلق أتى بدلاً من فعله . تقديره : سلّمت سلاماً ، فلذلك لا يؤتى معه ب ( على ) .

ثم إنَّهم يرفعونه أيضاً على هذا الاعتبار فلا يأتون معه ب ( على ) لقصد الدلالة على الدوام والثبات بالجملة الاسمية بالرفع ، لأنَّه يقطع عنه اعتبار البدلية عن الفعل ولذلك يتعيّن تقدير مبتدأ ، أي أمرُكم سلام ، على حدّ { فصبر جميل } [ يوسف : 18 ] . والرفع أقوى ، ولذلك قيل : إنّ إبراهيم ردّ تحيَّة أحسن من تحية الملائكة ، كما حكي بقوله تعالى : { قالوا سلاماً قال سلام } [ هود : 69 ] . وقد ورد في ردّ السلام أن يكون بمثل كلمة السلام الأولى ، كقوله تعالى : { إلاّ قيلاً سلاماً سلاماً } [ الواقعة : 26 ] وورد بالتعريف والتنكير فينبغي جعل الردّ أحسن دلالة . فأمَّا التعريف والتنكير فهما سواء لأنّ التعريف تعريف الجنس . ولذلك جاء في القرآن ذكر عيسى { وسلام عليه يوم ولد } [ مريم : 15 ] وجاء أنَّه قال : { والسلامُ عليَّ يوم وُلدت } [ مريم : 33 ] .

وجملة { كتب ربّكم على نفسه الرحمة } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وهي أول المقصود من المقول ، وأمَّا السلام فمقدّمة للكلام . وجوّز بعضهم أن تكون كلاماً ثانياً . وتقدّم تفسير نظيره في قوله تعالى : { كتب على نفسه الرحمة ليجمعنَّكم إلى يوم القيامة } في هذه السورة [ 12 ] . فقوله هنا كتب ربُّكم على نفسه الرحمة } تمهيد لقوله : { أنَّه مَنْ عَمِلَ منكم سوءاً بجهالة } الخ .

وقوله : { أنَّه من عمل منكم سوءاً بجهالة } قرأه نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب بفتح الهمزة على أنَّه بدل من { الرحمة } بدلُ اشتمال ، لأنّ الرحمة العامَّة تشتمل على غفران ذنب من عمل ذنباً ثم تاب وأصلح . وقرأه الباقون بكسر الهمزة على أن يكون استئنافاً بيانياً لجواب سؤال متوقّع عن مَبلغ الرحمة . ( ومَنْ ) شرطية ، وهي أدلّ على التعميم من الموصولة . والباء في قوله : { بجهالة } للملابسة ، أي ملتبساً بجهالة . والمجرور في موضع الحال من ضمير { عَمل } .

والجهالة تطلق على انتفاء العلم بشيء مَّا . وتطلق على ما يقابل الحلم ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { إنَّما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة } في سورة [ النساء : 17 ] . والمناسب هنا هو المعنى الثاني ، أي من عمل سوءاً عن حماقة من نفسه وسفاهة ، لأنّ المؤمن لا يأتي السيّئات إلاّ عن غلبة هواه رُشدَه ونُهاه . وهذا الوجه هو المناسب لتحقيق معنى الرحمة . وأمَّا حمل الجهالة على معنى عدم العلم بناء على أنّ الجاهل بالذنب غير مؤاخذ ، فلا قوة لتفريع قوله : { ثم تاب من بعده وأصلح } عليه ، إلاّ إذا أريد ثم تفطَّن إلى أنّه عمل سوءاً .

والضمير في قوله : { مِنْ بعده } عائد إلى { سوءاً } أي بعد السوء ، أي بعد عمله . ولك أن تجعله عائداً إلى المصدر المضمون في ( عَمِلَ ) مثل { اعْدلُوا هُو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] .

ومعنى { أصلح } صيّر نفسه صالحة ، أو أصلح عمله بعد أن أساء . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإنّ الله يتوب عليه } في سورة [ المائدة : 39 ] . وعند قوله : { إلاّ الذين تابوا وأصلحوا وبيَّنُوا } في سورة [ البقرة : 160 ] .

وجملة : { فإنَّه غفور رحيم } دليل جواب الشرط ، أي هو شديد المغفرة والرحمة . وهذا كناية عن المغفرة لهذا التائب المصلح .

وقرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف بكسر همزة { فإنَّه غفور رحيم } على أنّ الجملة موكَّدة ب { إنّ } فيعلم أنّ المراد أنّ الله قد غفر لمن تاب لأنَّه كثير المغفرة والرحمة . وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب { فأنّه } بفتح الهمزة على أنَّها ( أنّ ) المفتوحة أخت ( إنّ ) ، فيكون ما بعدها مؤوّلاً بمصدر . والتقدير : فغفرانه ورحمته . وهذا جزء جملة يلزمه تقدير خبر ، أي له ، أي ثابت لمن عمل سوءاً ثم تاب .