سادساً : ( نعمة إرشادهم إلى ما به يتخلصون من ذنوبهم ) :
ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة جليلة ، وهي إرشادهم إلى ما به يتخلصون من ذنوبهم وإخبارهم بقبول توبتهم ، فقال تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ . . . }
المعنى : واذكروا يا بني إسرائيل - لتنتفعوا وتعتبروا - وقت أن قال موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجي ربه بعيداً عنهم : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم وهبطتم بها إلى الحضيض بعبادتكم غير الله - تعالى - فإذا أردتم التكفير عن خطاياكم . فتوبوا إلى ربكم توبة صادقة نصوحاً ، واقتلوا أنفسكم لتنالوا عفو ربكم ، فذلكم خير لكم عند خالقكم من الإِقامة على المعصية ، ففعلتم ذلك فقبل الله توبتكم ؛ لأنه هو الذي يقبل التوبة عن عباده على كثرة ما يصدر عنهم من ذنوب ؛ لأنه هو الواسع الرحمة لمن ينيب إليه ويستقيم على صراطه الواضح .
وفي نداء موسى - عليه السلام - لهم بقوله : " يا قوم " تلطف في الخطاب ليجذب قلوبهم إلى سماعه ، وليحملهم على تلقي أوامره بحسن الطاعة ، وليشعرهم بأنهم قومه فهو منهم وهم منه ، والشأن فيمن كان كذلك ألا يكذب عليهم أو يخدعهم ، وإنما يريد لهم الخير .
والبارئ هو الخالق للمخلوقات بدون تفاوت أو اضطراب ، فهو أخص من الخالق ، ولذا قال تعالى : { هُوَ الله الخالق البارىء المصور } وفي هذا التعبير الحكيم ، تحريض لهم على التوبة والاستجابة للبارئ الذي أحسن كل شيء خلقه ، وفيه أيضاً تقريع لهم على غباوتهم ، حيث تركوا عبادة بديع السموات والأرض ، وعبدوا عجلا ضرب به المثل في الغباوة فقالوا " أبلد من ثور " فكأنه - سبحانه - يقول لهم : لقد اتخذتم هذا العجل إلهاً لتشابهكم معه في البلادة وضيق الأفق .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ ؟ قلت : البارئ هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } ومتميزاً بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة ، فكان فيه تقريع بما ان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف وحكمته على الأشكال المختلفة ، أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في البعاوة والبلادة ، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم ، ونثر ما نظم من صورهم وأشكالهم ، حين لم يشكروا النعمة في ذلك ، وغمطوها بعبادة ما لا يقدر على شيء منها " اه .
وقوله تعالى : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } أمر من موسى - عليه السلام - لهم بقتلهم أنفسهم حتى تكون توبتهم مقبولة ، وهذا الأمر بلغه موسى إياهم عن ربه ، إذ مثل هذا الأمر لا يصدر إلا عن وحي لأنه تشريع من الله - تعالى - .
والمراد بقتلهم أنفسهم أن يقتل من لم يعبد العجل منهم عابديه ، فيكون المعنى : ليقتل بعضكم بعضاً ، كما في قوله تعالى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } أي فليسلم بعضكم على بعض .
وقيل : المراد أن يقتل كل من عبد العجل نفسه قتلا حقيقياً حتى يكفر عن ردته بعبادته لغير الله ، وقد ورد أنهم فعلوا ذلك ، وأن الله - تعالى - رفع عنهم القتل وعفا عمن بقي منهم على قيد الحياة كرما منه وفضلا ، وهذا هو معنى التوبة في قوله تعالى { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ، ومعنى العفو في قوله تعالى : في الآية السابقة { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وقد ساق ابن كثير وغيره من المفسرين كثيراً من الآثار التي تحدثت عن كيفية حصول هذا القتل ، من ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عياس ، أنه قال : " قال تعالى لموسى : إن توبة عبدة العجل أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن فتاب أولئك الذين كانوا خفى على موسى وهارون ، ما اطلع الله على ذنوبهم فاعترفوا بها . وفعلوا ما أمروا به ، فغفر الله للقاتل والمقتول " .
وأخرج ابن جرير عن ابن شهاب الزهري أنه قال : " لما أمر بنو إسرائيل بقتل أنفسهم برزوا ومعهم موسى ، فتضاربوا بالسيوف ، وتطاعنوا بالخناجر وموسى رافع يديه ، حتى إذا فتروا أتاه بعضهم ، فقال له : يا نبي الله ادع الله لنا ، وأخذوا بعضديه يشدون يديه . فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض ، فألقوا السلاح ، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم ، فأوحى الله - جل ثناؤه - إلى موسى { لاَ تَحْزَنْ } أما من قتل فحى عندي يرزق ، وأما من بقي ، فقد قبلت توبته ، فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل " .
وجملة { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } تعليله ، جيء بها لتحريضهم على الامتثال والطاعة لما أمرهم به نبيهم - عليه السلام - واسم الإِشارة { ذَلِكُمْ } يعود إلى التوبة والقتل المفهومين مما تقدم .
وجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } جواب لشرط محذوف للإِيجار ، أي فامتثلتم ما أمرتم به ، فقيل الباري توبتكم ، وهي خطاب من الله - تعالى - لبني إسرائيل على لسان موسى ، فيه تذكير بنعمته ، وإرشاد لهم إلى موطن المنة والفضل وهو قبول توبتهم .
وعطفت هذه الجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } جواب لشرط محذوف للإِيجار ، أي فامتثلتم ما أمرتم به ، فقيل الباري توبتكم ، وهي خطاب من الله - تعالى - لبني إسرائيل على لسان موسى ، فيه تذكير بنعمته ، وإرشاد لهم إلى موطن المنة والفضل وهو قبول توبتهم .
وعطفت هذه الجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } بالفاء ، لإِشعارهم بأنه - سبحانه - لم يتركهم ليستأصلوا أنفسهم جميعاً بالقتل ، بل تداركهم بلطفه ورحمته ، فقبل توبتهم ، ورفع عقوبة القتل عمن بقي منهم .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } إخبار وثناء على الله - تعالى - بما هو أهثله من عفو ورحمة .
وأكدها - سبحانه - بتنزيلهم منزلة من يشك في قبول توبته ، لعظم جريمتهم وضخامة خطيئتهم وسيرهم إلى أمد بعيد في طريق الشيطان .
وهذه الآية الكريمة قد تضمنت نعمة كبرى على بني إسرائيل فإن الله - تعالى - لطف بهم ، ورحمهم ، وقبل توبتهم ، وعفا عن قتلهم أنفسهم ، بعد أن صدر منهم ما يدل على صدقهم في توبتهم ، كما تضمنت - أيضاً - تذكير بني إسرائيل المعاصرين للعهد النبوي بنعم الله عليهم ، لأنه لولا عفوه - سبحانه - عن آبائهم لما وجدوا هم ، وفيها - كذلك - إشارة إلى سماحة الشريعة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم وإغراء لليهود المعاصرين له بالدخول في الإِسلام لأنه إذا كان آباؤهم لم تقبل توبتهم إلا بقتلهم أنفسهم فإن شريعة الإِسلام تقول لهم : لقد جاءكم النبي الذي رفع عنكم إصركم والأغلال التي كانت على أسلافكم ، فآمنوا به واتبعوه لعلكم ترحمون .
ولم يكن بد من التطهير القاسي ؛ فهذه الطبيعة المنهارة الخاوية لا تقومها إلا كفارة صارمة ، وتأديب عنيف . عنيف في طريقته وفي حقيقته :
( وإذ قال موسى لقومه : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ، فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم . ذلكم خير لكم عند بارئكم ) . .
أقتلوا أنفسكم . ليقتل الطائع منكم العاصي . ليطهره ويطهر نفسه . . هكذا وردت الروايات عن تلك الكفارة العنيفة . . وإنه لتكليف مرهق شاق ، أن يقتل الأخ أخاه ، فكأنما يقتل نفسه برضاه . ولكنه كذلك كان تربية لتلك الطبيعة المنهارة الخوارة ، التي لا تتماسك عن شر ، ولا تتناهى عن نكر . ولو تناهوا عن المنكر في غيبة نبيهم ما عبدوا العجل . وإذ لم يتناهوا بالكلام فليتناهوا بالحسام ؛ وليؤدوا الضريبة الفادحة الثقيلة التي تنفعهم وتربيهم !
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 54 )
هذا القول من موسى صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى ، وحذفت الياء في «يا قومي » لأن النداء موضع حذف وتخفيف ، والضمير في «اتخاذكم » في موضع خفض على اللفظ ، وفي موضع رفع بالمعنى ، «العجل » لفظة عربية ، اسم لولد البقرة .
وقال قوم : سمي عجلاً لأنه استعجل قبل مجيء موسى عليه السلام .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وليس هذا القول بشيء( {[608]} ) .
واختلف هل بقي العجل من ذهب ؟ قال ذلك الجمهور وقال الحسن بن أبي الحسن : صار لحماً ودماً ، والأول أصح .
و «توبوا » : معناه ارجعوا عن المعصية إلى الطاعة .
وقرأ الجمهور : «بارئِكم » بإظهار الهمزة وكسرها .
وقرأ أبو عمرو : «بارئْكم » بإسكان الهمزة .
وروي عن سيبويه اختلاس الحركة وهو أحسن ، وهذا التسكين يحسن في توالي الحركات .
وقال المبرد : لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب ، وقرءاة أبي عمرو «بارئكم » لحن( {[609]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وقد روي عن العرب التسكين في حرف الأعراب ، قال الشاعر : [ الرجز ]
إذا اعوججن قلت صاحب قوم( {[610]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فاليوم أشرب غير مستحقب . . . إثماً من الله ولا واغل( {[611]} )
قالت سليمى اشتر لنا سويقا( {[612]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وقد بدا هَنْكِ مِن المِئْزَرِ( {[613]} )
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونهر تيري فما تعرفْكُمُ العربُ( {[614]} )
وقال وضاح اليمن( {[615]} ) : [ الرجز ]
إنما شعري شهد *** قد خلط بجلجلان
ومن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علماً للإعراب .
قال أبو علي : وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات .
وقرأ الزهري : «باريكم » بكسر الياء من غير همز( {[616]} ) ، ورويت عن نافع .
وقرأ قتادة : «فاقتالوا أنفسكم » : وقال : «هي من الاستقالة » .
قال أبو الفتح : «اقتال » هذه افتعل ، ويحتمل أن يكون عينها واواً كاقتادوا ، ويحتمل أن يكون ياء «كاقتاس »( {[617]} ) والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة ، ولكن قتادة رحمه الله ينبغي أن يحسن الظن به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده .
وقوله تعالى : { فتاب عليكم } قبله محذوف تقديره ففعلتم .
وقوله { عليكم } معناه : على الباقين ، وجعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة وتاب على الباقين وعفا عنهم .
قال بعض الناس : { فاقتلوا } في هذه الآية معناه بالتوبة وإماتة عوارض النفوس من شهوة وتعنت وغضب( {[618]} ) ، واحتج بقوله عليه السلام في الثوم والبصل فلتمتهما طبخاً ، وبقول حسان :
. . . . . . . . . . . . . . . . قتلت قتلت فهاتها لم تقتل( {[619]} )