التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 58 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ( 59 )

قال ابن كثير - عند تفسيره للآية الأولى - : ذكر كثير من المفسرين " أن هذه الآية نزلت فى شأن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة . وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبى طلحة الذى صارت الحجابة فى نسله إلى اليوم . وسبب نزولها فيه : حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة منه يوم الفتح ثم رده عليه .

ثم قال : قال محمد بن إسحاق : حدثنى محمد بن جعفر عن عبيد الله بن أبى ثور عن صفية بنت شيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس ، خرج حتى أتى إلى البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن فى يده . فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ مفتاح الكعبة منه ففتحت له فدخلها .

ثم قام على باب الكعبة فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له . صدق وعده . ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمى هاتين : إلا سدانة البيت وسقاية الحاج .

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين عثمان بن طلحة ؟ فدعى له . فقال : هاك متفاحك يا عثمان ! ! اليوم يوم بر ووفاء " .

هذا ونزول الآية الكريمة فى هذا السبب الخاص لا يمنع عمومها إذا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

والأمانات : جمع أمانة وهى مصدر سمى به المفعول . فهى بمعنى ما يؤتمن الإِنسان عليه .

والمعنى : إن الله تعالى - يأمركم - أيها المؤمنون - أن تؤدوا ما ائتمنتم عليه من الحقوق سواء أكانت هذه الحقوق لله - تعالى - أم للعباد . وسواء كانت فعلية أم قولية أم اعتقادية .

وقد أسند - سبحانه - الأمر إليه تأكيده ، اهتماما بالمأمور به ، وحضا للناس على أداء ما يؤتمنون عليه من علم ومال ، ودائع ، وأسرار ، وغير ذلك مما يقع فى دائرة الائتمان ، وتنبغى المحافظة عليه .

ومعنى أدائها إلى أهلها : توصيلها إلى أصحابها كما هى من غير بخس أو تطفيف أو تحريف أو غير ذلك مما يتنافى مع أدائها بالطريقة التى ترضى الله - تعالى .

ومن الآيات القرآنية التى نوهت بشأن الأمانة وأمرت بأدائها وحفظها قوله - تعالى - : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان } وقوله - تعالى - { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } وأما الأحاديث فمنها ما رواه الترمذى والنسائى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم " .

وروى الترمذى وأبو داود عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخمن من خانك " .

وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم .

وقوله { حَكَمْتُمْ } من الحكم ومعناه الفصل بين المتنازعين ، وإظهار الحق لصاحبه .

وقوله { بالعدل } أى بالحق الذى أوجبه الله عليكم . وأصل العدل : التسوية . يقال : عدل كذا بكذا أى سواه به .

قال الجمل وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ } إذا معمول لمقدر على مذهب البصريين من أن ما بعد أن المصدرية لا يعمل فيما قبلها والتقدير : وأن تحكموا بالعدل إذا حكمتم بين الناس . أو معمول للمذكور على مذهب الكوفيين من إجازة عمل ما بعد أن فيما قبلها .

والمعنى : كما أمركم الله - تعالى - أيها المؤمنون بأداء الأمانات إلى أهلها ، فإنه يأمركم - أيضا - إذا حكمتم بين الناس أن تجعلوا حكمكم قائما على الحق والعدل ، فإن الله - تعالى - ما أقام ملكه إلا عليهما ، ولأن الأحكام إذا صاحبها الجور والظلم أدت إلى شقاء الأفراد والجماعات .

قال بعض العلماء : يرى بعضهم : أن الخطاب فى هذا النصف موجه إلى الذين يحكمون ، وهم الحكام من ولاة وقضاة وغيرهم ممن يلون الحاكم . ولا مانع عندنا من أن يكون الخطاب موجها إلى الأمة كلها ، لأن الأمة العزيزة التى تتولى أمور نفسها من غير تحكم من ملك أو طاغ قاهر ، هى محكومة ومحكمة . فهى التى تختار حاكمها وهى فى هذا محكمة ، مطلوب منها العدل ، فلا تختار لهوى أو لعطاء أو لمصلحة شخصية أيا كان نوعها . وهى محكمة فى حاكمها فلا تقول فيه إلا حقا ، ولا تطالبه إلا بما هو حق لا جور فيه ، ولا تشتط فى نقده ، ولا تسكن عن نصيحته ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " الدين النصيحة : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " .

وحديث القرآن عن وجوب إقامة العدل ودفع الظلم حديث مستفيض . قال تعالى - : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } وقال - تعالى - { ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى } وقال - تعالى - { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } وقال - تعالى - { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } وأما حديث السنة النبوة عن ذلك فهو أيضا مستفيض . ومن الأحاديث التى ورت فى هذا المعنى ما رواه الإِمام مسلم فى صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور من يمين الرحمن . وكلتا يديه يمين . الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا " .

وقوله { إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ } جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها ، متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين ، وحسن استدعائهم إلى الامتثال لما أمروا به .

وقوله { نِعِمَّا } أصله { نعم ما } فركبت نعم ما بعد طرح حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة ثم أدغمت الميمان وحركت العين الساكنة بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين .

و { ما } إما منصوبة موصوفة بقوله { يَعِظُكُمْ } فكأنه قيل : نعم شيئا يعظكم به . وإما مرفوعة موصولة فكأنه قيل : نعم الشئ الذى يعظكم به .

والمخصوص بالمدح محذوف وهو أجاء الأمانة إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل .

والوعظ : التذكير بالخير ، والتحذير من الشر ، بأسلوب يرق له القلب .

والمعنى : إن الله - تعالى - قد أمركم - يا معشر المؤمنين - بأداء الأمانة ، وبالحكم بالعدل ، ولنعماهما شيئا جليلا يذكركم به ، ويدعوكم إليه .

وقوله - تعالى - { إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } وعد للطائعين ووعيد للعاصين .

أى : إن الله - تعالى - كان سميعا لأقوالكم فى الأحكام وفى غيرها . { بَصِيراً } بكل أحوالكم وتصرفاتك . وسيجازيكم بما تفعلونه من خير أو شر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

58

( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ؛ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . إن الله نعما يعظكم به . إن الله كان سميعا بصيرًا . . )

هذه هي تكاليف الجماعة المسلمة ؛ وهذا هو خلقها : أداء الأمانات إلى أهلها . والحكم بين( الناس ) بالعدل . على منهج الله وتعليمه .

والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى . . الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان ؛ والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها " الإنسان " . . أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه . فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة . فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به ، والاهتداء إليه ، ومعرفته ، وعبادته ، وطاعته . وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد ولا إرادة ولا اتجاه . والإنسان وحده هو الذي وكل إلى فطرته ، وإلى عقله ، وإلى معرفته ، وإلى إرادته ، وإلى اتجاهه ، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله ، بعون من الله : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . . وهذه أمانة حملها وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات .

ومن هذه الأمانة الكبرى ، تنبثق سائر الأمانات ، التي يأمر الله أن تؤدى :

ومن هذه الأمانات : أمانة الشهادة لهذا الدين . . الشهادة له في النفس أولا بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له . ترجمة حية في شعورها وسلوكها . حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس . فيقولوا : ما أطيب هذا الإيمان وأحسنة وأزكاه ؛ وهو يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخلق والكمال ! فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون . . والشهادة له بدعوة الناس إليه ، وبيان فضله ومزيته - بعد تمثل هذا الفضل وهذه المزية في نفس الداعية - فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه ، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك ، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان . وهي إحدى الأمانات . .

ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض ؛ منهجا للجماعة المؤمنة ؛ ومنهجا للبشرية جميعا . . المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة ، وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة . فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات ؛ بعد الإيمان الذاتي . ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة . . ومن ثم ف " الجهاد ماض إلى يوم القيامة " على هذا الأساس . . أداء لإحدى الأمانات . .

ومن هذه الأمانات - الداخلة في ثنايا - ما سبق - أمانة التعامل مع الناس ؛ ورد أماناتهم إليهم : أمانة المعاملات والودائع المادية . وأمانة النصيحة للراعي وللرعية . وأمانة القيام على الأطفال الناشئة . وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها . . وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالي الحياة على وجه الإجمال . . فهذه من الأمانات التي يأمر الله أن تؤدي ؛ ويجملها النص هذا الإجمال . .

فأما الحكم بالعدل بين( الناس )فالنص يطلقه هكذا عدلا شاملا بين( الناس )جميعا . لا عدلا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب . ولا عدلا مع أهل الكتاب ، دون سائر الناس . . وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه " إنسانًا " . فهذه الصفة - صفة الناس - هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني . وهذه الصفة يلتقي عليها البشر جميعا : مؤمنين وكفارا . أصدقاء وأعداء . سودا وبيضا . عربا وعجما . والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل - متى حكمت في أمرهم - هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط - في هذه الصورة - إلا على يد الإسلام ، وإلا في حكم المسلمين ، وإلا في عهد القيادة الإسلامية للبشرية . . والذي افتقدته من قبل ومن بعد هذه القيادة ؛ فلم تذق له طعما قط ، في مثل هذه الصورة الكريمة التي تتاح للناس جميعا . لأنهم " ناس " ! لا لأية صفة أخرى زائدة عن هذا الأصل الذي يشترك فيه( الناس ) !

وذلك هو أساس الحكم في الإسلام ؛ كما أن الأمانة - بكل مدلولاتها - هي أساس الحياة في المجتمع الإسلامي .

والتعقيب على الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها ؛ والحكم بين الناس بالعدل ؛ هو التذكير بأنه من وعظ الله - سبحانه - وتوجيهه . ونعم ما يعظ الله به ويوجه :

( إن الله نعما يعظكم به ) . .

ونقف لحظة أمام التعبير من ناحية أسلوب الأداء فيه . فالأصل في تركيب الجملة : إنه نعم ما يعظكم الله به . . ولكن التعبير يقدم لفظ الجلالة ، فيجعله " اسم إن " ويجعل نعم ما " نعمًا ومتعلقاتها ، في مكان " خبر إن " بعد حذف الخبر . . ذلك ليوحي بشدة الصلة بين الله - سبحانه - وهذا الذي يعظهم به . .

ثم إنها لم تكن " عظة " إنما كانت " أمرًا . . ولكن التعبير يسميه عظة . لأن العظة أبلغ إلى القلب ، وإسرع إلى الوجدان ، وأقرب إلى التنفيذ المنبعث عن التطوع والرغبة الحياء !

ثم يجيء التعقيب الأخير في الآية ؛ يعلق الأمر بالله ومراقبته وخشيته ورجائه :

إن الله كان سميعا بصيرًا . .

والتناسق بين المأمور به من التكاليف ؛ وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس ؛ وبين كون الله سبحانه ( سميعا بصيرًا ) مناسبة واضحة ولطيفة معا . . فالله يسمع ويبصر ، قضايا العدل وقضايا الأمانة . والعدل كذلك في حاجة إلى الاستماع البصير وإلى حسن التقدير ، وإلى مراعاة الملابسات والظواهر ، وإلى التعمق فيما وراءالملابسات والظواهر . وأخيرا فإن الأمر بهما يصدر عن السميع البصير بكل الأمور .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } خطاب يعم المكلفين والأمانات ، وإن نزلت يوم الفتح في عثمان بن طلحة بن عبد الدار لما أغلق باب الكعبة ، وأبى أن يدفع المفتاح ليدخل فيها رسول الله وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي كرم الله وجهه يده وأخذه منه وفتح ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس رضي الله عنه أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة . فنزلت فأمره الله أن يرده إليه ، فأمر عليا رضي الله عنه أن يرده ويعتذر إليه ، وصار ذلك سببا لإسلامه ونزل الوحي بأن السدانة في أولاده أبدا { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل أي وأن تحكموا بالإنصاف والسوية إذا قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم ، أو يرضى بحكمكم ولأن الحكم وظيفة الولاة قيل الخطاب لهم . { إن الله نعما يعظكم به } أي نعم شيئا بيعظكم به ، أو نعم الشيء الذي يعظكم به فما منصوبة موصوفة بيعظكم به . أو مرفوعة موصولة به . والمخصوص بالمدح محذوف وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكومات . { إن الله كان سميعا بصيرا } بأقوالكم وأحكامكم وما تفعلون في الأمانات .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

استئناف ابتدائي قصد منه الإفاضة في بيان شرائع العدل والحكم ، ونظام الطاعة ، وذلك من الأغراض التشريعية الكبرى التي تضمّنتها هذه السورة ، ولا يتعيّن تطلّب المناسبة بينه وبين ما سبقه ، فالمناسبة هي الانتقال من أحكام تشريعية إلى أحكام أخرى في أغراض أخرى . وهنا مناسبة ، وهي أنّ ما استطرد من ذكر أحوال أهل الكتاب في تحريفهم الكلم عن مواضعه ، وليّهم ألسنتهم بكلمات فيها توجيه من السبّ ، وافترائهم على الله الكذب ، وحسدهم بإنكار فضل الله إذ آتاه الرسول والمؤمنين ، كلّ ذلك يشتمل على خيانة أمانة الدين ، والعلم ، والحقّ ، والنعمة ، وهي أمانات معنويّة ، فناسب أن يعقب ذلك بالأمر بأداء الأمانة الحسيّة إلى أهلها ويتخلّص إلى هذا التشريع .

وجملة { إنّ الله يأمركم } صريحة في الأمر والوجوب ، مثل صراحة النهي في قوله في الحديث « إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم » . ( وإنّ ) فيها لمجرد الاهتمام بالخبَر لظهور أنّ مثل هذا الخبر لا يقبل الشكّ حتّى يؤكّد لأنّه إخبار عن إيجاد شيء لا عن وجوده ، فهو والإنشاء سواء .

والخطاب لكلّ من يصلح لتلقّي هذا الخطاب والعمل به من كلّ مؤتمن على شيء ، ومن كلّ من تولّى الحكم بين الناس في الحقوق .

والأداء حقيقة في تسليم ذات لمن يستحقّها ، يقال : أدّى إليْه كذا ، أي دفعه وسلّمه ، ومنه أداء الدَّين . وتقدّم في قوله تعالى : { من إن تأمنّه بقنطار يؤدّه إليك } في سورة آل عمران ( 75 ) . وأصل أدَّى أن يكون مضاعفَ أدَى بالتخفيف بمعنى أوصل ، لكنّهم أهمْلوا أدى المخفّف واستغنوا عنه بالمضاعف .

ويطلق الأداء مجازاً على الاعتراف والوفاء بشيء . وعلى هذا فيطلق أداء الأمانة على قَول الحقّ والاعتراف به وتبليغ العلم والشريعة على حقّها ، والمراد هنا هو الأوّل من المعنيين ، ويعرف حكم غيره منهما أو من أحدهما بالقياس عليه قياس الأدْوَن .

والأمانة : الشيء الذي يجعله صاحبه عند شخص ليحفظه إلى أن يطلبه منه ، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى { فليؤدّ الذي ائتمن أمانَتهُ } في سورة البقرة ( 283 ) . وتطلق الأمانة مجازاً على ما يجب على المكلّف إبلاغه إلى أربابه ومُستحقيه من الخاصّة والعامّة كالدّين والعلم والعهود والجوار والنصيحة ونحوها ، وضدّها الخيانة في الإطلاقين . والأمر للوجوب .

والأمانات من صيغ العموم ، فلذلك قال جمهور العلماء فيمن ائتمنه رجل على شيء وكان للأمين حقّ عند المؤتَمَن جحدهُ إيّاه : إنّه لا يجوز له أخذ الأمانة عوض حقّه لأنّ ذلك خيانة ، ومنعه مالك في المدوّنة ، وعن ابن عبد الحكم : أنه يجوز له أن يجحده بمقدار ما عليه له ، وهو قول الشافعي . قال الطبري عن ابن عباس ، وزيد بن أسلم ، وشَهْر بن حَوشب ، ومكحول : أنّ المخاطب ولاة الأمور ، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها .

وقيل : نزلت في أمر عثمان بن طلحة بن أبي طلحة .

وأهل الأمانة هم مستحقّوها ، يقال : أهل الدار ، أي أصحابها . وذكر الواحدي في أسباب النزول ، بسند ضعيف : أنّ الآية نزلت يوم فتح مكة إذ سَلَّم عثمان بن طلحة ابننِ أبي طلحة العبدري الحَجَبي مفتاحَ الكعبة للنبيء صلى الله عليه وسلم وكانت سدانة الكعبة بيده ، وهو من بني عبد الدار وكانت السدانةُ فيهم ، فسأل العباس بن عبد المطلب من رسول الله أن يجعل له سدانة الكعبة يضمها مع السقاية وكانت السقاية بيده ، وهي في بني هاشم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة وابنَ عمّه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ، فدفع لهما مفتاح الكعبة وتلا هذه الآية ، قال عمر بن الخطاب : وما كنت سمعتُها منه قبلَ ذلك ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن طلحة « خذوها خالدة تالدة لا ينتزعها منكم إلاّ ظالم » ولم يكن أخْذ النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة أخذَ انتزاع ، ولكنّه أخذه ينتظر الوحي في شأنه ، لأنّ كون المفتاح بيد عثمان بن طلحة مستصحَب من قبل الإسلام ، ولم يغيّر الإسلامُ حوزه إيّاه ، فلمّا نزلت الآية تقرّر حقّ بني عبد الدار فيه بحكم الإسلام ، فبقيت سدانة الكعبة في بني عبد الدار ، ونزل عثمان بن طلحة عنها لابن عمّه شيبةَ بننِ عثمان ، وكانت السدانة من مناصب قريش في الجاهلية{[215]} فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم بعضها في خطبة يوممِ الفتح أو حجّةِ الوداع ، ما عدا السقاية والسدانة .

فإطلاق اسم الأمانة في الآية حقيقة ، لأنّ عثمان سلّم مفتاح الكعبة للنبيء عليه الصلاة والسلام دون أن يُسقط حقّه .

والأداء حينئذٍ مستعمل في معناه الحقيقي ، لأنّ الحقّ هنا ذات يمكن إيصالها بالفعل لمستحقّها ، فتكون الآية آمرة بجميع أنواع الإيصال والوفاءات ، ومن جملة ذلك دفع الأمانات الحقيقية ، فلا مجاز في لفظ ( تؤدّوا ) .

وقوله : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } عطف { أن تحكموا } على { أن تؤدّوا } وفصل بين العاطف والمعطوف الظرف ، وهو جائز ، مثل قوله : { وفي الآخرة حسنة } [ البقرة : 201 ] وكذلك في عطف الأفعال على الصحيح : مثل { وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبّارين } [ الشعراء : 129 ، 130 ] .

والحكم مصدر حكم بين المتنازعين ، أي اعتنى بإظهار المحقّ منهما من المبطل ، أو إظهار الحقّ لأحدهما وصرَّح بذلك ، وهو مشتقّ من الحُكْم بفتح الحاء وهو الردْع عن فعلِ ما لا ينبغي ، ومنه سميّت حَكَمَة اللِّجام ، وهي الحديدة التي تجعل في فم الفرس ، ويقال : أحْكِمْ فُلاناً ، أي أمْسِكْه .

والعدل : ضدّ الجور ، فهو في اللغة التسوية ، يقال : عَدَل كذا بكذا ، أي سوّاه به ووازنه عدلاً { ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلون } [ الأنعام : 1 ] ، ثمّ شاع إطلاقه على إيصال الحقّ إلى أهله ، ودفع المعتدي على الحقّ عن مستحقّه ، إطلاقاً ناشئاً عمّا اعتاده الناس أنّ الجور يصدر من الطغاة الذين لا يَعدّون أنفسهم سواء مع عموم الناس ، فهم إن شاءوا عدلوا وأنصفوا ، وإن شاءوا جاروا وظلموا ، قال لبيد :

ومقسم يعطي العشيرة حقّها *** ومُغذمر لحقوقها هَضَّامها{[216]}

فأطلق لفظ العدل الذي هو التسوية على تسوية نافعة يحصل بها الصلاح والأمن ، وذلك فك الشيء من يد المعتدي ، لأنّه تظهر فيه التسوية بين المتنازعين ، فهو كناية غالبة . ومَظهر ذلك هو الحكم لصاحب الحقّ بأخذ حقّه ممّن اعتدى عليه ، ولذلك قال تعالى هنا : { إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } ، ثم توسّعوا في هذا الإطلاق حتّى صار يطلق على إبلاغ الحقّ إلى ربّه ولو لم يحصل اعتداء ولا نزاع .

والعدل : مساواة بين الناس أو بين أفراد أمّة : في تعيين الأشياء لمستحقّها ، وفي تمكين كلّ ذي حقّ من حقّه ، بدون تأخير ، فهو مساواة في استحقاق الأشياء وفي وسائل تمكينها بأيدي أربابها ، فالأوّل هو العدل في تعيين الحقوق ، والثاني هو العدل في التنفيذ ، وليس العدل في توزيع الأشياء بين الناس سواء بدون استحقاق .

فالعدل وسط بين طرفين ، هما : الإفراط في تخويل ذي الحقّ حقّه ، أي بإعطائه أكثر من حقّه ، والتفريط في ذلك ، أي بالإجحاف له من حقّه ، وكلا الطرفين يسمّى جوراً ، وكذلك الإفراط والتفريط في تنفيذ الإعطاء بتقديمه على وقته ، كإعطاء المال بيد السفيه ، أو تأخيره كإبقاء المال بيد الوصي بعد الرشد ، ولذلك قال تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم إلى قوله : { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 5 ، 6 ] ؛ فالعدل يدخل في جميع المعاملات . وهو حسن في الفطرة لأنّه كما يصدُّ المعتدي عن اعتدائه ، كذلك يصدّ غيره عن الاعتداء عليه ، كما قال تعالى : { لا تَظْلِمُون ولا تُظلمون } [ البقرة : 279 ] . وإذ قد كان العدل بهذه الاعتبارات تجول في تحديده أفهام مخطئة تعيّن أن تسَنّ الشرائع لضبطه على حسب مدارك المشرّعين ومصطلحات المشَرَّع لهم ، على أنّها معظمها لم يسلم من تحريف لحقيقة العدل في بعض الْاحوال ، فإنّ بعض القوانين أسّست بدافعة الغضب والأنانية ، فتضمّنت أخطاء فاحشة مثل القوانين التي يمليها الثوار بدافع الغضب على من كانوا متَولين الأمور قبلهم ، وبعض القوانين المتفرّعة عن تخيّلات وأوهام ، كقوانين أهل الجاهلية والأمم العريقة في الوثنية .

ونجد القوانين التي سنّها الحكماء أمكن في تحقيق منافع العدل مثل قوانين أثينة وإسبَرطة ، وأعلى القوانين هي الشرائع الألهية لمناسبتها لحال من شرعت لأجلهم ، وأعظمها شريعةُ الإسلام لابتنائها على أساس المصالح الخالصة أو الراجحة ، وإعراضها عن أهواء الأمم والعوائد الضالّة ، فإنّها لا تعبأ بالأنانية والهوى ، ولا بعوائد الفساد ، ولأنّها لا تبنى على مصالح قبيلة خاصّة ، أو بلد خاصّ ، بل تبتنى على مصالح النوع البشري وتقويمه وهديه إلى سواء السبيل ، ومن أجل هذا لم يزل الصالحون من القادة يدوّنون بيان الحقوق حفظاً للعدل بقدر الإمكان وخاصّة الشرائع الإلهية ، قال تعالى : { لقد أرسلنا رُسُلَنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتابَ والميزان ليقوم الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] أي العدل . فمنها المنصوص عليه على لسان رسول البشرية ومنها ما استنبطه علماء تلك الشريعة فهو مدرج فيها وملحق بها .

وإنّما قيّد الأمر بالعدل بحالة التصدّي للحكم بين الناس ، وأُطلق الأمر بردّ الأمانات إلى أهلها عن التقييد : لأنّ كلّ أحد لا يخلو من أن تقع بيده أمانة لغيره لا سيما على اعتبار تعميم المراد بالأمانات الشامل لما يجب على المرء إبلاغه لمستحقّه كما تقدّم ، بخلاف العدل فإنّما يؤمر به ولاة الحكم بين الناس ، وليس كلّ أحد أهلاً لتولّي ذلك . فتلك نكتة قوله : { وإذا حكمتم بين الناس } . قال الفخر : قوله : { وإذا حكمتم } هو كالتصريح بأنّه ليس لجميع الناس أن يشرّعوا في الحكم بل ذلك لبعضهم ، فالآية مجملة في أنّه بأي طريق يصير حاكماً ولمّا دلّت الدلائل على أنّه لا بد للأمّة من إمام وأنّه ينصب القضاة والولاة صارت تلك الدلائل كالبيان لهذه الآية .

وجملة { إنّ الله نعمّا يعظكم به } واقعة موقع التحريض على امتثال الأمر ، فكانت بمنزلة التعليل ، وأغنت ( إنَّ ) في صدر الجملة عن ذكر فَاء التعقيب ، كما هو الشأن إذا جاءت ( إنَّ ) للاهتمام بالخبر دون التأكيد .

و ( نعمّا ) أصله ( نعْمَ ما ) رُكّبت ( نعم ) مع ( ما ) بعد طرحِ حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة ، وأدغم الميمان وحرّكت العين الساكنة بالكسر للتخلّص من التقاء الساكنين .

و ( ما ) جَوّز النحاة أن تكون اسم موصول ، أو نكرة موصوفة ، أو نكرة تامّة والجملة التي بعد ( ما ) تجري على ما يناسب معنى ( مَا ) ، وقيل : إنّ ( ما ) زائدة كافّةٌ ( نعمَ ) عن العمل .

والوعظ : التذكير والنصح ، وقد يكون فيه زجر وتخويف .

وجملة { إنّ الله كان سميعاً بصيراً } أي عليماً بما تفعلون وما تقولون ، وهذه بشارة ونذارة .


[215]:- مناصب قريش في الجاهلية، وتسمى مآثر قريش، هي السقاية وهي سقي الحجيج من ماء زمزم وكانت لبني هاشم، والسدانة بكسر السين وهي حجابة الكعبة وهي لبني عبد الدار، والسفارة لبني عدي، والرفادة بككسر الراء وهي أموال تجمعها قريش لإعانة الحجيج المعوزين وهي لبني نوفل، و الديات والحمالات وهي لبني تيم، والراية وتسمى العقاب وهي لبني أمية، والمشورة لبني أسد بن عبد العزىـ والأعنة والقبة وهي شؤون الحرب كانوا يضربون قبة ويجتمعون إليها عند تجهيز الجيوش وهي لبني مخزوم، والحكومة وأموال الآلهة لبني سهم والأيسار والأزلام لبني جمح.
[216]:المغذمر ذو الغذمرة وهي ظهور الغضب في القول، والهضاب صاحب الهضم وهو الكسر والظلم.