التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (137)

ثم بين - سبحانه - أن أهل الكتاب إن آمنوا بما دعوتموهم إليه معشر المسلمين ، فقد أصابوا الهدى ، وإن نأوا وأعرضوا فهم معاندون مستكبرون فقال تعالى : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السميع العليم } .

والفاء التي صدرت بها الآية الكريمة لترتيب ما بعدها على ما قبلها . لأن قول المؤمنين { آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ } إلخ .

من شأنه أن يرقق القلوب الجاحدة ، ويستميل النفوس الشاردة ، لبعده عن التعصب والعناد ، لأنه الحق الذي تؤيده العقول السليمة ، وإذا لم يؤمنوا به فمرد ذلك إلى شدة عنادهم والتواء أفكارهم .

وقوله تعالى : { فَقَدِ اهتدوا } ترغيب لهم في اتباع الحق الذي اتبعه المؤمنون ، أي : فإن آمنوا مثل إيمانكم فقد اهتدوا ورشدوا .

وكلمة : ( مثل ) في الآية الكريمة معناها ، نفس الشيء وحقيقته . المراد فإن آمنوا بنفس ما آمنتم به فقد اهتدوا ، ومنه قول العرب : " مثلك لا يبخل " ولامراد أنت لا تبخل . ويرى بعض المفسرين أن كلمة " مثل " هنا على حقيقتها وهي الشبية والنظير ، وأن المماثلة وقعت بين الإِيمانيين ، وأنها لا تقتضي تعدد ما أمرنا الله أن نؤمن به .

قال الإِمام القرطبي : " المعنى : فإن آمنوا مثل إيمانكم ، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا " .

وقال ابن جرير : فإن صدقوا مثل تصديقكم بجميع ما أنزل عليكم من كتب الله وأنبيائه ، فقد اهتدوا فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والاقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء ، كقول القائل : ( مر عمرو بأخيك مثل ما مررت به ) يعني ذلك ( مر عمرو بأخيك مثل مروري به ) والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين لا بين عمرو وبين المتكلم ، فكذلك قوله : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } إنما وقع التمثيل بين الإِيمانين لا بين المؤمن به " .

وقوله تعالى : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السميع العليم } بيان لحالهم عند إعراضهم ، عن دعوة الحق ، ووعد من الله - تعالى - للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنصر عليهم ، والعصمة من شرورهم .

والشقاق : المنازعة والمخالفة وأصله من الشق سوهو الجانب فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه .

وقيل : إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه .

والمعنى : وإن أعرض هؤلاء الذين زعموا أن الهداية ميلهم عن الإِيمان الذي تدعوهم إليه - يا محمد - فاعلم أن إعراضهم سببه المخالفة والمعاندة والمعاداة إذ لا حجة أوضح من حجتك ، وما داموا هم كذلك فسيقيك الله شرهم ، وينصرك عليهم ، فهو سميع لما يقولونه فيك ، عليه بما يبيتونه لك ولأتباعك من مكر وكيد ، وهو الكفيل بكف بأسهم ، وقطع دابرهم .

وعبر - سبحانه - عن شدة مخالفتهم بقوله : " فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ " مبالغة في وصفهم بالشقاق حيث جعله مستوليا عليهم استيلاء الظرف على ما يوضع فيه .

ورتب قوله : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } على قوله { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لأن إعلامهم أن أهل الكتاب في مخالفة ومعاداة لهم قد يحملهم على الخوف منهم بسبب كثرتهم وقوتهم ، فبشر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم مهما بلغت قوتهم فلن يستطيعوا أن يصلوا إليك بأذى . وأنه - سبحانه - سيكفيك شرهم .

وقد أوفى الله - تعالى - بوعده ، فنصر نبيه صلى الله عليه وسلم وعصمه من كيدهم بإلقاء العداوة بينهم وطرد من يستحق الطرد منهم ، وقتل من لا بد من قتله بسبب خيانته وغيدره . فالآية الكريمة قد تضمنت وعداً للمؤمنين بالنصر ، ووعيداً لليهود ومن على شاكلتهم بالهزيمة والخيبة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (137)

124

ومن ثم يقرر السياق الحقيقة الكبيرة ، ويثبت عليها المؤمنين بهذه العقيدة . حقيقة أن هذه العقيدة هي الهدى . من اتبعها فقد اهتدى . ومن أعرض عنها فلن يستقر على أصل ثابت ؛ ومن ثم يظل في شقاق مع الشيع المختلفة التي لا تلتقي على قرار :

( فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ، وإن تولوا فإنما هم في شقاق ) . .

وهذه الكلمة من الله ، وهذه الشهادة منه سبحانه ، تسكب في قلب المؤمن الاعتزاز بما هو عليه . فهو وحده المهتدي . ومن لا يؤمن بما يؤمن به فهو المشاق للحق المعادي للهدى . ولا على المؤمن من شقاق من لا يهتدي ولا يؤمن ، ولا عليه من كيده ومكره . ولا عليه من جداله ومعارضته . فالله سيتولاهم عنه ، وهو كافيه وحسبه :

( فسيكفيكهم الله . وهو السميع العليم ) .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (137)

{ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا } من باب التعجيز والتبكيت ، كقوله تعالى : { فائتوا بسورة من مثله } إذ لا مثل لما آمن به المسلمون ، ولا دين كدين الإسلام . وقيل : الباء للآلة دون التعدية ، والمعنى إن تحروا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم ، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق ، أو مزيدة للتأكيد كقوله تعالى : { جزاء سيئة بمثلها } . والمعنى فإن آمنوا بالله إيمانا مثل إيمانكم به ، أو المثل مقحم كما في قوله : { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } أي عليه ، ويشهد له قراءة من قرأ بما آمنتم به أو بالذي آمنتم به { وإن تولوا فإنما هم في شقاق } أي إن أعرضوا عن الإيمان ، أو عما تقولون لهم فما هم إلا في شقاق الحق ، وهو المناوأة والمخالفة ، فإن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر

{ فسيكفيكهم الله } تسلية وتسكين للمؤمنين ، ووعد لهم بالحفظ والنصرة على من ناوأهم { وهو السميع العليم } إما من تمام الوعد ، بمعنى أنه يسمع أقوالكم ويعلم إخلاصكم وهو مجازيكم لا محالة ، أو وعيد للمعرضين ، بمعنى أنه يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون وهو معاقبهم عليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (137)

{ فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ( 137 )

وقوله تعالى : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } الآية ، خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته .

والمعنى إن صدقوا تصديقاً مثل تصديقكم ، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين( {[1317]} ) ، هذا قول بعض المتأولين ، وقيل الباء زائدة مؤكدة ، والتقدير آمنوا مثل ، والضمير في { به } عائد كالضمير في { له } ، فكأن الكلام فإن آمنوا بالله مثل ما آمنتم به ، ويظهر عود الضمير على { ما } ، وقيل { مثل } زائدة كما هي في قوله { ليس كمثله شيء }( {[1318]} ) [ الشورى : 11 ] ، وقالت فرقة : هذا من مجاز الكلام ، تقول هذا أمر لا يفعله مثلك أي لا تفعله أنت ، فالمعنى فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، هذا قول ابن عباس ، وقد حكاه عنه الطبري قراءة ، ثم أسند إليه أنه قال : «لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ، فإنه لا مثل لله تعالى ، ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم أو بما آمنتم به » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا على جهة التفسير( {[1319]} ) ، أي هكذا فليتأول ، وحكاهما أبو عمرو الداني قراءتين عن ابن عباس( {[1320]} ) فالله أعلم .

وقوله تعالى : { وإن تولوا } أي أعرضوا ، يعني به اليهود والنصارى ، والشقاق المشاقة والمحادة والمخالفة ، أي في شقاق لك هم في شق وأنت في شق ، وقيل : شاق معناه شق كل واحد وصل ما بينه وبين صاحبه ، ثم وعده تعالى أنه سيكفيه إياهم( {[1321]} ) ويغلبه عليهم ، فكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء النضير .

وهذا الوعد وانتجازه من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، و { السميع } لقول كل قائل ، { العليم } بما يجب أن ينفذ في عباده .


[1317]:- يعني أنه لا مثل لله تعالى، وإنما المماثلة بين الإيمانين، وهذه التأويلات دعا إليها البعد من شبهة المشابهة والمماثلة لله تعالى، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تقولوا (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به)، فإنه لا مثل لله".
[1318]:- من الآية 11 من سورة الشورى.
[1319]:- يعني أنه محمول على أنه فسر الكلام لا أنه أنكر القراءة الظاهرة مع صحة المعنى والنهي عن ذلك مبالغة في نفي التشبيه عن الله تعالى.
[1320]:- أي: (بالذي آمنتم به)، أو: (بما آمنتم به).
[1321]:- إنما كان ذلك لأن شقاقهم كان في مخالفة الحق وهي مخالفة عظيمة توجب عداوة الله وغضبه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (137)

كلام معترض بين قوله : { قولوا آمنا بالله } [ البقرة : 136 ] وقوله : { صبغة الله } [ البقرة : 138 ] والفاء للتفريع ودخول الفاء في الاعتراض وارد في الكلام كثيراً وإن تردد فيه بعض النحاة والتفريع على قوله : { قولوا آمنا بالله } والمراد من القول أن يكون إعلاناً أي أعلنوا دينكم واجهروا بالدعوة إليه فإن اتبعكم الذين قالوا : { كونوا هوداً أو نصارى } [ البقرة : 135 ] فإيمانهم اهتداء وليسوا قبل ذلك على هدى خلافاً لزعمهم أنهم عليه من قولهم : { كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } فدل مفهوم الشرط على أنهم ليسوا على هدى ما داموا غير مؤمنين بالإسلام .

وجاء الشرط هنا بحرف ( إن ) المفيدة للشك في حصول شرطها إيذاناً بأن إيمانهم غير مرجو .

والباء في قوله : { بمثل ما آمنتم به } للملابسة وليست للتعدية أي إيماناً مماثلاً لإيمانكم ، فالمماثلة بمعنى المساواة في العقيدة والمشابهة فيها باعتبار أصحاب العقيدة وليست مشابهة معتبراً فيها تعدد الأديان لأن ذلك ينبو عنه السياق ، وقيل لفظ مثل زائد ، وقيل الباء للآلة والاستعانة ، وقيل : الباء زائدة ، وكلها وجوه متكلفة .

وقوله : { وإن تولوا فإنما هم في شقاق } أي فقد تبين أنهم ليسوا طالبي هدى ولا حق إذ لا أبين من دعوتكم إياهم ولا إنصاف أظهر من هذه الحجة .

والشقاق شدة المخالفة ، مشتق من الشق بفتح الشين وهو الفلق وتفريق الجسم ، وجيء بفي للدلالة على تمكن الشقاق منهم حتى كأنه ظرف محيط بهم . والإتيان بإن هنا مع أن توليهم هو المظنون بهم لمجرد المشاكلة لقوله : { فإن آمنوا } .

وفرع قوله : { سيكفيكهم الله } على قوله : { فإنما هم في شقاق } تثبيتاً للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن إعلامه بأن هؤلاء في شقاق مع ما هو معروف من كثرتهم وقوة أنصارهم مما قد يتحرج له السامع فوعده الله بأنه يكفيه شرهم الحاصل من توليهم .

والسين حرف يمحض المضارع للاستقبال فهو مختص بالدخول على المضارع وهو كحرف سوف والأصح أنه لا فرق بينهما في سوى زمان الاستقبال . وقيل إن سوف أوسع مدى واشتهر هذا عند الجماهير فصاروا يقولون سوّفه إذا ماطل الوفاء بالآخر ، وأحسب أنه لا محيص من التفرقة بين السين وسوف في الاستقبال ليكون لموقع أحدهما دون الآخر في الكلام البليغ خصوصية ثم إن كليهما إذا جاء في سياق الوعد أفاد تخفيف الوعد ومنه قوله تعالى : { قال سأستغفر لك ربي } [ مريم : 47 ] فالسين هنا لتحقيق وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه يكفيه سوء شقاقهم .

ومعنى كفايتهم كفاية شرهم وشقاقهم فإنهم كانوا أهل تعصب لدينهم وكانوا معتضدين بأتباع وأنصار وخاصة النصارى منهم ، وكفاية النبيء كفاية لأمته لأنه ما جاء لشيء ينفع ذاته .

{ وهو السميع العليم } أي السميع لأذاهم بالقول العليم بضمائرهم أي اطمئن بأن الله كافيك ما تتوجس من شرهم وأذاهم بكثرتهم ، وفي قوله : { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } وعد ووعيد .