التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ} (238)

وبعد هذا الحديث المستفيض الذي لم ينته بعد عن الطلاق وأحكامه وآدابه ، أورد القرآن آيتين كريمتين تأمران بالمحافظة على الصلاة وبالمداومة على طاعة الله ، وبالملازمة لذكره - عز وجل - فقال - تعالى :

{ حَافِظُواْ عَلَى الصلوات . . . }

لعل السر في توسط هاتين الآيتين بين أيات الأحكام التي تحدثت عن الطلاق ، والعدة والرضاع والخطبة . . . إلخ ، لعل السر في ذلك أن هذه الأمور كثيرة ما تكون مثار تنازع وتخاصم وتقاطع بين الناس ، فأراد القرآن بطريقته الحكيمة ، وبأسلوبه المؤثر أن يقول للناس : إن محافظتكم على الصلاة ، ومداومتكم على طاعة الله وذكره كل ذلك سيعرض في نفوسكم المراقبة له - سبحانه - ، والخشية من عقابه ، وسيعينكم على أن تحلوا قضاياكم التي تتعلق بالطلاق وغيره بالعدل والإِحسان والتسامح والتعاطف ، لأن من حافظ على فرائض الله وأومره ، انصرفت نفسه عن ظلم الناس ، وعاملهم معاملة كريمة حسنة . وقد بين القبرآن في كثير من آياته أن المحافظة على الصلاة بخشوع وخضوع لله - تعالى - وأن المداومة على ذكره ، والملازمة لطاعته كل ذلك من شأنه أن يمنع الإِنسان من الوقوع فيما نهى الله عنه ، قال - تعالى - : { اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } وقال - تعالى - : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } وقال - تعالى - : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } فكأن الله - تعالى - يقول للناس : لقد أمرتكم بالمحافظة على الصلاة ، وبالمداومة على طاعتي وذكري خلال حديثي عن أحكام كثيرة ما تكون هذه الأحكام مثار تنازع بينكم ، وذلك لكي تحلوا التسامح والتوال والتقارب محل التشاحن والتدابر والتجافي ، لأن من شأن المحافظة على هذه العبادات ، أن تهدي الناس إلى أكمل الأخلاق والصفات .

فسبحان من هذا كلامه ، ومن تلك إرشاداته وتوجيهاته ، ووصاياه .

وقوله - تعالى - : { حَافِظُوا } من الحفظ بمعنى ضبط الشيء ، وصيانته عن كل تضييع ، وهو خلاف النسيان . والخطاب لجميع المكلفين من أفراد الأمة .

والمعنى : حافظوا على معشر المسلمين والمسلمات على أداء الصلوات في أوقاتها بخشوع وخضوع وإخلاص لله رب العالمين ، وحافظوا بصفة خاصة على الصلاة الوسطى ، لما هلا من منزلة سامية ، ومكانة عالية .

فقد أمر الله - تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات بصفة عامة ، وأفراد الصلاة الوسطى بالذكر تفخيماً لشأنها ، وإعلاء لقدرها من بين أفراد جنسها ، والمسلم يكون محافظاً على الصلاة إذا أداها في وقتها مستوفية لآدابها وسننها وشرائعها وخشوعها وكل ما يتعلق بها ، أما إذا قصر في شيء من ذلك فإنه لا يكون محافظاً عليها تلك المحافظة التامة التي أمر الله بها .

وفي قوله - تعالى - : { حَافِظُوا } تنبيه إلى أن الصلاة في ذاتها شيء نفيس ثمين تجب المحافظة عليه ، لأن هذه الكلمية تدل على الصيانة والضبط بجانب دلالتها على الأداءؤ والإِقامة والمداومة .

قال الإِمام الرازي : وقوله : { حَافِظُوا } بصيغة المفاعلة التي تكون بين اثنين . للدلالة على أن هذه المحافظة تكون بين العبد والرب . فكأنه قيل : احفظ الصلاة ليحفظك الإِله الذي أمرك بها . وهذا كقوله : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ } وفي الحديث " احفظ الله يحفظك " أو أن تكون المحافظة بين المصلى والصلاة . فكأنه قيل : " احفظ الصلاة حتى تحفظك الصلاة بمعنى أنها تحفظك من ارتكابا المعاصي ، وتشفع لمصليها يوم القيامة "

وللعلماء أقوال في المراد بالصلاة الوسطى التي أفردها الله - تعالى - من بين الصلوات .

فجمهور العلماء يرون أنها واحدة من بين الصلوات الخمس المفروضة ، وأن الوسطى مؤنث الأوسط أي الشيء المتوسط بين شيئين ، فالصلاة الوسطى هي الصلاة المتوسطة بين صلاتين ، إلا أنهم اختلفوا في تعيينها .

فأكثر العلماء على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، لأنها تقع في وسط الصلوات الخمس ، إذ قبلها اثنتان وبعدها اثنتان ، ولأنها وسط بين صلاتي النهار ، وصلاتي الليل ، فمعنى التوسط فيها واضح ، ولأنها مظنة التقصير لمجيئها بعد وقت الظهيرة الذي يكون في الغالب وقت كسل .

وفضلا عن ذلك فقد صرحت بعض الأحاديث بأنها صلاة العصر ، وقد ساق الإِمام ابن كثير عدداً من هذه الأحاديث ومنها ما جاء في صحيح مسلم ومسند الإِمام أحمد عن علي بن أبي طالب قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً ، ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء " ، وفي مسند الإِمام أحمد عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الصلاة الوسطى صلاة العصر " .

وقد خصت صلاة العصر بمزيد من التأكيد ، وبالأمر بالمحافظة عليها ، وبالتحذير من التقصير فيها ، مما يشهد بأنها هي الصلاة الوسطى ، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " أي : سلب من أهله وماله فبقي وحيداً بدونهما .

وقال بعضهم المراد بالصلاة الوسطى صلاة الصبح ، وقيل صلاة الظهر ، وقيل صلاة المغرب ، وقيل العشاء ، وقيل الجمعة ، وقيل غير ذلك من الأقوال التي لا تبلغ في قوتها مبلغ قول القائلين بأنها صلاة العصر ، ولذا قال ابن كثير وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها ، ومعترك النزاع في الصبح والعصر ، وقد أثبتت السنة أنها العصر فتعين المصير إليها - أي إلى أن المراد بالصلاة الوسطى صلاة العصر .

ومن العلماء من اتجه في بيان المراد من الصلاة الوسطى اتجاهاً آخر فهو يرى أن المراد بالصلاة الوسطى الصلوات كلها ، وأن الوسطى ليست بمعنى المتوسطة بين صلاتين ، وإنما هي بمعنى الفضل لأن وسط الشيء خياره وأعدله وأفضله فالمقصود بها فعلها أو أداؤها بطريقة سليمة كاملة .

والمعنى على هذا الرأي : حافظوا يا معشر المسلمين على الصلوات كلها ، وحافظوا على أن يكون أداؤكم لها بطريقة وسطى أي فاضلة بأن تأدوها في أوقاتها كاملة الأركان والسنن والآداب والخشوع .

قال ابن كثير : " وقيل بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر وفي صحته نظر . والعجب أن هذا القول قد اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر إمام ما وراء البحر ، وإنها لإِحدى الكبر ، إذ اختار مع إطلاعه وحفظه ما لم يقم عليه دليل من الكتاب ولا سنة ولا أثر " .

ومن العلماء المحدثين الذين استحسنوا هذا الرأي الشيخ محمد عبده - رحمه الله - فقد قال : " ولولا أنهم اتفقوا على أنها - أي الصلاة الوسطى - إحدى الخمس لكان يتبادر إلى فهمي من قوله : " الصلاة الوسطى " أن المراد بالصلاة الفعل وبالوسطى الفضلى أي : حافظوا على أنواع الصلاة وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب وتتوجه بها النفس إلى الله - تعالى - وتخشع لذكره ، وتدبر كلامه لا صلاة المرائين ولا الغافلين " .

والذي نراه أن ما عليه الجمهور من أن الصلاة الوسطى هي واحدة من بين الصلوات الخمس ، وأنها صلاة العصر هو أقوى الآراء ، لأنه - أولا - يتفق مع أصحاب الاتجاه الثاني الذين يقولون بأن أداء الصلاة يجب أن يكون بطريقة تامة الأركان والسنن والخشوع وما قال أحد منهم بأن تحديدها بصلاة العصر ينفي أداء بقية الفرائض بكمال واطمئنان . ولأنه - ثانياً - قد امتاز عن رأي أصحاب الاتجاه الثاني بأنه أعمل النص الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، ولا شك أن إعمال النص أولى من إهماله أو من تأويله تأويلا ضعيفا .

وقوله : { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } مؤكدا لما قبله من المحافظة والمداومة على أداء الصلاة .

والقنوت : لزوم الطاعة مع الخضوع والخشوع . أي قوموا في الصلاة مطيعين لله - تعالى - مؤيدين لها على وجهها الكامل في خشوع وخضوع واطمئنان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ} (238)

221

وفي هذا الجو الذي يربط القلوب بالله ، ويجعل الإحسان والمعروف في العشرة عبادة لله ، يدس حديثا عن الصلاة - أكبر عبادات الإسلام - ولم ينته بعد من هذه الأحكام . وقد بقي منها حكم المتوفى عنها زوجها وحقها في وصية تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله ، وحكم المتاع للمطلقات بصفة عامة - يدس الحديث عن الصلاة في هذا الجو ، فيوحي بأن الطاعة لله في كل هذا عبادة كعبادة الصلاة ، ومن جنسها ، وهو إيحاء لطيف من إيحاءات القرآن . وهو يتسق مع التصور الإسلامي لغاية الوجود الإنساني في قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . واعتبار العبادة غير مقصورة على الشعائر ، بل شاملة لكل نشاط ، الاتجاه فيه إلى الله ، والغاية منه طاعة الله :

( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين . فإن خفتم فرجالا أو ركبانا . فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ) . .

والأمر هنا بالمحافظة على الصلوات ، يعني إقامتها في أوقاتها ، وإقامتها صحيحة الأركان ، مستوفية الشرائط . أما الصلاة الوسطى فالأرجح من مجموع الروايات أنها صلاة العصر لقوله [ ص ] يوم الأحزاب :

" شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر . ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا " . . وتخصيصها بالذكر ربما لأن وقتها يجيء بعد نومة القيلولة ، وقد تفوت المصلي . .

والأمر بالقنوت ، الأرجح أنه يعني الخشوع لله والتفرغ لذكره في الصلاة . وقد كانوا يتكلمون في أثناء الصلاة فيما يعرض لهم من حاجات عاجلة . حتى نزلت هذه الآية فعلموا منها أن لا شغل في الصلاة بغير ذكر الله والخشوع له والتجرد لذكره .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ} (238)

{ حافظوا على الصلوات } بالأداء لوقتها والمداومة عليها ، ولعل الأمر بها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها . { والصلاة الوسطى } أي الوسطى بينها ، أو الفضلى منها خصوصا وهي صلاة العصر لقوله عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم نارا " . وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها ، واجتماع الملائكة . وقيل صلاة الظهر لأنها في وسط النهار وكانت أشق الصلوات عليهم فكانت أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام " أفضل العبادات أحمزها " . وقيل صلاة الفجر لأنها بين صلاتي النهار والليل والواقعة في الحد المشترك بينهما ولأنها مشهودة . وقيل المغرب لأنها المتوسطة بالعدد ووتر النهار . وقيل العشاء لأنها بين جهريتين واقعتين طرفي الليل . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ : " والصلاة الوسطى العصر " ، فتكون صلاة من الأربع خصت بالذكر مع العصر لانفرادهما بالفضل . وقرئ بالنصب على الاختصاص والمدح .

{ وقوموا لله } في الصلاة . { قانتين } ذاكرين له في القيام ، والقنوت الذكر فيه . وقيل خاشعين ، وقال ابن المسيب المراد به القنوت في الصبح .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ} (238)

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ( 238 )

الخطاب لجميع الأمة ، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها وبجميع شروطها ، وذكر تعالى { الصلاة الوسطى } ثانية وقد دخلت قبل في عموم قوله { الصلوات } لأنه قصد تشريفها وإغراء المصلين بها ، وقرأ أبو جعفر أبو الرؤاسي( {[2304]} ) «والصلاةَ الوسطى » بالنصب على الإغراء ، وقرأ كذلك الحلواني( {[2305]} ) .

واختلف الناس من أي صلاة هو هذا الوصف ، فذهبت فرقة إلى أنها الصبح وأن لفظ { وسطى }( {[2306]} ) يراد به الترتيب ، لأنها قبلها صلاتا ليل يجهر فيهما ، وبعدها صلاتا نهار يسر فيهما ، قال هذا القول علي بن أبي طالب ، وابن عباس( {[2307]} ) ، وصلى( {[2308]} ) بالناس يوماً الصبح فقنت قبل الركوع فلما فرغ قال : «هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله أن نقوم فيها قانتين » ، وقاله أبو العالية ورواه عن جماعة من الصحابة ، وقاله جابر بن عبد الله وعطاء بن أبي رباح وعكرمة ومجاهد وعبد الله بن شداد بن الهادي( {[2309]} ) والربيع ومالك بن أنس . وقوى مالك ذلك بأن الصبح لا تجمع إلى غيرها ، وصلاتا جمع قبلها وصلاتا جمع بعدها( {[2310]} ) ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبْواً » ، وقال : «إنهما أشدّ الصلوات على المنافقين »( {[2311]} ) ، وفضل الصبح لأنها كقيام ليلة لمن شهدها والعتمة نصف ليلة( {[2312]} ) ، وقال الله تعالى { إن قرآن الفجر كان مشهوداً }( {[2313]} ) [ الإسراء : 78 ] ، فيقوي هذا كله أمر الصبح .

وقالت فرقة : هي صلاة الظهر . قاله زيد بن ثابت ورفع فيه حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم( {[2314]} ) . وقاله أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر . واحتج قائلوا هذه المقالة بأنها أول صلاة صليت في الإسلام ، فهي وسطى بذلك ، أي فضلى ، فليس هذا التوسط في الترتيب ، وأيضاً فروي أنها كانت أشق الصلوات على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كانت تجيء في الهاجرة ، وهم قد نفعتهم أعمالهم في أموالهم( {[2315]} ) ، وأيضاً فيدل على ذلك ما قالته حفصة وعائشة حين أملتا : حافظو على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر( {[2316]} ) ، فهذا اقتران الظهر والعصر .

وقالت فرقة : { الصلاة الوسطى } صلاة العصر لأنها قبلها صلاتا نهار وبعدها صلاتا ليل ، وروي هذا القول أيضاً عن علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وأبي سعيد الخدري ، وفي مصحف عائشة رضي الله عنها «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر » ، وهو قولها المروي عنها . وقاله الحسن البصري وإبراهيم النخعي ، وفي إملاء حفصة أيضاً «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر » ، ومن روى «وصلاة العصر » فيتناول أنه عطف ( {[2317]} )الصفتين على الأخرى وهما لشيء واحد( {[2318]} ) . كما تقول جاءني زيد الكريم والعاقل ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر » ، على البدل ، وروى هذا القول سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً » ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «كنا نرى أنها الصبح حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر .

فعرفنا أنها العصر « ، وقال البراء ابن عازب : كنا نقرأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : حافظوا على الصلوات وصلاة العصر . ثم نسخها الله ، فقرأنا : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } . فقال له رجل : فهي العصر ؟ ، قال : » قد أخبرتك كيف قرأناها وكيف نسخت( {[2319]} ) « ، والله أعلم . وروى أبو مالك الأشعري أن رسول الله صلى عليه وسلم قال : الصلاة الوسطى صلاة العصر ( {[2320]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا القول جمهور الناس وبه أقوال والله أعلم( {[2321]} ) .

وقال قبيصة بن ذؤيب : الصلاة الوسطى صلاة المغرب ، لأنها متوسطة في عدد الركعات ليست ثنائية ولا رباعية ، وأيضاً فقبلها صلاتا سر وبعدها صلاتا جهر ، وحكى أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر في شرح باب جامع الوقوت وغيره عن فرقة أن { الصلاة الوسطى } صلاة العشاء الآخرة ، وذلك انها تجيء في وقت نوم وهي أشد الصلوات على المنافقين ، ويستحب تأخيرها وذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها ، وأيضاً فقبلها صلاتان وبعدها صلاتان .

وقالت فرقة : { الصلاة الوسطى } لم يعينها الله تعالى لنا ، فهي في جملة الخمس غير معينة ، كليلة القدر في ليالي العشر ، فعَلَ الله ذلك لتقع المحافظة على الجميع ، قاله نافع عن ابن عمر وقاله الربيع بن خثيم .

وقالت فرقة : { الصلاة الوسطى } هي صلاة الجمعة فإنها وسطى فضلى ، لما خصت به من الجمع والخطبة وجعلت عيداً ، ذكره ابن حبيب ومكي .

وقال بعض العلماء : { الصلاة الوسطى } المكتوبة الخمس( {[2322]} ) ، وقوله أولاً { على الصلوات } يعم النفل والفرض ، ثم خص الفرض بالذكر ، ويجري مع هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم : شغلونا عن الصلاة الوسطى .

وقوله تعالى { وقوموا لله قانتين } معناه في صلاتكم ، واختلف الناس في معنى { قانتين } ، فقال الشعبي : » معناه مطيعين « ، وقاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير ، وقال الضحاك : كل قنوت في القرآن فإنما يعنى به الطاعة ، وقاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن أهل كل دين فهم اليوم يقومون لله عاصمين ، فقيل لهذه الأمة وقوموا لله مطيعين ، وقال نحو هذا الحسن بن أبي الحسن وطاوس ، وقال السدي : » قانتين معناه ساكتين »( {[2323]} ) ، وهذه الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة وكان ذلك مباحاً في صدر الإسلام .

وقال عبد الله بن مسعود : «كنا نتكلم في الصلاة ونرد السلام ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته » قال : «ودخلت يوماً والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس فسلمت فلم يرد عليّ أحد ، فاشتد ذلك عليَّ ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنا أمرنا أن نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة ، والقنوت السكوت ، وقاله زيد بن أرقم ، وقال : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت : { وقوموا لله قانتين } ، فأمرنا بالسكوت ، وقال مجاهد : معنى قانتين خاشعين ، القنوت طول الركوع الخشوع وغض البصر وخفض الجناح .

قال القاضي أبو محمد : وإحضار الخشية والفكر في الوقوف بين يدي الله تعالى ، وقال الربيع : القنوت طول القيام وطول الركوع والانتصاب له ، وقال قوم : القنوت الدعاء ، و { قانتين } معناه داعين ، روي معنى هذا عن ابن عباس ، وفي الحديث : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على رعل وذكوان ، فقال قوم : معناه دعا ، وقال قوم : معناه طوّل قيامه ، ولا حجة في هذا الحديث لمعنى الدعاء( {[2324]} ) .


[2304]:- هو محمد بن الحسن بن أبي سارة الكوفي النحوي، إمام مشهور، روى الحروف عن أبي عمرو، وله اختيار في القراءة يروى عنه، واختيار في الوقوف، روى عنه علي بن حمزة الكسائي، وخلاد بن خالد الصيرفي.
[2305]:- هو أحمد بن يزيد الصفار المعروف بازداذ. أبو الحسن الحلواني، إمام كبير عارف صدوق متقن ضابط خصوصا في قالون وهشام، توفي سنة 250هـ.
[2306]:- الذي تقتضيه قواعد اللغة العربية أن (الوسطى) مؤنث الأوسط بمعنى الفُضْلى مؤنث الأفضل، وأفعل التفضيل لا يبنى إلا مما يقبل الزيادة والنقصان، وكل ما لا يكون كذلك فلا يبنى منه أفعل التفضيل، وكون الشيء وسطا بين شيئين يجعله صالحاً لأن يبنى منه أفعل التفضيل، فينبغي أن يكون معنى الوسطى الفضلى، لأن ذلك يرجع إلى معنى يقبل التفاوت والتفاضل.
[2307]:- رواه الإمام مالك عنهما في الموطأ بلاغاً.
[2308]:- أي ابن عباس رضي الله عنهما. وقد تفيد (الواو) في قول ابن عطية رواية عن الإمام مالك: (وصلى) أن ابن عباس قال ذلك حين صلى بالناس يوما الصبح... الخ.
[2309]:- هو الليثي. ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أهل العلم، روى عن عمر وعلي وعن أبيه شداد.
[2310]:- قبلها صلاة المغرب والعشاء، وبعدها صلاة الظهر والعصر، وكل من الصلاتين يجمع تقديما وتأخيراً.
[2311]:- هذه الأحاديث التي تتضمن فضل صلاة العشاء والصبح غير واضحة الدلالة على أنها هي الصلاة الوسطى، والحديث الأول والثاني رواه البخاري وغيره.
[2312]:- رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والإمام مسلم.
[2313]:- من الآية (78) من سورة (الإسراء).
[2314]:- رواه ابن جرير الطبري مرفوعا، وروى مالك في موطئه، وأبو داود الطيالسي في مسنده عن زيد بن ثابت قال: (الصلاة الوسطى صلاة الظهر) زاد أبو داود الطيالسي: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهجر».
[2315]:- أي أعيتهم وأتعبتهم أعمالهم. يقال: نَفِهت نفس فلان نفها: أعْيَتْ وكلَّت. فهو نافهٌ (ج) نُفَّه.
[2316]:- يعني أن اقتران صلاة العصر بالصلاة الوسطى دلالة على أن المراد بها الظهر إذ للقرآن معنى خاص، ويأتي أن هذه الزيادة هي من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، وليست من القرآن. وقد يقال أيضا: إن هذه الزيادة ربما تدل على أن صلاة العصر غير صلاة الوسطى، لأن العطف يقتضي المغايرة، وهذا مصادم لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب.
[2317]:- حاصله أنه رُوي: «والصلاة الوسطى وصلاة العصر» بالعطف، وبدون عطف على أنها بدل، وروي أيضا: «والصلاة الوسطى وهي العصر»، والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر»، فهذه أربع روايات، وهي تتعارض فيما بينها، وحديث البراء بن عازب قد يدل على نسخ ذلك، فتأمل، وأيا ما يكون فإن ذلك من باب التفسير، وليس من القرآن في شيء لعدم تواتره، ولذا لم يثبت في المصحف الإمام.
[2318]:- فهو من عطف الصفات، لا من عطف الذوات، وكان ذلك لاختلاف اللفظين.
[2319]:- هذا الحديث رواه الإمام مسلم، وغيره. وقد عضد به ابن عطية رحمه الله القول بأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وفهمه أبو عبد الله (ق) رحمه الله على أنها مبهمة غير معينة قال: «يلزم من هذا الحديث أنها بعد أن عينت نسخ تعيينها وأُبهمت»، ثم قال: «وهذا هو الصحيح إن شاء الله لتعارض الأدلة وعدم الترجيح فلم يبق إلا المحافظة على الصلوات الخمس وأدائها في أوقاتها».
[2320]:- رواه ابن جرير، وقال الحافظ بن كثير: إسناده لا بأس به، ورواه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود، وسمرة بن جندب كما عند الترمذي في جامعه، وابن حبان في صحيحه.
[2321]:- هذا القول هو الراجح عند أهل الحديث، وهو قول الجمهور، ورجحه الإمام الطبري وأبو بكر بن العربي المعافري، وأبو محمد بن عطية، وأبو حيان الأندلسي، وشيخه الحافظ أبو محمد، وغيرهم من الأعلام، وما ذلك إلا لأنه استفاض من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، ولا قول لأحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه قد يقال: إذا كان قد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلماذا اختلف الصحابة في هذه المسألة اختلافا واسعا ؟ وقد قدمنا عن أبي عبد الله (ق) أنه صحح أنها مبهمة لتعارض الأدلة وانعدام الترجيح، والله أعلم.
[2322]:- هذا غير ما سبق من أنها في جملة الخمس غير معينة، وحاصله أن من العلماء من يقول: هي واحدة من الصلوات الخمس إلا أنها مبهمة، ومنهم من يقول: هي مجموع الصلوات الخمس ولو قال: الخمس المكتوبة لكان أوضح.
[2323]:- القنوت يتصرف في الكلام على معان كثيرة – إلا أن الراجح حمله على معنى السكوت في الآية لحديث عبد الله بن مسعود، ولحديث زيد بن أرقم في الصحيحين وغيرهما، وأما القنوت بمعنى الدعاء فقد داوم عليه صلى الله عليه وسلم في الصبح دون غيرها.
[2324]:- أي بدليل قوله: يدعو على رعل وذكوان، فلو كان قنت معناه دعا لتكرر ذلك، وإنما معناه أطال القيام للدعاء على رعل وذكوان الذين قتلوا القراء ببئر معونة. تنبيه: القيام في الفرض واجب على كل من قدر عليه فذاً كان أو إماماً، واختلفوا في المأموم إذا صلى قاعداً خلف إمام لا يستطيع القيام فقال بعضهم: إن ذلك جائز لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى جلوساً فصلوا جلوساً أجمعون). وهو الصحيح، وقال بعضهم: يجوز أن يصلي خلفه وهو قائم إذ كل منهما يؤدي فرضه على حسب طاقته، انظر تفسير (ق) رحمه الله.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ} (238)

الانتقال من غرض إلى غرض في آي القرآن لا تلزم له قوة ارتباط ، لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتب بالتبويب وتفريع المسائل بعضها على بعض ، ولكنه كتاب تذكير وموعظة فهو مجموع ما نزل من الوحي في هدى الأمة وتشريعها وموعظتها وتعليمها ، فقد يجمع به الشيء للشيء من غير لزوم ارتباط وتفرع مناسبة ، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني عقب الغرض الأول ، أو تكون الآية مأموراً بإلحاقها بموضع معين من إحدى سور القرآن كما تقدم في المقدمة الثامنة ، ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني ، أو في انسجام نظم الكلام ، فلعل آية { حافظوا على الصلوات } نزلت عقب آيات تشريع العدة والطلاق لسبب اقتضى ذلك من غفلة عن الصلاة الوسطى ، أو استشعار مشقة في المحافظة عليها ، فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد .

وإذا أبيت ألاّ تطلب الارتباط فالظاهر أنه لما طال تبيان أحكام كثيرة متوالية : ابتداء من قوله : { يسألونك ماذا ينفقون } [ البقرة : 215 ] ، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذيلت به الآية السابقة وهو قوله : { وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم } [ البقرة : 237 ] فإن الله دعانا إلى خلق حميد ، وهو العفو عن الحقوق ، ولما كان ذلك الخلق قد يعسر على النفس ، لما فيه من ترك ما تحبه من الملائم ، من مال وغيره كالانتقام من الظالم ، وكان في طباع الأنفس الشح ، علمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين ، أحدهما دنيوي عقلي ، وهو قوله : { ولا تنسوا الفضل بينكم } ، المذكر بأن العفو يقرب إليك البعيد ، ويصير العدو صديقاً وأنك إن عفوت فيوشك أن تقترف ذنباً فيعفى عنك ، إذا تعارف الناس الفضل بينهم ، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحق .

الدواء الثاني أخروي روحاني : وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فلما كانت معينة على التقوى ومكارم الأخلاق ، حث الله على المحافظة عليها .

ولك أن تقول : لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين ، عقبت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية ، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر ، قال البيضاوي : « أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج ، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها » .

وقال بعضهم : « لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله » وهو في الجملة مع الإشارة إلى أن في العناية بالصلوات أداء حق الشكر لله تعالى على ما وجه إلينا من عنايته بأمورنا التي بها قوام نظامنا وقد أومأ إلى ذلك قوله في آخر الآية { كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون } [ البقرة : 239 ] أي من قوانين المعاملات النظامية .

وعلى هذين الوجهين الآخرين تكون جملة { حافظوا على الصلوات } معترضة وموقعها ومعناها مثل موقع قوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] بين جملة { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي } [ البقرة : 40 ] . وبين جملة { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين } [ البقرة : 122 ] وكموقع جملة { يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } [ البقرة : 153 ] بين جملة { فلا تخشوهم واخشوني } [ البقرة : 150 ] الآية وبين جملة : { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات } [ البقرة : 154 ] الآية .

و { حافظوا } صيغة مفاعلة استعملت هنا للمبالغة على غير حقيقتها ، والمحافظة عليها هي المحافظة على أوقاتها من أن تؤخر عنها والمحافظة تؤذن بأن المتعلق بها حق عظيم يُخشى التفريط فيه . والمراد : الصلوات المفروضة . « وأل » في الصلوات للعهد ، وهي الصلوات الخمس المتكررة ؛ لأنها التي تُطلب المحافظة عليها .

{ والصلاة الوسطى } لا شك أنها صلاة من جملة الصلوات المفروضة لأن الأمر بالمحافظة عليها يدل على أنها من الفرائض ، وقد ذكرها الله تعالى في هذه الآية معرفة بلام التعريف وموصوفة بأنها وسطى ، فسمعها المسلمون وقرأوها ، فإما عرفوا المقصود منها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم طرأ عليهم الاحتمال بعده فاختلفوا ، وإما شغلتهم العناية بالسؤال عن مهمات الدين في حياة الرسول عن السؤال عن تعيينها لأنهم كانوا عازمين على المحافظة على الجميع ، فلما تذاكروها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم اختلفوا في ذلك فنبع من ذلك خلاف شديد أنهيت الأقوال فيه إلى نيف وعشرين قولاً ، بالتفريق والجمع ، وقد سلكوا للكشف عنها مسالك ؛ مرجعها إلى أخذ ذلك من الوصف بالوسطى ، أو من الوصاية بالمحافظة عليها .

فأما الذين تعلقوا بالاستدلال بوصف الوسطى : فمنهم من حاول جعل الوصف من الوسط بمعنى الخيار والفضل ، فرجع إلى تتبع ما ورد في تفضيل بعض الصلوات على بعض ، مثل قوله تعالى : { إن قرآن الفجر كان مشهوداً } [ الإسراء : 78 ] وحديث عائشة : " أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب " .

ومنهم من حاول جعل الوصف من الوسط : وهو الواقع بين جانبين متساويين من العدد فذهب يتطلب الصلاة التي هي بين صلاتين من كل جانب ، ولما كانت كل واحدة من الصلوات الخمس صالحة لأن تعتبر واقعة بين صلاتين ، لأن ابتداء الأوقات اعتباري ، ذهبوا يعينون المبدأ فمنهم من جعل المبدأ ابتداء النهار ، فجعل مبدأ الصلوات الخمس صلاة الصبح فقضى بأن الوسطى العصر ، ومنهم من جعل المبدأ الظهر ، لأنها أول صلاة فرضت ؛ كما في حديث جبريل في « الموطأ » ، فجعل الوسطى : المغرب .

وأما الذين تعلقوا بدليل الوصاية على المحافظة ، فذهبوا يتطلبون أشق صلاة على الناس تكثر المثبطات عنها ، فقال قوم : هي الظهر لأنها أشق صلاة عليهم بالمدينة ، كانوا أهل شغل ، وكانت تأتيهم الظهر وهم قد أتعبتهم أعمالهم ، وربما كانوا في إكمال أعمالهم ، وقال قوم : هي العشاء ؛ لما ورد أنها أثقل صلاة على المنافقين ، وقال بعضهم : هي العصر لأنها وقت شغل وعمل ؛ وقال قوم : هي الصبح لأنها وقت نوم في الصيف ، ووقت تطلب الدفء في الشتاء .

وأصح ما في هذا الخلاف : ما جاء من جهة الأثر وذلك قولان :

أحدهما أنها الصبح ، هذا قول جمهور فقهاء المدينة وهو قول عمر وابنه عبد الله وعلي وابن عباس وعائشة وحفصة وجابر بن عبد الله ، وبه قال مالك ، وهو عن الشافعي أيضاً ، لأن الشائع عندهم أنها الصبح ، وهم أعلم الناس بما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو قرينة حال .

القول الثاني : أنها العصر ، وهذا قول جمهور من أهل الحديث ، وهو قول عبد الله بن مسعود ، وروي عن علي أيضاً ، وهو الأصح عن ابن عباس أيضاً وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، ونسب إلى عائشة وحفصة والحسن ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في رواية ، ومال إليه ابن حبيب من المالكية ، وحجتهم ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومَ الخندق حين نسي أن يصلي العصر من شدة الشغل في حفر الخندق ، حتى غربت الشمس فقال : « شغلونا أي المشركون عن الصلاة الوسطى ، أضرم الله قبورهم ناراً » .

والأصح من هذين القولين أولهما لما في « الموطأ » و« الصحيحين » أن عائشة وحفصة أمَرَتا كاتبي مصحفيهما أن يكتبا قوله تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين } وأسندت عائشة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تسنده حفصة ، فإذا بطل أن تكون الوسطى هي العصر ، بحكم عطفها على الوسطى تعين كونها الصبح ، هذا من جهة الأثر .

وأما من جهة مسالك الأدلة المتقدمة ، فأفضلية الصبح ثابتة بالقرآن ، قال تعالى مخصصاً لها بالذكر { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً } [ الإسراء : 78 ] وفي الصحيح أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون عند صلاة الصبح ، وتوسطها بالمعنى الحقيقي ظاهر ، لأن وقتها بين الليل والنهار ، فالظهر والعصر نهاريتان ، والمغرب والعشاء ليليتان ، والصبح وقت متردد بين الوقتين ، حتى إن الشرع عامل نافلته معاملة نوافل النهار فشرع فيها الإسرار ، وفريضته معاملة فرائض الليل فشرع فيها الجهر .

ومن جهة الوصاية بالمحافظة عليها ، هي أجدر الصلوات بذلك لأنها الصلاة التي تكثر المثبطات عنها ، باختلاف الأقاليم والعصور والأمم ، بخلاف غيرها فقد تشق إحدى الصلوات الأخرى على طائفة دون أخرى ، بحسب الأحوال والأقاليم والفصول .

ومن الناس من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى قصد إخفاؤها ليحافظ الناس على جميع الصلوات ، وهذا قول باطل ؛ لأن الله تعالى عرَّفها باللام ووصفها فكيف يكون مجموع هذين المعرفين غير مفهوم وأما قياس ذلك على ساعة الجمعة وليلة القدر ففاسد ، لأن كليهما قد ذكر بطريق الإبهام وصحت الآثار بأنها غير معينة .

هذا خلاصة ما يعرض هنا في تفسير الآية .

وقوله تعالى : { وقوموا لله قانتين } أمر بالقيام في الصلاة بخضوع ، فالقيام الوقوف ، وهو ركن في الصلاة فلا يترك إلا لعذر ، وأما القنوت : فهو الخضوع والخشوع قال تعالى : { وكانت من القانتين } [ التحريم : 12 ] وقال : { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً } [ النحل : 120 ] وسمي به الدعاء المخصوص الذي يدعى به في صلاة الصبح أو في صلاة المغرب ، على خلاف بينهم ، وهو هنا محمول على الخضوع والخشوع ، وفي الصحيح عن ابن مسعود « كنا نسلم على رسول الله وهو يصلي فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال : إن في الصلاة لشغلاً » وعن زيد بن أرقم : كان الرجل يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت . فليس { قانتين } هنا بمعنى قارئين دعاء القنوت ، لأن ذلك الدعاء إنما سمي قنوتاً استرواحاً من هذه الآية عند الذين فسروا الوسطى بصلاة الصبح كما في حديث أنس « دعا النبي على رعل وذكوان في صلاة الغداة شهراً وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت » .