التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

أما النموذج الأول الذى جاء فى أعقاب سابقه - فقد ساقه - سبحانه - لسوء عاقبة الجاحدين ، متمثلا فى قصة قبيلة سبأ وكيف أنهم قابلوا نعم الهل بالبطر ، فمحقها - سبحانه - من بين أيديهم وفى شأنهم يقول - عز وجل - : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ . . . وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ } .

و { لِسَبَإٍ } فى الأصل اسم لرجل ، وهو : سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود ، وهو أول ملك من ملوك اليمن . .

والمراد به هنا : الحى أو القبيلة المسماة باسمه ، فيصرف على الأول ويترك صرفه على الثانى .

وكانوا يسكنون بمأْرِب باليمن ، على مسيرة ثلاثة أيام من صنعاء وكانت أرضهم مخصبة ذات بساتين وأشجار متنوعة ، وزاد خيرهم ونعيمهم بعد أن اقاموا سدا ، ليأخذوا من مياه الأمطار على قدر حاجتهم ، وكان هذا السد يعرف بسد مأرب ، ولكنهم لم يشكروا الله - تعالى - على هذه النعم ، فسلبها - سبحانه - منهم .

قال ابن كثير : كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها ، وكانت التبابعة منهم ، وبلقيس منهم ، وكانوا فى نعمة وغبطة ، وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ، ويشكروه بتوحيده وعبابدته فكانوا كذلك ما شاء الله ، ثم أرعضوا عما أمروه به ، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق فى البلاد .

أخرج الإِمام أحمد بسنده عن ابن عباس قال : " إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ : ما هو ؟ رجل أم امرأة أم أرض ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : بل هو رجل . كانله عشرة اولاد ، سكن اليمن منهم ستة ، وهم : مَذْحِجْ ، وكِنْدَه ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار ، وحِميْر . وسكن الشام منهم أربعة وهم : لَخْم ، وجُذَام ، وعامِلَةُ ، وغسَّان " .

وإنما سمى " سبأ " لأنه أول من سبأ فى العرب - أى : جمع السبايا - ، وكان يقال له الرائش ، لأنه أول من غنم فى الغزو فأعطى قومه ، فسمى الرائش ، والعرب تسمى المال - ريشا ورياشا ، وذكروا أنه بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فى زمانه المتقدم .

والمعنى : والله لقد كان لقبيلة سبأ فى مساكنهم التى يعيشون فيها { آيَةٌ } بينة واضحة ، وعلامة ظاهرة تدل على قدرة الله - تعالى - وعلى فضله على خلقه وعلى وجوب شكره على نعمه ، وعلى سوء عقابة الجاحدين لهذه النعم .

فالمراد بالآية : العلامة الواضحة الدالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته وبديع صنعه ، ووجوب شكره ، والتحير من معصيته .

ثم وضح - سبحانه - هه الآية فقال : { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أى : كانت لأهل سبأ طائفتان من البساتين والجنان : طائفة من يمين بلدهم ، وطائفة أخرى عن شماله .

وهذه البساتين المحيطة بهم كانت زاخرة بما لذ وطاب من الثمار .

قالوا : كانت المرأة تمشى تحت أشجار تلك البساتين وعلى رأسها المكتل ، يمتلئ من أنواع الفواكه التى تتساقط فى مكتلها دون جهد منها .

ولفظ { جَنَّتَانِ } مرفوع على البدل من { آيَةٌ } أو على أنه مبتدأ ، وخبره قوله : { عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } .

وقوله - تعالى - : { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ .

. } مقول لقول محذوف .

أى : وقلنا لهم على ألسنة رسلنا ، وعلى ألسنة الصالحين منهم ، كلوا من الأرزاق الكريمة ، والثمار الطيبة ، التى أنعم بها ربكم عليكم ، واشكروا له - سبحانه - هذا العطاء ، فإنكم إذا شكرتموه زادكم من فضله وإحسانه .

وقوله : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } كلام مستأنلف لبيان موجبات الشكر .

أى : هذه البلدة التى تسكنونها بلدة طيبة لاشتمالها على كل ما تحتاجونه من خيرات ، وربكم الذى أعطاكم هذه النعم ، رب واسع المغفرة والرحمة لمن تاب إليه وأناب ، ويعفو عن كثير من ذنوب عباده بفضله وإحسانه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

10

وفي قصة آل داود تعرض صفحة الإيمان بالله والشكر على أفضاله وحسن التصرف في نعمائه . والصفحة المقابلة هي صفحة سبأ . وقد مضى في سورة النمل ما كان بين سليمان وبين ملكتهم من قصص . وهنا يجيء نبؤهم بعد قصة سليمان . مما يوحي بأن الأحداث التي تتضمنها وقعت بعد ما كان بينها وبين سليمان من خبر .

يرجح هذا الفرض أن القصة هنا تتحدث عن بطر سبأ بالنعمة وزوالها عنهم وتفرقهم بعد ذلك وتمزقهم كل ممزق . وهم كانوا على عهد الملكة التي جاء نبؤها في سورة النمل مع سليمان في ملك عظيم ، وفي خير عميم . ذلك إذ يقص الهدهد على سليمان : ( إني وجدت امرأة تملكهم ، وأوتيت من كل شيء ، ولها عرش عظيم . وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ) . . وقد أعقب ذلك إسلام الملكة مع سليمان لله رب العالمين . فالقصة هنا تقع أحداثها بعد إسلام الملكة لله ؛ وتحكي ما حل بهم بعد إعراضهم عن شكره على ما كانوا فيه من نعيم .

وتبدأ القصة بوصف ما كانوا فيه من رزق ورغد ونعيم ، وما طلب إليهم من شكر المنعم بقدر ما يطيقون :

( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال . كلوا من رزق ربكم واشكروا له . بلدة طيبة ورب غفور ) . .

وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوبي اليمن ؛ وكانوا في أرض مخصبة ما تزال منها بقية إلى اليوم . وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تأتيهم من البحر في الجنوب والشرق ، فأقاموا خزاناً طبيعياً يتألف جانباه من جبلين ، وجعلوا على فم الوادي بينهما سداً به عيون تفتح وتغلق ، وخزنوا الماء بكميات عظيمة وراء السد ، وتحكموا فيها وفق حاجتهم . فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم . وقد عرف باسم : " سد مأرب " .

وهذه الجنان عن اليمين والشمال رمز لذلك الخصب والوفرة والرخاء والمتاع الجميل ، ومن ثم كانت آية تذكر بالمنعم الوهاب . وقد أمروا أن يستمتعوا برزق الله شاكرين :

( كلوا من رزق ربكم واشكروا له ) . .

وذكروا بالنعمة . نعمة البلد الطيب وفوقها نعمة الغفران على القصور من الشكر والتجاوز عن السيئات .

( بلدة طيبة ورب غفور ) . .

سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء . وسماحة في السماء بالعفو والغفران . فماذا يقعدهم عن الحمد والشكران ? ولكنهم لم يشكروا ولم يذكروا :

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

{ لقد كان لسبأ } لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ومنع الصرف عنه ابن كثير وأبو عمرو لأنه صار اسم القبيلة ، وعن ابن كثير قلب همزته ألفا ولعله أخرجه بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب . { في مساكنهم } في مواضع سكناهم ، وهي باليمن يقال لها مأرب . بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث أيام ، وقرأ حمزة وحفص بالإفراد والفتح ، والكسائي بالكسر حملا على ما شذ من القياس كالمسجد والمطلع . { آية } علامة دالة على وجود الصانع المختار ، وانه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن والمسيء معاضدة للبرهان السابق كما في قصتي داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام . { جنتان } بدل من { آية } أو خبر محذوف تقديره الآية جنتان ، وقرئ بالنصب على المدح والمراد جماعتان من البساتين . { عن يمين وشمال } جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله كل واحدة منهما في تقاربها وتضامنها كأنها جنة واحدة ، أو بستانا كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله . { كلوا من رزق ربكم واشكروا له } حكاية لما قال لهم نبيهم ، أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك . { بلدة طيبة ورب غفور } استئناف للدلالة على موجب الشكر ، أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم وطلب شركركم رب غفور فرطات من يشكره . وقرئ الكل بالنصب على المدح . قيل كانت أخصب البلاد وأطيبها لم يكن فيها عاهة ولا هامة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

هذا مثل لقريش بقوم أنعم الله عليهم وأرسل إليهم الرسل فكفروا وعصوا ، فانتقم الله منهم ، أي فأنتم أيها القوم مثلهم و { سبأ } هنا أراد به القبيل ، واختلف لم سمي القبيل بذلك ، فقالت فرقة هو اسم لامرأة كانت أماً للقبيل ، وقال الحسن بن أبي الحسن في كتاب الرماني هو اسم موضع فسمي القبيل به وقال الجمهور هو اسم رجل هو أبو القبيل كله قيل هو ابن يشجب بن يعرب ، وروي في هذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فروة بن مسيك{[9627]} عن { سبأ } فقال : هو اسم رجل منه تناسلت قبائل اليمن{[9628]} .

وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر وشيبة والأعرج «لسبإ » بهمزة منونة مكسورة على معنى الحي ، وقرأ أبو عمرو والحسن «لسبأ » بهمزة مفتوحة غير مصروف على معنى القبيلة ، وقرأ جمهور القراء «في مساكنهم » لأن كل أحد له مسكن ، وقرأ الكسائي وحده «في مسكِنهم » بكسر الكاف أي في موضع سكناهم وهي قراءة الأعمش وعلقمة ، قال أبو علي والفتح حسن أيضاً لكن هذا كما قالوا مسجد وإن كان سيبويه يرى هذا اسم البيت وليس موضع السجود . قال هي لغة الناس اليوم ، والفتح هي لغة الحجاز وهي اليوم قليلة ، وقرأ حمزة وحفص «مسكَنهم » بفتح الكاف على المصدر وهو اسم جنس يراد به الجمع ، وهي قراءة إبراهيم النخعي وهذا الإفراد هو كما قال الشاعر : [ الوافر ]

كلوا في بعض بطنكم تعفوا . . .

وكما قال الآخر : [ البسيط ]

قد عض أعناقهم جلد الجواميس{[9629]} . . .

و{ آية } معناها عبرة وعلامة على فضل الله وقدرته ، و { جنتان } ابتداء وخبره في قوله عن { يمين وشمال }{[9630]} أو خبر ابتداء تقديره هي جنتان ، وهي جملة بمعنى هذه حالهم والبدل من { آية } ضعيف ، وقد قاله مكي وغيره ، وقرأ ابن أبي عبلة «آية جنتين » بالنصب ، وروي أنه كان في ناحية اليمن واد عظيم بين جبلين وكانت جنتا الوادي منبت فواكه وزروع وكان قد بني في رأس الوادي عند أول الجبلين جسر عظيم من حجارة من الجبل إلى الجبل فارتدع الماء فيه وصار بحيرة عظيمة ، وأخذ الماء من جنبتيها فمشى مرتفعاً يسقي جنات جنتي الوادي ، قيل بنته بلقيس ، وقيل بناه حمير أبو القبائل اليمينة كلها ، وكانوا بهذه الحال في أرغد نعم ، وكانت لهم بعد ذلك قرى ظاهرة متصلة من اليمن إلى الشام ، وكانوا أرباب تلك البلاد في ذلك الزمان ، وقوله { كلوا } فيه حذف كأنه قال قيل لهم كلوا ، و { طيبة } معناه كريمة التربة حسنة الهواء رغدة من النعم سليمة من الهوام والمضار هذه عبارات المفسرين ، وكان ذلك الوادي فيما روي عن عبد الرحمن بن عوف لا يدخله برغوث لا قملة ولا بعوضة ولا عقرب ولا شيء من الحيوان الضار ، وإذا جاء به أحد من سفر سقط عند أول الوادي ، وروي أن الماشي بمكتل{[9631]} فوق رأسه بين أشجاره يمتلي مكتله دون أن يمد يداً ، وروي أن هذه المقالة من الأمر بالأكل والشرب والتوقيف على طيب البلدة وغفران الرب مع الإيمان به هو من قيل الأنبياء لهم ، وقرأ رؤيس عن يعقوب «بلدةً طيبةً ورباً غفوراً » بالنصب في الكل .


[9627]:هو فروة بن مسيك-بالسين مصغرا- المرادي، ثم الغطيفي- بمعجمة مصغرا-، صحابي سكن الكوفة، يكنى أبا عمير، واستعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(تقريب التهذيب).
[9628]:أخرجه أحمد، عبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن فروة بن مسيك المرادي رضي الله عنه،قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن بمن أقبل منهم؟ فأذن لي في قتالهم وأمرني، فلما خرجت من عنده سأل عني:(ما فعل الغطيفي؟ فأُخبر أني قد سرت، قال: فأرسل في أثري فردني، فأتيته وهو في نفر من أصحابه، فقال:(ادع القوم، فمن أسلم منهم فاقبل منه، ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك)، قال: وأنزل في سبأ ما أنزل؛ فقال رجل: يا رسول الله: وما سبأ؟ أرض أو امرأة؟ قال:(ليس بأرض ولا بامرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتايمن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحِمير وكندة ومذحج وأنمار)، فقال رجل: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال:(الذين منهم خثعم وبجيلة).(فتح القدير، والدر المنثور).
[9629]:هذا عجز بيت سبق الاستشهاد به على أن(سبأ) تكون ممنوعة من الصرف على أنها اسم قبيلة من اليمن، وسبب المنع من الصرف هو العلمية والتأنيث، ويمكن ملاحظة الأصل، وهو أنها اسم أبي القبيلة، فهو مذكر، ولهذا يجوز صرفه، والبيت بتمامه: الوارد وتيم في ذرى سبأ قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس أما الشاهد هنا فهو استعمال المفرد والمراد به الجمع، فقد قال:"جلد الجواميس"، والمراد:"جلود الجواميس"، وهي التي تؤخذ منها القيود التي يربطون بها عند الأسر.(راجع الجزء الحادي عشرص191، هامش1).
[9630]:قال أبو حيان:"ولا يظهر؛ لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها، إلا إن اعتقد أن ثمة صفة محذوفة، أي:جنتان لهم، أو: جنتان عظيمتان، وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام مفلتا مما قبله".
[9631]:المِكتل والمِكتلة: الزّبيل الذي يحمل فيه التمر والعنب إلى الجرين، وفي حديث الظِهار أنه أُتي بمكتل من تمر، وهو بكسر الميم، كأن فيه كتلا من التمر، أي قطعا مجتمعة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

جرَّ خبرُ سليمان عليه السلام إلى ذكر سبأ لما بين مُلك سليمان وبين مملكة سبأ من الاتصال بسبب قصة « بلقيس » ، ولأن في حال أهل سبأ مضادة لأحوال داود وسليمان ، إذ كان هذان مثلاً في إسباغ النعمة على الشاكرين ، وكان أولئك مثلاً لسلب النعمة عن الكافرين ، وفيهم موعظة للمشركين إذ كانوا في بحبوحة من النعمة فلما جاءهم رسول من المُنعِم عليهم يذكرهم بربهم ويوقظهم بأنهم خاطئون إذ عبدوا غيره ، كذّبوه وأعرضوا عن النظر في دلالة تلك النعمة على المنعِم المتفرد بالإلهية .

وقال ابن عطية عند الكلام على قوله تعالى : { ولقد آتينا داود منا فضلاً } [ سبأ : 10 ] « لمّا فرغ التمثيل لمحمد صلى الله عليه وسلم رجع التمثيل لهم ( أي للمشركين أي لحالهم ) بسبإ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتوّ » اهـ . فهذه القصة تمثيل أمة بأمة ، وبلاد بأخرى ، وذلك من قياس وعبرِه . وهي فائدة تدوين التاريخ وتقلبات الأمم كما قال تعالى : { ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللَّه فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون } [ النحل : 112 ، 113 ] فسوَق هذه القصة تعريض بأشباه سبأ . والمعنى : لقد كان لسبأ في حال مساكنهم ونظام بلادهم آية . والآية هنا : الأمارة والدلالة بتبدل الأحوال وتقلب الأزمان ، فهي آية على تصرف الله ونعمته عليهم فلم يهتدوا بتلك الآية فأشركوا به ، وقد كان في إنعامه عليهم ما هو دليل على وجوده ثم على وحدانيته .

والتأكيد بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين بالتعريض بهذه القصة منزلةَ من يتردد في ذلك لعدم اتعاظهم بحال قوم من أهل بلادهم ، وتجريد { كان } من تأنيث الفعل لأن اسمها غير حقيقي للتأنيث ولوقوع الفصل بالمجرور .

واللام في { لسبأ } متعلق ب { آية } . والمساكن : البلاد التي يسكنونها بقرينة قوله : { جنتان عن يمين وشمال } والمساكن : ديار السكنى . وتقدم الكلام على سبأ عند قوله : { وجئتك من سبأ } في سورة النمل ( 22 ) .

واسم سبأ يطلق على الأمة كما هنا وعلى بلادهم كما في آية النمل وتقدم تفصيله .

وقرأ الجمهور { في مساكنهم } بصيغة جمع مسكن . وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف بلفظ المفرد { في مسكنهم } إلا أن حمزة وحفصاً فتَحَا الكاف ، والكسائي وخلف كسرا الكاف وهو خارج عن القياس لأنه مضارع غير مكسور العين فحق اسم المكان منه فتح العين . وشذ نحو قولهم : مسجد لبيت الصلاة .

و { جنتان } بدل من { آية } باعتبار تكملته بما اتصل به من المتعلق والقول المقدر .

و { جنتان } تشبيه بليغ ، أي في مساكنهم شبيه جنتين في أنه مغترس أشجاراً ذاتتِ ثمر متصل بعضها ببعض مثل ما يعرف من حال الجنات ، وتثنية جنتين باعتبار أن ما على يمين السَّائر كجنة ، وما على يسَاره كجنة .

وقيل : كان لكل رجل منهم في مَسكنه ، أي داره جنتان جنة عن يمين المسكن وجنة عن شماله فكانوا يتفيؤون ظِلالهما في الصباح والمساء ويجتنون ثمارهما من نخيل وأعناب وغيرها ، فيكون معنى التركيب على التوزيع ، أي : لكل مسكن جنتان ، كقولهم : ركِب القومُ دوابهم ، وهذا مناسب لقوله : { في مساكنهم } دون أن يقول في بلادهم ، أو ديارهم ، ويجوز أن يكون المراد أن مدينتهم وهي مأرب كانت محفوفة على يمينها وشمالها بغابة من الجنات يصطافون فيها ويستثمروها مثل غوطة دمشق ، وهذا يناسب قوله بعدُ { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } [ سبأ : 16 ] لأن ظاهره أن المبدل به جنتان اثنتان ، إلا أن تجعله على التوزيع من مقابلة المتعدد بالمتعدد .

والمعنى : أنهم كانوا أهل جنّات مغروسة أشجاراً مثمرة وأعناباً .

وكانت مدينتهم مأرب ( بهمزة ساكنة بعد الميم ) وهي بين صنعاء وحضرموت ، قبل ، كان السائر في طرائقها لو وضع على رأسه مكتلاً لوجده قد ملىء ثماراً مما يسقط من الأشجار التي يسير تحتها . ولعل في هذا القول شيئاً من المبالغة إلا أنها تؤذن بوفرة . وكان ذلك بسبب تدبير ألهمهم الله إياه في اختزان المياه النازلة في مواسم المطر بما بنوا من السد العظيم في مأرب .

وجملة { كلوا من رزق ربكم } مقول قول إما من دلالة لسان الحال كما في قوله :

امتلأ الحوض وقال قَطْني

وإما أُبلغوه على ألسنة أنبياء بعثوا منهم ، قيل : بعث فيهم اثنا عشر نبيئاً ، أي مثل تُبع أسعد ، فقد نقل أنه كان نبيئاً كما أشار إليه قوله تعالى : { وقوم تبع } [ ق : 14 ] أو غيره ، قال تعالى : { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [ غافر : 78 ] ، أو من غيرهم مما قاله سليمان بلقيس أو مما قاله الصالحون من رسل سليمان إلى سبأ ، وفي جعل { جنتان } في نظم الكلام بدلاً عن آية كناية عن طيب تربة بلادهم . قيل : كانوا يزرعون ثلاث مرات في كل عام .

والطيِّبة : الحسنة في جنسها الملائمة لمزاولها ومستثمرها قال تعالى : { وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف } [ يونس : 22 ] وقال : { فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] وقال : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } [ الأعراف : 58 ] وقال : { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } [ آل عمران : 38 ] . وفي حديث أبي طلحة في صدقته بحائط ( بئرحاء ) : « وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب » . والطيّب ضد الخبيث قال تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } [ النساء : 2 ] وقال : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] .

واشتقاقه من الطِيب بكسر الطاء بوزن فِعْل وهو الشيء الذي تعبق منه رائحة لذيذة .

وجملة { بلدة طيبة } من تمام القول وهي مستأنفة في الكلام المقول ، أي بلدةٌ لكم طيبة ، وتنكير { بلدة } للتعظيم . و { بلدة } مبتدأ و { طيبة } نعت ل { بلدة } ، وخبره محذوف ، تقديره : لكم ، وعُدل عن إضافة { بلدة } إلى ضميرهم لتكون الجملة خفيفة على اللسان فتكون بمنزلة المثَل .

وجملة { ورب غفور } عطف على جملة { بلدة طيبة } .

وتنكير { رب } للتعظيم . وهو مبتدأ محذوف الخبر على وزان { بلدة طيبة } ، والتقدير : ورب لكم ، أي ربكم غفور .

والعدول عن إضافة { رب } لضمير المخاطبين إلى تنكير { رب } وتقديرِ لام الاختصاص لقصد تشريفهم بهذا الاختصاص ولتكون الجملة على وزان التي قبلها طلباً للتخفيف ولتحصل المزاوجة بين الفقرتين فتسيرا مسير المثل .

ومعنى { غفور } : متجاوز عنكم ، أي عن كفرهم الذي كانوا عليه قبل إيمان ( بلقيس ) بدين سليمان عليه السلام ، ولا يُعلم مقدار مدة بقائهم على الإِيمان .