ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما تناجوا به فيما بينهم ، بعد أن وضح موقفهم وضوحا صريحا حاسما ، وبعد أن أعلنوا كلمة التوحيد بصدق وقوة . . فقال - تعالى - : { وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله فَأْوُوا إِلَى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } .
و " إذ " يبدو أنها هنا للتعليل . والاعتزال : تجنب الشئ سواء أكان هذا التجنب بالبدن أم بالقلب . و " ما " فى قوله { وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } اسم موصول فى محل نصب معطوف على الضمير فى قوله { اعتزلتموهم } وقوله : { إلا الله } استثناء متصل ، بناء على أن القوم كانوا يعبدون الله - تعالى - ويشكرون معه فى العبادة الأصنام . و " من " قالوا إنها بمعنى البدلية .
وقوله : { مرفقاً } من الارتفاق : بمعنى الانتفاع ، وقرأ نافع وابن عامر مرفقا - بفتح الميم وكسر الفاء .
ولقد تبين الطريقان ، واختلف المنهجان . فلا سبيل إلى الالتقاء ، ولا للمشاركة في الحياة . ولا بد من الفرار بالعقيدة . إنهم ليسوا رسلا إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها ، ويتلقوا ما يتلقاه الرسل . إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر ، ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها ، وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويراوردهم ، ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله . والأرجح أن أمرهم قد كشف . فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم إلى الله ، وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة . وقد أجمعوا أمرهم فهم يتناجون بينهم :
( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون - إلا الله - فأووا إلى الكهف ، ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيء لكم من أمركم مرفقا ) . .
وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة . فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم ، ويهجرون ديارهم ، ويفارقون أهلهم . ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة . هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم . هؤلاء يستروجون رحمة الله . ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة . ( ينشر لكم ربكم من رحمته ) ولفظة ( ينشر ) تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح . فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها ، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء . . إن الحدود الضيقة لتنزاح ، وإن الجدران الصلدة لترق ، وإن الوحشة الموغلة لتشف ، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق .
وما قيمة الظواهر ? وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضية ? إن هنالك عالما آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان ، المأنوس بالرحمن . عالما تظلله الرحمة والرفق والاطمئنان والرضوان .
ويسدل الستار على هذا المشهد . ليرفع على مشهد آخر والفتية في الكهف وقد ضرب الله عليهم النعاس .
{ وإذ اعتزلتموهم } خطاب بعضهم لبعض . { وما يعبدون إلا الله } عطف على الضمير المنصوب ، أي وإذا اعتزلتم القوم ومعبوديهم إلا الله ، فإنهم كانوا يعبدون الله ويبعدون الأصنام كسائر المشركين . ويجوز أن تكون { ما } مصدرية على تقدير وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله ، وأن تكون نافية على أنه إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضين بين { إذ } وجوابه لتحقيق اعتزالهم . { فأووا إلى الكهف ينشُر لكم ربكم } يبسط الرزق لكم ويوسع عليكم . { من رحمته } في الدارين . { ويهيّئ لكم من أمركم مِرفقاً } ما ترتفقون به أي تنتفعون ، وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة وثوقهم بفضل الله تعالى ، وقرأ نافع وابن عامر { مرفقا } بفتح الميم وكسر الفاء وهو مصدر جاء شاذاً كالمرجع والمحيض فإن قياسه الفتح .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.