ثم أخذ - سبحانه - في بيان جانب من حكمة خلق آدم ، وجعله خليفة في الأرض ، بعد أن أجاب الملائكة على سؤالهم بالجواب المناسب الحكيم ، فقال - تعالى - : { وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
علم : من التعليم وهو التعريف بالشيء . وآدم : اسم لأبي البشر ، قيل إنه عبراني مشتق من أدمه ، وهي لغة عبرانية معناها التراب ، كما أن " حواء " كلمة عبرانية معناها " حي " وسميت بذلك لأنها تكون أم الأحياء .
و { الأسمآء } جمع اسم ، والاسم ما يكون علامة على الشيء ، وتأكيد الأسماء بلفظ " كلها " في أنه علمه أسماء كل ما خلق من المحدثات من إنسان وحيوان ودابة ، وطير ، وغير ذلك .
ويصح حمل الأسماء على خواص الأشياء ومنافعها ، فإن الخواص والمنافع علامات على ما تتعلق به من الحقائق .
وقوله : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة } عرض الشيء : إظهاره وإبانته والضمير في { عَرَضَهُمْ } يعود على المسميات ، وهي مفهومة من قوله : { الأسمآء كُلَّهَا } إذ الأسماء لابد لها من مسميات ، فإذا أجرى حديث عن الأسماء حضر في ذهن السامع ما هو لازم لها ، أعني المسميات .
ودل على المسميات بضمير جمع الذكور العقلاء فقال : { عَرَضَهُمْ } ولم يقل عرضها ، لأن في جملة هذه المسميات أنواعاً من العقلاء : كالملائكة ، والإِنس ، ومن الأساليب المعروفة بين فصحاء العرب تغليب الكامل على الناقص ، فإذا اشتركا في نحو الجمع أو التثنية أتى بالجمع أو التثنية على ما يطلق حال الكامل منهما .
والأمر في قوله : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء } ، ليس من قبيل الأوامر التي يقصد بها التكليف ، أي : طلب الإِِتيان بالمأمور به ، وإنما هو وارد على جهة إفحام المخاطب بالحجة .
والمعنى : أن الله - تعالى - ألهم آدم ومعرفة ذوات الأشياء التي خلقها في الجنة ، ومعرفة أسمائها ومنافعها ، ثم عرض هذه المسميات على الملائكة . فقال لهم على سبيل التعجيز : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فيما اختلج في خواطركم من أنى لا أخلق خلقاً إلا وأنتم أعلم منه وأفضل .
قال ابن جرير : " وفي هذه الآيات العبرة لمن اعتبر والذكرى لمن ذكر ، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، عما أودع الله في هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن ، وذلك أن الله - تعالى - احتج فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم على من كان بين ظهرانيه من يهود بني إسرائيل ، بإطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن - تعالى - أطلع عليها من خلقه إلا خاصا ، ولم يكن مدركا علمه إلا بالإِنباء والإِخبار ليقرر عندهم صدق نبوته ، ويعلموا أن ما أتاهم به إنما هو من عند الله " .
( وعلم آدم الأسماء كلها ، ثم عرضهم على الملائكة ، فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . ) . .
ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - نشهد ما شهده الملائكة في الملأ الأعلى . . ها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري ، وهو يسلمه مقاليد الخلافة . سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات . سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها - وهي ألفاظ منطوقة - رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة . وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض . ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى ، لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات ، والمشقة في التفاهم والتعامل ، حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه . . الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة ! الشأن شأن جبل . فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل ! الشأن شأن فرد من الناس فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس . . . إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة ! وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات .
فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية ، لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم . ومن ثم لم توهب لهم . فلما علم الله آدم هذا السر ، وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء . لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للأشياء والشخوص . .
{ وعلم آدم الأسماء كلها } إما بخلق علم ضروري بها فيه ، أو إلقاء في روعه ، ولا يفتقر إلى سابقة اصطلاح ليتسلسل والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالبا ، ولذلك يقال علمته فلم يتعلم . و{ آدم } اسم أعجمي كآزر وشالخ ، واشتقاقه من الأدمة أو الأدمة بالفتح بمعنى الأسوة ، أو من أديم الأرض لما روي عنه عليه الصلاة والسلام " أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها فخلق منها آدم " فلذلك يأتي بنوه أخيافا ، أو من الأدم أو الأدمة بمعنى الألفة ، تعسف كاشتقاق إدريس من الدرس ، ويعقوب من العقب ، وإبليس من الإبلاس . والاسم باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن مع الألفاظ والصفات والأفعال ، واستعماله عرفا في اللفظ الموضوع لمعنى سواء كان مركبا أو مفردا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما . واصطلاحا : في المفرد الدال على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة . والمراد في الآية إما الأول أو الثاني وهو يستلزم الأول ، لأن العلم بألفاظ من حيث الدلالة متوقف على العلم بالمعاني ، والمعنى أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة ، مستعدا لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات ، والمتخيلات والموهومات . وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها .
{ ثم عرضهم على الملائكة } الضمير فيه للمسميات المدلول عليها ضمنا إذ التقدير أسماء المسميات ، فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه وعوض عنه اللام كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شيبا } لأن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الأشياء سيما إن أريد به الألفاظ ، والمراد به ذوات الأشياء ، أو مدلولات الألفاظ ، وتذكيره ليغلب ما اشتمل عليه من العقلاء ، وقرئ عرضهن وعرضها على معنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها .
{ فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء } تبكيت لهم وتنبيه على عجزهم عن أمر الخلافة ، فإن التصرف والتدبير إقامة المعدلة قبل تحقق المعرفة ، والوقوف على مراتب الاستعدادات وقدر الحقوق محال ، وليس بتكليف ليكون من باب التكليف بالمحال ، والإنباء : إخبار فيه إعلام ، ولذلك يجري مجرى كل واحد منهما .
{ إن كنتم صادقين } في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة لعصمتكم ، أو أن خلقهم واستخلافهم وهذه صفتهم لا يليق بالحكيم ، وإن لم يصرحوا به لكنه لازم مقالهم . والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه قد يتطرق إليه بفرض ما يلزم مدلوله من الأخبار ، وبهذا الاعتبار يعتري الإنشاءات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.