وبعد أن بين - سبحانه - جانباً من قبائح اليهود ونقضهم لمواثيقهم عقب ذلك ببيان حال النصارى فقال - تعالى - :
{ وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا . . . }
قوله - تعالى - : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } معطوف على قوله قبل ذلك : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ } ونسب - سبحانه - تسميتهم نصارى إلى أنفسهم فقال : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } جمع نصران كندامى جمع ندمان ، ولم يستعمل نصران إلا بياء النسب . وقد صارت كلمة نصراني لكل من اعتنق المسيحية .
وقد سموا بذلك لدعواهم أنهم أنصار عيسى على أعدائهم . أو نسبة إلى بلدة الناصرة التي فيها نشأ عيسى - عليه السلام - وأعلن دعوته للناس .
والمعنى : وكما أخذنا على بني إسرائيل الميثاق بأن يعبدوا الله وحده ويطيعوا أنبياءه ، ويستجيبوا لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي بشرت به الكتب السماوية ، فقد أخذنا - أيضاً - من الذين قالوا إنا نصارى الميثاق بذلك ، ولكنهم كان شأنهم في الكفر ونقض العهود كشأن اليهود ، إذ ترك هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى قدراً كبيراً ، ونصيباً عظيما مما ذكروا به على لسان عيسى عليه السلام - فقد أمرهم بتوحيد الله ، وبشرهم بظهور رسول من بعده هو محمد صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإِيمان به ، ولكنهم استحبوا الكفر على الإِيمان ، فكان دأبهم كدأب بني إسرائيل في العناد والضلال .
ونسب - سبحانه - تسميتهم نصارى إلى أنفسهم فقال : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } ولم يقل : " ومن النصارى " للإِشارة إلى أن ادعاءهم النصرانية وهي الدين الذي جاء به عيسى . إنما هو قول يقولونه بافواههم دون أن يتبعوه بقلوبهم إذ لو كانوا متبعين حقاً لما جاء به عيسى عليه السلام - لأقروا لله - تعالى - بالوحدانية ولآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى - عليه السلام - .
وإلى هذا المعنى أشار - صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : فهلا قيل : ومن النصارى ؟
قلت : لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله ، وهم الذين قالوا لعيسى : نحن أنصار الله . ثم اختلفوا بعد : نسطورية ، ويعقوبية ، وملكانية ، أنصاراً للشيطان .
وقوله - تعالى : { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } بيان لما حدث منهم بعد أخذ الميثاق .
أي : أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم على أن يعبدوا الله وحده ويطيعوا أنبياءه ورسله ولكنهم لم يكونوا أوفياء بعهودهم ، بل تركوا نصيباً كبيرا مما أمروا بفعله ومما ذكروا به على لسان المسيح عيسى بن مريم . والمراد بالنسيان هنا الترك والإِهمال عن تعمد وقصد ، لأن الناسي حقيقة لا يؤاخذه الله - تعالى - :
والإِتيان بالفاء في قوله : { فَنَسُواْ } للإشارة إلى أن تركهم لما أخذ عليهم من ميثاق ، كان عن تعجل وعدم تمهل بسبب استيلاء الأهواء والشهوات على نفوسهم .
والتنكير في قوله تعالى : { حَظّاً } للتهويل والتكثير .
أي تركوا نصيباً كبيراً مما أمرتهم به شريعتهم من وجوب ابتاعهم للحق وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم عن ظهوره " فكان تركهم لهذا النصيب العظيم مما ذكروا به سببا في ضلالهم وسوء عاقبتهم " .
قال بعضه العلماء : " وسبب نسيان حظ أي نصيب كبير مما ذكروا به ، هو اضطهاد النصارى اضطهاداً شديداً في عهد الرومان حتى ضاعت كتبهم ولم يعرف شيء منها إلا قليل غير سليم بعد مائتي سنة من ترك المسيح هذه الدنيا . وما ظهرت هذه الأناجيل التي يتدارسونها - ولا يزالون يغيرون ويبدلون فيها على حسب الطبعات المختلفة - إلا بعد أن دخل قسطنطين أمبراطور الرومان في المسيحية ، وغير وبدل في مجمع نيقية الذي انقعد في سنة 325 ميلادية .
وقد ذهب لب الديانة وهو التوحيد .
وقوله : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } وعيد شديد لهم بسبب تركهم لما أرشدوا إليه ، ولما ذكروا به .
فالفاء في قوله - تعالى - { فَأَغْرَيْنَا } للسبيبة وأغرينا أي : ألقينا وهيجنا وألصقنا . يقال : أغريت فلانا بكذا حتى أغرى به ، أي : ألزمته به وألصقته وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلتصق به الشيء .
وقوله : { بينهم } ظرف لأغرينا . والضمير فيه يعود إلى فرق النصارى المتعددة عند جمهور المفسرين .
والمعنى : بسبب ترك هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى لما ذكروا به فرقناهم شيعاً وأحزاباً وجعلنا كل فرقة منهم تعادي الأخرى وتبغضها إلى يوم القيامة .
ويرى بعضهم أن الضمير في قوله : { بينهم } تعود إلى اليهود والنصارى ، فيكون المعنى :
بسبب ما عليه الطائفتان من عناد وضلال ، ألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، فهم في عداوة شديدة ، وكراهية مستحكمة .
وقد رجح ابن جرير عودة الضمير إلى فرق النصارى فقال :
وأولى التأويلين بالآية عندي : ما قاله الربيع بن أنس وغيره . وهو أن المعنى بالإِغراء بينهم : النصارى في هذه الآية خاصة وأن الهاء والميم عائدتان على النصارى ، دون اليهود ، لأن ذكر الإِغراء في خبر الله عن النصارى بعد تقضى خبره عن اليهود ، وبعد ابتداء خبره عن النصارى ، فلأن يكون ذلك معنياً به النصارى خاصة . أولى من أن يكون معنيا به الحزبان جميعا لام ذكرناه .
وقال ابن كثير : قوله - تعالى - : { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } أي : فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا ، ولا يزالون كذلك إلى يوم قيام الساعة . وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها فالملكانية تكفر اليعقوبية ، وكذلك الآخرون . وكذلك النسطورية الآريوسية كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقود الأشهاد .
والذي تطمئن إليه النفس أن قوله - تعالى - { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } يشمل ما بين اليهود والنصارى من عداوة ظاهرة مستحكمة يراها الرائي في كل العصور والأزمان ، كما يشمل ما بين فرق النصارى من اختلاف وتباغض وتقاتل بسبب عقائدهم الزائغة وأهوائهم الفاسدة .
وما نراه من تصارع وتقاتل بين طائفتي الكاثوليك والبروستانت في . إيرلاندا وفي غيرها خير شاهد على صدق القرآن الكريم ، وأنه من عند الله - عز وجل -
وقوله - تعالى - : { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } بيان لسوء عاقبتهم في الآخرة بعد بيان ما حكم به عليه في الدنيا من عداوة وبغضاء . { سوف } هنا لتأكيد الخبر وتقويته وبيان أنه وإن تأخر آت لا محالة .
والمعنى : لقد ألقينا العداوة والبغضاء بين هذه الطوائف الضالة وسوف يخبرهم الله في الآخرة بما كانوا يصنعون من كتمان الحق ، ومخالفة للرسل ، وانغماس في الباطل ، وسيجازيهم على كل ذلك بما يستحقون من عذاب شديد .
كذلك يقص الله - سبحانه - على نبيه [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة ، أنه أخذ ميثاق الذين قالوا : إنا نصارى ، من أهل الكتاب . ولكنهم نقضوا ميثاقهم كذلك . فنالهم جزاء هذا النقض للميثاق :
( ومن الذين قالوا : إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ؛ فنسوا حظا مما ذكروا به ؛ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ) .
ونجد هنا تعبيرا خاصا ذا دلالة خاصة :
( ومن الذين قالوا : إنا نصارى ) . .
ودلالة هذا التعبير : أنهم قالوها دعوى ، ولم يحققوها في حياتهم واقعا . . ولقد كان أساس هذا الميثاق هو توحيد الله . وهنا كانت نقطة الانحراف الأصيلة في خط النصرانية التاريخي . وهذا هو الحظ الذي نسوه مما ذكروا به ؛ ونسيانه هو الذي قاد بعد ذلك إلى كل انحراف . كما أن نسيانه هو الذي نشأ من عنده الخلاف بين الطوائف والمذاهب والفرق ، التي لا تكاد تعد . في القديم وفي الحديث [ كما سنبين إجمالا بعد قليل ] . وبينها ما بينها من العداوة والبغضاء ما يخبرنا الله سبحانه أنه باق فيهم إلى يوم القيامة . . جزاء وفاقا على نقض ميثاقهم معه ، ونسيانهم حظا مما ذكروا به . . ويبقى جزاء الآخرة عندما ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ؛ وعندما يجزيهم وفق ما ينبئهم به مما كانوا يصنعون !
ولقد وقع بين الذين قالوا : إنا نصارى من الخلاف والشقاق والعداوة والبغضاء في التاريخ القديم والحديث مصداق ما قصه الله - سبحانه - في كتابه الصادق الكريم ؛ وسال من دمائهم على أيدي بعضهم البعض ما لم يسل من حروبهم مع غيرهم في التاريخ كله . سواء كان ذلك بسبب الخلافات الدينية حول العقيدة ؛ أو بسبب الخلافات على الرياسة الدينية ؛ أو بسبب الخلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية . وفي خلال القرون الطويلة لم تسكن هذه العداوات والخلافات ولم تخمد هذه الحروب والجراحات . . وهي ماضية إلى يوم القيامة كما قال أصدق القائلين ، جزاء على نقضهم ميثاقهم ، ونسيانهم حظا مما ذكروا به من عهد الله ، وأول بند فيه هو بند التوحيد ، الذي انحرفوا عنه بعد فترة من وفاة المسيح عليه السلام . لأسباب لا مجال هنا لعرضها بالتفصيل
وقوله : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } أي : ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى يتابعون المسيح ابن مريم عليه السلام ، وليسوا كذلك ، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره ، والإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض ، أي : ففعلوا كما فعل اليهود ، خالفوا المواثيق ونقضوا العهود ؛ ولهذا قال : { فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أي : فألقينا بينهم العداوة والتباغض لبعضهم بعضا ، ولا يزالون كذلك إلى{[9434]} قيام الساعة . وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين ، يكفر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ؛ فكل فرقة تُحَرم الأخرى ولا تدعها تَلجُ معبدها ، فالملكية تكفر اليعقوبية ، وكذلك الآخرون ، وكذلك النسطورية والآريوسية ، كل طائفة تكفر{[9435]} الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
ثم قال تعالى : { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله ، وما نسبوه إلى الرب ، عز وجل ، وتعالى وتقدس عن قولهم علوًا كبيرًا ، من جعلهم له صاحبة وولدا ، تعالى الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كُفوًا أحد .
{ من } متعلقة { بأخذنا } التقدير : وأخذنا من الذين قالوا إنّا نصارى ميثاقهم ، ويحتمل أن يكون قوله { ومن } معطوف على قوله { خائنة منهم } [ المائدة : 13 ] ، ويكون قوله { أخذنا ميثاقهم } ابتداء خبر عنهم ، والأول أرجح . وعلق كونهم نصارى بقولهم ودعواهم ، من حيث هو اسم شرعي يقتضي نصر دين الله ، وسموا به أنفسهم دون استحقاق ولا مشابهة بين فعلهم وقولهم ، فجاءت هذه العبارة موبخة لهم مزحزحة عن طريق نصر دين الله وأنبيائه ، وقوله تعالى : { فأغرينا بينهم } معناه أثبتناها بينهم وألصقناها ، والإغراء مأخوذ من الغراء الذي يلصق به ، والضمير في { بينهم } يحتمل أن يعود على اليهود والنصارى لأن العداوة بينهم ، موجودة مستمرة ، ويحتمل أن يعود على النصارى فقط لأنها أمة متقاتلة بينها الفتن إلى يوم القيامة ، ثم توعدهم الله تعالى بعقاب الآخرة إذ إنباؤهم بصنعهم إنما هو تقرير وتوبيخ متقدم للعذاب ، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار .
ذكر بعد ميثاق اليهود ميثاق النصارى . وجاءت الجملة على سبه اشتغال العامل عن المعمول بضميره حيث قُدّم متعلِّق { أخَذْنا ميثاقهم } وفيه اسْم ظاهر ، وجيء بضميره مع العامل للنكتة الداعية للاشتغال من تقرير المتعلِّق وتثبيته في الذهن إذ يتعلّق الحكم باسمه الظاهر وبضميره ، فالتقدير : وأخذنا ، من الذين قالوا : إنّا نصارى ، ميثاقهم ، وليس تقديم المجرور بالحرف لقصد الحصر . وقيل : ضمير { ميثاقهم } عائد إلى اليهود ، والإضافة على معنى التشبيه ، أي من النصارى أخذنا ميثاقَ اليهود ، أي مثلَه ، فهو تشبيه بليغ حذفت الأداة فانتصب المشبّه به . وهذا بعيد ، لأنّ ميثاق اليهود لم يفصّل في الآية السابقة حتّى يشبّه به ميثاق النّصارى .
وعبّر عن النصارى ب { الذين قالوا إنّا نصارى } هُنا وفي قوله الآتي : { ولتجدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى } [ المائدة : 82 ] تسجيلاً عليهم بأنّ اسم دينهم مشير إلى أصل من أصوله ، وهو أن يكون أتباعه أنصاراً لِما يأمر به الله ، { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاريَ إلى الله قال الحواريّون نحن أنصار الله } [ الصف : 14 ] . ومن جملة ذلك أن ينصروا القائم بالدّين بعْد عيسى من أتباعه ، مثل بُولس وبَطرس وغيرهما من دعاة الهدى ؛ وأعظم من ذلك كلّه أن ينصروا النبيءَ المبشَّر به في التَّوراة والإنجيل الّذي يجيء بعد عيسى قبل منتهى العالم ويخلِّص النّاس من الضلال { وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لَمَا آتيتكم من كتاب وحكمة ثُمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمِنُنّ به ولتَنْصُرُنَّه } [ آل عمران : 81 ] الآية . فجميع أتباع الرسل قد لزمهم ما التزمه أنبياؤهم وبخاصّة النّصارى ، فهذا اللقب ، وهو النصارى ، حجّة عليهم قائمة بهم متلبّسة بجماعتهم كلّها .
ويفيد لفظ { قالوا } بطريق التعريض الكنائي أنّ هذا القول غير موفًّى به وأنّه يجب أن يوفّى به . هذا إذا كان النصارى جمعاً لنَاصرِيّ أو نصْرانِي على معنى النسبة إلى النّصر مبالغة ، كقولهم : شَعْرَاني ، ولِحيَاني ، أي النّاصر الشديد النصر ؛ فإن كان النّصارى اسم جمع ناصريّ ، بمعنى المنسوب إلى الناصري ، والناصري عيسى ، لأنّه ظهر من مدينة الناصرة . فالناصري صفة عرف بها المسيح عليه السّلام في كتب اليهود لأنّه ظهر بدعوة الرسالة من بلد النّاصرة في فلسطين ؛ فلذلك كان معنى النسبة إليه النسبة إلى طريقته وشرعه ؛ فكلّ من حاد عن شرعه لم يكن حقيقاً بالنسبة إليه إلاّ بدعوى كاذبة ، فلذلك قال : { قالوا إنَّا نصارى } . وقيل : إنّ النصارى جمع نصراني ، منسوب إلى النصْر : كما قالوا : شعراني ، ولِحياني ، لأنّهم قالوا : نحن أنصار الله . وعليه فمعنى { قالوا : إنّا نصارى } أنّهم زعموا ذلك بقولهم ولم يؤيّدوه بفعلهم .
وقد أخذ الله على النصارى ميثاقاً على لسان المسيح عليه السّلام . وبعضه مذكور في مواضع من الأناجيل .
وقوله : { فأغرينا بينهم العداوة } حقيقة الإغراء حَثّ أحدٍ على فعل وتحسينُه إليه حتّى لا يتوانى في تحصيله ؛ فاستعير الإغراء لتكوين ملازمة العداوة والبغضاء في نفوسهم ، أي لزومهما لهم فيما بينهم ، شُبّه تكوين العداوة والبغضاء مع استمرارهما فيهم بإغراء أحد أحداً بعمل يعمل تشبيه معقول بمحسوس . ولمّا دلّ الظرف ، وهو { بينَهم } ، على أنّهما أغْرِيَتَا بهم استُغني عن ذكر متعلّق { أغرينا } . وتقدير الكلام : فأغرينا العداوة والبغضاء بِهم كائنتين بينهم . ويُشبه أن يكون العدول على تعدية « أغرينا » بحرف الجرّ إلى تعليقه بالظرف قرينة أو تجريداً لبيان أنّ المراد ب { أغرينا } ألْقينا .
وما وقع في « الكشاف » من تفسير { أغرينا } بمعنى ألصقنا تطوّح عن المقصود إلى رائحة الاشتقاق من الغِرَاءِ ، وهو الدهن الذي يُلْصق الخشب به ، وقد تنوسي هذا المعنى في الاستعمال . والعداوة والضمير المجرور بإضافة بينَ إليه يعود إلى النصارى لتنتسق الضّمائر .
والعداوَة والبغضاءُ اسمان لمعنيين من جنس الكراهية الشديدة ، فهما ضدّان للمحبّة .
وظاهر عطف أحدِ الاسمين على الآخر في مواضع من القرآن ، في هذه الآية وفي الآيتين بعدها في هذه السورة وفي آية سورة الممتحنة ، أنّهما ليسا من الأسماء المترادفة ؛ لأنّ التزام العطف بهذا الترتيب بُبعِّد أن يكون لمجرّد التّأكيد ، فليس عطف أحدهما على الآخر من قبيل عطف المرادف لمجرّد التّأكيد ، كقوله عَدِي :
وألْفَى قَولهَا كَذِبا وَمَيْنا
وقد ترك علماء اللّغة بيان التفرقة بين العداوة والبغضاء ، وتابعهم المفسّرون على ذلك ؛ فلا تجد من تصدّى للفرق بينهما سوى الشيخ ابن عرفة التّونسي ، فقال في « تفسيره » « العداوة أعمّ من البغضاء لأنّ العداوة سبب في البغضاء ؛ فقد يتعادى الأخ مع أخيه ولا يتمادى على ذلك حتّى تنشأ عنه المباغضة ، وقد يتمادى على ذلك » اهـ .
ووقع لأبي البقاء الكفوي في كتاب « الكليّات » أنّه قال : « العداوة أخصّ من البغضاء لأنّ كلّ عدوّ مبغض ، وقد يُبغِض من ليس بعدوّ » . وهو يخالف كلام ابن عرفة . وفي تعليليْهما مصادرة واضحة ، فإن كانت العداوة أعمّ من البغضاء زادتْ فائدةُ العطف لأنّه يصير في معنى الاحتراس ، وإن كانت العداوة أخصّ من البغضاء لم يكن العطف إلاّ للتّأكيد ، لأنّ التأكيد يحصل بذكر لفظ يدلّ على بعْضٍ مُطلقٍ من معنى الموكَّذ ، فيتقرّر المعنى ولو بوجه أعمّ أو أخصّ ، وذلك يحصل به معنى التّأكيد .
وعندي : أنّ كلا الوجهين غير ظاهر ، والذي أرى أنّ بين معنيي العداوة والبغضاء التضادّ والتباين ؛ فالعداوة كراهية تصدر عن صاحبها : معاملةٌ بجفاء ، أو قطيعة ، أو إضرار ، لأنّ العداوة مشتقّة من العدو وهو التجاوز والتباعد ، فإنّ مشتقّات مادة ( ع د و ) كلّها تحوم حول التفرّق وعدم الوئام . وأمّا البغضاء فهي شدّة البغض ، وليس في مادة ( ب غ ض ) إلاّ معنَى جنس الكراهية فلا سبيل إلى معرفة اشتقاق لفظها من مادتها . نعم يمكن أن يرجع فيه إلى طريقة القلب ، وهو من علامات الاشتقاق ، فإنّ مقلوب بَغِض يكون غَضِب لا غير ، فالبغضاء شدّة الكراهية غير مصحوبة بَعَدوْ ، فهي مضمرة في النفس .
فإذا كان كذلك لم يصحّ اجتماع معنيي العداوة والبغضاء في موصوف واحد في وقتٍ واحد فيتعيّن أن يكون إلقاؤهما بينهما على معنى التّوزيع ، أي أغرينا العداوة بين بعض منهم والبغضاءَ بين بعضٍ آخر . فوقع في هذا النظم إيجاز بديع ، لأنّه يرجع إلى الاعتماد على علم المخاطبين بعدم استقامة اجتماع المعنيين في موصوف واحد .
ومن اللّطائف ما ذكره ابن هشام ، في شرح قصيدة كعب بن زهير عند قول كعب :
لكنَّها خُلّة قد سِيط من دَمها *** فَجْع وولْع وإخلاف وتبديل
أنّ الزمخشري قال : إنّه رأى نفسه في النّوم يقول : العداوة مشتقّة من عُدوة الوادي ، أي جانبه ، لأنّ المتعاديين يكون أحدهما مفارقاً للآخر فكأنّ كلّ واحد منهما على عدوة اه . فيكون مشتقّاً من الاسم الجامد وهو بعيد .
وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم كان عقاباً في الدنيا لقوله : { إلى يوم القيامة وسوف ينبّئهم الله بما كانوا يصنعون } جزاء على نكثهم العهد . وأسباب العداوة والبغضاء شدّة الاختلاف : فتكون من اختلافهم في نحَل الدّين بين يعاقبة ، وملكانية ، ونسطورية ، وهراتقة ( بروتستانت ) ؛ وتكون من التحاسد على السلطان ومتاع الدّنيا ، كما كان بين ملوك النّصرانية ، وبينهم وبين رؤساء ديانتهم .
فإن قيل : كيف أغريت بينهم العداوة وهم لم يزالوا إلْبا على المسلمين ؟ فجوابه : أنّ العداوة ثابتة بينهم في الدين بانقسامهم فِرقاً ، كما قدّمناه في سورة النساء ( 171 ) عند قوله تعالى : { وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه } ، وذلك الانقسام يجرّ إليهم العداوة وخذْل بعضهم بعضاً . ثمّ إنّ دولهم كانت منقسمة ومتحاربة ، ولم تزل كذلك ، وإنّما تألّبوا في الحروب الصّليبية على المسلمين ثمّ لم يلبثوا أن تخاذلوا وتحاربوا ، ولا يزال الأمر بينهم كذلك إلى الآن . وكم ضاعت مساعي الساعين في جمعهم على كلمة واحدة وتأليف اتّحاد بينهم ، وكان اختلافهم لطفاً بالمسلمين في مختلف عصور التّاريخ الإسلامي ، على أنّ اتّفاقهم على أمّة أخرى لا ينافي تمكُّن العداوة فيما بينهم ، وكفى بذلك عقاباً لهم على نسيانهم ما ذكّروا به .
وقيل : الضمير عائد على الفريقين ، أي بين اليهود والنصارى ، ولا إشكال في تجسّم العداوة بين الملّتين .
وقوله : { وسوف ينبّئُهم الله } تهديد لأنّ المراد بالإنباء إنباء المؤاخذة بصنيعهم ، كقوله : { فسوف تعلمون } [ الأنعام : 135 ] . وهذا يحتمل أن يحصل في الآخرة فالإنباء على حقيقته ، ويحتمل أن يحصل في الدنيا ، فالأنباء مجاز في تقدير الله لهم حوادث يعرفون بها سوء صنيعتهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر أهل الإنجيل، فقال سبحانه: {ومن الذين قالوا إنا نصارى}، إنما سموا نصارى، لأنهم كانوا من قرية يقال لها: ناصرة، كان نزلها عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، {أخذنا ميثاقهم}، وذلك أن الله كان أخذ عليهم الميثاق في الإنجيل بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويتبعوه ويصدقوه وهو مكتوب عندهم في الإنجيل، يقول الله تعالى: {فنسوا حظا مما ذكروا به}: فتركوا حظا مما أمروا به من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والتصديق به، ولو آمنوا لكان خيرا لهم، وكان لهم حظا. يقول الله عز وجل: {فأغرينا بينهم}، يعني بين النصارى، {العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} فهم أعداء بعضهم لبعض إلى يوم القيامة، {وسوف ينبئهم الله} في الآخرة، {بما كانوا يصنعون}، يعني بما يقولون من الجحود والتكذيب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ ذكره: وأخذنا من النصارى الميثاق على طاعتي وأداء فرائضي واتباع رسلي والتصديق بهم، فسلكوا في ميثاقي الذي أخذته عليهم منهاج الأمة الضالة من اليهود، فبدّلوا كذلك دينهم ونقضوا نقضهم وتركوا حظهم من ميثاقي الذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي وضيعوا أمري. عن قتادة: نسوا كتاب الله بين أظهرهم، وعهد الله الذي عهده إليه، وأمر الله الذي أمرهم به.
"فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ": "فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمْ": حرشنا بينهم وألقينا، كما نُغري الشيءَ بالشيء. يقول جلّ ثناؤه: لما ترك هؤلاء النصارى الذين أخذت ميثاقهم بالوفاء بعهدي حظهم، مما عهدت إليهم من أمري ونهيي، أغريت بينهم العداوة والبغضاء.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة إغراء الله بينهم العداوة والبغضاء؛ فقال بعضهم: كان إغراؤه بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم. عن إبراهيم النخعي: قال: هذه الأهواء المختلفة، والتباغض فهو الإغراء... أغرى بعضهم ببعض بخصومات بالجدال في الدين.
وقال آخرون: بل ذلك هو العداوة التي بينهم والبغضاء. عن قتادة: إن القوم لما تركوا كتاب الله، وعَصَوا رسله، وضيعوا فرائضه، وعطلوا حدوده، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة بأعمالهم أعمال السوء، ولو أخذ القوم كتاب الله وأمره، ما افترقوا ولا تباغضوا.
وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالحقّ، تأويل من قال: أغرى بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم، كما قال إبراهيم النخعي لأن عداوة النصارى بينهم، إنما هي باختلافهم في قولهم في المسيح، وذلك أهواء لا وحي من الله.
واختلف أهل التأويل في المعني بالهاء والميم اللتين في قوله: "فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ"؛ فقال بعضهم: عني بذلك: اليهود والنصارى. فمعنى الكلام على قولهم وتأويلهم: فأغرينا بين اليهود والنصارى، لنسيانهم حظّا مما ذكّروا به. وقال آخرون: بل عنى الله بذلك: النصارى وحدها. وقالوا: معنى ذلك: فأغرينا بين النصارى عقوبة لها بنسيانها حظا مما ذكرت به. قالوا: وعليها عادت الهاء والميم في بينهم دون اليهود.
وأولى التأويلين بالآية عندي هو أن المعنىّ بالإغراء بينهم: النصارى في هذه الآية خاصة، وأن الهاء والميم عائدتان على النصارى دون اليهود، لأن ذكر الإغراء في خبر الله عن النصارى بعد تقضي خبره عن اليهود، وبعد ابتدائه خبره عن النصارى، فأن لا يكون ذلك معنيا به إلا النصارى خاصة أولى من أن يكون معنيا به الحزبان جميعا لما ذكرنا.
فإن قال قائل: وما العداوة التي بين النصارى، فتكون مخصوصة بمعنى ذلك؟ قيل: ذلك عداوة النّسطورية واليعقوبية والملكية النسطورية واليعقوبية، وليس الذي قاله من قال معني بذلك: إغراء الله بين اليهود والنصارى ببعيد، غير أن هذا أقرب عندي وأشبه بتأويل الآية لما ذكرنا.
"وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ":
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اعف عن هؤلاء الذين هموا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك، واصفح فإن الله من وراء الانتقام منهم، وسينبئهم الله عند ورودهم الله عليه في معادهم بما كانوا في الدنيا يصنعون من نقضهم ميثاقه، ونكثهم عهده، وتبديلهم كتابه، وتحريفهم أمره ونهيه، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ومن الذين قالوا إنا نصارى} أي كانوا أنصار الله، فقالوا: بل نكون نصارى...
{فنسوا حظا مما ذكروا به} يحتمل هذا وجهين: يحتمل أي تركوا حظهم مما أمروا به من توحيد الله والإيمان بالرسل كلهم والتمسك بكتاب الله تعالى والوفاء بالعهود التي عهدت إليهم، فتركوا ذلك كله، وضيعوا. ويحتمل {فنسوا حظا مما ذكروا به} أي لم يحفظوا ما وعظوا...
وفي الآية دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر أنه ألقى {بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} وأخبر ألا {تزال تطلع على خائنة منهم} [المائدة: 13] وكان كما قال على علم منهم أنه لا [يزال] يطلع على ما في قلوبهم من الخيانة والقساوة وغير ذلك من الأمور. فدل أنه بالله علم ذلك. {وسوف ينبئهم الله} في الآخرة {بما كانوا يصنعون} في الدنيا، وهو قول ابن عباس.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وأصل الإغراء: تسليط بعضهم على بعض. وقيل: معناه التحريش. وأصله اللصوق. يقال: غريت بالرجل غرى -مقصور وممدود- ومعناه لصقت به... وأغريت زبدا بكذا حتى غرى به. ومنه الغراء الذى يغرى به للصوق، والإغراء بالشيء معناه: الالصاق من جهة التسليط...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإشارة في هذه الآية أن النصارى أثبت لهم الاسم بدعواهم فقال: {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وسموا نصارى لتناصرهم، وبدعواهم حرَّفوا وبدَّلوا؛ وأما المسلمون فقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ} [الحج: 78]. كما قال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 2] فلا جَرَمَ ألا يسموا بالتناصر. ولمَّا سمَّاهم الحقُّ بالإسلام ورَضِيَ لَهم به صانهم عن التبديل فَعُصِمُوا. ولما استمكن منهم النسيان أبدلوا بالعداوة فيما بينهم، وفساد ذات البين؛ فأرباب الغفلة لا ألفة بينهم. وأهل الوفاء لا مباينة لبعضهم من بعض، قال تعالى في صفة أهل الجنة: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الصافات: 44].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم توعدهم الله تعالى بعقاب الآخرة إذ إنباؤهم بصنعهم إنما هو تقرير وتوبيخ متقدم للعذاب، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما دخل النصارى فيما مضى لأنهم من بني إسرائيل، خصهم بالذكر لأن كفرهم أشد وأسمج فقال: {ومن الذين قالوا} أي مسمين أنفسهم ملزمين لها النصرة لله، مؤكدين قولهم رداً على من يرتاب فيه: {إنا نصارى} أي مبالغون في نصرة الحق، فالتعبير بذلك دون ومن النصارى تنبيه على أنهم تسموا بما لم يفوا به {أخذنا} أي بما لنا من العظمة {ميثاقهم} أي كما أخذ على الذين من قبلهم.
ولما كان كفرهم في غاية الظهور والجلاء، لم ينسبهم إلى غير الترك فقال: {فنسوا} أي تركوا ترك الناسي {حظاً} أي نصيباً عظيماً يتنافس في مثله {مما ذكروا به} أي في الإنجيل مما سبق لهم ذكره في التوراة من أوصاف نبيه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الحق.
ولما أدى ذلك إلى تشعبهم فرقاً، فأنتج تشاحنهم وتقاطعهم وتدابرهم، سبب عنه قوله: {فأغرينا} أي ألصقنا بعظمتنا إلصاق ما هو بالغراء لا ينفك بل يصير كجزء الشيء {بينهم} أي النصارى بعد أن جعلناهم فرقاً متباينين بتفريق الدين، وكذا بينهم وبين اليهود {العداوة} ولما كانت العداوة قد تكون عن بغي ونحوه إذا زال زالت أو خفت، قال معلماً أنها لأمر باطني نشأ من تزيين الهوى، فهو ثابت غير منفك: {والبغضاء} بالأهواء المختلفة {إلى يوم القيامة}.
ولما أخبر بنكدهم في الدنيا، أعقبه ما لهم في الأخرى فقال: {وسوف ينبئهم} أي يخبرهم {الله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلماً إخباراً بعظيم الشأن بما فيه من عظم التقريع والتوبيخ في الآخرة بوعيد لا خلف فيه؛ ولما كانت خيانتهم قد صارت لهم فيها ملكات بما لازموا منها حتى ضربوا بها وتدربوا عليها، حتى صارت لهم أحوالاً لأنفسهم وأخلاقاً لقلوبهم، سماها صنائع فقال: {بما كانوا يصنعون} أي دربوا أنفسهم عليه حتى صار كالصنعة، فيجازيهم عليه بما يقيم عليهم من الحجة.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
و (سوف) لتأكيد الوعيد، والالتفاتُ إلى ذكر الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة لتشديد الوعيد، والتعبيرُ عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم في ذلك، وعن المجازاة بالتنبئة للتنبيه على أنهم لا يعلمون حقيقةَ ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعِها للعذاب، فيكونُ ترتيبُ العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الناصر في (الانتصاف): وبقيت نكتة في تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية على دعواهم. ولم يتفق ذلك في غيره. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه}؟ فالوجه في ذلك- والله أعلم- إنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى، ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة. وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بدعوى النصرة وقولها دون فعلها. والله أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي وكذلك أخذنا ميثاق الذين سموا أنفسهم نصارى من أهل الكتاب الأول، وهم الذين قالوا إنهم اتبعوا المسيح ونصروه، وقد صاروا طائفة مستقلة مؤلفة من الإسرائيليين وغيرهم فنقضوا ميثاقهم ونسوا حظا ونصيبا مما ذكروا به على لسان المسيح عيسى ابن مريم كما فعل الذين من قبلهم {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الفاء للسببية أي فكان نسيان حظ عظيم من كتابهم سببا لوقوعهم في الأهواء والتفرق في الدين والموجب بمقتضى سنتنا في البشر للعداوة والبغضاء. والإغراء التحريش وإسناده إلى الله تعالى مع كونه من أعمالهم الاختيارية سببا ومسببا لأنه من مقتضى سننه في خلقه. فهذا جزاؤهم في الدنيا {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون} عند ما يحاسبهم في الآخرة، ينبئهم بحقيقة ضلالهم ويجازيهم عليه بعد ذلك ليعلموا أنه حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة.
بين الله لنا أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود. وسبب ذلك أن المسيح عليه السلام لم يكتب ما ذكرهم به من المواعظ وتوحيد الله وتمجيده والإرشاد لعبادته، وكان من اتبعوه من العوام، وأمثلهم حواريوه وهم من الصيادين، وقد اشتد اليهود في عداوتهم ومطاردتهم، فلم تكن لهم هيأة اجتماعية ذات قوة وعلم تدون ما حفظوه من إنجيل المسيح وتحفظه. ويظهر من تاريخهم وكتبهم المقدسة أن كثيرا من الناس كانوا يبثون بين الناس في عصرهم تعاليم باطلة عن المسيح، ومنهم من كتب في ذلك، حتى أن الذين كتبوا كتبا سموها الأناجيل كثيرون جدا كما صرحوا به في كتبهم المقدسة وتواريخ الكنيسة. وما ظهرت هذه الأناجيل الأربعة المعتمدة عندهم الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح عندما صار للنصارى دولة بدخول الملك قسطنطين في النصرانية، وإدخاله إياها في طور جديد من الوثنية، وهذه الأناجيل عبارة عن تاريخ ناقص للمسيح، وهي متعارضة متناقضة بل وقع الخلاف بينهم في مؤلفيها واللغات التي ألفوها بها. وقد بينا في تفسير أول سورة آل عمران حقيقة إنجيل المسيح وكون هذه الكتب لم تحو إلا قليلا منه كما تحتوي السيرة النبوية عندنا على القليل من القرآن والحديث. وهذا القليل من الإنجيل قد دخله التناقض والتحريف.
وقد أورد الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه (إظهار الحق) المشهور مئة شاهد من الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى على التحريف اللفظي والمعنوي فيها، نقلت بعضها على سبيل النموذج في تفسير آية النساء (4:48) ومنها ما عجز مفسرو التوراة عن تمحل الجواب عنه وجزموا بأنه ليس مما كتبه موسى عليه السلام. فراجعه من التفسير الخامس. والظاهر أن التنكير في قوله: (نصيبا وحظا) للتعظيم أي أن ما نسوه وأضاعوه منه كثير، وما أتوه وحفظوه كثير أيضا، فلو كانوا يعلمون به ما فسدت حالهم، ولا عظم خزيهم ونكالهم. وهذا هو المعقول في حال عدم حفظ الأصل بنصه في الصدور والسطور، ونحن نجزم بأننا نسينا وأضعنا من حديث نبينا صلى الله عليه وآله وسلم حظا عظيما لعدم كتابة علماء الصحابة كل ما سمعوه، ولكن ليس منه ما هو بيان للقرآن أو من أمور الدين، فإن جميع أمور الدين مودعة في القرآن ومبينة في السنة العملية، وما دون من الحديث مزيد هداية وبيان. هذا وإن العرب كانت أمة حفظ ودونوا الحديث في العصر الأول، وعنوا بحفظه وضبط متونه وأسانيده عناية شاركهم فيها كل من دخل في الإسلام، ولم يتفق مثل ذلك لغير المسلمين من المتقدمين والمتأخرين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ومن الذين قالوا: إنا نصارى).. ودلالة هذا التعبير: أنهم قالوها دعوى، ولم يحققوها في حياتهم واقعا.. ولقد كان أساس هذا الميثاق هو توحيد الله. وهنا كانت نقطة الانحراف الأصيلة في خط النصرانية التاريخي. وهذا هو الحظ الذي نسوه مما ذكروا به؛ ونسيانه هو الذي قاد بعد ذلك إلى كل انحراف. كما أن نسيانه هو الذي نشأ من عنده الخلاف بين الطوائف والمذاهب والفرق، التي لا تكاد تعد. في القديم وفي الحديث... وبينها ما بينها من العداوة والبغضاء ما يخبرنا الله سبحانه أنه باق فيهم إلى يوم القيامة.. جزاء وفاقا على نقض ميثاقهم معه، ونسيانهم حظا مما ذكروا به.. ويبقى جزاء الآخرة عندما ينبئهم الله بما كانوا يصنعون؛ وعندما يجزيهم وفق ما ينبئهم به مما كانوا يصنعون! ولقد وقع بين الذين قالوا: إنا نصارى من الخلاف والشقاق والعداوة والبغضاء في التاريخ القديم والحديث مصداق ما قصه الله -سبحانه- في كتابه الصادق الكريم؛ وسال من دمائهم على أيدي بعضهم البعض ما لم يسل من حروبهم مع غيرهم في التاريخ كله. سواء كان ذلك بسبب الخلافات الدينية حول العقيدة؛ أو بسبب الخلافات على الرياسة الدينية؛ أو بسبب الخلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي خلال القرون الطويلة لم تسكن هذه العداوات والخلافات ولم تخمد هذه الحروب والجراحات.. وهي ماضية إلى يوم القيامة كما قال أصدق القائلين، جزاء على نقضهم ميثاقهم، ونسيانهم حظا مما ذكروا به من عهد الله، وأول بند فيه هو بند التوحيد، الذي انحرفوا عنه بعد فترة من وفاة المسيح عليه السلام. لأسباب لا مجال هنا لعرضها بالتفصيل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والعداوَة والبغضاءُ اسمان لمعنيين من جنس الكراهية الشديدة، فهما ضدّان للمحبّة. وظاهر عطف أحدِ الاسمين على الآخر في مواضع من القرآن، في هذه الآية وفي الآيتين بعدها في هذه السورة وفي آية سورة الممتحنة، أنّهما ليسا من الأسماء المترادفة؛ لأنّ التزام العطف بهذا الترتيب بُبعِّد أن يكون لمجرّد التّأكيد، فليس عطف أحدهما على الآخر من قبيل عطف المرادف لمجرّد التّأكيد، كقوله عَدِي: وألْفَى قَولهَا كَذِبا وَمَيْنا وقد ترك علماء اللّغة بيان التفرقة بين العداوة والبغضاء، وتابعهم المفسّرون على ذلك؛ فلا تجد من تصدّى للفرق بينهما سوى الشيخ ابن عرفة التّونسي، فقال في « تفسيره» « العداوة أعمّ من البغضاء لأنّ العداوة سبب في البغضاء؛ فقد يتعادى الأخ مع أخيه ولا يتمادى على ذلك حتّى تنشأ عنه المباغضة، وقد يتمادى على ذلك» اهـ. ووقع لأبي البقاء الكفوي في كتاب « الكليّات» أنّه قال: « العداوة أخصّ من البغضاء لأنّ كلّ عدوّ مبغض، وقد يُبغِض من ليس بعدوّ». وهو يخالف كلام ابن عرفة. وفي تعليليْهما مصادرة واضحة، فإن كانت العداوة أعمّ من البغضاء زادتْ فائدةُ العطف لأنّه يصير في معنى الاحتراس، وإن كانت العداوة أخصّ من البغضاء لم يكن العطف إلاّ للتّأكيد، لأنّ التأكيد يحصل بذكر لفظ يدلّ على بعْضٍ مُطلقٍ من معنى الموكَّد، فيتقرّر المعنى ولو بوجه أعمّ أو أخصّ، وذلك يحصل به معنى التّأكيد. وعندي: أنّ كلا الوجهين غير ظاهر، والذي أرى أنّ بين معنيي العداوة والبغضاء التضادّ والتباين؛ فالعداوة كراهية تصدر عن صاحبها: معاملةٌ بجفاء، أو قطيعة، أو إضرار، لأنّ العداوة مشتقّة من العدو وهو التجاوز والتباعد، فإنّ مشتقّات مادة (ع د و) كلّها تحوم حول التفرّق وعدم الوئام. وأمّا البغضاء فهي شدّة البغض، وليس في مادة (ب غ ض) إلاّ معنَى جنس الكراهية فلا سبيل إلى معرفة اشتقاق لفظها من مادتها. نعم يمكن أن يرجع فيه إلى طريقة القلب، وهو من علامات الاشتقاق، فإنّ مقلوب بَغِض يكون غَضِب لا غير، فالبغضاء شدّة الكراهية غير مصحوبة بَعَدوْ، فهي مضمرة في النفس. فإذا كان كذلك لم يصحّ اجتماع معنيي العداوة والبغضاء في موصوف واحد في وقتٍ واحد فيتعيّن أن يكون إلقاؤهما بينهما على معنى التّوزيع، أي أغرينا العداوة بين بعض منهم والبغضاءَ بين بعضٍ آخر. فوقع في هذا النظم إيجاز بديع، لأنّه يرجع إلى الاعتماد على علم المخاطبين بعدم استقامة اجتماع المعنيين في موصوف واحد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وعلى هذا الأساس يكون مفهوم الآية موضوع البحث هو أن نقض النصارى لعهدهم وارتكابهم المعاصي أديا إلى أن تنتشر العداوة فيما بينهم ويعمهم النفاق والخلاف، (والمعلوم أن آثار الأسباب التكوينية والطبيعية تنسب إلى الله) وما نراه اليوم من صراعات كثيرة بين الدول المسيحية، كانت في يوم ما سبباً لاندلاع الحربين العالميتين، وهي كذلك سبب للتكتلات المقترنة بالعداوة والبغضاء المستمرة فيما بينهم، أضف إلى ذلك الخلافات المذهبية الكثيرة التي تسود بين الطوائف المسيحية التي مازالت سبباً لاستمرار الصراع والاقتتال فيما بينهم.