والوصية السادسة تأتى فى مطلع الآية الثانية فتقول : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } .
أى : لا تقربوا مال اليتيم الذى فقد الأب الحانى ، ولا تتعرضوا لما هو من حقه بوجه من الوجوه إلا بالوجه الذى ينفعه فى الحال أو المآل ، كتربيته وتعليمه ، وحفظ ماله واستثماره .
وإذن ، فكل تصرف مع اليتيم أو فى ماله لا يقع فى تلك الدائرة - دائرة الأنفع والأحسن - محظور ، ومنهى عنه .
قال بعض العلماء : وكثيرا ما يتعلق النهى فى القرآن بالقربان من الشىء ، وضابطه بالاستقراء : أن كل منهى عنه كان من شأنه أن تميل إليه النفوس وتدفع إليه الأهواء النهى فيه عن " القربان " ويكون القصد التحذير من أن يأخذ ذلك الميل فى النفس مكانة تصل بها إلى اقتراف المحرم ، وكان من ذلك فى الوصايا السابقة النهى عن الفواحش ، ومن هذا الباب { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } إلخ .
أما المحرمات التى لم يؤلف ميل النفوس إليها ولا إقتضاء الشهوات لها ، فإن الغالب فيها أن يتعلق النهى عنها بنفس الفعل لا بالقربان منه . ومن ذلك فى الوصايا السابقة الشرك بالله ، وقتل الأولاد ، وقتل النفس التى حرم الله قتلها ، فإنها وإن كان الفعل المنهى عنه فيها أشد قبحا وأعظم جرما عند الله من أكل مال اليتيم وفعل الفواحش ، إلا أنها ليست ذات دوافع نفسية يميل إليها الإنسان بشهوته ، وإنما هى فى نظر العقل على المقابل من ذلك ، يجد الإنسان فى نفسه مرارة من ارتكابها ، ولا يقدم عليها إلا وهو كاره لها أو فى حكم الكاره .
وقوله : { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } ليس غاية للنهى ، إذ ليس المعنى فإذا بلغ أشده فاقربوه لأن هذا يقتضى إباحة أكل الولى له بعد بلوغ الصبى ، بل هو غاية لما يفهم من النهى كأنه قيل : احفظوه حتى يصير بالغا رشيداً فحينئذ سلموا إليه ماله .
والخطاب للأولياء والأوصياء . أى : احفظوا ماله حتى يبلغ الحلم فإذا بلغه فادفعوه إليه .
والأشد : قوة الإنسان واشتعال حرارته : من الشدة بمعنى القوة والارتفاع . يقال : شد النهار إذا ارتفع . وهو مفرد جاء بصيغة الجمع . ولا واحد له .
والوصية السابعة : { وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } .
أى : أتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم ، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون أو لغيركم فيما تبيعون .
فالجملة الكريمة أمر من الله - تعالى - لعباده بإقامة العدل فى التعامل : بحيث يعطى صاحب الحق حقه من غير نقصان ولا بخس ، ويأخذ صاحب الحق حقه من غير طلب الزيادة .
والكيل والوزن : مصدران أريد بهما ما يكال وما يوزن ، كالعيش بمعنى ما يعاش به . وبالقسط حال من فاعل أوفوا أى : أوفوهما مقسطين أى : متلبسين بالقسط . ويجوز أن يكون حالا من الفعول أى : أوفوا الكيل والميزان بالقسط أى : تامّين .
وهذه الوصية هى مبدأ العدل والتعادل ، وكل مجتمع محتاج إليها ، فالناس لا بد لهم من التعامل ، ولا بد لهم من التبادل ، والكيل والوزن هما وسيلة ذلك ، فلا بد من أن يكونا منضبطين بالقسط .
والمجتمعات الأمينة التى لا تجد فيها أحدا يغبن عن جهل أو غفلة ، وهى أيضاً المجتمعات الأمينة التى لا تجد فيها من يحاول أن يأخذ أكثر من حقه . أو يعطى أقل مما يبج عليه .
وقوله { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أى : لا نكلف نفسها إلا ما يسعها ولا يعسر عليها . والجملة مستأنفة جىء بها عقيب الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالعدل ، للترخيص فيما خرج عن الطاقة ، ولبيان قاعدة من قواعد الإسلام الرافعة للحرج وذلك لأن التبادل التجاري لا يمكن أن يتحقق على وجه كامل من المساواة أو التعادل ، فلا بد من تقبل اليسير من الغبن فى هذا الجانب أو ذاك .
والوصية الثامنة تقول : { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } .
أى : وإذا قلتم قولا فاعدلوا فيه ولو كان المقول له أو عليه صاحب قرابة منكم .
إذ العدل هو أساس الحكم السليم : العدل فى القول ، والعدل فى الحكم ، والعدل فى كل فعل .
وإنما خصصت الآية العدل فى القول مع أن العدل مطلوب فى الأقوال والأفعال وفى كل شىء ، لأن أكثر ما يكون فيه العدل أقوال كالشهادة ، والحكم ، ثم الأقوال هى التى تراود النفوس فى كل حال . فالإنسان حين تصادفه قضية من القضايا القولية أو العملية يحدث نفسه فى شأنها ، ويراوده معنى العدل وكأنه يطالبه بأن ينطق به ويؤيده ، فيقول فى نفسه سأفعل كذا لأنه العدل ، فإذا لم يكن صادقا فى هذا القول فقد جافى العدل وقال زوراً وكذبا .
أما قوله { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } فهو أخذ بالإنسان عما جرت به عادته من التأثر بصلات القربى فى المحاباة للأقرباء والظلم لغيرهم .
فالقرآن يرتفع بالضمير البشرى إلى مستوى سامق رفيع ، على هدى من العقيدة فى الله ، بأن يكلفه بتحرى العدل فى كل أحواله ولو إزاء أقرب المقربين إليه .
أما الوصية التاسعة والأخيرة فى هذه الآية فهى قوله - تعالى - { وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ } أى : كونوا أوفياء مع الله فى كل ما عهد إليكم به من العبادات والمعاملات وغيرها .
إذ الوفاء أصل من الأصول التى يتحقق بها الخير والصلاح ، وتستقر عليها أمور الناس .
وقوله : { وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ } يفيد الحصر لتقديم المعمول ، وفى هذا إشعار بأن هناك عهوداً غير جديرة بأن تنسب إلى الله ، وهى العهود القائمة على الظلم أو الباطل ، أو الفساد ، فمثل هذه العهود غير جديرة بالاحترام ، ويجب العمل على التخلص منها .
ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أى : ذلكم المتلو عليكم فى هذه الآية من الأوامر والنواهى وصاكم الله به فى كتابه رجاء أن تتذكروا وتعتبروا وتعملوا بما أمرتم به وتجتنبوا ما نهيتم عنه أو رجاء أن يذكِّر بعضكم بعضا فإن التناصح واجب بين المسلمين .
( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ) . .
واليتيم ضعيف في الجماعة ، بفقده الوالد الحامي والمربي . ومن ثم يقع ضعفه على الجماعة المسلمة - على أساس التكافل الاجتماعي الذي يجعله الإسلام قاعدة نظامه الاجتماعي - وكان اليتيم ضائعاً في المجتمع العربي في الجاهلية . وكثرة التوجيهات الواردة في القرآن وتنوعها وعنفها أحيانا تشي بما كان فاشيا في ذلك المجتمع من ضيعة اليتيم فيه ؛ حتى انتدب الله يتيما كريماً فيه ؛ فعهد إليه بأشرف مهمة في الوجود . حين عهد إليه بالرسالة إلى الناس كافة ، وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي نرى منه هذا التوجيه :
( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ) .
فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم . فيصونه وينميه ، حتى يسلمه له كاملاً ناميا عند بلوغه أشده . أي اشتداد قوته الجسمية والعقلية . ليحمي ماله ، ويحسن القيام عليه . وبذلك تكون الجماعة قد أضافت إليها عضواً نافعاً ؛ وسلمته حقه كاملا .
وهناك خلاف فقهي حول سن الرشد أو بلوغ الأشد . . عند عبد الرحمن بن زيد وعند مالك ، بلوغ الحلم . وعند أبي حنيفة خمسة وعشرون عاما . وعند السدي ثلاثون ، وعند أهل المدينة بلوغ الحلم وظهور الرشد معاً بدون تحديد .
( وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها - ) .
وهذه في المبادلات التجارية بين الناس في حدود طاقة التحري والإنصاف . والسياق يربطها بالعقيدة ؛ لأن المعاملات في هذا الدين وثيقة الارتباط بالعقيدة . والذي يوصي بها ويأمر هو الله . ومن هنا ترتبط بقضية الألوهية والعبودية ، وتذكر في هذا المعرض الذي يبرز فيه شأن العقيدة ، وعلاقتها بكل جوانب الحياة . .
ولقد كانت الجاهليات - كما هي اليوم - تفصل بين العقيدة والعبادات ، وبين الشرائع والمعاملات . . من ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن قوم شعيب : ( قالوا : يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ؟ !
ومن ثم يربط السياق القرآني بين قواعد التعامل في المال والتجارة والبيع والشراء ، وبين هذا المعرض الخاص بالعقيدة ، للدلالة على طبيعة هذا الدين ، وتسويته بين العقيدة والشريعة ، وبين العبادة والمعاملة ، في أنها كلها من مقومات هذا الدين ، المرتبطة كلها في كيانه الأصيل .
( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) . .
وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري - وقد ربطه بالله ابتداء - إلى مستوى سامق رفيع ، على هدى من العقيدة في الله ومراقبته . . فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري . الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد ؛ بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل ؛ وفي قوة القرابة سند لضعفه ؛ وفي سعة رقعتها كمال لوجوده ، وفي امتدادها جيلاً بعد جيل ضمان لامتداده ! ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم ، أو القضاء بينهم وبين الناس . . وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل ، على هدى من الاعتصام بالله وحده ، ومراقبة الله وحده ، اكتفاء به من مناصرة ذوي القربى ، وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه ؛ وهو - سبحانه - أقرب إلى المرء من حبل الوريد . .
لذلك يعقب على هذا الأمر - وعلى الوصايا التي قبله - مذكراً بعهد الله :
ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى . ومن عهد الله توفية الكيل والميزان بالقسط . ومن عهد الله ألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن . ومن عهد الله حرمة النفس إلا بالحق . . وقبل ذلك كله . . من عهد الله ألا يشركوا به شيئاً . فهذا هو العهد الأكبر ، المأخوذ على فطرة البشر ، بحكم خلقتها متصلة بمبدعها ، شاعرة بوجوده في النواميس التي تحكمها من داخلها كما تحكم الكون من حولها .
ثم يجيء التعقيب القرآني في موضعه بعد التكاليف :
( ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ) . .
والذكر ضد الغفلة . والقلب الذاكر غير الغافل ، وهو يذكر عهد الله كله ، ويذكر وصاياه المرتبطة بهذا العهد ولا ينساها .
قال عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } و { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } الآية [ النساء : 10 ] ، فانطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله ويفسد . فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله [ عَزَّ وجل ]{[11377]} : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] ، قال : فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم . رواه أبو داود .
وقوله : { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } قال الشعبي ، ومالك ، وغير واحد من السلف : يعني : حتى يحتلم .
وقال السُّدِّي : حتى يبلغ ثلاثين سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ستون سنة . قال : وهذا كله بعيد هاهنا ، والله أعلم .
وقوله : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء ، كما توعد على تركه في قوله تعالى : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ المطففين : 1 - 6 ] . وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان .
وفي كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي ، من حديث الحسين بن قيس أبي علي الرّحَبي ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان : " إنكم وُلّيتم أمرًا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم " . ثم قال : لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحُسين ، وهو ضعيف في الحديث ، وقد روي بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفا{[11378]} .
قلت : وقد رواه ابن مَرْدُوَيه في تفسيره ، من حديث شَرِيك ، عن الأعمش ، عن سالم بن أبي الجَعْد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم مَعْشَر الموالي قد بَشَّرَكم الله بخصلتين بها هلكت القرون المتقدمة : المكيال والميزان " {[11379]} .
وقوله تعالى : { لا نُكَلِّفُ{[11380]} نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } أي : من اجتهد في أداء الحق وأخذه ، فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه .
وقد روى ابن مَرْدُوَيه من حديث بَقِيَّة ، عن مُبَشر{[11381]} بن عبيد ، عن عمرو بن ميمون بن مهْران ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسَيَّب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } فقال : " من أوفى على يده في الكيل والميزان ، والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما ، لم يؤاخذ " . وذلك تأويل { وُسْعَهَا } هذا مرسل غريب{[11382]} .
وقوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ] }{[11383]} [ المائدة : 8 ] ، وكذا التي تشبهها في سورة النساء [ الآية : 135 ] ، يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال ، على القريب والبعيد ، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد ، في كل وقت ، وفي كل حال .
وقوله : { وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } قال ابن جرير : يقول وَبِوَصِيَّة الله التي أوصاكم بها فأوفوا . وإيفاء ذلك : أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم ، وتعملوا بكتابه وسنة رسوله ، وذلك هو الوفاء بعهد الله .
{ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } يقول تعالى : هذا وصاكم به ، وأمركم به ، وأكد عليكم فيه { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : تتعظون وتنتهون عما{[11384]} كنتم فيه قبل هذا ، وقرأ بعضهم بتشديد " الذال " ، وآخرون بتخفيفها .
هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف ، وفيه سد الذريعة ، ثم استثنى ما يحسن وهو التثمير والسعي في نمائه ، قال مجاهد : { التي هي أحسن } التجارة فيه ممن كان من الناظرين له مال يعيش به ، فالأحسن إذا ثمر مال يتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرها من كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره وإلا دعته الضرورة إلى ترك مال اليتيم دون نظر فالأحسن أن ينظر ويأكل بالمعروف ، قاله ابن زيد ، و «الأشد » جمع شد وجمع شدة{[5153]} ، وهو هنا الحزم والنظر في الأمور وحسن التصرف فيها .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وليس هذا بالأشد المقرون ببلوغ الأربعين ، بل هذا يكون مع صغر السن في ناس كثير وتلك الأشد هي التجارب والعقل المحنك ، ولكن قد خلطهما المفسرون ، وقال ربيعة والشعبي ومالك فيما روي عنه وأبو حنيفة ، «بلوغ الأشد » البلوغ مع أن لا يثبت سفه ، وقال السدي : «الأشد » ثلاثون سنة ، وقالت فرقة ثلاثة وثلاثون سنة ، وحكى الزجاج عن فرقة ثمانية عشر سنة ، وضعّفه ورجح البلوغ مع الرشد وحكى النقاش أن «الأشد » هنا من خمسة عشر إلى ثلاثين ، والفقه ما رجح الزجّاج ، وهو قول مالك رحمه الله : الرشد وزوال السفه مع البلوغ .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع ، وقوله تعالى : { وأوفوا الكيل والميزان } الآية أمر بالاعتدال في الأخذ والإعطاء ، «والقسط » بالعدل ، وقوله { لا نكلف نفساً إلا وسعها } يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز لا أنه مطالب بغاية العدل في نفس الشيء المتصرف فيه ، قال الطبري : لما كان الذي يعطي ناقصاً يتكلف في ذلك مشقة والذي يعطي زائدا يتكلف أيضا مثل ذلك ، رفع الله عز وجل الأمر بالمعادلة حتى لا يتكلف واحد منهما مشقة . وقوله { وإذا قلتم فاعدلوا } يتضمن الشهادات والأحكام والتوسط بين الناس وغير ذلك ، أي ولو كان ميل الحق على قراباتكم ، وقوله : { وبعهد الله } يحتمل أن يراد جميع ما عهده الله إلى عباده ، ويحتمل أن يراد به جميع ذلك مع جميع ما انعقد بين إنسانين وأضاف ذلك العهد إلى الله من حيث قد أمر بحفظه والوفاء به ، وقوله { لعلكم } ترجٍّ بحسبنا . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تذّكّرون » بتشديد الذال والكاف جميعاً وكذلك «يذّكّرون » و «يذكّر الإنسان »{[5154]} وما جرى من ذلك مشدداً كله ، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر كل ذلك بالتشديد إلا قوله { أو لا يذكر الإنسان } [ مريم : 67 ] فإنهم خففوها ، وروى أبان وحفص عن عاصم «تذَكرون » خفيفة الذال في كل القرآن .
وقرأ حمزة والكسائي «تذكرون » بتخفيف الذال إذا كان الفعل بالتاء ، وإذا كان بالياء قرأه بالتشديد ، وقرأ حمزة وحده في سورة الفرقان { لمن أراد أن يذْكر }{[5155]} بسكون الذال وتخفيف الكاف ، وقرأ ذلك الكسائي بتشديدهما وفتحهما .