ثم بين - سبحانه - أنه غنى عن خلقه ، وأنهم هم الفقراء إليه فقال : { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } .
أى : إن تكفروا - أيها الناس - بعد أن سقنا لكم من الأدلة ما سقنا على صحة الإِيمان وفساد الكفر ، فإن الله - تعالى - غنى عنكم وعن إيمانكم وعبادتكم وعن الخلق أجمعين .
ومع ذلك فإنه - سبحانه - لرحمته بكم ، لا يرضى لعباده الكفر ، أى : لا يحبه منهم ولا يحمده لهم ، ولا يجازى الكافر المجازاة التى يجازى بها المؤمن فإن المؤمن له جنات النعيم ، أما الكافر فله نار الجحيم .
وإن تشكروا الله على نعمه - أيها الناس - بأن تخلصوا له العبادة والطاعة وتستعملوا نعمه فيما خلقت له ، يرض لكم هذا الشكر ، ويكافئكم عليه مكافأة جزيلة . بأن يزيدكم من نعمه وإحسانه وخيره .
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أى : ولا تحمل نفس يوم القيامة حمل أخرى ، وِإنما كل نفس تجازى على حسب أعمالها فى الدنيا .
{ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ } أى : فيخبركم { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فى دنياكم ، ويجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أى : عليم بما تخفيه الصدور من أسرار ، وبما تضمره القلوب من أقوال وأفعال . . لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء .
قال الجمل فى حاشيته : قوله : { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } معنى عدم الرضا به ، لا يفعل فعل الراضى ، بأن يأذن فيه ويقر عليه ، ويثيب فاعله ويمدحه ، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه ، ويذم عليه ، ويعاقب مرتكبه وإن كان بإرادته ، إذ لا يخرج شئ عنها .
أو المعنى : ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وهم الذين قال الله - تعالى - فى شأنهم : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } فيكون الكلام عاما فى اللفظ خاصا فى المعنى ، كقوله - تعالى - : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } أى بعض العباد وبذلك ترى هذه الآية الكريمة قد أقامت الأدلة المتعددة على وحدانية الله - تعالى - وعلى كمال قدرته ، وعلى أن من شكر الله - تعالى - على نعمه ، فإن عاقبة هذا الكشر تعود على الشاكر بالخير الجزيل ، أما من جحد نعم الله - تعالى - وأشرك معه فى العبادة غيره ، فإن عاقبة هذا الجحود ، تعود على الجاحد بالشرك الوبيل ، وبالشفاء فى الدنيا والآخرة .
وأمام هذه الرؤية الواضحة لآية الوحدانية المطلقة ، وآية القدرة الكاملة ، يقفهم أمام أنفسهم . في مفرق الطريق بين الكفر والشكر . وأمام التبعة الفردية المباشرة في اختيار الطريق . ويلوح لهم بنهاية الرحلة ، وما ينتظرهم هناك من حساب ، يتولاه الذي يخلقهم في ظلمات ثلاث . والذي يعلم ما تكن صدورهم من خفايا الصدور :
( إن تكفروا فإن الله غني عنكم . ولا يرضى لعباده الكفر . وإن تشكروا يرضه لكم . ولا تزر وازرة وزر أخرى . ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون . إنه عليم بذات الصدور ) . .
إن هذه الرحلة في بطون الأمهات هي مرحلة في الطريق الطويل . تليها مرحلة الحياة خارج البطون . ثم تعقبها المرحلة الأخيرة مرحلة الحساب والجزاء . بتدبير المبدع العليم الخبير .
والله - سبحانه - غني عن العباد الضعاف المهازيل . إنما هي رحمته وفضله أن يشملهم بعنايته ورعايته . وهم من هم من الضعف والهزال !
( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ) . .
فإيمانكم لا يزيد في ملكه شيئاً . وكفركم لا ينقص منه فتيلاً . ولكنه لا يرضى عن كفر الكافرين ولا يحبه :
ويعجبه منكم ، ويحبه لكم ، و يجزيكم عليه خيراً .
وكل فرد مأخوذ بعمله ، محاسب على كسبه ؛ ولا يحمل أحد عبء أحد . فلكل حمله وعبؤه :
( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) . .
والمرجع في النهاية إلى الله دون سواه ؛ ولا مهرب منه ولا ملجأ عند غيره :
( ثم إلى ربِّكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون ) . .
هذه هي العاقبة . وتلك هي دلائل الهدى . وهذا هو مفرق الطريق . . ولكل أن يختار . عن بينة . وعن تدبر . وبعد العلم والتفكير . .
يقول تعالى مخبرا عن نفسه تعالى : أنه الغني عما سواه من المخلوقات ، كما قال موسى : { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] . وفي صحيح مسلم : " يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا " .
وقوله { وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } أي : لا يحبه ولا يأمر به ، { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } أي : يحبه منكم ويزدكم من فضله .
{ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : لا تحمل نفس عن نفس شيئا ، بل كل مطالب بأمر نفسه ، { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : فلا تخفى عليه خافية .
{ إن تكفروا فإن الله غني عنكم } عن إيمانكم . { ولا يرضى لعباده الكفر } لاستضرارهم به رحمة عليهم . { وإن تشكروا يرضه لكم } لأنه سبب فلا حكم ، وقرأ ابن كثير ونافع في رواية وأبو عمرو والكسائي بإشباع ضمة الهاء لأنها صارت بحذف الألف موصولة بمتحرك ، وعن أبي عمرو ويعقوب إسكانها وهو لغة فيها . { ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون } بالمحاسبة والمجازاة . { إنه عليم بذات الصدور } فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم .
قال ابن عباس : هذه الآية مخاطبة للكفار الذي لم يرد الله أن يطهر قلوبهم . و «عباده » : هم المؤمنون .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون مخاطبة لجميع الناس ، لأن الله تعالى غني عن جميع الناس وهم فقراء إليه ، وبين بعد البشر عن رضى الله إن كفروا بقوله : { إن تكفروا } .
واختلف المتأولون من أهل السنة في تأويل قوله : { ولا يرضى لعباده الكفر } فقالت فرقة : الرضى بمعنى الإرادة واللام ظاهره العموم ومعناه الخصوص فيمن قضى الله له بالإيمان وحتمه له : و «عباده » على هذا ملائكته ومؤمنو البشر والجن ، وهذا يتركب على قول ابن عباس . وقالت فرقة : الكلام عموم صحيح ، والكفر يقع ممن يقع بإرادة الله ، إلا أنه بعد وقوعه لا يرضاه ديناً لهم ، فهذا يتركب على الاحتمال الذي تقدمك آنفاً . ومعنى : لا يرضاه لا يشكره لهم ولا يثيبهم به خيراً ، فالرضى على هذا هو صفة فعل لمعنى القبول ونحوه . وتأمل الإرادة فإنها حقيقة ، إنما هي فيما لم يقع بعد ، والرضى ، فإنما حقيقة فيما قد وقع ، واعتبر هذا في آيات القرآن تجده ، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا .
وقوله تعالى : { وإن تشكروا يرضه لكم } عموم ، والشكر الحقيقي في ضمنه الإيمان .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الكسائي : «يرضهُ » بضمة على الهاء مشبعة . وقرأ ابن عامر وعاصم «يرضه » بضمة على الهاء غير مشبعة ، واختلف عن نافع وأبي عمرو . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : «يرضهْ » بسكون الهاء ، قال أبو حاتم : وهو غلط لا يجوز ، قال تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا يحمل أحد ذنب أحد ، وأنث «الوازرة » و «الأخرى » لأنه أراد الأنفس . والوزر الثقل ، وهذا خبر مضمنه الحض على أن ينظر كل أحد في خاصة أمره وما ينوبه في ذاته .
ثم أخبرهم تعالى بأن مرجعهم في الآخرة إلى ربهم ، أي إلى ثوابه أو عقابه ، فيوقف كل أحد على أعماله ، لأنه المطلع على نيات الصدور وسائر الأفئدة . و «ذات الصدور » : ما فيه من خبيئة ، ومنه قولهم : الذيب مغبوط بذي بطنه .
{ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } .
أتبع إنكار انصرافهم عن توحيد الله بعد ما ظهر على ثبوته من الأدلة ، بأن أُعلموا بأن كفرهم إن أصرّوا عليه لا يضر الله وإنما يضر أنفسهم . وهذا شروع في الإِنذار والتهديد للكافرين ومقابلتِه بالترغيب والبشارة للمؤمنين فالجملة مستأنفة واقعة موقع النتيجة لما سبق من إثبات توحيد الله بالإلهية .
فجملة { إن تَكْفُرُوا } مبينة لإِنكار انصرافهم عن التوحيد ، أي إن كفرتم بعد هذا الزمن فاعلموا أن الله غنيّ عنكم . ومعناه : غنيّ عن إقراركم له بالوحدانية ، أي غير مفتقر له . وهذا كناية عن كون طلب التوحيد منهم لنفعهم ودفع الضر عنهم لا لنفع الله ، وتذكيرهم بهذا ليُقبلوا على النظر من أدلة التوحيد . والخبر مستعمل كناية في تنبيه المخاطب على الخطأ من فعله .
وقوله : { ولاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ } اعتراض بين الشرطين لقصد الاحتراس من أن يتوهم السامعون أن الله لا يكترث بكفرهم ولا يعبأ به فيتوهموا أنه والشكرَ سواء عنده ، ليتأكد بذلك معنى استعمال الخبر في تنبيه المخاطب على الخطأ . وبهذا تعيّن أن يكون المراد من قوله : { لِعِبَادِهِ } العباد الذين وجّه الخطاب إليهم في قوله : { إن تكفروا فإنَّ الله غنيٌّ عنكم } ، وذلك جريٌ على أصل استعمال اللغة لفظ العباد ، كقوله : { ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل } [ الفرقان : 17 ] . الآية ؛ وإن كان الغالب في القرآن في لفظ العباد المضاف إلى اسم الله تعالى أو ضميره أن يطلق على خصوص المؤمنين والمقرَّبين ، وقرينة السياق ظاهرة هنا ظهوراً دون ظهورها في قوله : { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } [ الفرقان : 17 ] .
والرضى حقيقته : حالة نفسانية تعقُب حصولَ ملائم مع ابتهاج به ، وهو على التحقيق فيه معنى ليس في معنى الإِرادة لما فيه من الاستحسان والابتهاج ويعبر عنه بترك الاعتراض ، ولهذا يقابل الرضى بالسخط ، وتقابل الإِرادة بالإِكراه ، والرضى آئل إلى معنى المحبة . والرضى يترتب عليه نفاسة المرضيّ عند الراضي وتفضيله واختياره ، فإذا أُسند الرضى إلى الله تعالى تعيّن أن يكون المقصود لازم معناه الحقيقي لأن الله منزّه عن الانفعالات ، كشأن إسناد الأفعال والصفات الدالة في اللغة على الانفعالات مثل : الرحمان والرؤوف ، وإسناد الغضب والفرح والمحبة ، فيؤوَّل الرضى بلازمه من الكرامة والعناية والإِثابة إن عدي إلى الناس ، ومن النفاسة والفضل إن عدّي إلى أسماء المعاني . وقد فسره صاحب « الكشاف » بالاختيار في قوله تعالى : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } في سورة [ العقود : 3 ] .
وفعل الرضى يُعدّى في الغالب بحرف ( عن ) ، فتدخل على اسم عَين لكن باعتبار معنى فيها هو موجب الرضى . وقد يعدّى بالباء فيدخل غالباً على اسم معنى نحو : رضيت بحكم فلان ، ويدخل على اسم ذات باعتبار معنى يدل عليه تمييز بعده نحو : رضيت بالله ربًّا ، أو نحوه مثل : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } [ التوبة : 38 ] ، أو قرينة مقام كقول قريش في وضع الحجر الأسود : هذا محمد قد رضينا به ، أي رضينا به حَكَماً إذ هم قد اتفقوا على تحكيم أول داخل .
ويعدّى بنفسه ، ولعله يراعى فيه التضمين ، أو الحذفُ والإِيصال ، فيدخل غالباً على اسم معنى نحو : رضيت بحكم فلان بمعنى : أحببت حكمه . وفي هذه الحالة قد يُعدّى إلى مفعول ثان بواسطة لام الجر نحو : { ورضيت لكم الإِسلام ديناً } [ المائدة : 3 ] ، أي رضيته لأجلكم وأحببته لكم ، أي لأجلكم ، أي لمنفعتكم وفائدتكم . وفي هذا التركيب مبالغة في التنويه بالشيء المرضي لدى السامع حتى كأن المتكلم يرضاه لأجل السامع .
فإذا كان قوله : { لِعبَادِه } عامّاً غير مخصوص وهو من صيغ العموم ثار في الآية إشكال بين المتكلمين في تعلُّق إرادة الله تعالى بأفعال العباد إذ من الضروريّ أن من عباد الله كثيراً كافرين ، وقد أخبر الله تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر ، وثبت بالدليل أن كل واقع هو مراد الله تعالى إذ لا يقع في مُلكه إلا ما يريد فأنتج ذلك بطريقة الشكل الثالث أن يقال : كفر الكافر مرادٌ لله تعالى لقوله تعالى : { ولو شاء ربك ما فعلوه } [ الأنعام : 112 ] ولا شيء من الكفر بمرضي لله تعالى لقوله : { ولا يرضى لعباده الكُفر } ، ينتج القياس بعض ما أراده اللَّه ليس بمرضي له فتعين أن تكون الإِرادة والرضى حقيقتين مختلفتين وأن يكون لفظاهما غير مترادفين ، ولهذا قال الشيخ أبو الحسن الأشعري إن الإِرادة غير الرضى ، والرضى غير الإِرادة والمشيئة ، فالإِرادة والمشيئة بمعنى واحد والرضى والمحبة والاختيار بمعنى واحد ، وهذا حمل لهذه الألفاظ القرآنية على معان يمكن معها الجمع بين الآيات قال التفتزاني : وهذا مذهب أهل التحقيق .
وينبني عليها القول في تعلق الصفات الإلهية بأفعال العباد فيكون قولُه تعالى : { ولاَ يَرْضَى لعباده الكفر } راجعاً إلى خطاب التكاليف الشرعية ، وقولُه : { ولو شاء ربك ما فعلوه } [ الأنعام : 112 ] راجعاً إلى تعلق الإِرادة بالإِيجاد والخلق . ويتركب من مجموعهما ومجموع نظائر كل منهما الاعتقاد بأن للعباد كسباً في أفعالهم الاختيارية وأن الله تتعلق إرادته بخلق تلك الأفعال الاختيارية عند توجه كسب العبد نحوها ، فالله خالق لأفعال العبد غير مكتسب لها . والعبدُ مكتسب غير خالق ، فإن الكسب عند الأشعري هو الاستطاعة المفسرة عنده بسلامة أسباب الفعل وآلاته ، وهي واسطة بين القدرة والجَبر ، أي هي دون تعلق القدرة وفوق تسخير الجبر جمعاً بين الأدلة الدينية الناطقة بمعنى : أن الله على كل شيء قدير ، وأنه خالق كل شيء ، وبين دلالة الضرورة على الفرق بين حركة المرتعش وحركة الماشي ، وجمعاً بين أدلة عموم القدرة وبين توجيه الشريعة خطابها للعباد بالأمر بالإِيمان والأعمال الصالحة ، والنهي عن الكفر والسيئات وترتيب الثواب والعقاب .
وأما الذين رأوا الاتحاد بين معاني الإِرادة والمشيئة والرضى وهو قول كثير من أصحاب الأشعري وجميع الماتريدية فسلكوا في تأويل الآية محمل لفظ لِعِبَادِهِ } على العام المخصوص ، أي لعباده المؤمنين واستأنسوا لهذا المحمل بأنه الجاري على غالب استعمال القرآن في لفظة ( العباد ) لاسم الله ، أو ضميره كقوله : { عيناً يشرب بها عباد اللَّه } [ الإنسان : 6 ] ، قالوا : فمن كفر فقد أراد الله كفره ومن آمن فقد أراد الله إيمانه ، والتزم كلا الفريقين الأشاعرةِ والماتريدية أصلَه في تعلق إرادة الله وقدرته بأفعال العباد الاختيارية المسمّى بالكسب ، ولم يختلفا إلا في نسبة الأفعال للعباد : أهي حقيقية أم مجازية ، وقد عدّ الخلاف في تشبيه الأفعال بين الفريقين لفظياً .
ومن العجيب تهويل الزمخشري بهذا القول إذ يقول : « ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضى بالكفر فقال : هذا من العام الذي أريد به الخاص الخ » ، فكان آخر كلامه ردّاً لأوله وهل يعدّ التأويل تضليلاً أم هل يعد العام المخصوص بالدليل من النادر القليل .
وأما المعتزلة فهم بمعزل عن ذلك كله لأنهم يثبتون القدرة للعباد على أفعالهم وأن أفعال العباد غير مقدورة لله تعالى ويحملون ما ورد في الكتاب من نسبة أفعال من أفعال العباد إلى الله أو إلى قدرته أنه على معنى أنه خالق أُصولها وأسبابها ، ويحملون ما ورد من نفي ذلك كما في قوله : { ولا يرضى لعباده الكفر } على حقيقته ولذلك أوردوا هذه الآية للاحتجاج بها . وقد أوردها إمام الحرمين في « الإِرشاد » في فصل حَشر فيه ما استَدلّ به المعتزلة من ظواهر الكتاب .
وقوله : { وإن تَشْكُروا يَرْضَهُ لكم } عطف على جملة { إن تَكْفُرُوا } والمعنى : وإن تشكروا بعد هذه الموعظة فتُقْلِعوا عن الكفر وتشكروا الله بالاعتراف له بالوحدانية والتنزيه يرض لكم الشكر ، أي يجازيكم بلوازم الرضى . والشكرُ يتقوّم من اعتقاد وقول وعمل جزاءً على نعمة حاصلة للشاكر من المشكور . والضمير المنصوب في قوله : { يَرْضَهُ } عائد إلى الشكر المتصيّد من فعل { إن تشكروا } .
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } .
كأنّ موقع هذه الآية أنه لما ذكر قبلها أن في المخاطبين كافراً وشاكراً وهم في بلد واحد بينهم وشائج القرابة والولاء ، فربما تحرج المؤمنون من أن يمسَّهم إثم من جراء كفر أقربائهم وأوليائهم ، أو أنهم خَشُوا أن يصيب الله الكافرين بعذاب في الدنيا فيلحق منه القاطنين معهم بمكة فأنبأهم الله بأن كفر أولئك لا ينقص إيمان هؤلاء وأراد اطمئنانهم على أنفسهم .
وأصل الوزر ، بكسر الواو : الثقل ، وأطلق على الإِثم لأنه يلحق صاحبه تعبٌ كتعب حامل الثقل . ويقال : وَزَر بمعنى حمل الوِزر ، بمعنى كسب الإِثم . وتأنيث { وَازِرَةٌ } و { أخرى } باعتبار إرادة معنى النفس في قوله : { واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } [ البقرة : 48 ] .
والمعنى : لا تحمل نفس وزر نفس أخرى ، أي لا تغني نفس عن نفس شيئاً من إثمها ، فلا تطمع نفس بإعانة ذويها وأقربائها ، وكذلك لا تخشى نفس صالحة أن تؤاخذ بتبعة نفس أخرى من ذويها أو قرابتها .
وفي هذا تعريض بالمتاركة وقطع اللجاج مع المشركين وأن قصارى المؤمنين أن يرشدوا الضُّلاّل لا أن يلجئوهم إلى الإِيمان ، كما تقدم في آخر سورة الأنعام .
{ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
{ ثمّ } للترتيبين الرتبي والتراخي ، أي وأعظم من كون الله غنياً عنكم أنه أعدّ لكم الجزاء على كفركم وسترجعون إليه ، وتقدم نظيرها في آخر سورة الأنعام .
وإنما جاء في آية [ الأنعام : 164 ] { بما كنتم فيه تختلفون لأنها وقعت إِثر آيات كثيرة تضمّنت الاختلاف بين أحوال المؤمنين وأحوال المشركين ولم يجيء مثل ذلك هنا ، فلذلك قيل هنا : { بما كنتم تعملونَ } ، أي من كُفْر من كَفر وشُكر مَن شَكر .
والإِنباء : مستعمل مجازاً في الإِظهار الحاصل به العلم ، ويجوز أن يكون مستعملاً في حقيقة الإِخبار بأن يعلن لهم بواسطة الملائكة أعمالهم ، والمعنى : أنه يظهر لكم الحق لا مرية فيه أو يخبركم به مباشرة ، وتقدم بيانه في آخر الأنعام ، وفيه تعريض بالوعد والوعيد .
وجملة { إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } تعليل لجملة { ينبئكم بما كنتم تعملون } لأن العليم بذات الصدور لا يغادر شيئاً إلا علمه فإذا أنبأ بأعمالهم كان إنباؤه كاملاً .
وذات : صاحبة ، مؤنث ( ذُو ) بمعنى صاحب صفة لمحذوف تقديره الأعمال ، أي بالأعمال صاحبة الصدور ، أي المستقرة في النوايا فعبر ب { الصُّدُورِ } عما يحلّ بها ، والصدور مراد بها القلوب المعبر بها عما به الإِدراك والعَزم ، وتقدم في قوله : { ولكن اللَّه سلم إنه عليم بذات الصدور في سورة } [ الأنفال : 43 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول لكفار مكة: {إن تكفروا} بتوحيد الله.
{فإن الله غني عنكم} عن عبادتكم.
{ولا يرضى لعباده الكفر} الذين قال عز وجل عنهم لإبليس: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر:42]
{وإن تشكروا} يعني توحدوا الله.
{يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى}: لا تحمل نفس خطيئة أخرى.
{ثم إلى ربكم مرجعكم} في الآخرة {فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"إنْ تَكْفُرُوا فإنّ اللّهَ غَنيّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لعِبادِهِ الكُفْرَ"؛
فقال بعضهم: ذلك لخاص من الناس، ومعناه: إن تكفروا أيها المشركون بالله، فإن الله غني عنكم، ولا يرضى لعباده المؤمنين الذين أخلصهم لعبادته وطاعته الكفر... وقال آخرون: بل ذلك عام لجميع الناس، ومعناه: أيها الناس إن تكفروا، فإن الله غني عنكم، ولا يرضى لكم أن تكفروا به.
والصواب من القول في ذلك ما قال الله جلّ وعزّ: إن تكفروا بالله أيها الكفار به، فإنه غنيّ عن إيمانكم وعبادتكم إياه، ولا يرضى لعباده الكفر، بمعنى: ولا يرضى لعباده أن يكفروا به...
وقوله: "وَإنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ": يقول: وإن تؤمنوا بربكم وتطيعوه يرض شكركم له، وذلك هو إيمانهم به وطاعتهم إياه، فكنى عن الشكر ولم يُذْكر، وإنما ذكر الفعل الدالّ عليه، وذلك نظير قوله: "الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسُ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُم إِيمانا "بمعنى: فزادهم قول الناس لهم ذلك إيمانا... وقوله: "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى": يقول: لا تأثم آثمة إثم آثمة أخرى غيرها، ولا تؤاخذ إلا بإثم نفسها، يُعْلِم عزّ وجلّ عباده أن على كلّ نفس ما جنت، وأنها لا تؤاخذ بذنب غيرها...
وقوله: "ثُمّ إلى رَبّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ": يقول تعالى ذكره: ثم بعد اجتراحكم في الدنيا ما اجترحتم من صالح وسيئ، وإيمان وكفر أيها الناس، إلى ربكم مصيركم من بعد وفاتكم، "فينبئكم" يقول: فيخبركم بما كنتم في الدنيا تعملونه من خير وشرّ، فيجازيكم على كلّ ذلك جزاءكم، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بما يستحقه يقول عزّ وجلّ لعباده: فاتقوا أن تلقوا ربكم وقد عملتم في الدنيا بما لا يرضاه منكم تهلكوا، فإنه لا يخفى عليه عمل عامل منكم.
وقوله: "إنّهُ عَلِيمٌ بذاتِ الصّدُورِ" يقول تعالى ذكره: إن الله لا يخفى عليه ما أضمرته صدوركم أيها الناس مما لا تُدركه أعينكم، فكيف بما أدركته العيون ورأته الأبصار. وإنما يعني جلّ وعزّ بذلك الخبر عن أنه لا يخفى عليه شيء، وأنه مُحصٍ على عباده أعمالهم، ليجازيهم بها كي يتقوه في سرّ أمورهم وعلانيتها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} أي إن تكفروا دين الإسلام، ولم تسلموا، فإنه لا يقبل منكم دينا آخر.
{وإن تشكروا يرضه} وإن تسلموا {يرضه لكم} أي يقبل منكم كقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} [آل عمران: 85].
وجائز أن يكون قوله: {إن تكفروا} النعم التي عدها عليكم في ما تقدم ذكرها من قوله: {خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار} [الزمر: 5]...
{إن تكفروا} هذه النعم التي عدها عليكم فإنه غني عنكم، وإن تشكروا ما عد عليكم من النعم يقبل ذلك منكم.
وأصله أن الله عز وجل بين سبيل الهدى، ورغبهم إليه، وبين سبيل الضلال، وحذرهم منه، ثم بين أن من سلك سبيل الهدى فله كذا، ومن سلك سبيل الضلال فله كذا.
وأصل قوله: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم} إخبار أنه لم يأمركم في ما أمركم به ولا نهاكم عما نهاكم عنه لحاجة نفسه أو لمنفعة له في ذلك. ولكن إنما امتحنكم بما امتحنكم لحاجة أنفسكم ولمنفعتكم ولدفع الضرر عنكم. وكذلك ما أنشأ من الأشياء لم ينشئها لحاجة نفسه أو لمنفعة له، ولكن إنما أنشأها لكم ولمنافعكم. وكذلك لم ينشئها لأنفسها حتى إذا أتلف شيئا عوضها لها على ما تقول المعتزلة: أن ليس لله أن يتلفها إلا أن يعوضها بإزاء ذلك، ولكن أنشأها وليس لهم تعويض إن أتلف الله شيئا منها.
{ولا تزر وازرة وزر أخرى} ذكر هذا لوجهين: أحدهما: جواب لقولهم حين قال عز وجل: {وَقَالَ للَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} الآية [العنكبوت: 12] أخبر أن لا أحد يحمل وزر آخر، ولكن يحمل وزر نفسه.
والثاني: يخبر أن أمر الآخرة على خلاف أمر الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يحمل بعض آثام بعض، فأما في الآخرة فإنه لا يحمل أحد وزر آخر ولا آثامه.
{ثم إلى ربكم مرجعكم} خص البعث بالرجوع إليه مرة وبالمصير ثانيا والبروز له ونحو ذلك، وإن كانوا في جميع الأحوال راجعين إليه صائرين؛ لأن المقصود من إنشائهم في هذه الدنيا ذلك البعث، فخص لذلك الرجوع إليه.
{بذات الصدور} لأن أصحاب الصدور هم يصدرون، ويظنون في صدورهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنْ أعرضتم وأَبَيْتُم، وفي جحودكم تماديتم... فَمَا نَفْتَقِرُ إليكم؛ إذا نحن أغنياء عنكم، ولكنّي لا أرضى لكم أن تبقوا عني! يا مسكين... أنت إنْ لم تكن لي فأنا عنكَ غنيٌّ، وأنا إن لم أكنْ لك فمن تكون أنت؟ ومَنْ يكون لك؟ مَن الذي يُحْسِنُ إليك؟ مَن الذي ينظر إليك؟ من الذي يرحمك؟من الذي ينثر الترابَ على جراحِك؟ من الذي يهتم بشأنك؟ بمن تسلو إذا بَقِيتَ عنِّي؟ مَن الذي يبيعك رغيفاً بمثاقيل ذهب؟!. عَبْدي... أنا لا أرضى ألا تكونَ لي وأنت ترضى بألا تكون لي! يا قليلَ الوفاء، يا كثيرَ التجنِّي! إن أطَعْتَنِي شَكَرْتُك، وإن ذكَرْتَنِي ذكرتُك، وإن خَطَوتَ لأَجْلي خطوةً ملأتُ السماواتِ والأرضين من شكرك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ} عن إيمانكم وإنكم المحتاجون إليه، لاستضراركم بالكفر واستنفاعكم بالإيمان {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} رحمة لهم؛ لأنه يوقعهم في الهلكة {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} أي يرض الشكر لكم، لأنه سبب فوزكم وفلاحكم؛ فإذاً ما كره كفركم ولا رضي شكركم إلاّ لكم ولصلاحكم، لا لأنّ منفعة ترجع إليه؛ لأنه الغني الذي لا يجوز عليه الحاجة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولا تزر وازرة وزر أخرى} والوزر: الثقل، وهذا خبر مضمنه الحض على أن ينظر كل أحد في خاصة أمره وما ينوبه في ذاته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولا يرضى} لكم -هكذا كان الأصل بدليل ما سبقه ولحقه، وإنما أظهر ليعم وليذكرهم بما يجدونه في أنفسهم من أن أحداً منهم لا يرضى لعبده أن يؤدي خرجه إلى غيره بغير إذنه فقال: {لعباده} أي الذين تفرد بإيجادهم وتربيتهم.
{الكفر} بالإقبال على سواه وأنتم لا ترضون ذلك لعبيدكم مع أن ملككم لهم في غاية الضعف.
{وإن تشكروا} أي بالعبادة والإخلاص فيها {يرضه} أي الشكر الدال عليه فعله.
{لكم} أي الرضى اللائق بجنابه سبحانه بأن يقركم عليه أو يأمركم به ويثيبكم على فعله، والقسمان بإرادته، واختلاف القراء في هائه دال على مراتب الشكر- فالوصل للواصلين إلى النهاية على اختلاف مراتبهم في الوصول والاختلاس للمتوسطين والإسكان لمن في الدرجة الأولى منه.
ولما كان في سياق الحكم والقهر، وكانت عادة القهارين أن يكلفوا بعض الناس ببعض ويأخذوهم بجرائرهم لينتظم لهم العلو على الكل لعدم إحاطة علمهم بكل مخالف لأمرهم، بين أنه سبحانه على غير ذلك فقال: {ولا تزر وازرة} أي وازرة كانت {وزر أخرى} والإثم الذي يكتب على الإنسان بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس وزر غيره، وإنما هو وزر نفسه، فوزر الفاعل على الفعل، ووزر الساكت على الترك لما لزمه من الأمر والنهي.
ولما كان الجزاء تابعاً للعلم، قال معبراً عنه به: {فينبئكم} أي فيتسبب عن البعث أنه يخبركم إخباراً عظيماً {بما كنتم تعملون} أي بما كان في طبعكم العمل به سواء عملتموه بالفعل أم لا ثم يجازيكم عليه إن شاء.
ولما كان المراد -كما أشار إليه بكان- الإخبار بجميع الأعمال الكائنة بالفعل أو القوة حسن التعليل بقوله: {إنه عليم} أي بالغ العلم {بذات الصدور} أي بصاحبتها من الخواطر والعزوم، وذلك بما دلت عليه الصحبة -كل ما لم يبرز إلى الخارج، فهو بما برز أعلم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ولاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} اعتراض بين الشرطين لقصد الاحتراس من أن يتوهم السامعون أن الله لا يكترث بكفرهم ولا يعبأ به فيتوهموا أنه والشكرَ سواء عنده، ليتأكد بذلك معنى استعمال الخبر في تنبيه المخاطب على الخطأ. وبهذا تعيّن أن يكون المراد من قوله: {لِعِبَادِهِ} العباد الذين وجّه الخطاب إليهم في قوله: {إن تكفروا فإنَّ الله غنيٌّ عنكم}، وذلك جريٌ على أصل استعمال اللغة لفظ العباد، كقوله: {ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل} [الفرقان: 17]. الآية؛ وإن كان الغالب في القرآن في لفظ العباد المضاف إلى اسم الله تعالى أو ضميره أن يطلق على خصوص المؤمنين والمقرَّبين، وقرينة السياق ظاهرة هنا ظهوراً دون ظهورها في قوله: {أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء} [الفرقان: 17]...
والرضى حقيقته: حالة نفسانية تعقُب حصولَ ملائم مع ابتهاج به، فإذا أُسند الرضى إلى الله تعالى تعيّن أن يكون المقصود لازم معناه الحقيقي؛ لأن الله منزّه عن الانفعالات، كشأن إسناد الأفعال والصفات الدالة في اللغة على الانفعالات مثل: الرحمان والرؤوف، وإسناد الغضب والفرح والمحبة، فيؤوَّل الرضى بلازمه من الكرامة والعناية والإِثابة إن عدي إلى الناس، ومن النفاسة والفضل إن عدّي إلى أسماء المعاني...
وفعل الرضى في هذه الحالة قد يُعدّى إلى مفعول ثان بواسطة لام الجر نحو: {ورضيت لكم الإِسلام ديناً} [المائدة: 3]، أي رضيته لأجلكم وأحببته لكم، أي لأجلكم، أي لمنفعتكم وفائدتكم. وفي هذا التركيب مبالغة في التنويه بالشيء المرضي لدى السامع،حتى كأن المتكلم يرضاه لأجل السامع...
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} كأنّ موقع هذه الآية أنه لما ذكر قبلها أن في المخاطبين كافراً وشاكراً وهم في بلد واحد بينهم وشائج القرابة والولاء، فربما تحرج المؤمنون من أن يمسَّهم إثم من جراء كفر أقربائهم وأوليائهم، أو أنهم خَشُوا أن يصيب الله الكافرين بعذاب في الدنيا فيلحق منه القاطنين معهم بمكة فأنبأهم الله بأن كفر أولئك لا ينقص إيمان هؤلاء وأراد اطمئنانهم على أنفسهم، وأصل الوزر، بكسر الواو: الثقل، وأطلق على الإِثم؛ لأنه يلحق صاحبه تعبٌ كتعب حامل الثقل. ويقال: وَزَر بمعنى حمل الوِزر، بمعنى كسب الإِثم، وتأنيث {وَازِرَةٌ} و {أخرى} باعتبار إرادة معنى النفس في قوله: {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً}
[البقرة: 48]. والمعنى: لا تحمل نفس وزر نفس أخرى، أي لا تغني نفس عن نفس شيئاً من إثمها، فلا تطمع نفس بإعانة ذويها وأقربائها، وكذلك لا تخشى نفس صالحة أن تؤاخذ بتبعة نفس أخرى من ذويها أو قرابتها. وفي هذا تعريض بالمتاركة وقطع اللجاج مع المشركين وأن قصارى المؤمنين أن يرشدوا الضُّلاّل لا أن يلجئوهم إلى الإِيمان، كما تقدم في آخر سورة الأنعام...
بعد أنْ حَنَّنَ الحق سبحانه الخَلْق بذكر الربوبية التي خلقت وربتْ، وأمرتْ، وبذكر الألوهية التي ضمنتْ صلاح البلاد والعباد، بيَّن سبحانه أنه الغني عن خَلْقه، فقال تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ} يعني: غني عن إيمانكم ولا تنفعه طاعاتكم.
فهو سبحانه جعل التكاليف لصلاح حالكم لا لمنفعة تعود عليه سبحانه، فأنتم خَلْقه وصَنْعته، والصانع يريد أنْ يرى صنعته على أحسن حال، يرى العبد المؤمن في المجتمع المؤمن الذي تتساند حركته لا تتعاند، وتتفق توجهاته لا تتضارب، الخالق سبحانه لا يحب أنْ يرى خَلْقه يتصارعون، واحد يبني والآخر يهدم.
إذن: هذا هو الهدف من الخَلْق ومن المنهج؛ لأن الله تعالى بصفات الكمال فيه خلق الخَلْق، ولم يزدْه الخَلْق صفة واحدة لم تكُن له من قبل، إذن: لا حاجة له إليكم. إنما أنتم صنعته ويريد لكم الخير...
ومعنى قوله تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ}... وقوله سبحانه: {وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} دليل على محبته سبحانه لخَلْقه، فكأنه تعالى يقول: أنا غني عنكم، لكن لا أحب أنْ تكونوا كافرين؛ لأنني أريد أن أباهي بكم ملائكتي الذين قالوا عنكم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]...
فالحق سبحانه لا يرضى لعباده الكفر لأنهم خَلْقه وصَنْعته، وهو سبحانه حريص على ما يُصلحهم، حريص على أنْ يكونوا مؤمنين لتستقيم أمورهم، وتمتد نِعَمه عليهم من الدنيا إلى الآخرة، فكما أنعم عليهم في الدنيا بِنعم موقوتة يريد أنْ يُنعم عليهم في الآخرة ونِعَم الآخرة باقية خالدة...
{وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} فإن تشكروا يرضى لكم الشكر، ويعجبه منكم، ويحبه لكم، ويجزيكم عليه خيراً، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ..} [إبراهيم: 7]، فالشكر على النعمة يعطينا مزيداً من النعمة، فنشكر عليها فتعطينا المزيد، وهكذا يظل الشكر دائماً والنعمة دائمة...
{ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ} يعني: إنْ كنتُ قد بدأتُ خَلْقكم بالإكرام لكم، وقابلتم هذا الإكرام بالجحود، ولم تؤدوا حَقّه بالإيمان بي والطاعة لمنهجي، فاعلموا أنكم سترجعون إليَّ ولن تفلتوا مني {فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: يخبركم بما كان منكم.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7] إذن: تذكروا دائماً هذه المسألة، واحسبوا حسابها قبل فوات الأوان.
وهذه الآية تحذير من الحق سبحانه، وبيان للعقوبة من شأنه أنْ يردع الناسَ عن الجرائم، فلا تقع ولا تحدث العقوبة أصلاً، وهذا من رحمة الخالق بالخَلْق، فهو سبحانه يريد لهم الخير، ويريد لهم أنْ ينعموا بنعمه في الآخرة، كما نَعِموا بنعمه في الدنيا.