ثم بشره - سبحانه - ببشارة أخرى فقال : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } والشانئ : هو المبغض لغيره ، يقال : شَنَأَ فلان شَنْئاً ، إذا أبغضه وكرهه .
والأبتر فى الأصل : هو الحيوان المقطوع الذنب ، والمراد به هنا : الإِنسان الذى لا يبقى له ذكر . ولا يدوم له أثر .
شبه بقاء الذكر الحسن بذنب الحيوان ؛ لأنه تابع له وهو زينته ، وشبه الحرمان من ذلك ببتر الذي وقطعه .
والمعنى : إن مبغضك وكارهك - أيها الرسول الكريم - هو المقطوع عن كل خير ، والمحروم من كل ذكر حسن .
قال الإِمام ابن كثير : " كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له ، فإذا هلك انقطع ذكره ، فأنزل الله - تعالى - هذه السورة " .
وقال السدى : كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا : بتر ، فلما مات أبناء النبى صلى الله عليه وسلم قالوا : بتر محمد ، فأنزل الله هذه الآية .
وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر إذا مات انقطع ذكره ، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه ينقطع ذكره ، وحاشا وكلا ؛ بل أبقى الله ذكره على رءوس الأشهاد ، وأوجب شرعه على رقاب العباد ، مستمرا على دوام الآباد ، إلى يوم الحشر والمعاد ، صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم التناد . . .
في الآية الأولى قرر أنه ليس أبتر بل هو صاحب الكوثر . وفي هذه الآية يرد الكيد إلى كائديه ، ويؤكد - سبحانه - أن الأبتر ليس هو محمد ، إنما هم شانئوه وكارهوه .
ولقد صدق فيهم وعيد الله . فقد انقطع ذكرهم وانطوى . بينما امتد ذكر محمد وعلا . ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم ، في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهدوه سامعوه الأولون !
إن الإيمان والحق والخير لا يمكن أن يكون أبتر . فهو ممتد الفروع عميق الجذور . وإنما الكفر والباطل والشر هو الأبتر مهما ترعرع وزها وتجبر . .
إن مقاييس الله غير مقاييس البشر . ولكن البشر ينخدعون ويغترون فيحسبون مقاييسهم هي التي تقرر حقائق الأمور ! وأمامنا هذا المثل الناطق الخالد . . فأين الذين كانوا يقولون عن محمد [ صلى الله عليه وسلم ] قولتهم اللئيمة ، وينالون بها من قلوب الجماهير ، ويحسبون حينئذ أنهم قد قضوا على محمد وقطعوا عليه الطريق ? أين هم ? وأين ذكراهم ، وأين آثارهم ? إلى جوار الكوثر من كل شيء ، ذلك الذي أوتيه من كانوا يقولون عنه : الأبتر ? !
إن الدعوة إلى الله والحق والخير لا يمكن أن تكون بتراء ولا أن يكون صاحبها أبتر ، وكيف وهي موصولة بالله الحي الباقي الأزلي الخالد ? إنما يبتر الكفر والباطل والشر ويبتر أهله ، مهما بدا في لحظة من اللحظات أنه طويل الأجل ممتد الجذور . .
وقوله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } أي : إن مبغضك - يا محمد - ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين ، هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع ذكْرُه .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة : نزلت في العاص بن وائل .
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان قال : كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له ، فإذا هلك انقطع ذكره . فأنزل الله هذه السورة .
وقال شَمِر بن عطية : نزلت في عقبة بن أبي مُعَيط .
وقال ابن عباس أيضا ، وعكرمة : نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من كفار قريش .
وقال البزار : حدثنا زياد بن يحيى الحَسَّاني ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش : أنت سيدهم ، ألا ترى إلى هذا المُصَنْبر{[30636]} المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة ، وأهل السقاية ؟ فقال : أنتم خير منه . قال : فنزلت : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ }
هكذا رواه البزار{[30637]} وهو إسناد صحيح .
وعن{[30638]} عطاء : نزلت في أبي لهب ، وذلك حين مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين وقال : بُتِرَ محمد الليلة . فأنزل الله في ذلك : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ }
وعن ابن عباس : نزلت في أبي جهل . وعنه : { إِنَّ شَانِئَكَ } يعني : عدوك . وهذا يَعُمُّ جميعَ من اتصفَ بذلك ممن ذكر ، وغيرهم .
وقال عكرمة : الأبتر : الفرد . وقال السُّدِّي : كانوا إذا مات ذكورُ الرجل قالوا : بُتر . فلما مات أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : بتر محمد . فأنزل الله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ }
وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره ، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه ينقطع ذكره ، وحاشا وكلا ؛ بل قد أبقى الله ذكره على رءوس الأشهاد ، وأوجب شرعه على رقاب العباد ، مستمرا على دوام الآباد ، إلى يوم الحشر والمعاد{[30639]} صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد .
وقوله تعالى : { إن شانئك هو الأبتر } رد على مقالة كان كثير من سفهاء قريش يقولها لما لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولد ، فكانوا يقولون : هو أبتر يموت فنستريح منه ، ويموت أمره بموته ، فقال الله تعالى وقوله الحق : { إن شانئك هو الأبتر } ، أي المقطوع المبتور من رحمة الله تعالى ، ولو كان له بنون فهم غير نافعيه ، «والشانىء » : المبغض ، وقال قتادة { الأبتر } هنا يراد به الحقير الذليل ، وقال عكرمة : مات ابن للنبي صلى الله عليه وسلم فخرج أبو جهل يقول : بتر محمد ، فنزلت السورة ، وقال ابن عباس : نزلت في العاص بن وائل سمى النبي صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه عبد الله أبتر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.