التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (90)

قال القرطبي ما ملخصه : قوله - تعالى - : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } ، اختلف العلماء فى تأويل العدل والإِحسان ، فقال ابن عباس : العدل : لا إله إلا الله ، والإِحسان : أداء الفرائض . وقيل : العدل : الفرض . والإِحسان : النافلة ، وقال علي بن أبي طالب : العدل : الإِنصاف . والإحسان : التفضل .

وقال ابن العربي : العدل بين العبد وربه : إيثار حقه - تعالى - على حظ نفسه ، وتقديم رضاه على هواه ، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر . وأما العدل بينه وبين نفسه : فمنعه ما فيه هلاكها . . وأما العدل بينه وبين غيره : فبذل النصيحة ، وترك الخيانة فيما قل أو كثر ، والإِنصاف من نفسك لهم بكل وجه .

وأما الإِحسان ، فهو مصدر أحسن يحسن إحسانا . ويقال على معنيين : أحدهما : متعد بنفسه ، كقولك : أحسنت كذا ، أي : حسنته وأتقنته وكملته ، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء . وثانيهما : متعد بحرف جر ، كقولك : أحسنت إلى فلان ، أي : أوصلت إليه ما ينتفع به . وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معا . . .

ومن هذا الكلام الذي نقلناه بشيء من التلخيص عن الإِمام القرطبي ، يتبين لنا أن العدل : هو أن يلتزم الإِنسان جانب الحق والقسط في كل أقواله وأعماله ، وأن الإِحسان يشمل إحسان الشيء في ذاته ، سواء أكان هذا الشيء يتعلق بالعقائد أم بالعبادات أم بغيرهما ، كما يشمل إحسان المسلم إلى غيره .

فالإِحسان أوسع مدلولا من العدل ؛ لأنه إذا كان العدل معناه : أن تعطي كل ذي حق حقه ، بدون إفراط أو تفريط ، فإن الإِحسان يندرج تحته أن تضيف إلى ذلك : العفو عمن أساء إليك ، والصلة لمن قطعك ، والعطاء لمن حرمك .

وإيثار صيغة المضارع في قوله : { إِنَّ الله يَأْمُرُ . . . } ، لإِفادة التجدد والاستمرار . ولم يذكر - سبحانه - متعلقات العدل والإِحسان ليعم الأمر جميع ما يعدل فيه ، وجميع ما يجب إحسانه وإتقانه من أقوال وأعمال ، وجميع ما ينبغي أن تحسن إليه من إنسان أو حيوان أو غيرهما .

وقوله - تعالى - : { وَإِيتَآءِ ذِي القربى } ، فضيله ثالثة معطوفة على ما قبلها ، من عطف الخاص على العام ، إذ هي مندرجة في العدل والإِحسان .

وخصها - سبحانه - بالذكر اهتماما بأمرها ، وتنويها بشأنها ، وتعظيما لقدرها .

والإِيتاء : مصدر بمعنى الإِعطاء ، وهو هنا مصدر مضاف لمفعوله .

والمعنى : إن الله - يأمركم - أيها المسلمون - أمرا دائما وواجبا ، أن تلتزموا الحق والإِنصاف في كل أقوالكم وأفعالكم وأحكامكم ، وأن تلتزموا التسامح والعفو والمراقبة لله - تعالى - في كل أحوالكم .

كما يأمركم أن تقدموا لأقاربكم على سبيل المعاونة والمساعدة ، ما تستطعيون تقديمه لهم من خير وبر . . ؛ لأن هذه الفضائل متى سرت بينكم ، نلتم السعادة في دينكم ودنياكم ، إذ بالعدل ينال كل صاحب حق حقه ، وبالإِحسان يكون التحاب والتواد والتراحم ، وبصلة الأقارب يكون التكافل والتعاون .

. .

وبعد أن أمر - سبحانه - بأمهات الفضائل ، نهى عن رءوس الرذائل فقال - تعالى - : { وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي . . } .

والفحشاء : كل ما اشتد قبحه من قول أو فعل . وخصها بعضهم بالزنا .

والمنكر : كل ما أنكر الشرع بالنهي عنه ، فيعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها .

والبغي : هو تجاوز الحد فى كل شيء يقال : بغى فلان على غيره ، إذا ظلمه وتطاول عليه .

وأصله من بغى الجرح ، إذا ترامى إليه الفساد . . .

أي : كما أمركم - سبحانه - بالعدل والإِحسان وإيتاء ذي القربى ، فإنه - تعالى - ينهاكم عن كل قبيح وعن كل منكر ، وعن كل تجاوز لما شرعه الله - عز وجل - .

وذلك لأن هذه الرذائل ما شاعت في أمة إلا وكانت عاقبتها خسرا ، وأمرها فرطا ، والفطرة البشرية النقية تأبى الوقوع أو الاقتراب من هذه الرذائل ؛ لأنها تتنافى مع العقول السليمة ، ومع الطباع القويمة .

ومهما روج الذين لم ينبتوا نباتا حسنا لتلك الرذائل ، فإن النفوس الطاهرة ، تلفظها بعيدا عنها ، كما يلفظ الجسم الأشياء الغريبة التي تصل إليه .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، أي : ينبهكم - سبحانه - أكمل تنبيه وأحكمه إلى ما يصلحكم ، عن طريق اتباع ما أمركم به وما نهاكم عنه ، لعلكم بذلك تحسنون التذكر لما ينفعكم ، وتعملون بمقتضى ما علمكم - سبحانه .

هذا ، وقد ذكر المفسرون في فضل هذه الآية كثيرا من الآثار والأقوال ، ومن ذلك ما أخرجه الحافظ أبو يعلى فى كتاب معرفة الصحابة . . قال : " بلغ أكثم بن صيفى مخرج النبى صلى الله عليه وسلم فأراد أن يأتيه ، فأبى قومه أن يدعوه وقالوا له : أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه . قال : فليأته من يبلغه عنى ويبلغنى عنه . فانتدب رجلان فأتيا النبى صلى الله عليه وسلم فقال له : نحن رسل أكثم بن صيفى وهو يسألك من أنت وما أنت ؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " أما أنا فمحمد ابن عبدالله ، وأما ما أنا ، فأنا عبد الله ورسوله " .

ثم تلا عليهم هذه الآية : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان . . } الآية .

فقالوا : ردد علينا هذا القول ، فردده عليهم حتى حفظوه ، فأتيا أكثم فقالا له : أبى أن يرفع نسبه ، فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب . . وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها ، فلما سمعهن أكثم قال : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها ، فكونوا في هذا الامر رءوسا ، ولا تكونوا فيه أذنابا " .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : أعظم آية في كتاب الله : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم . . } ، وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } ، وأكثر آية في كتاب الله تفويضا : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ . . } ، وأشد آية في كتاب الله رجاء : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً . . }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (90)

90

( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي . يعظكم لعلكم تذكرون . وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، إن الله يعلم ما تفعلون . ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة ، إنما يبلوكم الله به ، وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ، ولكن يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، ولتسألن عما كنتم تعملون ) . .

لقد جاء هذا الكتاب لينشيء أمة وينظم مجتمعا ، ثم لينشيء عالما ويقيم نظاما . جاء داء دعوة عالمية إنسانية لا تعصب فيها لقبيلة أو أمة أو جنس ؛ إنما العقيدة وحدها هي الآصرة والرابطة والقومية والعصبية .

ومن ثم جاء بالمباديء التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات ، واطمئنان الأفراد والأمم والشعوب ، والثقة بالمعاملات والوعود والعهود .

جاء ( بالعدل ) الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل ، لا تميل مع الهوى ، ولا تتأثر بالود والبغض ، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب ، والغني والفقير ، والقوة والضعف . إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع ، وتزن بميزان واحد للجميع .

وإلى جوار العدل . . ( الإحسان ) . . يلطف من حدة العمل الصارم الجازم ، ويدع الباب مفتوحا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثارا لود القلوب ، وشفاء لغل الصدور . ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا أو يكسب فضلا .

والإحسان أوسع مدلولا ، فكل عمل طيب إحسان ، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل ، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه ، وعلاقاته بأسرته ، وعلاقاته بالجماعة ، وعلاقاته بالبشرية جميعا .

ومن الإحسان ( إيتاء ذي القربى ) إنما يبرز الأمر به تعظيما لشأنه ، وتوكيدا عليه . وما يبني هذا على عصبية الأسرة ، إنما يبنيه على مبدأ التكافل الذي يتدرج به الإسلام من المحيط المحلي إلى المحيط العام . وفق نظريته التنظيمية لهذا التكافل .

( وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) . . والفحشاء كل أمر يفحش أي يتجاوز الحد . ومنه ما خصص به غالبا وهو فاحشة الاعتداء على العرض ، لأنه فعل فاحش فيه اعتداء وفيه تجاوز للحد حتى ليدل على الفحشاء ويختص بها . والمنكر كل فعل تنكره الفطرة ومن ثم تنكره الشريعة فهي شريعة الفطرة . وقد تنحرف الفطرة أحيانا فتبقى الشريعة ثابتة تشير إلى أصل الفطرة قبل انحرافها . والبغي الظلم وتجاوز الحق والعدل .

وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي . ما من مجتمع تشيع فيه الفاحشة بكل مدلولاتها ، والمنكر بكل مغرراته ، والبغي بكل معقباته ، ثم يقوم . .

والفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة ، مهما تبلغ قوتها ، ومهما يستخدم الطغاة من الوسائل لحمايتها . وتاريخ البشرية كله انتفاضات وانتفاضات ضد الفحشاء والمنكر والبغي . فلا يهم أن تقوم عهود وأن تقوم دول عليها حينا من الدهر ، فالانتفاض عليها دليل على أنها عناصر غريبة على جسم الحياة ، فهي تنتفض لطردها ، كما ينتفض الحي ضد أي جسم غريب يدخل إليه . وأمر الله بالعدل والإحسان ونهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي يوافق الفطرة السليمة الصحيحة ، ويقويها ويدفعها للمقاومة باسم الله . لذلك يجيء التعقيب : ( يعظكم لعلكم تذكرون ) فهي عظة للتذكر وتذكر وحي الفطرة الأصيل القويم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (90)

يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل ، وهو القسط والموازنة ، ويندب إلى الإحسان ، كما قال تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } [ النحل : 126 ] ، وقال : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ الشورى : 40 ] ، وقال : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } [ المائدة : 45 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا ، من{[16643]} شرعية العدل ، والندب إلى الفضل .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } ، قال : شهادة أن لا إله إلا الله .

وقال سفيان بن عيينة : العدل في هذا الموضع : هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا . والإحسان : أن تكون{[16644]} سريرته أحسن من علانيته . والفحشاء والمنكر : أن تكون{[16645]} علانيته أحسن من سريرته .

وقوله : { وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } ، أي : يأمر بصلة الأرحام ، كما قال : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } [ الإسراء : 26 ] .

وقوله : { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } ، فالفواحش : المحرمات . والمنكرات : ما ظهر منها من فاعلها ؛ ولهذا قيل في الموضع الآخر : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأعراف : 33 ] . وأما البغي فهو : العدوان على الناس . وقد جاء في الحديث : " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا ، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم " {[16646]} .

وقوله { يَعِظُكُمْ } ، أي : يأمركم بما يأمركم به من الخير ، وينهاكم عما{[16647]} ينهاكم عنه من الشر ، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، قال الشعبي ، عن شُتَيْر بن شَكَل : سمعت ابن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } الآية . رواه ابن جرير{[16648]} .

وقال سعيد عن قتادة : قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } الآية ، ليس من خُلُق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به ، وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه . وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها .

قلت : ولهذا جاء في الحديث : " إن الله يحب معالي الأخلاق ، ويكره سَفْسافها " {[16649]} .

وقال الحافظ أبو نُعَيم في كتابه " كتاب معرفة الصحابة " : حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي ، حدثنا يحيى{[16650]} بن محمد مولى بني هاشم ، حدثنا الحسن بن داود المنْكَدري ، حدثنا عمر بن علي المقدمي ، عن علي بن عبد الملك بن عمير{[16651]} عن أبيه قال : بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا : أنت كبيرنا ، لم تكن لتخف إليه ! قال : فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه . فانتدب رجلان ، فأتيا النبي{[16652]} صلى الله عليه وسلم ، فقالا : نحن رسل أكثم بن صيفي ، وهو يسألك : من أنت ؟ وما أنت{[16653]} ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما من أنا ، فأنا محمد بن عبد الله ، وأما ما أنا ، فأنا عبد الله ورسوله " . قال : ثم تلا عليهم هذه الآية : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، قالوا : اردد علينا هذا القول ، فردده عليهم حتى حفظوه . فأتيا أكثم ، فقالا : أبى أن يرفع نسبه ، فسألنا عن نسبه ، فوجدناه زاكي النسب ، وسطا في مضر ، وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها ، فلما سمعهن أكثم قال : إني قد أراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها ، فكونوا في هذا الأمر رءوسا ، ولا تكونوا فيه أذنابا{[16654]} .

وقد ورد في نزول هذه الآية الكريمة حديث حَسن ، رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شهر ، حدثني عبد الله بن عباس قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته جالس ، إذ مر به عثمان بن مظعون ، فكشر{[16655]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا تجلس ؟ " فقال : بلى . قال : فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله ، فبينما هو يحدثه إذ شَخَص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره في السماء ، فنظر ساعة إلى [ السماء ]{[16656]} ، فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يَمْنته في الأرض ، فتحرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره ، فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له ، وابن مظعون ينظر ، فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له ، شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة . فأتبعه بصره حتى توارى في السماء . فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى فقال : يا محمد ، فيما كنت أجالسك ؟ ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة ! قال : " وما رأيتني فعلت ؟ " قال : رأيتك شخص بصرك إلى السماء ، ثم وضعته حيث وضعته على يمينك ، فتحرفت إليه وتركتني ، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك . قال : " وفطنت لذلك ؟ " فقال عثمان : نعم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس " . قال : رسولُ الله ؟ قال : " نعم " . قال : فما قال لك ؟ قال : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي ، وأحببت محمدًا صلى الله عليه وسلم{[16657]} .

إسناد جيد متصل حسن ، قد{[16658]} بُيِّن فيه السماع المتصل . ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث عبد الحميد بن بَهرام مختصرًا .

حديث آخر : عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك ، قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا هُرَيْم ، عن لَيْث ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ، إذ شَخَصَ بَصره فقال : " أتاني جبريل ، فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ] }{[16659]} {[16660]} .

وهذا إسناد لا بأس به ، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين ، والله أعلم .


[16643]:في ف: "في".
[16644]:في ف: "يكون".
[16645]:في ف: "يكون".
[16646]:رواه أحمد في المسند (5/ 36) وأبو داود في السنن برقم (4902) والترمذي في السنن برقم (2511) وابن ماجه في السنن برقم (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
[16647]:في ف: "عن الذي".
[16648]:تفسير الطبري (14/ 109).
[16649]:رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق برقم (3) وأبو نعيم في الحلية (8/ 255) من طريق معمر، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد مرفوعًا، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث أبي حازم وسهل تفرد به عن أبي حازم معمر".
[16650]:في ف: "حدثنا محمد بن يحيى".
[16651]:في هـ، ت، أ: "علي بن عبد الله بن عمير" وهو خطأ، وانظر: معرفة الصحابة (2/ 420) والثقات لابن حبان (7/ 207) والإصابة (1/ 118).
[16652]:في أ: "رسول الله".
[16653]:في ف: "من أنت وصفاتك وما جئت به".
[16654]:معرفة الصحابة (2/ 420) قال ابن حجر: "وهو مرسل" وأورده ابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 146) وأنكر كون أكثم بن صيفي من الصحابة وانظر: الإصابة (1/ 119).
[16655]:في ف: "فكر".
[16656]:زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
[16657]:المسند (1/ 318).
[16658]:في ف: "وقد".
[16659]:زيادة من ف، أ، وفي هـ: "الآية".
[16660]:المسند (4/ 218).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (90)

{ إن الله يأمر بالعدل } ، بالتوسط في الأمور اعتقادا : كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك ، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر ، وعملا : كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب ، وخلقا : كالجود المتوسط بين البخل والتبذير . { والإحسان } ، إحسان الطاعات ، وهو إما بحسب الكمية ، كالتطوع بالنوافل ، أو بحسب الكيفية كما قال عليه الصلاة والسلام : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . { وإيتاء ذي القربى } ، وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه ، وهو تخصيص بعد تعميم للمبالغة . { وينهى عن الفحشاء } ، عن الإفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنا ، فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها . { والمنكر } : ما ينكر على متعاطيه في إثارة القوة الغضبية . { والبغي } : والاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم ، فإنها الشيطنة التي هي مقتضى القوة الوهمية ، ولا يوجد من الإنسان شر إلا وهو مندرج في هذه الأقسام ، صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث ، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه : هي أجمع آية في القرآن للخير والشر . وصارت سبب إسلام عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه ، ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية ، لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة للعالمين ، ولعل إيرادها عقب قوله : { ونزلنا عليك الكتاب } ، للتنبيه عليه . { يعظكم } ، بالأمر والنهي ، والميز بين الخير والشر . { لعلكم تذكّرون } ، تتعظون .