إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 58 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ( 59 )
قال ابن كثير - عند تفسيره للآية الأولى - : ذكر كثير من المفسرين " أن هذه الآية نزلت فى شأن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة . وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبى طلحة الذى صارت الحجابة فى نسله إلى اليوم . وسبب نزولها فيه : حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة منه يوم الفتح ثم رده عليه .
ثم قال : قال محمد بن إسحاق : حدثنى محمد بن جعفر عن عبيد الله بن أبى ثور عن صفية بنت شيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس ، خرج حتى أتى إلى البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن فى يده . فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ مفتاح الكعبة منه ففتحت له فدخلها .
ثم قام على باب الكعبة فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له . صدق وعده . ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمى هاتين : إلا سدانة البيت وسقاية الحاج .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين عثمان بن طلحة ؟ فدعى له . فقال : هاك متفاحك يا عثمان ! ! اليوم يوم بر ووفاء " .
هذا ونزول الآية الكريمة فى هذا السبب الخاص لا يمنع عمومها إذا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
والأمانات : جمع أمانة وهى مصدر سمى به المفعول . فهى بمعنى ما يؤتمن الإِنسان عليه .
والمعنى : إن الله تعالى - يأمركم - أيها المؤمنون - أن تؤدوا ما ائتمنتم عليه من الحقوق سواء أكانت هذه الحقوق لله - تعالى - أم للعباد . وسواء كانت فعلية أم قولية أم اعتقادية .
وقد أسند - سبحانه - الأمر إليه تأكيده ، اهتماما بالمأمور به ، وحضا للناس على أداء ما يؤتمنون عليه من علم ومال ، ودائع ، وأسرار ، وغير ذلك مما يقع فى دائرة الائتمان ، وتنبغى المحافظة عليه .
ومعنى أدائها إلى أهلها : توصيلها إلى أصحابها كما هى من غير بخس أو تطفيف أو تحريف أو غير ذلك مما يتنافى مع أدائها بالطريقة التى ترضى الله - تعالى .
ومن الآيات القرآنية التى نوهت بشأن الأمانة وأمرت بأدائها وحفظها قوله - تعالى - : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان } وقوله - تعالى - { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } وأما الأحاديث فمنها ما رواه الترمذى والنسائى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم " .
وروى الترمذى وأبو داود عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخمن من خانك " .
وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم .
وقوله { حَكَمْتُمْ } من الحكم ومعناه الفصل بين المتنازعين ، وإظهار الحق لصاحبه .
وقوله { بالعدل } أى بالحق الذى أوجبه الله عليكم . وأصل العدل : التسوية . يقال : عدل كذا بكذا أى سواه به .
قال الجمل وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ } إذا معمول لمقدر على مذهب البصريين من أن ما بعد أن المصدرية لا يعمل فيما قبلها والتقدير : وأن تحكموا بالعدل إذا حكمتم بين الناس . أو معمول للمذكور على مذهب الكوفيين من إجازة عمل ما بعد أن فيما قبلها .
والمعنى : كما أمركم الله - تعالى - أيها المؤمنون بأداء الأمانات إلى أهلها ، فإنه يأمركم - أيضا - إذا حكمتم بين الناس أن تجعلوا حكمكم قائما على الحق والعدل ، فإن الله - تعالى - ما أقام ملكه إلا عليهما ، ولأن الأحكام إذا صاحبها الجور والظلم أدت إلى شقاء الأفراد والجماعات .
قال بعض العلماء : يرى بعضهم : أن الخطاب فى هذا النصف موجه إلى الذين يحكمون ، وهم الحكام من ولاة وقضاة وغيرهم ممن يلون الحاكم . ولا مانع عندنا من أن يكون الخطاب موجها إلى الأمة كلها ، لأن الأمة العزيزة التى تتولى أمور نفسها من غير تحكم من ملك أو طاغ قاهر ، هى محكومة ومحكمة . فهى التى تختار حاكمها وهى فى هذا محكمة ، مطلوب منها العدل ، فلا تختار لهوى أو لعطاء أو لمصلحة شخصية أيا كان نوعها . وهى محكمة فى حاكمها فلا تقول فيه إلا حقا ، ولا تطالبه إلا بما هو حق لا جور فيه ، ولا تشتط فى نقده ، ولا تسكن عن نصيحته ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " الدين النصيحة : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " .
وحديث القرآن عن وجوب إقامة العدل ودفع الظلم حديث مستفيض . قال تعالى - : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } وقال - تعالى - { ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى } وقال - تعالى - { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } وقال - تعالى - { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } وأما حديث السنة النبوة عن ذلك فهو أيضا مستفيض . ومن الأحاديث التى ورت فى هذا المعنى ما رواه الإِمام مسلم فى صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور من يمين الرحمن . وكلتا يديه يمين . الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا " .
وقوله { إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ } جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها ، متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين ، وحسن استدعائهم إلى الامتثال لما أمروا به .
وقوله { نِعِمَّا } أصله { نعم ما } فركبت نعم ما بعد طرح حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة ثم أدغمت الميمان وحركت العين الساكنة بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين .
و { ما } إما منصوبة موصوفة بقوله { يَعِظُكُمْ } فكأنه قيل : نعم شيئا يعظكم به . وإما مرفوعة موصولة فكأنه قيل : نعم الشئ الذى يعظكم به .
والمخصوص بالمدح محذوف وهو أجاء الأمانة إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل .
والوعظ : التذكير بالخير ، والتحذير من الشر ، بأسلوب يرق له القلب .
والمعنى : إن الله - تعالى - قد أمركم - يا معشر المؤمنين - بأداء الأمانة ، وبالحكم بالعدل ، ولنعماهما شيئا جليلا يذكركم به ، ويدعوكم إليه .
وقوله - تعالى - { إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } وعد للطائعين ووعيد للعاصين .
أى : إن الله - تعالى - كان سميعا لأقوالكم فى الأحكام وفى غيرها . { بَصِيراً } بكل أحوالكم وتصرفاتك . وسيجازيكم بما تفعلونه من خير أو شر .
( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ؛ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . إن الله نعما يعظكم به . إن الله كان سميعا بصيرًا . . )
هذه هي تكاليف الجماعة المسلمة ؛ وهذا هو خلقها : أداء الأمانات إلى أهلها . والحكم بين( الناس ) بالعدل . على منهج الله وتعليمه .
والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى . . الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان ؛ والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها " الإنسان " . . أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه . فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة . فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به ، والاهتداء إليه ، ومعرفته ، وعبادته ، وطاعته . وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد ولا إرادة ولا اتجاه . والإنسان وحده هو الذي وكل إلى فطرته ، وإلى عقله ، وإلى معرفته ، وإلى إرادته ، وإلى اتجاهه ، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله ، بعون من الله : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . . وهذه أمانة حملها وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات .
ومن هذه الأمانة الكبرى ، تنبثق سائر الأمانات ، التي يأمر الله أن تؤدى :
ومن هذه الأمانات : أمانة الشهادة لهذا الدين . . الشهادة له في النفس أولا بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له . ترجمة حية في شعورها وسلوكها . حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس . فيقولوا : ما أطيب هذا الإيمان وأحسنة وأزكاه ؛ وهو يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخلق والكمال ! فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون . . والشهادة له بدعوة الناس إليه ، وبيان فضله ومزيته - بعد تمثل هذا الفضل وهذه المزية في نفس الداعية - فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه ، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك ، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان . وهي إحدى الأمانات . .
ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض ؛ منهجا للجماعة المؤمنة ؛ ومنهجا للبشرية جميعا . . المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة ، وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة . فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات ؛ بعد الإيمان الذاتي . ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة . . ومن ثم ف " الجهاد ماض إلى يوم القيامة " على هذا الأساس . . أداء لإحدى الأمانات . .
ومن هذه الأمانات - الداخلة في ثنايا - ما سبق - أمانة التعامل مع الناس ؛ ورد أماناتهم إليهم : أمانة المعاملات والودائع المادية . وأمانة النصيحة للراعي وللرعية . وأمانة القيام على الأطفال الناشئة . وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها . . وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالي الحياة على وجه الإجمال . . فهذه من الأمانات التي يأمر الله أن تؤدي ؛ ويجملها النص هذا الإجمال . .
فأما الحكم بالعدل بين( الناس )فالنص يطلقه هكذا عدلا شاملا بين( الناس )جميعا . لا عدلا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب . ولا عدلا مع أهل الكتاب ، دون سائر الناس . . وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه " إنسانًا " . فهذه الصفة - صفة الناس - هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني . وهذه الصفة يلتقي عليها البشر جميعا : مؤمنين وكفارا . أصدقاء وأعداء . سودا وبيضا . عربا وعجما . والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل - متى حكمت في أمرهم - هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط - في هذه الصورة - إلا على يد الإسلام ، وإلا في حكم المسلمين ، وإلا في عهد القيادة الإسلامية للبشرية . . والذي افتقدته من قبل ومن بعد هذه القيادة ؛ فلم تذق له طعما قط ، في مثل هذه الصورة الكريمة التي تتاح للناس جميعا . لأنهم " ناس " ! لا لأية صفة أخرى زائدة عن هذا الأصل الذي يشترك فيه( الناس ) !
وذلك هو أساس الحكم في الإسلام ؛ كما أن الأمانة - بكل مدلولاتها - هي أساس الحياة في المجتمع الإسلامي .
والتعقيب على الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها ؛ والحكم بين الناس بالعدل ؛ هو التذكير بأنه من وعظ الله - سبحانه - وتوجيهه . ونعم ما يعظ الله به ويوجه :
ونقف لحظة أمام التعبير من ناحية أسلوب الأداء فيه . فالأصل في تركيب الجملة : إنه نعم ما يعظكم الله به . . ولكن التعبير يقدم لفظ الجلالة ، فيجعله " اسم إن " ويجعل نعم ما " نعمًا ومتعلقاتها ، في مكان " خبر إن " بعد حذف الخبر . . ذلك ليوحي بشدة الصلة بين الله - سبحانه - وهذا الذي يعظهم به . .
ثم إنها لم تكن " عظة " إنما كانت " أمرًا . . ولكن التعبير يسميه عظة . لأن العظة أبلغ إلى القلب ، وإسرع إلى الوجدان ، وأقرب إلى التنفيذ المنبعث عن التطوع والرغبة الحياء !
ثم يجيء التعقيب الأخير في الآية ؛ يعلق الأمر بالله ومراقبته وخشيته ورجائه :
والتناسق بين المأمور به من التكاليف ؛ وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس ؛ وبين كون الله سبحانه ( سميعا بصيرًا ) مناسبة واضحة ولطيفة معا . . فالله يسمع ويبصر ، قضايا العدل وقضايا الأمانة . والعدل كذلك في حاجة إلى الاستماع البصير وإلى حسن التقدير ، وإلى مراعاة الملابسات والظواهر ، وإلى التعمق فيما وراءالملابسات والظواهر . وأخيرا فإن الأمر بهما يصدر عن السميع البصير بكل الأمور .
يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها ، وفي حديث الحسن ، عن سمرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " . رواه الإمام أحمد وأهل السنن{[7769]} وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان ، من حقوق الله ، عز وجل ، على عباده ، من الصلوات والزكوات ، والكفارات والنذور والصيام ، وغير ذلك ، مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد ، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به{[7770]} بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة{[7771]} على ذلك . فأمر الله ، عز وجل ، بأدائها ، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة ، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لتؤدن الحقوق إلى أهلها ، حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء " {[7772]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود قال : إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة ، يؤتى بالرجل يوم القيامة - وإن كان قد قتل في سبيل الله - فيقال : أد أمانتك . فيقول وأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا ؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم ، فيهوي إليها فيحملها على عاتقه . قال : فتنزل عن عاتقه ، فيهوي على أثرها أبد الآبدين . قال زاذان : فأتيت البراء فحدثته فقال : صدق أخي : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } .
وقال : سفيان الثوري ، عن ابن أبي ليلى عن رجل ، عن ابن عباس قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } قال : هي{[7773]} مبهمة للبر والفاجر . وقال محمد بن الحنفية : هي مسجلة للبر والفاجر . وقال أبو العالية : الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : قال أبي بن كعب : من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها .
وقال الربيع بن أنس : هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } قال : قال : يدخل فيه وعظ السلطان النساء . يعني يوم العيد . وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، واسم أبي طلحة ، عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري ، حاجب الكعبة المعظمة ، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ، الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم ، أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة ، هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ، وأما عمه عثمان بن أبي طلحة ، فكان معه لواء المشركين يوم أحد ، وقتل يومئذ كافرا . وإنما نبهنا على هذا النسب ؛ لأن كثيرا من المفسرين قد يشتبه عليهم هذا بهذا ، وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ، ثم رده عليه .
وقال محمد بن إسحاق في غزوة الفتح : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن صفية بنت شيبة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس ، خرج حتى جاء البيت ، فطاف به سبعا على راحلته ، يستلم الركن بمحجن في يده ، فلما قضى طوافه ، دعا عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، ففتحت له ، فدخلها ، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف{[7774]} له الناس في المسجد .
قال ابن إسحاق : فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فقال " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى ، فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج " . وذكر بقية الحديث في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ، إلى أن قال : ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال : يا رسول الله ، اجمع لنا الحجابة مع السقاية ، صلى الله عليك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين عثمان بن طلحة ؟ " فدعي له ، فقال له : " هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم وفاء وبر " {[7775]} .
قال ابن جرير : حدثني القاسم حدثنا الحسين ، عن حجاج ، عن ابن جريج [ قوله : { إِنّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } ]{[7776]} قال : نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة ، فدخل به البيت يوم الفتح ، فخرج وهو يتلو هذه{[7777]} فدعا عثمان إليه ، فدفع إليه{[7778]} المفتاح ، قال : وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة ، وهو يتلو هذه الآية : فداه أبي وأمي ، ما سمعته يتلوها قبل ذلك .
حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا الزنجي بن خالد ، عن الزهري قال : دفعه إليه وقال : أعينوه{[7779]} .
وروى ابن مردويه ، من طريق الكلبي ، عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة ابن أبي طلحة ، فلما أتاه قال : " أرني المفتاح " . فأتاه به ، فلما بسط يده إليه قام العباس فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، اجمعه لي مع السقاية . فكف عثمان يده{[7780]} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرني المفتاح يا عثمان " . فبسط يده يعطيه ، فقال العباس مثل كلمته الأولى ، فكف عثمان يده . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عثمان ، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح " . فقال : هاك بأمانة الله . قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح باب الكعبة ، فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم معه قداح يستقسم بها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما للمشركين قاتلهم الله . وما شأن إبراهيم وشأن القداح " . ثم دعا بحفنة فيها ماء فأخذ ماء فغمسه فيه ، ثم غمس به تلك التماثيل ، وأخرج مقام إبراهيم ، وكان في الكعبة فألزقه في{[7781]} حائط الكعبة ثم قال : " يا أيها الناس ، هذه القبلة " . قال : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت شوطا أو شوطين ثم نزل عليه جبريل ، فيما ذكر لنا برد المفتاح ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } حتى فرغ من الآية{[7782]} .
وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك ، وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا{[7783]} فحكمها عام ؛ ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية : هي للبر والفاجر ، أي : هي أمر لكل أحد .
وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس ؛ ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب : إنما نزلت في الأمراء ، يعني الحكام بين الناس .
وفي الحديث : " إن الله مع الحاكم ما لم يَجُرْ ، فإذا جار وكله إلى نفسه " {[7784]} وفي الأثر : عدل يوم كعبادة أربعين سنة .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } أي : يأمركم به من أداء الأمانات ، والحكم بالعدل بين الناس ، وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } أي : سميعا لأقوالكم ، بصيرا بأفعالكم ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني عبد الله بن لهيعة ، عن يزيد{[7785]} بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ{[7786]} هذه الآية { سَمِيعًا بَصِيرًا } يقول : بكل شيء بصير{[7787]} .
وقد قال ابن أبي حاتم : أخبرنا يحيى بن عبدك القزويني ، أنبأنا المقرئ - يعني أبا عبد الرحمن - عبد الله بن يزيد ، حدثنا حرملة - يعني ابن عمران التجيبي المصري - حدثنا أبو{[7788]} يونس ، سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } إلى قوله : { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } ويضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه ويقول : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها{[7789]} ويضع أصبعيه . قال أبو زكريا : وصفه لنا المقري ، ووضع أبو زكريا إبهامه اليمنى على عينه اليمنى ، والتي تليها على الأذن اليمنى ، وأرانا فقال : هكذا وهكذا{[7790]} .
رواه أبو داود ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه في تفسيره ، من حديث أبي عبد الرحمن المقري بإسناده - نحوه{[7791]} وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة ، واسمه سُلَيْم بن جُبَير .
{ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } . .
اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عُني بها : ولاةُ أمور المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي مكين ، عن زيد بن أسلم ، قال : نزلت هذه الاَية : { إنّ اللّهَ يأمْرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأمانَاتِ إلى أهْلِها } في ولاة الأمر .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إديس ، قال : حدثنا ليث ، عن شهر ، قال : نزلت في الأمرء خاصة { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالْعَدْلِ } .
8777 حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إدريس ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن مصعب بن سعد ، قال : قال عليّ رضي الله عنه : كلمات أصاب فيهنّ حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ، وأن يؤدّى الأمانة ، وإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا إسماعيل عن مصعب بن سعد ، عن عليّ بنحوه .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا موسى بن عمير ، عن مكحول ، في قول الله : { وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : هم أهل الاَية التي قبلها : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أن تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } . . . إلى آخر الاَية .
حدثني يونس ، قال¹ أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن زيد ، قال : قال أبي : هم الولاة ، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها .
وقال آخرون : أمر السلطان بذلك أن يعطوا الناس . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّ اللّهَ يأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } قال : يعني : السلطان يعطون الناس .
وقال آخرون : الذي خُوطِبَ بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم في مفاتيح الكعبة أُمِرَ بردّها على عثمان بن طلحة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { إنّ اللّهَ يأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } قال : نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، قبض منه النبيّ صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة ، ودخل بها البيت يوم الفتح ، فخرج وهو يتلو هذه الاَية ، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح . قال : وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الاَية : فداؤه أبي وأمي ! ما سمعته يتلوها قبل ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا الزنجي بن خالد ، عن الزهري ، قال : دفعه إليه وقال : أعينوه .
وأولى هذه الأقوال بالصوااب في ذلك عندي قول من قال : هو خطاب من الله ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من ولّوا في فيئهم وحقوقهم ، وما ائتمنوا عليه من أمورهم بالعدل بينهم في القضية . والقسم بينهم بالسوية ، يدلّ على ذلك ما وعظ به الرعية في : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } فأمرهم بطاعتهم ، وأوصى الراعي بالرعية ، وأوصى الرعية بالطاعة . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : قال أبي : هم السلاطين . وقرأ ابن زيد : { تُؤْتي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ } ألا ترى أنه أمر فقال : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } ؟ والأمانات : هي الفيء الذي استأمنهم على جمعه وقسمه ، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمها . { وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالعَدْل } . . . الاَية كلها فأمر بهذا الولاة ، ثم أقبل علينا نحن ، فقال : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُول وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } .
وأما الذي قال ابن جريج من أن هذه الاَية نزلت في عثمان بن طلحة فإنه جائز أن تكون نزلت فيه ، وأريد به كلّ مؤتمن على أمانة فدخل فيه ولاة أمور المسلمين وكل مؤتمن على أمانة في دين أو دنيا ، ولذلك قال من قال : عني به قضاء الدين وردّ حقوق الناس . كالذي :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } فإنه لم يرخص لموسر ولا معسر أن يمسكها .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } عن الحسن : أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «أدّ الأمانةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ ، وَلا تَخُنْ مَنْ خانَكَ » .
فتأويل الاَية إذًا ، إذ كان الأمر على ما وصفنا : إن الله يأمركم يا معشر ولاة أمور المسلمين أن تؤدّوا ما ائتمنتكم عليه رعيتكم من فيئهم وحقوقهم وأموالهم وصدقاتهم إليهم على ما أمركم الله ، بأداء كلّ شيء من ذلك إلى من هو له بعد أن تصير في أيديكم ، لا تظلموها أهلها ولا تستأثروا بشيء منها ولا تضعوا شيئا منها في غير موضعه ، ولا تأخذوها إلا ممن أذن الله لكم بأخذها منه قبل أن تصير في أيديكم¹ ويأمركم إذا حكمتم بين رعيتكم أن تحكموا بينهم بالعدل والإنصاف ، وذلك حكم الله الذي أنزله في كتابه وبينه على لسان رسوله ، لا تَعْدوا ذلك فتجوروا عليهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنّ اللّهَ كانَ سَمِيعا بَصِيرا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يا معشر ولاة أمور المسلمين إنّ الله نَعِمّ الشيء يعظكم به ، ونِعِمّت العظة يعظكم بها في أمره إياكم ، أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ، وأن تحكموا بين الناس بالعدل { نّ اللّهَ كَانع سَمِيعا } يقول : إن الله لم يزل سميعا بما تقولون وتنطقون ، وهو سميع لذلك منكم إذا حكمتم بين الناس ولم تحاوروهم به ، { بَصِيرا } بما تفعلون فيما ائتمنتكم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم ، وما تقضون به بينهم من أحكامكم بعدل تحكمون أو جور ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، حافظ ذلك كله ، حتى يجازي محسنكم بإحسانه ومسيئكم بإساءته ، أو يعفو بفضله .
{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } خطاب يعم المكلفين والأمانات ، وإن نزلت يوم الفتح في عثمان بن طلحة بن عبد الدار لما أغلق باب الكعبة ، وأبى أن يدفع المفتاح ليدخل فيها رسول الله وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي كرم الله وجهه يده وأخذه منه وفتح ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس رضي الله عنه أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة . فنزلت فأمره الله أن يرده إليه ، فأمر عليا رضي الله عنه أن يرده ويعتذر إليه ، وصار ذلك سببا لإسلامه ونزل الوحي بأن السدانة في أولاده أبدا { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل أي وأن تحكموا بالإنصاف والسوية إذا قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم ، أو يرضى بحكمكم ولأن الحكم وظيفة الولاة قيل الخطاب لهم . { إن الله نعما يعظكم به } أي نعم شيئا بيعظكم به ، أو نعم الشيء الذي يعظكم به فما منصوبة موصوفة بيعظكم به . أو مرفوعة موصولة به . والمخصوص بالمدح محذوف وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكومات . { إن الله كان سميعا بصيرا } بأقوالكم وأحكامكم وما تفعلون في الأمانات .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب ، وابن زيد : هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة .
قال القاضي أبو محمد : فهو للنبي عليه السلام وأمرائه ، ثم يتناول من بعدهم ، وقال ابن جريج وغيره : ذلك خطاب للنبي عليه السلام في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري ، ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ، فطلبه العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية ، فدخل رسول الله الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان ، وأخرج مقام إبراهيم ، ونزل عليه جبريل بهذه الآية ، قال عمر بن الخطاب : وخرج رسول الله وهو يقرأ هذه الآية ، وما كنت سمعتها قبل منه . فدعا عثمان وشيبة ، فقال لهما : خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ، وحكى مكي أن شيبة أراد أن لا يدفع المفتاح ، ثم دفعه وقال للنبي عليه السلام : خذه بأمانة الله{[4113]} .
قال القاضي أبو محمد : واختلف الرواة في بعض ألفاظ هذا الخبر ، زيادة ونقصاناً ، إلا أنه المعنى بعينه ، وقال ابن عباس : الآية في الولاة بأن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ، ويردوهن إلى الأزواج ، والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس{[4114]} ، ومع أن سببها ما ذكرناه تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات وعدل الحكومات وغيره{[4115]} ، وتتناولهم ومن دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك ، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه ، والصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات أمانات لله تعالى ، وقال ابن عباس : لم يرخص الله لموسرٍ ولا معسر أن يمسك الأمانة ، و { نعما } أصله نعم ما ، سكنت الأولى وأدغمت في الثانية وحركت العين لالتقاء الساكنين ، وخصت بالكسر اتباعاً للنون ، و «ما » المردفة على «نعم » إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في «ربما ومما » في قوله : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه ، وكقول الشاعر : [ الطويل ]
وإنّا لَمِمّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً . . . عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ{[4116]}
ونحوه ، وفي هذا هي بمنزلة «ربما » وهي لها مخالفة في المعنى ، لأن «ربما » معناها : التقليل ، و «مما » معناها التكثير ، ومع أن «ما » موطئة فهي بمعنى «الذي » وما وطأت إلا وهي اسم ، ولكن القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل{[4117]} .
وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالسمع والبصر ، لأنها في الشاهد محصلات ما يفعل المأمور فيما أمر به .
استئناف ابتدائي قصد منه الإفاضة في بيان شرائع العدل والحكم ، ونظام الطاعة ، وذلك من الأغراض التشريعية الكبرى التي تضمّنتها هذه السورة ، ولا يتعيّن تطلّب المناسبة بينه وبين ما سبقه ، فالمناسبة هي الانتقال من أحكام تشريعية إلى أحكام أخرى في أغراض أخرى . وهنا مناسبة ، وهي أنّ ما استطرد من ذكر أحوال أهل الكتاب في تحريفهم الكلم عن مواضعه ، وليّهم ألسنتهم بكلمات فيها توجيه من السبّ ، وافترائهم على الله الكذب ، وحسدهم بإنكار فضل الله إذ آتاه الرسول والمؤمنين ، كلّ ذلك يشتمل على خيانة أمانة الدين ، والعلم ، والحقّ ، والنعمة ، وهي أمانات معنويّة ، فناسب أن يعقب ذلك بالأمر بأداء الأمانة الحسيّة إلى أهلها ويتخلّص إلى هذا التشريع .
وجملة { إنّ الله يأمركم } صريحة في الأمر والوجوب ، مثل صراحة النهي في قوله في الحديث « إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم » . ( وإنّ ) فيها لمجرد الاهتمام بالخبَر لظهور أنّ مثل هذا الخبر لا يقبل الشكّ حتّى يؤكّد لأنّه إخبار عن إيجاد شيء لا عن وجوده ، فهو والإنشاء سواء .
والخطاب لكلّ من يصلح لتلقّي هذا الخطاب والعمل به من كلّ مؤتمن على شيء ، ومن كلّ من تولّى الحكم بين الناس في الحقوق .
والأداء حقيقة في تسليم ذات لمن يستحقّها ، يقال : أدّى إليْه كذا ، أي دفعه وسلّمه ، ومنه أداء الدَّين . وتقدّم في قوله تعالى : { من إن تأمنّه بقنطار يؤدّه إليك } في سورة آل عمران ( 75 ) . وأصل أدَّى أن يكون مضاعفَ أدَى بالتخفيف بمعنى أوصل ، لكنّهم أهمْلوا أدى المخفّف واستغنوا عنه بالمضاعف .
ويطلق الأداء مجازاً على الاعتراف والوفاء بشيء . وعلى هذا فيطلق أداء الأمانة على قَول الحقّ والاعتراف به وتبليغ العلم والشريعة على حقّها ، والمراد هنا هو الأوّل من المعنيين ، ويعرف حكم غيره منهما أو من أحدهما بالقياس عليه قياس الأدْوَن .
والأمانة : الشيء الذي يجعله صاحبه عند شخص ليحفظه إلى أن يطلبه منه ، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى { فليؤدّ الذي ائتمن أمانَتهُ } في سورة البقرة ( 283 ) . وتطلق الأمانة مجازاً على ما يجب على المكلّف إبلاغه إلى أربابه ومُستحقيه من الخاصّة والعامّة كالدّين والعلم والعهود والجوار والنصيحة ونحوها ، وضدّها الخيانة في الإطلاقين . والأمر للوجوب .
والأمانات من صيغ العموم ، فلذلك قال جمهور العلماء فيمن ائتمنه رجل على شيء وكان للأمين حقّ عند المؤتَمَن جحدهُ إيّاه : إنّه لا يجوز له أخذ الأمانة عوض حقّه لأنّ ذلك خيانة ، ومنعه مالك في المدوّنة ، وعن ابن عبد الحكم : أنه يجوز له أن يجحده بمقدار ما عليه له ، وهو قول الشافعي . قال الطبري عن ابن عباس ، وزيد بن أسلم ، وشَهْر بن حَوشب ، ومكحول : أنّ المخاطب ولاة الأمور ، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها .
وقيل : نزلت في أمر عثمان بن طلحة بن أبي طلحة .
وأهل الأمانة هم مستحقّوها ، يقال : أهل الدار ، أي أصحابها . وذكر الواحدي في أسباب النزول ، بسند ضعيف : أنّ الآية نزلت يوم فتح مكة إذ سَلَّم عثمان بن طلحة ابننِ أبي طلحة العبدري الحَجَبي مفتاحَ الكعبة للنبيء صلى الله عليه وسلم وكانت سدانة الكعبة بيده ، وهو من بني عبد الدار وكانت السدانةُ فيهم ، فسأل العباس بن عبد المطلب من رسول الله أن يجعل له سدانة الكعبة يضمها مع السقاية وكانت السقاية بيده ، وهي في بني هاشم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة وابنَ عمّه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ، فدفع لهما مفتاح الكعبة وتلا هذه الآية ، قال عمر بن الخطاب : وما كنت سمعتُها منه قبلَ ذلك ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن طلحة « خذوها خالدة تالدة لا ينتزعها منكم إلاّ ظالم » ولم يكن أخْذ النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة أخذَ انتزاع ، ولكنّه أخذه ينتظر الوحي في شأنه ، لأنّ كون المفتاح بيد عثمان بن طلحة مستصحَب من قبل الإسلام ، ولم يغيّر الإسلامُ حوزه إيّاه ، فلمّا نزلت الآية تقرّر حقّ بني عبد الدار فيه بحكم الإسلام ، فبقيت سدانة الكعبة في بني عبد الدار ، ونزل عثمان بن طلحة عنها لابن عمّه شيبةَ بننِ عثمان ، وكانت السدانة من مناصب قريش في الجاهلية{[215]} فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم بعضها في خطبة يوممِ الفتح أو حجّةِ الوداع ، ما عدا السقاية والسدانة .
فإطلاق اسم الأمانة في الآية حقيقة ، لأنّ عثمان سلّم مفتاح الكعبة للنبيء عليه الصلاة والسلام دون أن يُسقط حقّه .
والأداء حينئذٍ مستعمل في معناه الحقيقي ، لأنّ الحقّ هنا ذات يمكن إيصالها بالفعل لمستحقّها ، فتكون الآية آمرة بجميع أنواع الإيصال والوفاءات ، ومن جملة ذلك دفع الأمانات الحقيقية ، فلا مجاز في لفظ ( تؤدّوا ) .
وقوله : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } عطف { أن تحكموا } على { أن تؤدّوا } وفصل بين العاطف والمعطوف الظرف ، وهو جائز ، مثل قوله : { وفي الآخرة حسنة } [ البقرة : 201 ] وكذلك في عطف الأفعال على الصحيح : مثل { وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبّارين } [ الشعراء : 129 ، 130 ] .
والحكم مصدر حكم بين المتنازعين ، أي اعتنى بإظهار المحقّ منهما من المبطل ، أو إظهار الحقّ لأحدهما وصرَّح بذلك ، وهو مشتقّ من الحُكْم بفتح الحاء وهو الردْع عن فعلِ ما لا ينبغي ، ومنه سميّت حَكَمَة اللِّجام ، وهي الحديدة التي تجعل في فم الفرس ، ويقال : أحْكِمْ فُلاناً ، أي أمْسِكْه .
والعدل : ضدّ الجور ، فهو في اللغة التسوية ، يقال : عَدَل كذا بكذا ، أي سوّاه به ووازنه عدلاً { ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلون } [ الأنعام : 1 ] ، ثمّ شاع إطلاقه على إيصال الحقّ إلى أهله ، ودفع المعتدي على الحقّ عن مستحقّه ، إطلاقاً ناشئاً عمّا اعتاده الناس أنّ الجور يصدر من الطغاة الذين لا يَعدّون أنفسهم سواء مع عموم الناس ، فهم إن شاءوا عدلوا وأنصفوا ، وإن شاءوا جاروا وظلموا ، قال لبيد :
ومقسم يعطي العشيرة حقّها *** ومُغذمر لحقوقها هَضَّامها{[216]}
فأطلق لفظ العدل الذي هو التسوية على تسوية نافعة يحصل بها الصلاح والأمن ، وذلك فك الشيء من يد المعتدي ، لأنّه تظهر فيه التسوية بين المتنازعين ، فهو كناية غالبة . ومَظهر ذلك هو الحكم لصاحب الحقّ بأخذ حقّه ممّن اعتدى عليه ، ولذلك قال تعالى هنا : { إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } ، ثم توسّعوا في هذا الإطلاق حتّى صار يطلق على إبلاغ الحقّ إلى ربّه ولو لم يحصل اعتداء ولا نزاع .
والعدل : مساواة بين الناس أو بين أفراد أمّة : في تعيين الأشياء لمستحقّها ، وفي تمكين كلّ ذي حقّ من حقّه ، بدون تأخير ، فهو مساواة في استحقاق الأشياء وفي وسائل تمكينها بأيدي أربابها ، فالأوّل هو العدل في تعيين الحقوق ، والثاني هو العدل في التنفيذ ، وليس العدل في توزيع الأشياء بين الناس سواء بدون استحقاق .
فالعدل وسط بين طرفين ، هما : الإفراط في تخويل ذي الحقّ حقّه ، أي بإعطائه أكثر من حقّه ، والتفريط في ذلك ، أي بالإجحاف له من حقّه ، وكلا الطرفين يسمّى جوراً ، وكذلك الإفراط والتفريط في تنفيذ الإعطاء بتقديمه على وقته ، كإعطاء المال بيد السفيه ، أو تأخيره كإبقاء المال بيد الوصي بعد الرشد ، ولذلك قال تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم إلى قوله : { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 5 ، 6 ] ؛ فالعدل يدخل في جميع المعاملات . وهو حسن في الفطرة لأنّه كما يصدُّ المعتدي عن اعتدائه ، كذلك يصدّ غيره عن الاعتداء عليه ، كما قال تعالى : { لا تَظْلِمُون ولا تُظلمون } [ البقرة : 279 ] . وإذ قد كان العدل بهذه الاعتبارات تجول في تحديده أفهام مخطئة تعيّن أن تسَنّ الشرائع لضبطه على حسب مدارك المشرّعين ومصطلحات المشَرَّع لهم ، على أنّها معظمها لم يسلم من تحريف لحقيقة العدل في بعض الْاحوال ، فإنّ بعض القوانين أسّست بدافعة الغضب والأنانية ، فتضمّنت أخطاء فاحشة مثل القوانين التي يمليها الثوار بدافع الغضب على من كانوا متَولين الأمور قبلهم ، وبعض القوانين المتفرّعة عن تخيّلات وأوهام ، كقوانين أهل الجاهلية والأمم العريقة في الوثنية .
ونجد القوانين التي سنّها الحكماء أمكن في تحقيق منافع العدل مثل قوانين أثينة وإسبَرطة ، وأعلى القوانين هي الشرائع الألهية لمناسبتها لحال من شرعت لأجلهم ، وأعظمها شريعةُ الإسلام لابتنائها على أساس المصالح الخالصة أو الراجحة ، وإعراضها عن أهواء الأمم والعوائد الضالّة ، فإنّها لا تعبأ بالأنانية والهوى ، ولا بعوائد الفساد ، ولأنّها لا تبنى على مصالح قبيلة خاصّة ، أو بلد خاصّ ، بل تبتنى على مصالح النوع البشري وتقويمه وهديه إلى سواء السبيل ، ومن أجل هذا لم يزل الصالحون من القادة يدوّنون بيان الحقوق حفظاً للعدل بقدر الإمكان وخاصّة الشرائع الإلهية ، قال تعالى : { لقد أرسلنا رُسُلَنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتابَ والميزان ليقوم الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] أي العدل . فمنها المنصوص عليه على لسان رسول البشرية ومنها ما استنبطه علماء تلك الشريعة فهو مدرج فيها وملحق بها .
وإنّما قيّد الأمر بالعدل بحالة التصدّي للحكم بين الناس ، وأُطلق الأمر بردّ الأمانات إلى أهلها عن التقييد : لأنّ كلّ أحد لا يخلو من أن تقع بيده أمانة لغيره لا سيما على اعتبار تعميم المراد بالأمانات الشامل لما يجب على المرء إبلاغه لمستحقّه كما تقدّم ، بخلاف العدل فإنّما يؤمر به ولاة الحكم بين الناس ، وليس كلّ أحد أهلاً لتولّي ذلك . فتلك نكتة قوله : { وإذا حكمتم بين الناس } . قال الفخر : قوله : { وإذا حكمتم } هو كالتصريح بأنّه ليس لجميع الناس أن يشرّعوا في الحكم بل ذلك لبعضهم ، فالآية مجملة في أنّه بأي طريق يصير حاكماً ولمّا دلّت الدلائل على أنّه لا بد للأمّة من إمام وأنّه ينصب القضاة والولاة صارت تلك الدلائل كالبيان لهذه الآية .
وجملة { إنّ الله نعمّا يعظكم به } واقعة موقع التحريض على امتثال الأمر ، فكانت بمنزلة التعليل ، وأغنت ( إنَّ ) في صدر الجملة عن ذكر فَاء التعقيب ، كما هو الشأن إذا جاءت ( إنَّ ) للاهتمام بالخبر دون التأكيد .
و ( نعمّا ) أصله ( نعْمَ ما ) رُكّبت ( نعم ) مع ( ما ) بعد طرحِ حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة ، وأدغم الميمان وحرّكت العين الساكنة بالكسر للتخلّص من التقاء الساكنين .
و ( ما ) جَوّز النحاة أن تكون اسم موصول ، أو نكرة موصوفة ، أو نكرة تامّة والجملة التي بعد ( ما ) تجري على ما يناسب معنى ( مَا ) ، وقيل : إنّ ( ما ) زائدة كافّةٌ ( نعمَ ) عن العمل .
والوعظ : التذكير والنصح ، وقد يكون فيه زجر وتخويف .
وجملة { إنّ الله كان سميعاً بصيراً } أي عليماً بما تفعلون وما تقولون ، وهذه بشارة ونذارة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية؛
فقال بعضهم: عُني بها: ولاةُ أمور المسلمين.
وقال آخرون: أمر السلطان بذلك أن يعطوا الناس.
وقال آخرون: الذي خُوطِبَ بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم في مفاتيح الكعبة أُمِرَ بردّها على عثمان بن طلحة.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال: هو خطاب من الله ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من ولّوا في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم بالعدل بينهم في القضية. والقسم بينهم بالسوية، يدلّ على ذلك ما وعظ به الرعية في: {أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ} فأمرهم بطاعتهم، وأوصى الراعي بالرعية، وأوصى الرعية بالطاعة... والأمانات: هي الفيء الذي استأمنهم على جمعه وقسمه، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمها. {وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالعَدْل}... الآية كلها فأمر بهذا الولاة، ثم أقبل علينا نحن، فقال: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُول وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ}.
وأما الذي قال ابن جريج من أن هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة فإنه جائز أن تكون نزلت فيه، وأريد به كلّ مؤتمن على أمانة فدخل فيه ولاة أمور المسلمين وكل مؤتمن على أمانة في دين أو دنيا، ولذلك قال من قال: عني به قضاء الدين وردّ حقوق الناس.
فتأويل الآية إذًا، إذ كان الأمر على ما وصفنا: إن الله يأمركم يا معشر ولاة أمور المسلمين أن تؤدّوا ما ائتمنتكم عليه رعيتكم من فيئهم وحقوقهم وأموالهم وصدقاتهم إليهم على ما أمركم الله، بأداء كلّ شيء من ذلك إلى من هو له بعد أن تصير في أيديكم، لا تظلموها أهلها ولا تستأثروا بشيء منها ولا تضعوا شيئا منها في غير موضعه، ولا تأخذوها إلا ممن أذن الله لكم بأخذها منه قبل أن تصير في أيديكم ويأمركم إذا حكمتم بين رعيتكم أن تحكموا بينهم بالعدل والإنصاف، وذلك حكم الله الذي أنزله في كتابه وبينه على لسان رسوله، لا تَعْدوا ذلك فتجوروا عليهم.
{إنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنّ اللّهَ كانَ سَمِيعا بَصِيرا}: يا معشر ولاة أمور المسلمين إنّ الله نَعِمّ الشيء يعظكم به، ونِعِمّت العظة يعظكم بها في أمره إياكم، أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها، وأن تحكموا بين الناس بالعدل. {إنّ اللّهَ كَان سَمِيعا}: إن الله لم يزل سميعا بما تقولون وتنطقون، وهو سميع لذلك منكم إذا حكمتم بين الناس ولم تحاوروهم به، {بَصِيرا} بما تفعلون فيما ائتمنتكم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم، وما تقضون به بينهم من أحكامكم بعدل تحكمون أو جور، لا يخفى عليه شيء من ذلك، حافظ ذلك كله، حتى يجازي محسنكم بإحسانه ومسيئكم بإساءته، أو يعفو بفضله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: إنها نزلت في الأمراء في الفيء الذي استأمنهم على [جمعه وقسمته] والصدقات التي استأمنتهم على جمعها وقسمتها...
والآية يجب أن تكون نازلة في كل أمانة ائتمن المرء فيها من نحو ما كان بينه وبين ربه وما كان فيها بين الخلق. أما ما كان في ما بينه وبين ربه فمن نحو العبادات التي أمر بأدائها ومن نحو تعليم [العلم] الذي رزقه الله تعالى له كقوله سبحانه وتعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض} الآية (الأحزاب: 72) وكقوله تعالى: {كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} الآية (المائدة: 8) وكقوله تعالى: {وإذا حكمت بين الناس أن تحكموا بالعدل} (النساء: 58). كل ذلك أمانة تدخل في قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} وكذلك كل أمانة يؤتمن المرء عليها تدخل في ذلك...
ومن قال نزلت في الأمراء استدل بقوله تعالى: {أن تحكموا بالعدل} لأن الحكم إلى الأمراء. وعن ابن عباس رضي الله عنه، {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} قال: (هي مبهمة، المؤمن والكافر سواء؟)...
وقوله تعالى: {إن الله نعما يعظكم به} من الحكومة وأداء الأمانات إلى أهلها {إن الله كان سميعا بصيرا} يحتمل مجيبا لمن دعاه [دعاه، وسأله] كقوله عز وجل: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إن دعان} (البقرة: 186) يجيب لمن استجابه، وأدى الأمانة. ويحتمل {سميعا بصيرا} أي لا يخفى عليه شيء...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
المسألة الأولى: الخطاب في هذه الآية عام للرجل والمرأة، والحر والعبد. المسألة الثانية: فرض على من أُودعت عنده وديعة حفظها وردها إلى صاحبها إذا طلبها منه؛ لقول الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى}، ولقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}. ومن البر حفظ مال المسلم أو الذمي. وقد صح نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، وهذا عموم لمال المرء، ومال غيره
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ردُّ الأمانات إلى أهلها تسليم أموال الخلق لهم بعد إشرافك عليها بحيث لا تفسد عليهم. ويقال لله -سبحانه وتعالى- أماناتٌ وَضَعَها عِنْدَك؛ فردُّ الأمانة إلى أهلها تسليمها إلى الله -سبحانه- سالمةً مِنْ خيانتِكَ فيها؛ فالخيانة في أمانة القلب ادعاؤك فيها، والخيانة في أمانة السِّرِّ ملاحظتك إياها. والحُكْمُ بين الناس بالعدل تسويةُ القريب والبعيد في العطاء والبذل، وألا تحملك مخامرةُ حقدٍ على انتقام لنفسٍ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَن تُؤدُّواْ الأمانات} الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس...تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات وعدل الحكومات وغيره، وتتناولهم ومن دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه، والصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات أمانات لله تعالى، وقال ابن عباس: لم يرخص الله لموسرٍ ولا معسر أن يمسك الأمانة، و {نعما} أصله نعم ما،
وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالسمع والبصر، لأنها في الشاهد محصلات ما يفعل المأمور فيما أمر به.
اعلم أنه سبحانه لما شرح بعض أحوال الكفار وشرح وعيده عاد إلى ذكر التكاليف مرة أخرى، وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور، سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات، أو من باب الدنيا والمعاملات، وأيضا لما ذكر في الآية السابقة الثواب العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكان من أجل الأعمال الصالحة الأمانة لا جرم أمر بها في هذه الآية...
اعلم أن نزول هذه الآية عند هذه القصة لا يوجب كونها مخصوصة بهذه القضية، بل يدخل فيه جميع أنواع الأمانات، واعلم أن معاملة الإنسان إما أن تكون مع ربه أو مع سائر العباد، أو مع نفسه، ولا بد من رعاية الأمانة في جميع هذه الأقسام الثلاثة؛
أما رعاية الأمانة مع الرب: فهي في فعل المأمورات وترك المنهيات، وهذا بحر لا ساحل له قال ابن مسعود: الأمانة في كل شيء لازمة، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلا بحقها، واعلم أن هذا باب واسع، فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها، وأمانة العين أن لا يستعملها في النظر إلى الحرام، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي، وسماع الفحش والأكاذيب وغيرها، وكذا القول في جميع الأعضاء...
وأما القسم الثاني: وهو رعاية الأمانة مع سائر الخلق فيدخل فيها رد الودائع، ويدخل فيه ترك التطفيف في الكيل والوزن، ويدخل فيه أن لا يفشي على الناس عيوبهم، ويدخل فيه عدل الأمراء مع رعيتهم وعدل العلماء مع العوام بأن لا يحملوهم على التعصبات الباطلة، بل يرشدونهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم، ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ونهيهم عن قولهم للكفار: إن ما أنتم عليه أفضل من دين محمد صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام برد المفتاح إلى عثمان بن طلحة، ويدخل فيه أمانة الزوجة للزوج في حفظ فرجها، وفي أن لا تلحق بالزوج ولدا يولد من غيره. وفي إخبارها عن انقضاء عدتها.
وأما القسم الثالث: وهو أمانة الإنسان مع نفسه فهو أن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا، وأن لا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" فقوله: {يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} يدخل فيه الكل، وقد عظم الله أمر الأمانة في مواضع كثيرة من كتابه فقال: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان} وقال: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} وقال: {ولا تخونوا أماناتكم} وقال عليه الصلاة والسلام: "لا إيمان لمن لا أمانة له "وقال ميمون بن مهران: ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر: الأمانة والعهد وصلة الرحم. وقال القاضي: لفظ الأمانة وان كان متناولا للكل إلا أنه تعالى قال في هذه الآية: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} فوجب أن يكون المراد بهذه الأمانة ما يجري مجرى المال؛ لأنها هي التي يمكن أداؤها إلى الغير...
ثم قال: {إن الله كان سميعا بصيرا} أي اعملوا بأمر الله ووعظه فإنه أعلم بالمسموعات والمبصرات يجازيكم على ما يصدر منكم، وفيه دقيقة أخرى، وهي أنه تعالى لما أمر في هذه الآيات بالحكم على سبيل العدل وبأداء الأمانة قال: {إن الله كان سميعا بصيرا} أي إذا حكمت بالعدل فهو سميع لكل المسموعات يسمع ذلك الحكم، وإن أديت الأمانة فهو بصير لكل المبصرات يبصر ذلك، ولا شك أن هذا أعظم أسباب الوعد للمطيع، وأعظم أسباب الوعيد للعاصي، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وفيه دقيقة أخرى، وهي أن كلما كان احتياج العبد أشد كانت عناية الله أكمل، والقضاة والولاة قد فوض الله إلى أحكامهم مصالح العباد، فكان الاهتمام بحكمهم وقضائهم أشد، فهو سبحانه منزه عن الغفلة والسهو والتفاوت في أبصار المبصرات وسماع المسموعات، ولكن لو فرضنا أن هذا التفاوت كان ممكنا لكان أولى المواضع بالاحتراز عن الغفلة والنسيان هو وقت حكم الولاة والقضاة، فلما كان هذا الموضع مخصوصا بمزيد العناية لا جرم قال في خاتمة هذه الآية: {إن الله كان سميعا بصيرا} فما أحسن هذه المقاطع الموافقة لهذه المطالع...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم في هذه السورة الأمر بالإحسان والعدل في النساء و اليتامى في الإرث وغيره، وفي غير ذلك من الدماء والأموال والأقوال والأفعال، وذكر خيانة أهل الكتاب وما أحل بهم لذلك من العقاب، وذكر أنه آتى هذه الأمة الملك المقتضي للحكم، وآتاهم الحكمة بعد جهلهم وضعفهم؛ أقبل عليهم بلذيذ خطابه بعد ما وعدهم على امتثال أمره من كريم ثوابه بما ختمه بالظل الموعود على العدل في حديث "سبعة يظلمهم الله في ظله "فقال: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {يأمركم} أي أيتها الأمة {أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} أي من غير خيانة ما، كما فعل أهل الكتاب في كتمان ما عندهم والإخبار بغيره، والأمانة: كل ما وجب لغيرك عليك...
ولما أمر بما يحق للإنسان في نفسه، أمر بما يحق له في معاملة غيره، وحقق لهم ما لم يكونوا يرومونه من أمر الملك بقوله بأداة القطع عاطفاً شيئين على شيئين: {إذا حكمتم} وبين عموم ملكهم لسائر الأمم بقوله: {بين الناس} وبين المأمور به بقوله: {أن تحكموا بالعدل} أي السواء بأن تأمروا من وجب عليه حق بأدائه إلى من هو له، فإن ذلك من أعظم الصالحات الموجبة لحسن المقيل في الظل الظليل، أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل" الحديث...
ولما أخبرهم بأمره زادهم رغبة بقوله: {إن الله} معبراً أيضاً بالاسم الأعظم {نعمَّا} أي نعم شيئاً عظيماً {يعظكم به} وحثهم على المبادرة إلى حسن الامتثال بقوله: {إن الله} مكرراً لهذا الاسم الشريف ليجتهدوا في الترقي في طهارة الأخلاق إلى حد لم يبلغه غيرهم. ولما كان الرقيب في الأمانات لا بد له من أن يكون له من يد سمع وعلم قال: {كان} أي ولم يزل ولا يزال {سميعاً} أي بالغ السمع لكل ما يقولونه جواباً لأمره وغيره ذلك {بصيراً} أي بالغ البصر والعلم بكل ما يفعلونه في ذلك وغيره من امتثال وغيره...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هاتان الآيتان هما أساس الحكومة الإسلامية ولو لم ينزل في القرآن غيرهما لكفتا المسلمين في ذلك إذا هم بنوا جميع الأحكام عليهما، وقد ذكروا لنزولهما أسبابا وصرحوا بأن السبب الخاص لا يخصص عموم الخطاب.
قال في لباب النقول: أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة فلما أتاه قال أرني المفتاح (أي مفتاح الكعبة) فلما بسط يده إليه قام العباس فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هات المفتاح يا عثمان فقال هاك أمانة الله فقام ففتح الكعبة ثم خرج فطاف بالبيت ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح فدعا عثمان ابن طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} حتى فرغ من الآية. وأخرج شعبة في تفسيره عن حجاج عن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في عثمان ابن طلحة أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة فدخل به البيت يوم الفتح فخرج وهو يتلو هذه الآية فدعا عثمان فناوله المفتاح. قال: وقال عمر بن الخطاب ما سمعته يتلوها قبل ذلك، قلت ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة. اه.
أقول: بل الظاهر أنها نزلت قبل فتح مكة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلاها يومئذ استشهادا وإن لم يتذكر عمر أنه سمعها قبل ذلك إن صحت الرواية وصح أن عمر قال ذلك فقد صح عنه أنه ذهل عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ورد في ذكر موته حتى قرأ أبو بكر {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمران:144] فتذكر وذهل عن آية {وآتيتم أحداهن قنطارا} [النساء:20] حتى ذكرته بها المرأة التي راجعته في مسألة تحديد المهور كما تقدم في أوائل هذه السورة وكل أحد عرضة للنسيان والذهول، والرواية عن ابن عباس لا تصح وإن اعتمدها الجلال فقد ذكرنا من قبل أن المحدثين قالوا إن أوهى طرق التفسير عن ابن عباس هي طريق الكلبي عن أبي صالح قالوا إن انضم إليها مروان الصغير فهي سلسلة الكذب. وأما رواية شعبة عن حجاج هذا هو المصيصي الأعور فقد كان ثقة ولكنه تغير في آخر عمره وهو ممن روى عن شعبة وابن جرير ولم يذكروا أن شعبة روى عنه ولكن شعبة روى عن حجاج الأسلمي وهو مجهول كما قال أبو حاتم.
وفي الروايتين بحث من جهة المعنى أيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بمفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ومن كل أحد فلو أعطاه للعباس أو غيره لم يكن فاعلا إلا ما له الحق فيه ومن أعطاه إياه يكون هو أهله وأحق به، وليس هذا من باب {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب:6] بل لأن الكعبة من المصالح العامة وإنما كان يكون من هذا الباب لو كان المفتاح مفتاح بيت عثمان بن طلحة نفسه ونزع ملكه منه وأعطاه آخر بل الحكام الآن في جميع الممالك ينزعون ملك من يرون المصلحة العامة في نزع ملكه منه ولكنهم يعطونه ثمنه شاء أم أبى.
بعد ما بين الله تعالى لنا من شأن أهل الكتاب ما بينه حتى تفضيلهم المشركين في الهداية على المؤمنين بالله وحده وبجميع كتبه ورسله أدبنا بهذا الأدب العالي وأمرنا بالأمانة العامة وهي الاعتراف بالحق سواء كان الحق حسيا أو معنويا فقال: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} فالكلام متصل بما قبله بمناسبة قوية تجعل السياق كعقد من الجوهر متناسب اللآلي فسواء صح ما ذكر من حكاية مفتاح الكعبة أو لم يصح فإن صحته لا تضر بالتئام السياق ولا بعموم الحكم إذ السبب الخاص لا ينافي عموم الحكم.
الأمانة حق عند المكلف يتعلق به حق غيره ويودعه لأجل أن يوصله إلى ذلك الغير كالمال والعلم سواء كان المودع عنده ذلك الحق قد تعاقد مع المودع على ذلك بعقد قولي خاص صرح فيه بأنه يجب على المودع عنده أن يؤدي كذا إلى فلان مثلا أم لم يكن كذلك فإن ما جرى عليه التعامل بين الناس في الأمور العامة هو بمثابة ما يتعاقد عليه الأفراد في الأمور الخاصة فالذي يتعلم العلم قد أودع أمانة وأخذ عليه العهد بالتعامل والعرف بأن يؤدي هذه الأمانة ويفيد الناس ويرشدهم بهذا العلم وقد أخذ الله العهد العام على الناس بهذا التعامل المتعارف بينهم شرعا وعرفا بنص قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران:187] ولذلك عد علماء أهل الكتاب خائنين بكتمان صفات النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على العالم أن يؤدي أمانة العلم إلى الناس كما يجب على من أودع المال أن يرده إلى صاحبه، ويتوقف أداء أمانة العلم على تعرف الطرق التي توصل إلى ذلك فيجب أن تعرف هذه الطرق لأجل السير فيها. وإعراض العلماء عن معرفة الطرق التي تتأدى بها هذه الأمانة بالفعل هو ابتعاد عن الواجب الذي أمروا به وإخفاء الحق بإخفاء وسائله هو عين الإضاعة للحق، فإذا رأينا الجهل بالحق والخير فاشيا بين الناس واستبدلت به الشرور والبدع ورأينا أن العلماء لم يعلموهم ما يجب في ذلك فيمكننا أن نجزم بأن هؤلاء العلماء لم يؤدوا الأمانة وهي ما استحفظوا عليه من كتاب الله ولا عذر لهم في ترك استبانة الطريق الموصل إلى ذلك بسهولة وقرب، فهم خونة الناس وليسوا بالأمناء.
أقول: يعني رحمه الله تعالى أنه يجب على العلماء أن يعرفوا الطرق التي تؤدي إلى إيصال العلم إلى الناس وقبوله وهذه الطرق تختلف باختلاف الزمان والمكان كما تختلف الطرق التي تؤدي بها أمانة المال ففي هذا العصر تؤدى الأموال إلى أصحابها بطرق لم تكن معروفة في العصور السابقة منها التحويل على مصلحة البريد ومنها المصارف ومنها غير ذلك. وكذلك توجد طرق لنشر العلم بين الناس أسهل من الطرق السابقة فمن أبى سلوكها لا يعذر بعدم تأديته لأمانة العلم النافع وأكثر العلماء المتأخرين يقولون إنه لا يجب على العالم أن يتصدى لتعليم الناس وإنما يجب عليه أن يجيب إذا سئل وربما قيدوا هذا بما إذا فقد من يقوم مقامه في الإفتاء. وإنما قال مثل هذا من قاله من المتقدمين في المسائل الخاصة التي يحتاج إليها عند وقوع الوقائع فأما ما لا بد منه ولا يسع الناس جهله من العقائد والواجبات وأحكام الحلال والحرام فلم يشترط أحد فيه هذا الشرط ولذلك اتفقوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يقيدوه بالاستفتاء، والمجهول لا تتوجه النفوس إلى السؤال عنه أفيترك الجاهلون بالسنن العاملون بالبدع حتى يطرقوا أبواب العلماء في بيوتهم أو مدارسهم مع العلم بأنهم لا يفعلون.
ولا يخرج علماء الدين من تبعة الكتمان والخيانة في أمانة الله بتصديهم لتدريس كتب الفقه والعقائد فإن هذه الكتب لا تفهمها العامة ولا تجب عليها معرفتها لأنها وضعت للمنقطعين للعلم يستعينون بها على القضاء والإفتاء في المسائل التي لا يحتاج إليها كل الناس دائما ومنها ما تمر الأعصار ولا يقع بل منها ما يستحيل وقوعه. فيجب على العلماء أن يتصدوا لتعليم الجمهور ما لا يسع أحدا منهم جهله وأن يأمروهم المعروف وينهوهم عن المنكر من أقرب الطرق وأسهلها وإنما يعرف ذلك بالتجربة والاختبار.
{وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}؛ قال الأستاذ الإمام بعد ما تقدم آنفا وكذلك أمر الله من يحكم بين الناس أن يحكم بالعدل، والحكم بين الناس له طرق منها الولاية العامة والقضاء ومنها تحكيم المتخاصمين لشخص في قضية خاصة فكل من يحكم يجب عليه أن يعدل وقد أمر الله بالعدل في آيات أخرى كقوله: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل:90] الآية وقوله: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [الأنعام:7] وقوله: {كونوا قوامين بالقسط} [المائدة:134] ونهى عن الظلم وأوعد عليه في آيات كثيرة، ولم يذكر لنا حد العدل ولا تفسيره ولم يرد في السنة تفسير له أيضا. والعدل وقف على أمرين أحدهما: أن يعلم الحاكم الحكم الذي شرعه الله ليكون الفصل بين الناس به مثال ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] فهو يوجب علينا أن نوفي بما نتعاقد عليه وقوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:187] الآية وهو قد حرم أكل أموال الناس ورشوة الحكام، وكذلك ما ورد في السنة المتواترة من أحكامه وقضائه صلى الله عليه وآله فيجب على الحاكم تطبيق أحكامه على ما علم من حكم الله ورسوله وقد يكون التطبيق ظاهرا وقد يحتاج فيه إلى قياس واستنباط وإجهاد للفكر، فهذا النوع من العدل معروف عند الناس وإنما يذكر لتنبيه الناس وتذكيرهم.
والركن الثاني للعدل (هكذا عبر تارة بالنوع وتارة بالركن) يتألف من أمرين أحدهما: فهم الدعوى من المدعي والجواب من المدعى عليه ليعرف موضوع ما به التنازع والتخاصم بأدلته من الخصمين، ثانيهما: استقامة الحاكم وخلوه من الميل إلى أحد الخصمين ومن الهوى بأن يكره أحد الخصمين وإن كان لا يميل إلى الآخر، وهذا المعنى معروف للناس أيضا فكل من ركني العدل معروف. ولذلك ذكر الله العدل ولم يفسره لأنه معروف بنفسه كالنور.
ولك وقد فهمت ما قلناه أن تقول: العدل عبارة عن إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب الطرق إليه ولا يتحقق ذلك إلا بإقامة الركنين اللذين بيناهما فكل ما خرج عنهما فهو ظلم. فإذا أخر القاضي النظر في القضية اتباعا لرسوم وعادات لا يتوقف عليها إقامة العدل أو لم يقبل الشهادة لأنها لم تؤد بألفاظ مخصوصة وإن تبين بها الحق المراد أو أخر الحكم بعد انتهاء المحاكمة واستيفاء أسبابها، هل يكون مقيما للعدل؟ (قال الأستاذ هذا في الدرس فضج الحاضرون بقول لا لا) إذا علمنا هذا وتأملنا في الأحكام التي تجري عندنا اليوم فهل نراها جارية على أصول العدل (قالوا لا لا) ثم قال الأستاذ في درس آخر أنه اطلع بعد الدرس الأول (الذي لخصناه بما رأيت) على كتاب السياسية الشرعية لابن تيمية فإذا هو كله مبني على هذه الآية، فإنه توسع في ذكر أنواع الأمانة التي أودعها الله في أيدي الحكام، ومنها أن لا يولوا الأمور إلا خيار الناس الصالحين لها وأورد في ذلك أحاديث كثيرة منها الحديث المشهور (أي برواية البخاري له) "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة "أي ساعة قيامة الأمة وهلاكها لأن لكل أمة ساعة أي وقتا تهلك فيه أو يذهب استقلالها.
أقول إن معنى الآية لم يتجلَّ تمام التجلي فيما ذكرناه فلا بد من زيادة البيان، ونفصله في مسائل:
المسألة الأولى في معنى الأمانة: الأمانة ما يؤمن عليه الإنسان من الأمن وهو طمأنينة النفس وعدم الخوف، يقال أمنته (كسمعته) على الشيء {هل آمنكم عليه إلا كما آمنتكم على أخيه} [يوسف:64] ويقال أمنه بكذا {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} [آل عمران:75] ويقال ائتمن فلانا أي عده أو اتخذه أمينا وائتمنه على الشيء كأمنه عليه {فليؤد الذي ائتمن أمانته} [البقرة:283] وكل أمانة يجب حفظها ومنها ما يحفظ فقط كالسر وفي الحديث المرفوع "إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي والضياء عن جابر وأبو يعلى في مسنده عن أنس وأشار السيوطي في الجامع الصغير إلى صحته، ومنه يعلم أن كل ما يدل على الائتمان من قول وعمل وعرف وقرينة يجب اعتباره والعمل به وتقدم تصريح الأستاذ الإمام بذلك، ومنها (أي الأمانة) يحفظ ليؤدي إلى صاحبه سواء كان هو الذي ائتمنك عليه أو غيره لأجله، ويسمى من يحفظ الأمانة ويؤديها حفيظا وأمينا ووفيا ويسمى من لا يحفظها أو لا يؤديها خائنا {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} فمن خان عالما عامدا كان من العصاة ووجب عليه الضمان.
المسألة الثانية في معنى العدل: العدل بالفتح والكسر المثل والعديل المثيل قاله ابن الأثير وغيره قال في لسان العرب: وفلان يعدل فلانا أي يساويه، ويقال ما يعدلك عندنا شيء أي ما يقع عندنا شيء موقعك، وعدل المكاييل والموازين سواها. وعدل الشيء يعدله عدلا وعادله وازنه، وعادلت بين الشيئين وعدلت فلانا بفلان إذا سويت بينهما. وتعديل الشيء تقويمه، وقيل العدل تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه حتى تجعله له مثلا، والعدل والعدل والعديل سواء أي النظير والمثيل وقيل هو المثل وليس بالنظير عينه. وفي التنزيل {أو عدل ذلك صياما} [المائدة:95].
والعدل بالفتح أصله مصدر قولك عدلت بهذا عدلا حسنا، تجعله اسما للمثل لتفرق بينه وبين عدل المتاع كما قالوا امرأة رزان وعجز رزين للفرق. (ثم قال) والعدل -بالكسر -نصف الحمل يكون على أحد جنبي البعير، وقال الأزهري العدل اسم حمل معدول بحمل آخر مسوى به والجمع أعدال وعدول عن سيبويه. ثم قال العديلتان الغرارتان لأن كل واحدة منهما تعادل صاحبتها. الأصمعي: يقال عدلت الجوالق على البعير أعدله عدلا يحمل على جنب البعير ويسوى بآخر. ابن الأعرابي:العدل محرك تسوية الأونين وهما العدلان، ويقال عدلت أمتعة البيت إذا جعلتها أعدالا مستوية للاعتكاف يوم الظعن، والعديل الذي يعادلك في المحمل اه.
وهذا الذي ذكره عن أهل اللغة الأولين هو المستعمل في كلام المعاصرين في الجزيرة وسورية وغيرهما ومن يعلم أن العدل في الحكم بين الناس هو تحري المساواة سواء والمماثلة بين الخصمين بأن لا يرجح أحدهما على الآخر بشيء قط بل يجعلهما سواء كالعدلين على ظهر البعير أو غيره فالعدل المأمور به معروف عند أهل اللغة وليس معناه الحكم بما ثبت في الشرع فإن هذا ثابت بدليل آخر وكل ما ثبت في الشرع من ذلك موافق للعدل وليس هو عين العدل بل العدل يكون بالعمل به وتطبيقه على الدعوى بحيث يصل إلى ذي حقه، وقد أمر الله تعالى بالعدل مطلقا في بعض السور المكية قبل بيان الأحكام الشرعية وما كل المسائل التي يتعامل بها الناس ويتخاصمون قد بينت أحكامها في الكتاب والسنة فما بين فيهما كان خير عون على العدل المقصود منهما وما لم يبين يجب على الحكام أن يتحروا فيه المساواة بقدر طاقتهم التي يصل إليها اجتهادهم، وسيأتي في الآية التالية بيان ما يجب من اتباع أحكام الله ورسوله فيما حكما به وبيان ما يجب فيما لم يحكما به.
المسألة الثالثة أنواع الأمانة: الأمانة على أنواع ولذلك جمعت في الآية وفي سورة الأنفال بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} [الأنفال:27] وسورة المؤمنون والمعا رج بقوله تعالى: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} [المؤمنون:8 والمعا رج:32.] وقد ذكرنا عن الأستاذ الإمام أمانة العلم وأمانة المال، وجعلها بعضهم ثلاثا:
إحداها أمانة العبد مع الرب: وهي ما عهد إليه حفظه من الائتمار بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه، واستعمال مشاعره وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه فالمعاصي كلها خيانة لله عز وجل. وقد ورد في المأثور ما يدل على ذلك.
ثانيها أمانة العبد مع الناس: ويدخل فيها رد الودائع وعدم الغش في شيء من الأشياء وحفظ السر وغير ذلك مما يجب لآحاد الناس وللحكام وللأهل والأقربين. قال الرازي ويدخل في هذا القسم "عدل الأمراء مع رعيتهم وعدل العلماء مع العوام بأن لا يحملونهم على التعصبات الباطلة بل يرشدونهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم" فعلى هذا يكون العلماء الذين يعلمون العامة مسائل الخلاف التي تثير التعصب بينهم والذين لا يعلمونهم ما ينفعهم في دنياهم من أمور التربية الحسنة وكسب الحلال وما ينفعهم في آخرتهم من المواعظ والأحكام التي تقوي إيمانهم وتنفرهم من الشرور وترغبهم في الخيرات كل أولئك العلماء من الخائنين للأمة. وهذا القسم يمكن أن يقسم إلى أقسام فيجعل رعاية أمانة الحكام قسما ورعاية أمانة الأقربين من الأصول والفروع والحواشي قسما، ورعاية أمانة الزوجية والصهر قسما، ومنها أن لا يفشي أحد الزوجين سر الآخر ولا سيما السر الذي يختص بهما ولا يطلع عليه عادة منهما سواهما، ورعاية أمانات سائر الناس قسما.
ثالثها أمانة الإنسان مع نفسه: وعرفها الرازي بأن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا وأن لا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة.
أقول: ومن ذلك الذي أجمله توقي الإنسان لأسباب الأمراض والأوبئة بحسب معرفته وما يستفيده من الأطباء وذلك يدل على أن رعاية هذا النوع من الأمانة يتوقف على تعلم ما يحتاج إليه من علم حفظ الصحة ولا سيما في أيام الأمراض الوبائية المنتشرة. مثال ذلك إنه قد عرف بالتجارب نفع بعض ما يعمل للوقاية من المرض كتلقيح الجدري، ومن ذلك التداوي عند وقوع المرض. وتفصيل رعاية هذه الأمانات يطول، وسنعيد البحث فيها عند تفسير تلك الآيات إن أنسأ الله لنا في العمر.
المسألة الرابعة: قدم الأمر بأداء الأمانات على الأمر بالعدل لأن العدل في الأحكام يحتاج إليه عند الخيانة في الأمانات التي تتعلق بحقوق الناس والتخاصم إلى الحاكم. والأصل أن يكون الناس أمناء يقومون بأداء الأمانات بوازع الفطرة والدين، والخيانة خلاف الأصل، ومن شأنها أنها لا تقع في الأمة المتدينة إلا شذوذا، وقلما يحتاج إلى العدل في الحكم إذا راعى الناس أماناتهم وأدوها إلى أهلها.
المسألة الخامسة: ورد في الأمانة عدة آيات ذكرنا بعضها آنفا وورد فيها أحاديث كثيرة مشددة في وجوب رعايتها وأدائها وتشنيع الخيانة والوعيد عليها منها حديث: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان "رواه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة وفي معناه حديث:"ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال إني مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان "رواه رسته (عبد الرحمن بن عمر أبي الحسن الزهري الأصفهاني) في الإيمان وأبو الشيخ في التوبيخ من حديث أنس. وهو مروي عن غيره عند غيرهما بألفاظ أخرى. ومنها حديث" لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له "رواه أحمد وابن حبان من حديث أنس ورمز له السيوطي في جامعه بالصحة. ومنها حديث:"لن تزال أمتي على الفطرة ما لم يتخذوا الأمانة مغنما والزكاة مغرما "رواه سعيد بن منصور في سننه.
المسألة السادسة: في حكمة تأكيد الأمر بالأمانة وبيان فائدتها ومضرة الخيانة. ذكر حكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني في رسالته (الرد على الدهريين) التي ألفها بالفارسية وترجمها بالعربية تلميذه الأستاذ الإمام: أن الدين قد أفاد الناس ثلاث عقائد وثلاث خصال أقاموا بها بناء مدنيتهم. ومن هذه الخصال أو الصفات الأمانة وهاك ما قاله فيها فهو يغني عن غيره:
" من المعلوم الجلي أن بقاء النوع الإنساني قائم بالمعاملات والمعاوضات في منافع الأعمال، وروح المعاملة والمعاوضة إنما هي الأمانة، فإن فسدت الأمانة بين المتعاملين بطلت صلات المعاملة وانبترت حبال المعاوضة فاختل نظام المعيشة وأفضى ذلك بنوع الإنسان إلى الفناء العاجل.
" ثم من البين أن الأمم في رفاهتها والشعوب في راحتها وانتظام أمر معيشتها محتاجة إلى الحكومة بأي أنواعها إما جمهورية أو ملكية مشروطة أو ملكية مقيدة، والحكومة في أي صورها لا تقوم إلا برجال يلون ضروبا من الأعمال فمنهم حراس على حدود المملكة يحمونها من عدوان الأجانب عليها ويدافعون الوالج في ثغورها، وحفظة في داخل البلاد يأخذون على أيدي السفهاء ممن يهتك ستر الحياء ويميل إلى الاعتداء من فتك أو سلب أو نحوهما، ومنهم حملة الشرع وعرفاء القانون يجلسون على منصات الأحكام لفصل الخصومات والحكم في المنازعات ومنهم أهل جباية الأموال يحصلون من الرعايا ما فرضت عليهم الحكومة من خراج مع مراعاة قانونها في ذلك ثم يستحفظون ما يحصلون في خزائن المملكة وهي خزائن الرعايا في الحقيقة وإن كانت مفاتيحها بأيدي خزنتها، ومنهم من يتولى صرف هذه الأموال في المنافع العامة للرعية مع مراعاة الاقتصاد والحكمة كإنشاء المدارس والمكاتب وتمهيد الطرق وبناء القناطر وإقامة الجسور وإعداد المستشفيات ويؤدي أرزاق سائر العاملين في شؤون الحكومة من الحراس والحفظة وقضاة العدل وغيرهم حسبما عين لهم. وهذه الطبقات من رجال الحكومة الوالين على أعمالها إنما تؤدي كل طبقة منها عملها المنوط بها بحكم الأمانة فإن خزيت أمانة أولئك الرجال وهم أركان الدولة سقط بناء السلطة وسلب الأمن وزاحت الراحة من بين الرعايا كافة وضاعت حقوق المحكومين وفشا فيهم القتل والتناهب ووعرت طرق التجارة وتفتحت عليهم أبواب الفقر والفاقة وخوت خزائن الحكومة وعميت على الدولة سبل النجاح فإن حزبها أمر سدت عليها نوافذ النجاة، ولا ريب أن قوما يساسون بحكومة خائنة إما أن ينقرضوا بالفساد وإما أن يأخذهم جبروت أمة أجنبية عنهم يسومونهم خسفا ويستبدون فيهم عسفا فيذوقون من مرارة العبودية ما هو أشد من مرارة الانقراض والزوال.
ومن الظاهر أن استعلاء قوم على آخرين إنما يكون اتحاد آحاد العاملين والتئام بعضهم ببعض حتى يكون كل منهم لبنة قومه كالعضو للبدن ولن يكون هذا الاتحاد حتى تكون الأمانة قد ملكت قيادهم وعمت بالحكم أفرادهم.
" فقد كشف الحق أن الإمامة دعامة بقاء الإنسان ومستقر أساس الحكومات وباسط ظلال الأمن والراحة ورافع أبنية العز والسلطان وروح العدالة وجسدها ولا يكون شيء من ذلك بدونها.
" وإليك الاختبار في فرض أمة عطلت نفوسها من حيلة هذه الخلة الجليلة فلا تجد فيها إلا آفات جائحة، ورزايا قاتلة، وبلايا مهلكة وفقرا معوزا وذلا معجزا ثم لا تلبث بعد هذا كله أن تبتلعها بلاليع العدم، وتلتهمها أمهات اللهم" اه.
المسألة السابعة: ورد الأمر بالعدل والتعظيم لشأنه في كثير من الآيات والأحاديث كقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل:90] وقوله: {فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات:9] والإقساط هو العدل وقوله آمرا للنبي (صلى الله عليه وسلم) أن يبلغه للناس {وأمرت لأعدل بينكم} [الشورى:42] وقوله: {ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا} [المائدة:134] الآية. وفي معناها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} [المائدة:7] وسيأتي تفسيرها في مواضعها ولا حاجة إلى إيراد الأحاديث هنا ولا الآيات المحرمة للظلم المتوعدة عليه.
المسألة الثامنة: المسلمون مأمورون بالعدل في الأحكام والأقوال والأفعال والأخلاق وقد قال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام:152] وهذا الأمر موجه إلى الحكام وغيرهم.
قال تعالى: {إن الله نعما يعظكم به} أي نعم الشيء الذي يعظكم به وهو هنا أداء الأمانات والحكم بالعدل لأنه لا يعظكم إلا بما فيه صلاحكم وفلاحكم ما عملتم به مهتدين متعظين {إن الله كان سميعا بصيرا} فلا يخفى عليه شيء من أقوالكم ولا من أفعالكم ولا من نياتكم فلا تدعو ما ليس فيكم من الأمانة والعدل ولا تقولوا ما لا تفعلون فإنه سيجزي كل عامل بما عمل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"هذا الدرس يتناول موضوعا خطيرا.. الموضوع الأساسي في حياة الأمة المسلمة. إنه يتناول بيان شرط الإيمان وحده؛ متمثلا في النظام الأساسي لهذه الأمة.. ومن الموضوع في ذاته، ومن طريقه ارتباطه وامتزاجه بالنظام افي ظل هذه التصورات القرآنية التي تمثل المنهج الرباني.. حين ننظر إلى الديوان المأثور والحياة الواقعية.. في ظل القرآن وواقع الحياة الإسلامية:يتبين لنا على وجه التأكيد والتحديد.. أنها كانت نشأة ولم تكن خطوة ولا مرحلة ولا وثبة! كانت" "إخراجًا" "من صنع الله؛ كتعبير القرآن الدقيق.. وكانت أعجب نشأة؛ وأغرب إخراج.. فيهي المرة الأولى والأخيرة -فيما نعلم- التي تنبثق فيها أمة من بين دفتي كتاب! و ""تخرج"" فيها حياة من خلال الكلمات! ولكن لا عجب.. فهذه الكلمات.. كلمات الله.. ومن أراد المجادلة والمماحلة، فليقل لنا أين كانت هذه الأمة قبل أن ""يخرجهًا"" الله بكلماته؛ وقيل أن ينشئها الله بقرآنه؟ إننا نعرف أنها كانت في الجزيرة العربية! ولكن أين كانت في الوجود ""الإنساني ""؟ أين كانت في سجل الحضارة البشرية؟ أين كانت في التاريخ العالمي؟ أين كانت تجلس على المائدة العالمية الإنسانية؟ وماذا كانت تقدم على هذه المائدة، فيعرف باسمها ويحمل طابعها؟ لقد"" نشأت ""هذه الأمة نشأتها بهذا الدين؛ ونشئت تنشئتها بهذا المنهج القويم؛ وقادت نفسها وقادت البشرية بعد ذلك بكتاب الله الذي في يدها، وبمنهجه الذي طبع حياتها.. لا بشيء آخر.. وأمامنا التاريخ! وقد صدقها الله وعده وهو يقول للعرب: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم.. أفلا تعقلون)؟ فبسبب من هذا الكتاب ذكرت هذه الأمة في الأرض؛ وكان لها دورها في التاريخ؛ وكان لها"" وجود إنساني ""ابتداء، وحضارة عالمية ثانيا.. ذلك بينما يريد جماعة من الحمقى أن يرفضوا نعمة الله هذه على الأمة العربية؛ ويجحدوا فضل الله في أن جعل كلمته الأخيرة لأهل الأرض قاطبة في العرب وبلسانهم.. ومن ثم جعل لهم وجودا وذكرا وتاريخا وحضارة -يريدون أن يخلعوا هذا الرداء الذي ألبسهم الله إياه؛ وأن يمزقوا هذه الراية التي قادتهم إلى الذكر والمجد.. بل إلى الوجود يوم أخرج الله منهم الأمة المسلمة! نقول.. إن القرآن حين كان"" ينشى ء ""هذه الأمة و"" ينشئها "".. ويخطط ويثبت ملامح الإسلام الجديدة، في الجماعة المسلمة- التي التقطها من سفح الجاهلية -ويطمس ويمحو ملامح الجاهلية في حياتها ونفوسها ورواسبها.. وينظم مجتمعها- أو يقيمه ابتداء -على أساس الميلاد الجديد.. وحين كان يخوض بالجماعة المسلمة المعركة؛ في مواجهة الجاهلية الراسبة في نفوسها وأوضاعها من مخلفات البيئة التي التقطها المنهج الرباني منها؛ وفي مواجهة الجاهلية الرابضة فيها ومن حولها- ممثلة في يهود المدينة ومنافقيها ومشركي مكة وما حولها -والمعركتان موصولتان في الزمان والمكان! حين كان القرآن يصنع ذلك كله.. كان يبدأ فيقيم للجماعة المسلمة تصورها الصحيح، ببيان شرط الإيمان وحد الإسلام؛ ويربط بهذا التصور- في هذه النقطة بالذات -نظامها الأساسي، الذي يميز وجودها من وجود الجاهلية حولها؛ ويفردها بخصائص الأمة التي أخرجت للناس، لتبين للناس، وتقودهم إلى الله.. نظامها الرباني.. وهذا الدرس يتولى بيان هذا النظام الأساسي، قائما ومنبثقا من التصور الإسلامي لشرط الإيمان وحد الإسلام! إنه يتولى تحديد الجهة التي تتلقى منها الأمة المسلمة منهج حياتها؛ والطريقة التي تتلقى بها؛ والمنهج الذي تفهم به ما تتلقى، وترد إليه ما يجد من مشكلات وأقضية لم يرد فيها نص وتختلف الأفهام فيها؛ والسلطة التي تطيعها وعلة طاعتها ومصدر سلطانها.. ويقول:إن هذا هو شرط الإيمان وحده الإسلام.. وعندئذ يلتقي ""النظام الأساسي"" لهذه الأمة؛ بالعقيدة التي تؤمن بها.. في وحدة لا تتجزأ؛ ولا تفترق عناصرها.. وهذا هو الموضوع الخطير الذي يجلوه هذا الدرس جلاء دقيقا كاملا.. وهذه هي القضية التي تبدو، بعد مطالعة هذا الدرس، بديهية يعجب الإنسان كيف يجادل مسلم فيها! إنه يقول للأمة المسلمة:إن الرسل أرسلت لتطاع- بإذن الله -لا لمجرد الإبلاغ والإقناع: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله).. ويقول لها:إن الناس لا يؤمنون- ابتداء -إلا أن يتحاكموا إلى منهج الله؛ ممثلا- في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم -في أحكام الرسول. وباقيا بعده في مصدريه القرآن والسنة بالبداهة؛ ولا يكفي أن يتحاكموا إليه- ليحسبوا مؤمنين -بل لا بد من أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين: فلا وربك.. لا يؤمنون.. حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليمًا.. فهذا هو شرط الإيمان وحد الإسلام. ويقول لها:إن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت- أي إلى غير شريعة الله -لا يقبل منهم زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله. فهو زعم كاذب. يكذبه أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت- وقد أمروا أن يكفروا به -ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا. ويقول لها:إن علامة النفاق أن يصدوا عن التحاكم إلى ما أنزل الله والتحاكم إلى رسول الله: (وإذا قيل لهم:تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) ويقول لها:إن منهجها الإيماني ونظامها الأساسي، أن تطيع الله- عز وجل -في هذا القرآن- وأن تطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته -وأولي الأمر من المؤمنين الداخلين في شرط الإيمان وحد الإسلام معكم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول. وأولي الأمر منكم).. ويقول لها:إن المرجع، فيما تختلف فيه وجهات النظر في المسائل الطارئة المتجددة. والأقضية التي لم ترد فها أحكام نصية.. إن المرجع هو الله ورسوله.. أي شريعة الله وسنة رسوله. (فإن تنازعتم في شيء، فردوه إلى الله والرسول).. وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمنا على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك، أبد الدهر، في حياة الأمة المسلمة.. وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي، الذي لا تكون مؤمنة إلا به، ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه.. إذ هو يجعل الطاعة بشروطها تلك، ورد المسائل التي تجد وتختلف فيها وجهات النظر إلى الله ورسوله.. شرط الإيمان وحد الإسلام.. شرطا واضحا ونصا صريحا: (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر).. ولا ننس ما سبق بيانه عند قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).. من أن اليهود وصموا بالشرك بالله، لأنهم كانوا يتخذون أحبارهم أربابا من دون الله- لا لأنهم عبدوهم -ولكن لأنهم قبلوا منهم التحليل والتحريم؛ ومنحوهم حق الحاكمية والتشريع- ابتداء من عند أنفسهم -فجعلوا بذلك مشركين.. الشرك الذي يغفر الله كل ما عداه. حتى الكبائر.. ""وإن زنى وإن سرق. وإن شرب الخمر "".. فرد الأمر كله إلى إفراد الله- سبحانه -بالألوهية. ومن ثم إفراده بالحاكمية. فهي أخص خصائص الألوهية. وداخل هذا النطاق يبقى المسلم مسلما ويبقى المؤمن مؤمنا. ويطمع أن يغفر له ذنوبه ومنها كبائره.. أما خارج هذا النطاق فهو الشرك الذي لا يغفره الله أبدا.. إذ هو شرط الإيمان وحد الإسلام. (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر..) هذا هو الموضوع الخطير الذي يتناوله هذا الدرس. بالإضافة إلى بيان وظيفة الأمة المسلمة في الأرض. من إقرار مبادى ء العدل والخلق على أساس منهج الله القويم السليم: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها. وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.. إن الله نعما يعظكم به.. إن الله كان سميعا بصيرًا..) وقد ألممنا به إجمالا. فنأخذ في مواجهة النصوص تفصيلا.." (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها؛ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. إن الله نعما يعظكم به. إن الله كان سميعا بصيرًا..) هذه هي تكاليف الجماعة المسلمة؛ وهذا هو خلقها: أداء الأمانات إلى أهلها. والحكم بين (الناس) بالعدل. على منهج الله وتعليمه. والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى.. الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان؛ والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها "الإنسان".. أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه. فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة. فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به، والاهتداء إليه، ومعرفته، وعبادته، وطاعته. وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد ولا إرادة ولا اتجاه. والإنسان وحده هو الذي وكل إلى فطرته، وإلى عقله، وإلى معرفته، وإلى إرادته، وإلى اتجاهه، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله، بعون من الله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).. وهذه أمانة حملها وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات. ومن هذه الأمانة الكبرى، تنبثق سائر الأمانات، التي يأمر الله أن تؤدى: ومن هذه الأمانات: أمانة الشهادة لهذا الدين.. الشهادة له في النفس أولا بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له. ترجمة حية في شعورها وسلوكها. حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس. فيقولوا: ما أطيب هذا الإيمان وأحسنه وأزكاه؛ وهو يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخلق والكمال! فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون.. والشهادة له بدعوة الناس إليه، وبيان فضله ومزيته- بعد تمثل هذا الفضل وهذه المزية في نفس الداعية -فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان. وهي إحدى الأمانات.. ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض؛ منهجا للجماعة المؤمنة؛ ومنهجا للبشرية جميعا.. المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة، وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة. فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات؛ بعد الإيمان الذاتي. ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة.. ومن ثم ف" الجهاد ماض إلى يوم القيامة "على هذا الأساس.. أداء لإحدى الأمانات.. ومن هذه الأمانات- الداخلة في ثنايا -ما سبق- أمانة التعامل مع الناس؛ ورد أماناتهم إليهم: أمانة المعاملات والودائع المادية. وأمانة النصيحة للراعي وللرعية. وأمانة القيام على الأطفال الناشئة. وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها.. وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالي الحياة على وجه الإجمال.. فهذه من الأمانات التي يأمر الله أن تؤدي؛ ويجملها النص هذا الإجمال.. فأما الحكم بالعدل بين (الناس) فالنص يطلقه هكذا عدلا شاملا بين (الناس) جميعا. لا عدلا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب. ولا عدلا مع أهل الكتاب، دون سائر الناس.. وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه" إنسانًا". فهذه الصفة -صفة الناس- هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني. وهذه الصفة يلتقي عليها البشر جميعا: مؤمنين وكفارا. أصدقاء وأعداء. سودا وبيضا. عربا وعجما. والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل -متى حكمت في أمرهم- هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط -في هذه الصورة- إلا على يد الإسلام، وإلا في حكم المسلمين، وإلا في عهد القيادة الإسلامية للبشرية.. والذي افتقدته من قبل ومن بعد هذه القيادة؛ فلم تذق له طعما قط، في مثل هذه الصورة الكريمة التي تتاح للناس جميعا. لأنهم "ناس "! لا لأية صفة أخرى زائدة عن هذا الأصل الذي يشترك فيه (الناس)! وذلك هو أساس الحكم في الإسلام؛ كما أن الأمانة -بكل مدلولاتها- هي أساس الحياة في المجتمع الإسلامي. والتعقيب على الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها؛ والحكم بين الناس بالعدل؛ هو التذكير بأنه من وعظ الله -سبحانه- وتوجيهه. ونعم ما يعظ الله به ويوجه: (إن الله نعما يعظكم به)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي قصد منه الإفاضة في بيان شرائع العدل والحكم، ونظام الطاعة، وذلك من الأغراض التشريعية الكبرى التي تضمّنتها هذه السورة، ولا يتعيّن تطلّب المناسبة بينه وبين ما سبقه، فالمناسبة هي الانتقال من أحكام تشريعية إلى أحكام أخرى في أغراض أخرى. وهنا مناسبة، وهي أنّ ما استطرد من ذكر أحوال أهل الكتاب في تحريفهم الكلم عن مواضعه، وليّهم ألسنتهم بكلمات فيها توجيه من السبّ، وافترائهم على الله الكذب، وحسدهم بإنكار فضل الله إذ آتاه الرسول والمؤمنين، كلّ ذلك يشتمل على خيانة أمانة الدين، والعلم، والحقّ، والنعمة، وهي أمانات معنويّة، فناسب أن يعقب ذلك بالأمر بأداء الأمانة الحسيّة إلى أهلها ويتخلّص إلى هذا التشريع. وجملة {إنّ الله يأمركم} صريحة في الأمر والوجوب، مثل صراحة النهي في قوله في الحديث « إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم». (وإنّ) فيها لمجرد الاهتمام بالخبَر لظهور أنّ مثل هذا الخبر لا يقبل الشكّ حتّى يؤكّد لأنّه إخبار عن إيجاد شيء لا عن وجوده، فهو والإنشاء سواء. والخطاب لكلّ من يصلح لتلقّي هذا الخطاب والعمل به من كلّ مؤتمن على شيء، ومن كلّ من تولّى الحكم بين الناس في الحقوق. والأداء حقيقة في تسليم ذات لمن يستحقّها، يقال: أدّى إليْه كذا، أي دفعه وسلّمه، ومنه أداء الدَّين. وتقدّم في قوله تعالى: {من إن تأمنّه بقنطار يؤدّه إليك} في سورة آل عمران (75). وأصل أدَّى أن يكون مضاعفَ أدَى بالتخفيف بمعنى أوصل، لكنّهم أهمْلوا أدى المخفّف واستغنوا عنه بالمضاعف. ويطلق الأداء مجازاً على الاعتراف والوفاء بشيء. وعلى هذا فيطلق أداء الأمانة على قَول الحقّ والاعتراف به وتبليغ العلم والشريعة على حقّها، والمراد هنا هو الأوّل من المعنيين، ويعرف حكم غيره منهما أو من أحدهما بالقياس عليه قياس الأدْوَن. والأمانة: الشيء الذي يجعله صاحبه عند شخص ليحفظه إلى أن يطلبه منه، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى {فليؤدّ الذي ائتمن أمانَتهُ} في سورة البقرة (283). وتطلق الأمانة مجازاً على ما يجب على المكلّف إبلاغه إلى أربابه ومُستحقيه من الخاصّة والعامّة كالدّين والعلم والعهود والجوار والنصيحة ونحوها، وضدّها الخيانة في الإطلاقين. والأمر للوجوب. والأمانات من صيغ العموم، فلذلك قال جمهور العلماء فيمن ائتمنه رجل على شيء وكان للأمين حقّ عند المؤتَمَن جحدهُ إيّاه: إنّه لا يجوز له أخذ الأمانة عوض حقّه لأنّ ذلك خيانة، ومنعه مالك في المدوّنة..
وأهل الأمانة هم مستحقّوها، يقال: أهل الدار، أي أصحابها.
والحكم مصدر حكم بين المتنازعين، أي اعتنى بإظهار المحقّ منهما من المبطل، أو إظهار الحقّ لأحدهما وصرَّح بذلك، وهو مشتقّ من الحُكْم بفتح الحاء وهو الردْع عن فعلِ ما لا ينبغي، ومنه سميّت حَكَمَة اللِّجام، وهي الحديدة التي تجعل في فم الفرس، ويقال: أحْكِمْ فُلاناً، أي أمْسِكْه. والعدل: ضدّ الجور، فهو في اللغة التسوية، يقال: عَدَل كذا بكذا، أي سوّاه به ووازنه عدلاً {ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلون} [الأنعام: 1]، ثمّ شاع إطلاقه على إيصال الحقّ إلى أهله، ودفع المعتدي على الحقّ عن مستحقّه، إطلاقاً ناشئاً عمّا اعتاده الناس أنّ الجور يصدر من الطغاة الذين لا يَعدّون أنفسهم سواء مع عموم الناس، فهم إن شاءوا عدلوا وأنصفوا، وإن شاءوا جاروا وظلموا...
والعدل: مساواة بين الناس أو بين أفراد أمّة: في تعيين الأشياء لمستحقّها، وفي تمكين كلّ ذي حقّ من حقّه، بدون تأخير، فهو مساواة في استحقاق الأشياء وفي وسائل تمكينها بأيدي أربابها، فالأوّل هو العدل في تعيين الحقوق، والثاني هو العدل في التنفيذ، وليس العدل في توزيع الأشياء بين الناس سواء بدون استحقاق. فالعدل وسط بين طرفين، هما: الإفراط في تخويل ذي الحقّ حقّه، أي بإعطائه أكثر من حقّه، والتفريط في ذلك، أي بالإجحاف له من حقّه، وكلا الطرفين يسمّى جوراً، وكذلك الإفراط والتفريط في تنفيذ الإعطاء بتقديمه على وقته، كإعطاء المال بيد السفيه، أو تأخيره كإبقاء المال بيد الوصي بعد الرشد، ولذلك قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم إلى قوله: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 5، 6]؛ فالعدل يدخل في جميع المعاملات. وهو حسن في الفطرة لأنّه كما يصدُّ المعتدي عن اعتدائه، كذلك يصدّ غيره عن الاعتداء عليه، كما قال تعالى: {لا تَظْلِمُون ولا تُظلمون} [البقرة: 279]. وإذ قد كان العدل بهذه الاعتبارات تجول في تحديده أفهام مخطئة تعيّن أن تسَنّ الشرائع لضبطه على حسب مدارك المشرّعين ومصطلحات المشَرَّع لهم، على أنّها معظمها لم يسلم من تحريف لحقيقة العدل في بعض الْاحوال، فإنّ بعض القوانين أسّست بدافعة الغضب والأنانية، فتضمّنت أخطاء فاحشة مثل القوانين التي يمليها الثوار بدافع الغضب على من كانوا متَولين الأمور قبلهم، وبعض القوانين المتفرّعة عن تخيّلات وأوهام، كقوانين أهل الجاهلية والأمم العريقة في الوثنية. ونجد القوانين التي سنّها الحكماء أمكن في تحقيق منافع العدل مثل قوانين أثينة وإسبَرطة، وأعلى القوانين هي الشرائع الإلهية لمناسبتها لحال من شرعت لأجلهم، وأعظمها شريعةُ الإسلام لابتنائها على أساس المصالح الخالصة أو الراجحة، وإعراضها عن أهواء الأمم والعوائد الضالّة، فإنّها لا تعبأ بالأنانية والهوى، ولا بعوائد الفساد، ولأنّها لا تبنى على مصالح قبيلة خاصّة، أو بلد خاصّ، بل تبتنى على مصالح النوع البشري وتقويمه وهديه إلى سواء السبيل، ومن أجل هذا لم يزل الصالحون من القادة يدوّنون بيان الحقوق حفظاً للعدل بقدر الإمكان وخاصّة الشرائع الإلهية، قال تعالى: {لقد أرسلنا رُسُلَنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتابَ والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد: 25] أي العدل. فمنها المنصوص عليه على لسان رسول البشرية ومنها ما استنبطه علماء تلك الشريعة فهو مدرج فيها وملحق بها. وإنّما قيّد الأمر بالعدل بحالة التصدّي للحكم بين الناس، وأُطلق الأمر بردّ الأمانات إلى أهلها عن التقييد: لأنّ كلّ أحد لا يخلو من أن تقع بيده أمانة لغيره لا سيما على اعتبار تعميم المراد بالأمانات الشامل لما يجب على المرء إبلاغه لمستحقّه كما تقدّم، بخلاف العدل فإنّما يؤمر به ولاة الحكم بين الناس، وليس كلّ أحد أهلاً لتولّي ذلك. فتلك نكتة قوله: {وإذا حكمتم بين الناس}. قال الفخر: قوله: {وإذا حكمتم} هو كالتصريح بأنّه ليس لجميع الناس أن يشرّعوا في الحكم بل ذلك لبعضهم، فالآية مجملة في أنّه بأي طريق يصير حاكماً ولمّا دلّت الدلائل على أنّه لا بد للأمّة من إمام وأنّه ينصب القضاة والولاة صارت تلك الدلائل كالبيان لهذه الآية. وجملة {إنّ الله نعمّا يعظكم به} واقعة موقع التحريض على امتثال الأمر، فكانت بمنزلة التعليل، وأغنت (إنَّ) في صدر الجملة عن ذكر فَاء التعقيب، كما هو الشأن إذا جاءت (إنَّ) للاهتمام بالخبر دون التأكيد. و (نعمّا) أصله (نعْمَ ما). والوعظ: التذكير والنصح، وقد يكون فيه زجر وتخويف. وجملة {إنّ الله كان سميعاً بصيراً} أي عليماً بما تفعلون وما تقولون، وهذه بشارة ونذارة.
إن قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} ليست خاصة للحاكم فقط، بل إن كل إنسان مطالب بالعدل، فلو كنت محكما من طرف قوم ورضوا بك أن تحكم فاحكم بالعدل حتى ولو كان الحكم في الأمور التي يتعلق بها التكريم والشرف والموهبة؛ فليس ضروريا أن يكون الحكم بالعدل في أمر له قيمة مادية، مثلا: سيدنا الإمام على رضوان الله عليه وكرم الله وجهه يرى غلامين يتحاكمان إلى ابنه الحسن؛ ليحكم بينهما أي الخطين أجمل من الآخر، وهذه مسالة قد ينظر لها الناس على أنها مسالة تافهة لكنها مادامت شغلت الطفلين وأراد كل واحد منهما أن يكون خطه أجمل، فلابد أن يكون الحكم بالعدل. فقال الإمام علي لابنه الحسن: يا بني انظر كيف تقضي، فإن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة...
إن هذا يعطينا صورة في دقة العدل حتى ولو كان الأمر صغيرا. وفي مباريات كرة القدم تجد الحكم الذي يقول هذه اللعبة تحتسب هدفا أولا تحتسب، هذا الحكم يحتاج إلى مهارة لأنه سيترتب عليها فوز فريق أو هزيمته، بدليل أنك حتى وأنت تراقب الكرة ثم وجدت الحكم لم يحتسب خطا تثور عليه. وهنا أتساءل: لماذا طبقتم قانون الجد في اللعب، ثم تركتم الجد بدون قانون؟ وهذا ما يحدث. نحن ننقل قوانين الجد إلى اللعب، ونترك الجد في بعض الأحيان بدون قانون، ولو اعتنينا بهذه كما اعتنينا بتلك لتساوت الأمور، فالعدل إذن هو حق في ذمة غير لغير حتى ولو كانت مباراة في اللعب، ومادام الأمر قد شغل طرفين، وجعل بينهما نزاعا وخلافا وتسابقا فعليك أن تنهي هذا الخلاف بالعدل...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
عناصر السلامة العامة للتوازن الاجتماعي:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأماناتِ إِلَى أَهْلِهَا} وينطلق القرآن في جولة جديدة مع المؤمنين، من أجل تنظيم حياتهم الاجتماعية في علاقاتهم ومسؤولياتهم؛ وقد أكدت هذه الآية على عنصرين أساسيين من عناصر السلامة العامة للتوازن الاجتماعي، وهما أداء الأمانة، والحكم بين الناس بالعدل. فإذا انطلق الأفراد في خط الأمانة وعاشوا المسؤولية العملية، في ما يأتمن به بعضهم بعضاً من الأموال التي يودعونها ليحفظوها، أو من غير ذلك من الأمانات، التي قد تكون سراً من الأسرار، أو عملاً من الأعمال، أو عرضاً، أو نفساً، أو غير ذلك مما يحمّل الناس بعضهم بعضاً مسؤولية الحفاظ عليه، فإن المجتمع سيشعر بالأمن والطمأنينة على كل الأشياء التي يعتبرها أساسية، لأنه يجد الثقة التي تسود الأفراد في علاقاتهم وتحميهم من الإقدام على الخيانة، وبذلك يمكن لكل إنسان في المجتمع تجاوز الاستغراق في حاجاته الخاصة إلى الشعور بالمسؤولية في ما يتعلق بحاجات الآخرين، ليرعاها كما يرعى حاجاته وأموره؛ في مظهر من مظاهر التكامل الاجتماعي. وقد اعتبرت النصوص الدينية الأمانة قمة الأخلاق الإسلامية، وأشارت إليها بعض الأحاديث على أساس أنها الصفة التي يمكن أن يختبر من خلالها صدق إيمان الشخص، وجاءت بعض الآيات لتعبر عن المسؤولية، التي تعني القيام بالتكليف عن إرادة واختيار، بكلمة الأمانة؛ وذلك قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَواتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} وهذا هو العنصر الثاني، الحكم بالعدل؛ فإن الله قد أنزل الرسالات كلها ليقوم الناس بالقسط، لما في ذلك من التأكيد على خط التوازن في الحياة، الذي تستقيم به الأمور وتتطور، وترتكز على قاعدة ثابتة في واقع الأشياء، فلا تنحرف بها عاطفة، ولا تجمح بها رغبة، ولا تفسدها علاقة قريبة، ولا تغيّرها علاقة بعيدة، بل كل ما هناك، أن في الساحة حقاً يراد بلوغه وإعطاؤه إلى صاحبه، من خلال المعطيات الواقعية للقضية والظروف الموضوعية المحيطة بها، فليست هناك عيون لامعة متنقّلة بين مزاج الإنسان ورغبته وبين مفردات الواقع، ليحاول التوفيق بين هذا وهذا، أو تغليب هذا على ذاك، بل هناك عين واحدة جامدة وعقل واحد هادئ، يحدّقان بالواقع من خلال معطياته، بعيداً عن كل شيء آخر يمنع القضية من أن تأخذ مجالها الطبيعي في الوصول إلى النتيجة الحاسمة. وهذا ما أكّده القرآن في أكثر من آية، كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152]، وفي قوله تعالى: {يَأَيُّهَآ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، وفي قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء: 135].
ومن الواضح أن العدل لا يختص بالمنازعات الحاصلة في مجالس القضاء، بل يتسع ليشمل كل القضايا التي يختلف الناس فيها، في شؤون الحكم من حيث علاقة الحاكم بالمحكومين، وعلاقات الناس ببعضهم، وفي شؤون التقييم للأشخاص والأوضاع، وفي تقديرهم للمواقف من خلال ما تختزنه من مؤثرات وما يحيط بها من ظروف... وبذلك يكون العدل هو السمة البارزة التي تطبع الواقع الإسلامي في حياة الفرد؛ العائلية او العامة من جيرانٍ وأقارب وأصدقاء ومعارف… الخ لا سيما الذين يتحمل مسؤوليتهم ويتحملون مسؤوليته، في نظرته للأمور، وفي كلماته وأعماله وفي حياة المجتمع، في تصرفاته وعلاقاته بالمجتمعات الأخرى، ليكون العدل هو الأساس الذي يحكم التصرفات والعلاقات، بعيداً عن موازين القوة والضعف والقرب والبعد، لتتكامل الحياة وتتوازن في أوضاعها العامة والخاصة، وتحتضن قيمها الروحية والمادية في عدالةٍ وسلام.
{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} وتلك هي الموعظة، التي هي نعم الموعظة، فإن الله لا يعظ الناس بالمواعظ الفارغة التي لا تقدم لهم شيئاً كبيراً في بناء حياتهم وشخصيتهم، بل في كل مواعظه الخير والبركة والإصلاح، فلا بد للمؤمنين من الارتباط بها والسير على هداها، فإنه يسمع كل ما يقولون مما يتصل بالعدل والأمانة، ويبصر كل ما يعملونه في كل شؤون الحياة العامة والخاصة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
قانونان إسلاميان مهمان: الآية الحاضرة وإِن نزلت كالكثير من الآيات في مورد خاص، إِلاّ أن من البديهي أنّها تتضمّن حكماً عامّاً وشاملا للجميع، فهي تقول بصراحة: (إِنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إِلى أهلها). ومن الواضح أنّ للأمانة معنىً وسيعاً يشمل كلّ شيء مادي ومعنوي، ويجب على كل مسلم بصريح هذه الآية أن لا يخون أحداً في أية أمانة دون استثناء، سواء كان صاحب الأمانة مسلماً أو غير مسلم، وهذا هو في الواقع إِحدى المواد في «الميثاق الإسلامي لحقوق الإِنسان» التي يتساوى تجاهها كل أفراد البشر. والجدير بالذكر أنّ الأمانة المذكورة في سبب النزول لم تكن مجرد أمانة مادية، ومن جانب آخر كان صاحبها المؤدى إِليه تلك الأمانة مشركاً. ثمّ إنّه سبحانه يشير في القسم الثّاني من الآية إِلى قانون مهم آخر، وهو مسألة «العدالة في الحكومة» فيقول: (وإِذا حكمتم بين النّاس فاحكموا بالعدل) أي إِنّ الله يوصيكم أيضاً أن تلتزموا جانب العدالة في القضاء والحكم بين الناس، فتحكموا بعدل. ثمّ قال سبحانه تأكيداً لهذين التعليمين: (إِنّ الله نعمّا يعظكم به). ثمّ يقول مؤكداً ذلك أيضاً: (إِنّ الله كان سميعاً بصيراً) فهو يراقب أعمالكم وهو يسمع أحاديثكم ويرى أفعالكم. إنّ هذا القانون هو الآخر قانون كلّي وعام، ويشمل كل نوع من القضاء والحكومة، سواء في الأُمور الكبيرة والأُمور الصغيرة، إِلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإِسلامية أنّ صبين ترافعا إِلى الإِمام الحسن بن علي في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم أيَّ الخطين أجود، فبصر به عليّ (عليه السلام) فقال: «يا بني اُنظر كيف تحكم فإِن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة». إنّ هذين القانونين المهمّين،حفظ الأمانة، والعدالة في الحكم والحكومة، يمثلان قاعدة المجتمع الإِنساني السليم، ولا يستقيم أمر مجتمع، سواء كان مادياً أو إلهياً من دون تنفيذ وإجراء هذين الأصلين. فالأصل الأوّل يقول: إِنّ الأموال والثروات والمناصب والمسؤوليات والمهام والرساميل الإِنسانية والثقافات والتراث والمخلفات التاريخية، كلها أمانات إِلهية سلمت بأيدي أشخاص مختلفين في المجتمع، والجميع مكلّفون أن يحفظوا هذه الأمانات، ويجتهدوا في تسليمها إِلى أصحابها الأصليين، ولا يخونوا فيها أبداً. ومن جهة أُخرى حيث إنّ الاجتماعات تلازم التصادمات والاحتكاكات في المصالح والمنافع، ولهذا يتطلب الحل والفصل على أساس من الحكومة العادلة والقضاء العادل حتى يزول وينمحي كل أنواع التمييز الظالم من الحياة الاجتماعية. وكما أسلفنا فإنّ الأمانة لا تنحصر في الأموال التي يودعها الناس بعضهم عند بعض بل العلماء في المجتمع هم أيضاً مستأمنون يجب عليهم أن لا يكتموا الحقائق، بل حتى أبناء الإِنسان وأولاده أمانات إِلهية لدى الآباء والأُمهات فلا يفرطوا في تربيتهم، ولا يقصروا في تأديبهم وتعليمهم، وإِلاّ كان ذلك خيانة في الأمانة الإِلهية التي أمر الله بأدائها، بل وفوق ذلك كلّه الوجود الإِنساني، فهو وجميع الطاقات المودوعة فيه «أمانات الله» التي يجب على الإِنسان أن يجتهد في المحافظة عليها، كما عليه أن يحافظ على صحّة جسمه وسلامة روحه، ويحافظ على طاقة الشباب الفياضة، وفكره، ولا يفرط فيها، ولهذا لا يجوز له أن ينتحر أو يلحق الضرر بنفسه...