التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

وبعد أن أمر - سبحانه - بالإحسان إلى النساء . وبمعاشرتهن معاشرة كريمة ، وبين حقوقهن فى الميراث ، أتبع ذلك ببيان حكمه - سبحانه - فى الرجال والنساء إذا ما ارتكبوا فاحشة الزنا فقال - تعالى - : { واللاتي يَأْتِينَ . . . . . تَوَّاباً رَّحِيماً } .

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ( 15 ) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ( 16 )

وقوله : { واللاتي } جمع التى . وهى تستعمل فى جمع من يعقل . أما إذا أريد جمع ما لا يعقل من المؤنث فإنه يقال : التى تقول : أكرمت النسوة اللاتى حضرن . وتقول : نزعت الأثواب التى كنت ألبسها . وهذا هو الرأى المختار .

وبعضهم يسوى بينهم فيقول فى الجمع المؤنث لغير العاقل : اللاتى .

وقوله { يَأْتِينَ } من الإِتيان ويطلق فى الأصل على المجئ إلى شئ . والمراد به هنا الفعل . أى واللاتى يفعلن { الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } .

والفاحشة : هي الفعلة القبيحة . وهى مصدر كالعافية . يقال فحش الرجل يفحش فحشا .

وأفحش : إذا جاء بالقبح من القول أو الفعل .

والمراد بها هنا : الزنا .

وقوله : { مِن نِّسَآئِكُمْ } متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل { يَأْتِينَ } أى : يأتين الفاحشة حال كونهن من نسائكم .

والمراد بالنساء فى قوله { مِن نِّسَآئِكُمْ } : النساء اللاتى قد أحصن بالزواج سواء أكن مازلن فى عصمة أزواجهن أم لا . وهذا رأى جمهور الفقهاء . وبعضهم يرى أن المراد بالنساء هنا مطلق النساء سواء أكن متزوجات أم أبكاراً .

والمعنى : أن الله - تعالى - يبين لعباده بعض الأحكام المتعلقة بالنساء فيقول :

أخبركم - أيها المؤمنون - بأن اللاتى يأتين فاحشة الزنا من نسائكم ، بأن فعلن هذه الفاحشة المنكرة وهن متزوجات أو سبق لهن الزواج .

{ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } أى : فاطلبوا أن يشهد عليهن بأنهن أتين هذه الفاحشة المنكرة أربعة منكم أى من الرجال المسلمين الأحرار .

وقوله : { فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت } أى فإن شهد هؤلاء الأربعة بأن هؤلاء النسوة قد أتين هذه الفاحشة ، فعليكم فى هذه الحالة أن تحبسوا هؤلاء النسوة فى البيوت ولا تمكنوهن من الخروج عقوبة لهن ، وصيانة لهن عن تكرار الوقوع فى هذه الفاحشة المنكرة ، وليستمر الأمر على ذلك { حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت } أى حتى يقبض أرواحهن الموت . أو حتى يتوفاهن ملك الموت .

وقوله : { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } أى : أو يجعل الله لهن مخرجا من هذا الإِمساك فى البيوت ، بأن يشرع لهن حكما آخر .

وقوله : { واللاتي } فى محل رفع مبتدأ . وجملة { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } خبره .

وجاز دخول الفاء الزائدة فى الخبر . لأن المبتدأ أشبه الشرط فى كونه موصولا عاما صلته فعل مستقبل .

وعبر - سبحانه - عن ارتكاب فاحشة الزنا بقوله : { يَأْتِينَ } لمزيد التقبيح والتشنيع على فاعلها : لأن مرتكبها كأنه ذهب إليها عن قصد حتى وصل إليها وباشرها .

واشترط - سبحانه - شهادة أربعة من الرجال المسلمين الأحرار ؛ لأن الرمى بالزنا من أفحش ما ترمى به المرأة والرجل ، فكان من رحمة الله وعدله أن شدد فى إثبات هذه الفاحشة أبلغ ما يكون التشديد ، فقرر عدم ثبوت هذه الجريمة إلا بشهادة أربعة من الرجال بحيث لا تقبل فى ذلك شهادة النساء .

قال الزهرى : مضت السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء فى الحدود .

وقرر أن تكون الشهادة بالمعاينة لا بالسماع ، ولذا قال { فَإِن شَهِدُواْ } أى إن ذكروا أنهم عاينوا ارتكاب هذه الجريمة من مرتكبيها . وشهدوا على ما عاينوه وأبصروه { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت } .

وحتى فى قوله . { حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت } بمعنى إلى . والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وهى متعلقة بقوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ } غاية له .

والمراد بالتوفى أصل معناه أى الاستيفاء وهو القبض تقول : توفيت مالى الذى على فلان واستوفيته إذا قبضته . وإسناده إلى الموت باعتبار تشبيهه بشخص يفعل ذلك . والكلام على حذف مضاف أى : حتى يقبض أرواحهن الموت . أو حتى يتوفاهن ملائكة الموت .

و " أو " فى قوله { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } ، للعطف ، فقد عطفت قوله { يَجْعَلَ } على قوله : { يَتَوَفَّاهُنَّ } فيكون الجعل غاية لإمساكهن أيضا .

فيكون المعنى . أمسكوهن فى البيوت إلى أن يتوفاهن الموت ، أو إلى أن يجعل الله لهن سبيلا أى مخرجا من هذه العقوبة .

وقد جعل الله - تعالى - هذا المخرج بما شرعه بعد ذلك من حدود بأن جعل عقوبة الزانى البكر : الجلد . وجعل عقوبة الزانى الثيب : الرجم وقد رجم النبى - صلى الله عليه وسلم - ماعز بن مالك الأسلمى ، ورجم الغامدية ، وكانا محصنين .

قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : كان الحكم فى ابتداء الإِسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست فى بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت ، ولهذا قال - تعالى - : { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } الآية . فالسبيل الذى جعله الله هو الناسخ لذلك - أى لإمساكهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت - .

قال ابن عباس : كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سروة النور فنسخه بالجلد أو الرجم .

وكذلك روى عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطاء وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك أنها منسوخة . وهو أمر متفق عليه .

روى الإِمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى أثر عليه وكرب لذلك وتغير وجهه فأنزل الله عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال : خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا ، الثيب بالثيب . والبكر بالبكر . الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة . والبكر جلد مائة ونفى سنة " .

وقد رواه مسلم وأصحاب السننن من طرق عبادة بن الصامت .

هذا وما ذكره ابن كثير من أن هذا الحكم كان فى ابتداء الإِسلام ، ثم نسخ بما جاء فى سورة النور وبما جاء فى حديث عبادة بن الصامت ، هو مذهب جمهور العلماء .

وقال صاحب الكشاف : ويجوز أن تكون غير منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة ، ويوصى بإمساكهن فى البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال .

{ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } هو النكاح الذى يستغنين به عن السفاح وقيل السبيل : الحد ، لأنه لم يكن مشروعا فى ذلك الوقت .

وقال أبو سليمان الخطابى : هذه الآية ليست منسوخة ، لأن قوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت } ألخ ، يدل على أن إمساكهن فى البيوت ممتد إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا ، وذلك السبيل كان مجملا ، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم خذوا عنى ألخ ، صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية لا ناسخا لها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

مضى الشوط الأول من السورة ، يعالج تنظيم حياة المجتمع المسلم واستنقاذه من رواسب الجاهلية بإقامة الضمانات لليتامى وأموالهم وأنفسهم في محيط الأسرة ، وفي محيط الجماعة ، يعالج نظام التووعقاب الرجال أيضا عقوبة واحدة هي حد الزنا كما ورد في آية سورة النور ، وهي الجلد ؛ وكما جاءت بها السنة أيضا ، وهي الرجم . والهدف الأخير من هذه أو تلك هو صيانة المجتمع من التلوث ، والمحافظة عليه نظيفا عفيفا شريفا .

وفي كل حالة وفي كل عقوبة يوفر التشريع الإسلامي الضمانات ، التي يتعذر معها الظلم والخطأ والأخذ بالظن والشبهة ؛ في عقوبات خطيرة ، تؤثر في حياة الناس تأثيرا خطيرا .

( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) . .

وفي النص دقة واحتياط بالغان . فهو يحدد النساء اللواتي ينطبق عليهن الحد : " من نسائكم " - أي المسلمات - ويحدد نوع الرجال الذين يستشهدون على وقوع الفعل : " من رجالكم " - أي المسلمين - فحسب هذا النص يتعين من توقع عليهن العقوبة إذا ثبت الفعل . ويتعين من تطلب إليهم الشهادة على وقوعه .

إن الإسلام لا يستشهد على المسلمات - حين يقعن في الخطيئة - رجالا غير مسلمين . بل لا بد من أربعة رجال مسلمين . منكم . من هذا المجتمع المسلم . يعيشون فيه ، ويخضعون لشريعته ، ويتبعون قيادته ، ويهمهم أمره ، ويعرفون ما فيه ومن فيه . ولا تجوز في هذا الأمر شهادة غير المسلم ، لأنه غير مأمون على عرض المسلمة ، وغير موثوق بأمانته وتقواه ، ولا مصلحة له ولا غيرة كذلك على نظافة هذا المجتمع وعفته ، ولا على إجراء العدالة فيه . وقد بقيت هذه الضمانات في الشهادة حين تغير الحكم ، وأصبح هو الجلد أو الرجم . .

( فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت ) . .

لا يختلطن بالمجتمع ، ولا يلوثنه ، ولا يتزوجن ، ولا يزاولن نشاطا . .

( حتى يتوفاهن الموت ) . .

فينتهي أجلهن ، وهن على هذه الحال من الإمساك في البيوت .

( أو يجعل الله لهن سبيلا ) . .

فيغير ما بهن ، أو يغير عقوبتهن ، أو يتصرف في أمرهن بما يشاء . . مما يشعر أن هذا ليس الحكم النهائي الدائم ، وإنما هو حكم فترة معينة ، وملابسات في المجتمع خاصة . وأنه يتوقع صدور حكم آخر ثابت دائم . وهذا هو الذي وقع بعد ذلك ، فتغير الحكم كما ورد في سورة النور ، وفي حديث رسول الله [ ص ] وإن لم تتغير الضمانات المشددة في تحقيق الجريمة .

قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت . قال : كان رسول الله [ ص ] إذا نزل عليه الوحي أثر عليه ، وكرب لذلك ، وتغير وجهه . فأنزل الله عليه عز وجل ذات يوم ، فلما سري عنه قال : " خذوا عني . . قد جعل الله لهن سبيلا . . الثيب بالثيب ، والبكر بالبكر . الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة . والبكر جلد مائة ثم نفي سنة " . . وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان ، عن عبادة بن الصامت . عن النبي [ ص ] ولفظه : " خذوا عني . خذوا عني . قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام . والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " . . وقد ورد عن السنة العملية في حادث ماعز والغامدية كما ورد في صحيح مسلم : أن النبي [ ص ] رجمهما ولم يجلدهما . وكذلك في حادث اليهودي واليهودية اللذين حكم في قضيتهما ، فقضى برجمهما ولم يجلدهما . .

فدلت سنته العملية على أن هذا هو الحكم الأخير :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة ، حُبست في بيت فلا تُمكن من الخروج منه إلى أن تموت ؛ ولهذا قال : { وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } يعني : الزنا { مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا } فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك .

قال ابن عباس : كان الحكم كذلك ، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد ، أو الرجم .

وكذا رُوي عن عِكْرِمة ، وسَعيد بن جُبَيْر ، والحسن ، وعَطاء الخُراساني ، وأبي صالح ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، والضحاك : أنها منسوخة . وهو أمر متفق عليه .

قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حِطَّان بن عبد الله الرَّقاشِي ، عن عبادة بن الصامت قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أَثَّرَ عليه

وكرب لذلك وتَرَبّد وجهه ، فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم ، فلما سُرِّيَ عنه قال : " خُذُوا عَنِّي ، قد جَعَل الله لَهُنَّ سبيلا الثَّيِّبُ بالثيب ، والبِكْرُ بالبكرِ ، الثيب جَلْدُ مائة ، ورَجْمٌ بالحجارة ، والبكر جلد مائة ثم نَفْى سَنَةٍ " .

وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة عن الحسن عن حطَّان{[6782]} عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح{[6783]}

وهكذا{[6784]} رواه أبو داود الطيالسي ، عن مبارك بن فَضَالة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي عُرف ذلك في وجهه ، فلما أنزلت : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا } [ و ]{[6785]} ارتفع الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا خذوا ، قد جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البكْرُ بالبكرِ جَلْدُ مائة وَنفيُ سنة ، والثَّيِّب بالثيبِ جَلْدُ مائة ورَجْمٌ بالحجارة " .

وقد روى الإمام أحمد أيضا هذا الحديث عن وَكِيع بن الجراح ، حدثنا الفضل بن دَلْهَم ، عن الحسن ، عن قُبَيْصَة بن حُرَيث ، عن سلمة بن المُحَبَّق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا عَنِّي ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " .

وكذا رواه أبو داود مطولا من حديث الفضل بن دلهم ، ثم قال : وليس هو بالحافظ ، كان قصابًا بواسط{[6786]} .

حديث آخر : قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عباس بن حمدان ، حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا عمرو بن عبد الغفار ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البكْرَان يُجْلَدان ويُنفيَانِ ، والثيبان يجلدان ويُرجَمانِ ، والشَّيْخانِ يُرجَمان " . هذا حديث غريب من هذا الوجه{[6787]} .

وروى الطبراني من طريق ابن لَهِيعة ، عن أخيه عيسى بن لهيعة ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حبس بعد سورة النساء " {[6788]} .

وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث ، وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني ، وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يُرجم فقط من غير جلد ، قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم رَجَمَ ماعزًا والغامدية واليهوديين ، ولم يجلدهم قبل ذلك ، فدل على أن الجلد{[6789]} ليس بحتم ، بل هو منسوخ على قولهم ، والله أعلم .


[6782]:في ر: "خطاب".
[6783]:المسند (5/318) وصحيح مسلم برقم (1690) وسنن أبي داود برقم (4415) وسنن الترمذي برقم (1434) وسنن النسائي الكبرى برقم (11093) وسنن ابن ماجة برقم (2550).
[6784]:في جـ، ر: "وكذا".
[6785]:في جميع النسخ: "فلما" بدل الواو.
[6786]:المسند (3/476) وسنن أبي داود برقم (4417).
[6787]:وفي إسناده عمرو بن عبد الغفار الفقيمي. قال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال ابن عدي: اتهم بوضع الحديث، وقال العقيلي: منكر الحديث. ميزان الاعتدال برقم (6403).
[6788]:المعجم الكبير (11/365) وابن لهيعة وأخوه ضعيفان.
[6789]:في ر، أ: "الرجم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ } والنساء اللاتي يأتين بالزنا : أي بزنين . { مِنْ نِسائِكُمْ } وهن محصنات ذوات أزواج ، أو غير ذوات أزواج . { فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ } يقول : فاستشهدوا عليهنّ بما أتين من الفاحشة أربعة رجال من رجالكم ، يعني : من المسلمين . { فإنْ شَهِدُوا } عليهن ، { فَأمْسِكُوهُنّ فِي البُيُوتِ } يقول : فاحبسوهنّ في البيوت ، { حتى يَتَوَفّاهُنّ المَوْتُ } يقول : حتى يمتن ، { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } يعني : أو يجعل الله لهنّ مخرجا وطريقا إلى النجاة مما أتين به من الفاحشة .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد ، قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ فإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنّ فِي البُيُوتِ } أمر بحبسهن في البيوت حتى يمتن { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } قال : الحدّ .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } قال : الزنا ، كان أمر بحبسهنّ حين يشهد عليهن أربعة حتى يمتن¹ { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } والسبيل : الحدّ .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } إلى : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } فكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك : { الزّانِيَةُ وَالزّانِي فاجْلِدُوا كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ } فإن كانا محصنين رُجما ، فهذه سبيلهما الذي جعل الله لهما .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } فقد جعل الله لهنّ ، وهو الجلد والرجم .

حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ } حتى بلغ : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } كان هذا من قبل الحدود ، فكانا يؤذيان بالقول جميعا ، وبحبس المرأة . ثم جعل الله لهنّ سبيلاً ، فكان سبيل من أحصن جلد مائة ثم رمي بالحجارة ، وسبيل من لم يحصن جلد مائة ونفي سنة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح وعبد الله بن كثير : الفاحشة : الزنا ، والسبيل : الرجم والجلد .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ } إلى : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } هؤلاء اللاتي قد نكحن وأحصن ، إذا زنت المرأة فإنها كانت تحبس في البيت ويأخذ زوجها مهرها فهو له ، فذلك قوله : { وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأْخُذوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَأْتِينَ بفاحِشةٍ مُبَيّنَةٍ } { وَعاشِرُوهُنّ بالمَعْرُوفِ } حتى جاءت الحدود فنسختها ، فجلدت ورجمت ، وكان مهرهَا ميراثا ، فكان السبيل هو الجلد .

حُدثت ، عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } قال : الحد ، نسخ الحد هذه الاَية .

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى ، عن إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } قال : جلد مائة ، الفاعل والفاعلة .

حدثنا الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الجلد .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ، ونكس أصحابه رءوسهم¹ فلما سُرّيَ عنه رفع رأسه ، فقال : «قَدْ جَعَلَ الله لَهُنّ سَبِيلاً ، الثّيّبُ بالثّيّبِ ، والبِكْرُ بالبِكْرِ¹ أما الثّيّبُ فتُجْلَدُ ثم تُرْجَمُ¹ وأما البِكْرُ فتُجْلَدُ ثم تُنْفَى » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن حطان بن عبد الله ، عن عبادة بن الصامت ، قال : قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «خُذُوا عَنّي قَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً¹ الثّيّبُ بالثّيّبِ تُجْلَدُ مِائَةً وَتُرْجَمُ بالحِجارَةِ ، وَالبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله أخي بني رقاش ، عن عبادة بن الصامت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربّد له وجهه ، فأنزل الله عليه ذات يوم ، فلقي ذلك فلما سُري عنه قال : «خُذُوا عَنّي قَد جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً¹ الثّيّبُ بالثّيّبِ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمّ رَجْمٌ بالحِجارَةِ ، وَالبِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمّ نَفْيُ سَنَةٍ » .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : ابن زيد في قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ، فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ فإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنّ فِي البُيُوتِ حتى يَتَوَفّاهُنّ المَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } قال : يقول : لا تنكحوهنّ حتى يتوفاهنّ الموت ، ولم يخرجهن من الإسلام . ثم نسخ هذا ، وجعل السبيل التي ذكر أن يجعل لهن سبيلاً ، قال : فجعل لها السبيل إذا زنت وهي محصنة رجمت وأخرجت ، وجعل السبيل للبكر جلد مائة .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { حتى يَتَوَفّاهُنّ المَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } قال : الجلد والرجم .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا محمد بن أبي جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خُذُوا عَنّي قَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً : الثّيّبِ بالثّيّبِ وَالبِكْرُ بالبِكْرِ ، الثّيّبُ تُجْلَدُ وَتُرْجَمُ والبِكرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى » .

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن مسلم البصري ، عن الحسن ، عن عبادة بن الصامت ، قال : كنا جلوسا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ احمّر وجهه ، وكان يفعل ذلك إذا نزل عليه الوحي ، فأخذه كهيئة الغَشْي لما يجد من ثِقل ذلك ، فلما أفاق قال : «خُذُوا عَنّي قَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً ، والبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ ويُنْفَيانِ سَنَةً ، والثّيّبانِ يُجْلَدَانِ وَيُرْجَمانِ » .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } قول من قال السبيل التي جعلها الله جلّ ثناؤه للثيبين المحصنين الرجم بالحجارة ، وللبكرين جلد مائة ، ونفي سنة لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم ولم يجلد¹ وإجماع الحجة التي لا يجوز عليها فيما نقلته مجمعة عليه الخطأ والسهو والكذب¹ وصحة الخبر عنه ، أنه قضى في البكرين بجلد مائة ، ونفي سنة ، فكان في الذي صحّ عنه من تركه ، جلد من رجم من الزناة في عصره دليل واضح على وهي الخبر الذي روي عن الحسن عن حطان عن عبادة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : السبيل للثيب المحصن : الجلد والرجم . وقد ذكر أن هذه الاَية في قراءة عبد الله : واللاتي يأتين بالفاحشة من نسائكم ، والعرب تقول : أتيت أمرا عظيما ، وبأمر عظيم ، وتكلمت بكلام قبيح ، وكلاما قبيحا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

{ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } أي يفعلنها ، يقال : أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها إذا فعلها ، والفاحشة الزنا لزيادة قبحها وشناعتها . { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } فاطلبوا ممن قذفهن أربعة من رجال المؤمنين تشهد عليهن . { فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت } فاحبسوهن في البيوت واجعلوها سجنا عليهن . { حتى يتوفاهن الموت } يستوفي أرواحهن الموت ، أو يتوفاهن ملائكة الموت . قيل : كان ذلك عقوبتهن في أوائل الإسلام فنسخ بالحد ، ويحتمل أن يكون المراد به التوصية بإمساكهن بعد أن يجلدن كيلا يجري عليهن ما جرى بسبب الخروج والتعرض للرجال ، لم يذكر الحد استغناء بقوله تعالى : { الزانية والزاني } { أو يجعل الله لهن سبيلا } كتعيين الحد المخلص عن الحبس ، أو النكاح المغني عن السفاح .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

قوله { واللاتي } : اسم جمع التي ، وتجمع أيضاً على «اللواتي » ، ويقال : اللائي بالباء ، و { الفاحشة } في هذا الموضع : الزنا ، وكل معصية فاحشة ، لكن الألف واللام هنا للعهد ، وقرأ ابن مسعود «بالفاحشة » ببناء الجر وقوله : { من نسائكم } إضافة في معنى الإسلام ، لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ، ولا يلحقها هذا الحكم ، وجعل الله الشهادة على الزنا خاصة لا تتم إلا بأربعة شهداء ، تغليظاً على المدعي وستراً على العباد ، وقال قوم : ذلك ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وكانت هذه أول عقوبات الزناة - الإمساك في البيوت ، قال عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد : حتى نسخ بالأذى الذي بعده ثم نسخ ذلك بآية النور وبالرجم في الثيب وقالت فرقة : بل كان الأذى هو الأول ، ثم نسخ بالإمساك ولكن التلاوة أخرت وقدمت ، ذكره ابن فورك ، و { سبيلاً } معناه مخرجاً بأمر من أوامر الشرع ، وروى حطان بن عبد الله الرقاشي عن عمران بن حصين ، أنه قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل عليه الوحي ، ثم أقلع عنه ووجهه محمر ، فقال : ( قد جعل الله لهن سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ){[3889]} .


[3889]:- أخرجه مسلم في الصحيح (باب الحدود 4/ 33 ط/ 1290) والإمام أحمد في مسنده 3/ 476، وانظر الجامع الصغير 2/2.