التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

ثم بين - سبحانه - ما سيكون عليه الكافرون يوم القيامة من حال سيئة فقال : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا . . } .

والظرف متلعق بمحذوف تقديره : اذكر . وقوله { يُعْرَضُ } من العرض بمعنى الوقوف على الشئ ، وتلقى ما يترتب على هذا الوقوف على هذا الشئ من خير أو شر .

والمراد بالعرض على النار هنا : مباشرة عذابها ، وإلقائهم فيها ، ويشهد لهذا قوله - تعالى - بعد ذلك { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار أَلَيْسَ هذا بالحق قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } قال الآلوسى : قوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار } . أى : يعذبون بها ، من قولهم : عُرِض بنو فلان على السيف ، إذا قتلوا به ، وهو مجاز شائع . .

وقوله : { أَذْهَبْتُمْ . . } إلخ مقول لقول محذوف . وهذا اللفظ قرأه ابن كثير وابن عامر { أأذهبتم } بهمزتين على الاستفهام الذى هو للتقريع والتوبيخ ، وقرأه الجمهور { أذهبتم } بهمزة واحدة على الخبر من غير استفهام .

أى : واذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ ، يوم يقف الذين كفروا على النار ، فيرون سعيرها ثم يلقون فيها ، ويقال لهم - على سبيل الزجر والتأنيب - { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا } أى : ضيعتم وأتلفتم بالطيبات التى أنعم الله بها عليكم فى حياتكم الدنيا ، حيث { استمتعتم بِهَا } استمتاعا دنيويا دون أن تدخروا للآخرة منها شيئا . .

{ فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون } أى : تجزون عذاب الهون والخزى والذل .

{ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } أى : بسبب استكبارهم فى الأرض بغير الحق . .

{ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } أى : وبسبب خروجكم فى الدنيا عن طاعة الله - تعالى - ، وعن هدى أنبيائه .

وقيد - سبحانه - استكبارهم فى الأرض بكونه بغري الحق ، ليسجل عليهم هذه الرذيلة ، وليبين أنهم قوم دينهم التكبر والغرور وإيثار اتباع الباطل على الحق .

قال الجمل : والحاصل أنه - تعالى - علل ذلك العذاب بأمرين :

أحدهما : الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب .

والثانى : الفسق وهو ذنب الجوارح ، وقدم الأول على الثانى ، لأن أحوال القلب أعظم وقعا من أعمال الجوارح .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

15

ثم يقفهم وجها لوجه أمام مشهد شاخص لهم في يوم الحساب الذي كانوا يجحدون :

( ويوم يعرض الذين كفروا على النار . أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها . فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ، وبما كنتم تفسقون ) . .

والمشهد سريع حاسم ، ولكنه يتضمن لفتة عميقة عريضة . إنه مشهد العرض على النار . وفي مواجهتها وقبيل سوقهم إليها ، يقال لهم عن سبب عرضهم عليها وسوقهم إليها : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ) . . فقد كانوا يملكون الطيبات إذن ، ولكنهم استنفدوها في الحياة الدنيا ، فلم يدخروا للآخرة منها شيئا ؛ واستمتعوا بها غير حاسبين فيها للآخرة حسابا . استمتعوا بها استمتاع الأنعام للحصول على اللذة بالمتاع ، غير ناظرين فيها للآخرة ، ولا شاكرين لله نعمته ، ولا متورعين فيها عن فاحش أو حرام . ومن ثم كانت لهم دنيا ولم تكن لهم آخرة . واشتروا تلك اللمحة الخاطفة على الأرض بذلك الأمد الهائل الذي لا يعلم حدوده إلا الله !

( فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ، وبما كنتم تفسقون ) . .

وكل عبد يستكبر في الأرض فإنما يستكبر بغير حق . فالكبرياء لله وحده . وليست لأحد من عباده في كثير أو قليل . وعذاب الهون هو الجزاء العدل على الاستكبار في الأرض . فجزاء الاستكبار الهوان . وجزاء الفسوق عن منهج الله وطريقه الانتهاء إلى هذا الهوان أيضا . فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين .

وهكذا ينتهي هذا الشوط من السورة بعرض ذينك النموذجين ومصيرهما في النهاية ؛ وبهذا المشهد المؤثر للمكذبين بالآخرة ، الفاسقين عن منهج الله ، المستكبرين عن طاعته . وهي لمسة للقلب البشري تستجيش الفطر السليمة القويمة لارتياد الطريق الواصل المأمون .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

وقوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } أي : يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا . وقد تورع [ أمير المؤمنين ] {[26440]} عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، عن{[26441]} كثير من طيبات المآكل والمشارب ، وتنزه عنها ، ويقول : [ إني ] {[26442]} أخاف أن أكون كالذين قال الله تعالى لهم وقَرَّعهم : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا }

وقال أبو مِجْلَز : ليتفقَّدَنّ أقوامٌ حَسَنات كانت لهم في الدنيا ، فيقال لهم : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا }

وقوله : { فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ } فجوزوا من جنس عملهم ، فكما نَعَّموا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق ، وتعاطوا الفسق والمعاصي ، جازاهم الله بعذاب الهون ، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة ، والحسرات المتتابعة والمنازل في الدركات المفظعة ، أجارنا الله من ذلك كله .


[26440]:- (7) زيادة من ت، م، أ.
[26441]:- (8) في أ: "على".
[26442]:- (9) زيادة من ت، م، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } .

يقول تعالى ذكره : وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُوا بالله عَلى النّارِ يقال لهم : أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدّنْيا ، وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فيها . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُوا على النّارِ قرأ يزيد حتى بلغ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ تعلمون والله إن أقواما يَسْترطون حسناتهم . استبقى رجل طيباته إن استطاع ، ولا قوّة إلا بالله . ذُكر أن عمر بن الخطاب كان يقول : لو شئت كنت أطيبكم طعاما ، وألينكم لباسا ، ولكني أستبقي طيباتي . وذُكر لنا أنه لما قدم الشأم ، صُنِع له طعام لم ير قبله مثله ، قال : هذا لنا ، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير ؟ قال خالد بن الوليد : لهم الجنة ، فاغرورقت عينا عمر ، وقال : لئن كان حظنا في الحُطام ، وذهبوا قال أبو جعفر : فيما أرى أنا بالجنة ، لقد باينونا بونا بعيدا .

وذُكر لنا . أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصّفة مكانا يجتمع فيه فقراء المسلمين ، وهم يَرْقعون ثيابهم بالأَدَم ، ما يجدون لها رقاعا ، قال : «أنتم اليوم خير ، أو يَوم يغدو أحدكم في حلة ، ويروح في أُخرى ، ويغدي عليه بجفنة ، ويُراح عليه بأخرى ، ويستر بيته كما تستر الكعبة » . قالوا : نحن يومئذٍ خير ، قال : «بل أنتم اليوم خير » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا صاحب لنا عن أبي هريرة ، قال : «إنما كان طعامنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الأسودين : الماء ، والتمر ، والله ما كنا نرى سمراءكم هذه ، ولا ندري ما هي » .

قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس الأشعريّ ، عن أبيه ، قال : أي بنيّ لو شهدتْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مع نبينا إذا أصابتنا السماء ، حسبت أن ريحنا ريح الضأن ، إنما كان لباسنا الصوف .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدّنْيا . . . إلى آخر الاَية ، ثم قرأ مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها نُوَفّ إلَيْهِمْ أعمالَهُمْ فِيها ، وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ ، وقرأ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ، وقرأ مَنْ كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ . . . إلى آخر الاَية ، وقال : هؤلاء الذين أذهبوا طيّباتهم في حياتهم الدنيا .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار أذْهَبْتُمْ بغير استفهام ، سوى أبي جعفر القارىء ، فإنه قرأه بالاستفهام ، والعرب تستفهم بالتوبيخ ، وتترك الاستفهام فيه ، فتقول : أذهبت ففعلت كذا وكذا ، وذهبت ففعلت وفعلت . وأعجب القراءتين إليّ ترك الاستفهام فيه ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، ولأنه أفصح اللغتين .

وقوله فالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ يقول تعالى ذكره : يقال لهم : فاليوم أيها الكافرون الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا تجزون : أي تثابون عذاب الهون ، يعني عذاب الهوان ، وذلك عذاب النار الذي يهينهم . كما :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد عَذَابَ الهُونِ قال : الهوان بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بغَيْرِ الحَقّ يقول : بما كنتم تتكبرون في الدنيا على ظهر الأرض على ربكم ، فتأبون أن تخلصوا له العبادة ، وأن تذعنوا لأمره ونهيه بغير الحقّ ، أي بغير ما أباح لكم ربكم ، وأذن لكم به وبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ يقول : بما كنتم فيها تخالفون طاعته فتعصُونه .