ثم بين - سبحانه - ما هم عليه في الجنة من صفاء نفسى ونقاء قلبى فقال - تعالى - : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } أى : قلعنا ما في قلوبهم من تحاقد وعداوات في الدنيا ، فهم يدخلون الجنة بقلوب سليمة ، زاخرة بالتواد والتعاطف حالة كونهم تجرى من تحتهم الأنهار فيرونها وهم في غرفات قصورهم فيزداد سرورهم وحبورهم .
{ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله } . أى : قالوا شاكرين لله أنعمه ومننه : الحمد لله الذي هدانا في الدنيا إلى الإيمان والعمل الصالح ، وأعطانا في الآخرة هذا النعيم الجزيل ، وما كنا لنهتدى إلى ما نحن فيه من نعيم لولا أن هدانا الله إليه بفضله وتوفيقه . وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير : ولولا هداية الله موجودة ما اهتدينا .
وقوله : { لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق } جملة قسمية ، أى : والله لقد جاءت رسل ربنا في الدنيا بالحق ، لأن ما أخبرونا به قد وجدنا مصداقه في الآخرة .
{ ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أى : ونودوا من قبل الخالق - عز وجل - بأن قيل لهم : تلكم هى الجنة التي كانت الرسل تعدكم بها في الدنيا قد أورثكم الله إياها بسبب ما قدمتموه من عمل صالح .
فالآية الكريمة صريحة في أن الجنة قد ظفر بها المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة .
فإن قيل : إن هناك أحاديث صحيحة تصرح بأن دخول الجنة ليس بالعمل وإنما بفضل الله ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" لن يدخل أحداً عمله الجنة ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله بفضله ورحمته " .
فالجواب على ذلك أنه لا تنافى في الحقيقة ، لأن المراد أن العمل لا يوجب دخول الجنة ، بل الدخول بمحض فضل الله ، والعمل سبب عادى ظاهرى . وتوضيحه أن الأعمال مهما عظمت فهى ثمن ضئيل بالنسبة لعظمة دخول الجنة ، فإن النعمة الأخروية سلعة غالية جداً فمثل هذه المقابلة كمثل من يبيع قصوراً شاهقة وضياعا واسعة بدرهم واحد .
فإقبال البائع على هذه المبادلة ليس للمساواة بين العمل ونعمة الجنة ، بل لتفضله على المشترى ورحمته به ، فمن رحمته بعباده المؤمنين أن جعل بعض أعمالهم الفانية وأموالهم الزائلة ثمنا لنعيم لا يبلى ، ولذلك قال ابن عباس عندما قرأ قوله - تعالى - : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } نعمت الصفقة ، أنفس هو خالقها وأموال هو رازقها ثم يمنحنا عليها الجنة .
على أنه - سبحانه - هو المتفضل في الحقيقة بالثمن والمثمن جميعاً . لا جرم كان دخول الجنة بفضله - سبحانه - وهو الموفق للعمل والمعين عليه .
ويمكن أن يجاب - أيضاً - بأن الفوز بالجنة ونعيمها إنما هو بفضل الله والعمل جميعا ، فقوله : { ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أى : مع فضل الله - تعالى - ، وإنما لم يذكر ذلك لئلا يتكلوا . وقوله صلى الله عليه وسلم : " لن يدخل أحدا عمله الجنة . . . " أى مجردا من فضل الله ، وإنما اقتصر على هذا لئلا يغتروا .
هذا أصح الآراء في الجمع بين الآية والحديث ، وهناك آراء أخرى لم نذكرها لضعفها .
وبعد ، فإذا كان أولئك المفترون المكذبون المجرمون الظالمون الكافرون المشركون يتلاعنون في النار
ويتخاصمون ، وتغلي صدورهم بالسخائم والأحقاد ، بعد أن كانوا أصفياء أولياء . . فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إخوان متحابون متصافون متوادون ، يرف عليهم السلام والولاء :
( ونزعنا ما في صدورهم من غل ) . .
فهم بشر . وهم عاشوا بشراً . وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكظمونه ، وغل يغالبونه ويغلبونه . . ولكن تبقى في القلب منه آثار .
قال القرطبي في تفسيره المسمى أحكام القرآن : قال رسول الله - [ ص ] : " الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين " . . وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل ) . .
وإذا كان أهل النار يصطلون النار من تحتهم ومن فوقهم . فأهل الجنة تجري من تحتهم الأنهار ؛ فترف على الجو كله أنسام :
وإذا كان أولئك يشتغلون بالتنابز والخصام ، فهؤلاء يشتغلون بالحمد والاعتراف :
( وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق ) . . وإذا كان أولئك ينادون بالتحقير والتأنيب : ( ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ) . . فإن هؤلاء ينادون بالتأهيل والتكريم :
{ وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } أي : من حسد وبغضاء ، كما جاء في الصحيح للبخاري ، من حديث قتادة ، عن أبي المتوكِّل الناجي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا خلص المؤمنون من النار حُبِسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هُذبوا ونقوا ، أذن لهم في دخول الجنة ؛ فوالذي نفسي بيده ، إن أحدهم بمنزله في الجنة أدلّ منه بمسكنه كان في الدنيا " {[11741]}
وقال السُّدِّي في قوله : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ } الآية : إن أهل الجنة إذا سبقوا إلى الجنة فبلغوا ، وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان ، فشربوا{[11742]} من إحداهما ، فينزع ما في صدورهم من غل ، فهو " الشراب الطهور " ، واغتسلوا من الأخرى ، فجرت عليهم " نضرة النعيم " فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدًا .
وقد روى أبو إسحاق ، عن عاصم ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نحوًا من ذلك{[11743]} كما سيأتي في قوله تعالى : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } [ الزمر : 73 ] إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان .
وقال قتادة : قال علي ، رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } رواه ابن جرير .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة ، عن إسرائيل قال : سمعت الحسن يقول : قال علي : فينا والله أهل بدر نزلت : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ }{[11744]}
وروى النسائي وابن مَرْدُويه - واللفظ له - من حديث أبي بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله هداني ، فيكون له شكرًا . وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول : لو أن الله هداني فيكون له حسرة " {[11745]}
ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا : { أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة ، وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم . وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " واعلموا أن أحدكم{[11746]} لن يدخله عمله الجنة " . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا ، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل " {[11747]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي هَدَانَا لِهََذَا وَمَا كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلآ أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ وَنُودُوَاْ أَن تِلْكُمُ الْجَنّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وصف صفتهم وأخبر أنهم أصحاب الجنة ، ما فيها من حقد وغل وعداوة كان من بعضهم في الدنيا على بعض ، فجعلهم في الجنة إذْ أدخلَهموها على سرر متقابلين ، لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خصّ الله به بعضهم وفضله من كرامته عليه ، تجري من تحتهم أنهار الجنة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ قال : العداوة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة : وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورهِمْ مِنْ غِلّ قال : هي الإحِنُ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن عيينة ، عن إسرائيل أبي موسى ، عن الحسن ، عن عليّ ، قال : فينا والله أهل بدر نزلت : وَنَزَعْنا ما فِي صُدورِهِمْ مِنْ غِلّ إخْوَانا على سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن إسرائيل ، قال : سمعته يقول : قال عليّ عليه السلام : فينا والله أهل بدر نزلت : وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ إخْوَانا على سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال عليّ رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ رضوان الله عليهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَنَزَعْنا ما فِي صُدورِهِمْ مِنْ غِلّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنهَارُ قال : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة ، فبلغوا ، وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان ، فشربوا من إحداهما ، فينزع ما في صدورهم من غلّ ، فهو الشراب الطهور . واغتسلوا من الأخرى ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلم يشعثوا ولم يتسخوا بعدها أبدا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن الجريري ، عن أبي نضرة ، قال : يحبس أهل الجنة دون الجنة حتى يُقْضَى لبعضهم من بعض ، حتى يدخلوا الجنة حين يدخلونها ولا يطلب أحد منهم أحدا بقلامة ظفر ظلَمها إياه ويحبس أهل النار دون النار حتى يقضى لبعضهم من بعض ، فيدخلون النار حين يدخلونها ولا يطلب أحد منهم أحدا بقلامة ظفر ظلمها إياه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالوُا الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانا لِهَذَا وَما كُنّا لنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانا اللّهُ .
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء الذين وصف جلّ ثناؤه وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات حين أدخلوا الجنة ، ورأوا ما أكرمهم الله به من كرامته ، وما صُرف عنهم من العذاب المهين الذي ابتلي به أهل النار بكفرهم بربهم وتكذيبهم رسله : الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانا لِهَذَا يقول : الحمد لله الذي وفّقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله وصرف عذابه عنا . وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانا اللّهُ يقول : وما كنا لنرشد لذلك لولا أن أرشدنا الله له ووفقنا بمنه وطَوْله . كما :
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كُلّ أهْلِ النّارِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ الجَنّةِ ، فَيَقُولُونَ لَوْ هَدَانا اللّهُ ، فَتَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً . وكُلّ أهْلِ الجَنّةِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ النّارِ ، فَيَقُولُونَ لَولا أنْ هَدَانا اللّهُ . فَهَذَا شُكْرُهُمْ » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت أبا إسحاق يحدّث عن عاصم بن ضمرة ، عن عليّ ، قال : ذكر عمر لشيء لا أحفظه ، ثم ذكر الجنة ، فقال : يدخلون فإذا شجرة يخرج من تَحْت ساقها عينان ، قال : فيغتسلون من إحداهما ، فتجري عليهم نضرة النعيم ، فلا تشعَث أشعارهم ولا تغبر أبشارهم ، ويشربون من الأخرى ، فيخرج كلّ قذى وقذر ، أو شيء في بطونهم . قال : ثم يفتح لهم باب الجنة ، فيقال لهم : سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادْخُلُوها خالِدِينَ قال : فتستقبلهم الوِلدان ، فيحُفّون بهم كما تحفّ الولدان بالحميم إذا جاء من غيبته . ثم يأتون فيبشرون أزواجهم ، فيسمونهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ، فيقلن : أنت رأيته ؟ قال : فيستخفهنّ الفرح ، قال : فيجئن حتى يقفن على أسكفّة الباب . قال : فيجيئون فيدخلون ، فإذا أُسّ بيوتهم بجندل اللؤلؤ ، وإذا صروح صفر وخضر وحمر ومن كلّ لون ، وسرر مرفوعة ، وأكواب موضوعة ، ونمارق مصفوفة ، وزرابيّ مبثوثة ، فلولا أن الله قدرها لالتُمعت أبصارهم مما يرون فيها . فيعانقون الأزواج ، ويقعدون على السرر ، ويقولون : الحَمْدُ لِلّه الّذِي هَدَانا لِهَذَا وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانا اللّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ . . . الاَية .
القول في تأويل قوله تعالى : لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُموها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنهم يقولون عند دخولهم الجنة ورؤيتهم كرامة الله التي أكرمهم بها ، وهو أن أعداء الله في النار : والله لقد جاءتنا في الدنيا وهؤلاء الذين في النار رسل ربنا بالحقّ من الأخبار ، عن وعد الله أهل طاعته والإيمان به وبرسله ووعيده أهل معاصيه والكفر به .
وأما قوله : وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُمُوها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فإن معناه : ونادى مناد هؤلاء الذين وصف الله صفتهم وأخبر عما أعدّ لهم من كرامته ، أنْ يا هؤلاء هذه تلكم الجنة التي كانت رسلي في الدنيا تخبركم عنها ، أورثكموها الله عن الذين كذّبوا رسله ، لتصديقكم إياهم وطاعتكم ربكم . وذلك هو معنى قوله : بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُمُوها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال : ليس من كافر ولا مؤمن إلاّ وله في الجنة والنار منزل . فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ودخلوا منازلهم ، رُفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم : هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ، ثم يقال : يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمر بن سعد أبو داود الحفري ، عن سعيد بن بكر ، عن سفيان الثوريّ ، عن أبي إسحاق ، عن الأغرّ : وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُمُوها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال : نودوا أن صحّوا فلا تسقموا واخلدوا فلا تموتوا وانعموا فلا تبأسوا
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الأغرّ ، عن أبي سعيد : وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ . . . الاَية ، قال : ينادي مناد : إن لكم أت تصحوا فلا تسقموا أبدا .
واختلف أهل العربية في «أن » التي مع «تلكم » ، فقال بعض نحويي البصرة : هي «أنّ » الثقيلة خففت ، وأضمر فيها ، ولا يستقيم أن نجعلها الخفيفة لأن بعدها اسما ، والخفيفة لا تليها الأسماء ، وقد قال الشاعر :
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد قدْ عَلِمُوا ***أنْ هالكٌ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
أُكاشِرُهُ وأعْلَمُ أنْ كِلانا ***عَلى ما ساءَ صَاحِبَهُ حَرِيصُ
قال : فمعناه : أنه كلانا قال ، ويكون كقوله : أنْ قَدْ وَجَدْنا في موضع «أي » ، وقوله : أنْ أقِيمُوا . وَلا تَكُونُ «أن » التي تعمل في الأفعال ، لأنك تقول : غاظني أن قام ، وأن ذهب ، فتقع على الأفعال وإن كانت لا تعمل فيها ، وفي كتاب الله : وَانْطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أنِ امْشُوا أي امشوا . وأنكر ذلك من قوله هذا بعض أهل الكوفة ، فقال : غير جائز أن يكون مع «أن » في هذا الموضع «هاء » مضمرة ، لأن من قوله هذا بعض أهل الكوفة ، فقال : غير جائز أن يكون مع «أن » في هذا الموضع «هاء » مضمرة ، لأن «أن » دخلت في الكلام لتقي ما بعدها ، قال : و «أن » هذه التي مع «تلكم » ، هي الدائرة التي يقع فيها ما ضارع الحكاية ، وليس بلفظ الحكاية ، نحو : ناديت أنك قائم ، وأن زيد قائم ، وأن قمت ، فتلي كلّ الكلام ، وجعلت «أن » وقاية ، لأن النداء يقع على ما بعده ، وسلم ما بعد «أن » كما سلم ما بعد القول ، ألا ترى أنك تقول : قلت : زيد قائم ، وقلت : قام ، فتليها ما شئت من الكلام ؟ فلما كان النداء بمعنى الظنّ وما أشبهه من القول سلم «ما » بعد «أن » ، ودخلت «أن » وقاية . قال : وأما «أي » فإنها لا تكون على أن لا يكون : أي جواب الكلام ، وأن تكفي من الاسم .