التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

ثم ذكرهم بنعمة أخرى كان لها اثرها العظيم في نصرهم على المشركين فقال - سبحانه - : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } .

والبنان : - كما يقول القرطبى - واحده بنانه . وهى هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء . . وهو - أي البنان - مشتق من قولهم أبَّن الرجل بالمكان إذا أقام به . فالبنان يُعتَملُ به ما يكون للإِقامة والحياة . وقيل : المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين ، وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب ، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء . .

وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإِنسان . .

والمعنى : واذكر - أيها الرسول الكريم - وقت أن أوحى ربك إلى الملائكة الذين أمد بهم المسلمين في بدر { أَنِّي مَعَكُمْ } أي بعونى وتأييدى { فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } أي فقووا قلوبهم ، واملأوا نفوسهم ثقة بالنصر ، وصححوا نياتهم في القتال حتى غايتهم إعلا كلمة الله .

قال الآلوسى : والمراد بالتثبيت : الحمل على الثبات في موطن الحرب والجد في مقاساة شدائد القتال . وكان ذلك هنا - في قوله - بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها ، ووعدهم إياهم النصر على أعدائهم ، فقد أخرج البيهقى في الدلائل أن الملك كان يأتى الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول له : أبشروا فإنهم ليسوا بشئ ، والله معكم . كروا عليهم .

وقال الزجاج : كان بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم . وللملك قوة إلقاء الخير في القلب ويقال له إلهام ، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال له وسوسة .

وقوله - تعالى - : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } بشارة عظيمة للمؤمنين .

أى : سأملأ قلوب الكافرين بالخوف والفزع منكم - أيها المؤمنون - ، وسأقذف فيها الهلع والجزع حتى تتمكنوا منهم .

والرعب : انزعاج النفس وخوفها من توقع مكروه ، وأصله التقطيع من قولهم : رعبت السنام ترعيباً إذا قطعته مستطيلا ، كأن الخوف يقطع الفؤاد .

وقوله : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } الخطاب فيه للمؤمنين ، وقيل ، للملائكة .

والمراد بما فوق الأعناق الرءوس كما روى عن عطاء وعكرمة . أو المراد بها الأعناق ذاتها فتكون فوق بمعنى : على وهو قول أبى عبيدة .

ويرى صاحب الكشاف أن المراد بما فوق الأعناق : أعالى الأعناق التي هى المذابح ، لأنها مفاصل ، فكان إيقاع الضرب فيها جزا وتطييرا للرءوس .

والمراد بالبنان - كما سبق أن بينا - الأصابع أو مطلق الأطراف .

والمعنى : لقد أعطيتكم - أيها المؤمنون - من وسائل النصر ما أعطيتكم ، فهاجموا أعدائى واعداءكم بقوة وغلظة ، واضربوهم على أعناقهم ورءوسهم ومواضع الذبح فيهم . واضربوهم على كل أطرافهم حتى تشلوا حركتهم ، فيصبحوا عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

ذلك إلى ما أوحى الله به إلى الملائكة من تثبيت الذين آمنوا ؛ وإلى ما وعد به من إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ؛ وإلى ما أمر به الملائكة من الاشتراك الفعلي في المعركة :

( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم ، فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، فاضربوا فوق الأعناق ، واضربوا منهم كل بنان ) . .

إنه الأمر الهائل . . إنها معية الله سبحانه للملائكة في المعركة ؛ واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة . . هذا هو الأمر الذي لا يجوز أن يشغلنا عنه أن نبحث : كيف اشتركت الملائكة ? ولاكم قتيلاً قتلت ? ولا كيف قتلت ? . . . إن الحقيقة الكبيرة الهائلة في الموقف هي تلك الحقيقة . . إن حركة العصبة المسلمة في الأرض بهذا الدين أمر هائل عظيم . . أمر يستحق معية الله لملائكته في المعركة ، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة !

إننا نؤمن بوجود خلق من خلق الله اسمهم الملائكة ؛ ولكنا لا ندرك من طبيعتهم إلا ما أخبرنا به خالقهم عنهم . فلا نملك من إدراك الكيفية التي اشتركوا بها في نصر المسلمين يوم بدر إلا بمقدار ما يقرره النص القرآني . . وقد أوحى إليهم ربهم : أني معكم . وأمرهم أن يثبتوا الذين آمنوا ، ففعلوا - لأنهم يفعلون ما يؤمرون - ولكننا لا ندري كيف فعلوا . وأمرهم أن يضربوا فوق أعناق المشركين وأن يضربوا منهم كلبنان . ففعلوا كذلك بكيفية لا نعلمها ، فهذا فرع عن طبيعة إدراكنا نحن لطبيعة الملائكة ، ونحن لا نعلم عنها إلا ما علمنا الله . . ولقد وعد الله سبحانه أن يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا . فكان ذلك ، ووعده الحق ، ولكنا كذلك لا نعلم كيف كان . فالله هو الذي خلق ، وهو أعلم بمن خلق ، وهو يحول بين المرء وقلبه ؛ وهو أقرب إليه من حبل الوريد . .

إن البحث التفصيلي في كيفيات هذه الأفعال كلها ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة . وطابع الحركة الواقعية بهذه العقيدة . . ولكن هذه المباحث صارت من مباحث الفرق الإسلامية ومباحث علم الكلام في العصور المتأخرة ، عندما فرغ الناس من الاهتمامات الإيجابية في هذا الدين ، وتسلط الترف العقلي على النفوس والعقول . . وإن وقفة أمام الدلالة الهائلة لمعية الله سبحانه للملائكة في المعركة ، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة ، لهي أنفع وأجدى .

وفي نهاية هذا الاستعراض ، وفي أعقاب المشهد الهائل الذي تتجلى فيه تلك الحقيقة الهائلة ، يجيء التقرير الموضح لما وراء المعركة كلها . ووراء النصر فيها والهزيمة ، من قاعدة ودستور لمجرى هذه الأمور :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

وقوله : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ، ليشكروه عليها ، وهو{[12738]} أنه - تعالى وتقدس وتبارك وتمجد - أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين ، يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا .

قال ابن إسحاق : وازروهم . وقال غيره : قاتلوا معهم . وقيل : كثروا سوادهم . وقيل : كان ذلك بأن الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول : سمعت هؤلاء القوم - يعني المشركين - يقولون : " والله لئن حملوا علينا لننكشفن " ، فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك ، فتقوى أنفسهم{[12739]} حكاه ابن جرير ، وهذا لفظه بحروفه .

وقوله : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } أي : ثبتوا أنتم المسلمين{[12740]} وقووا أنفسهم على أعدائهم ، عن أمري لكم بذلك ، سألقي الرعب والمذلة والصغار على من خالف أمري ، وكذب رسولي{[12741]} { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي : اضربوا الهام ففلقوها ، واحتزوا الرقاب فقطعوها ، وقطعوا الأطراف منهم ، وهي أيديهم وأرجلهم .

وقد اختلف المفسرون في معنى : { فَوْقَ الأعْنَاقِ } فقيل : معناه اضربوا الرؤوس . قاله عكرمة .

وقيل : معناه : { فَوْقَ الأعْنَاقِ } أي : على الأعناق ، وهي الرقاب . قاله الضحاك ، وعطية العوفي .

ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } [ محمد : 4 ] .

وقال وكيع ، عن المسعودي ، عن القاسم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله ، إنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق " {[12742]}

واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام .

قلت : وفي مغازي " الأموي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول :

" نُفَلِّق هاما . . . " .

فيقول أبو بكر : من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما{[12743]}

فيبتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول البيت ، ويستطعم أبا بكر ، رضي الله عنه ، إنشاد آخره ؛ لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر ، كما قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } [ يس : 69 ] .

وقال الربيع بن أنس : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوا هم بضرب فوق الأعناق ، وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به .

وقوله : { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قال ابن جرير : معناه : واضربوه أيها المؤمنون من عدوكم كل طرف ومَفْصِل من أطراف أيديهم وأرجلهم . و " البنان " : جمع بنانة ، كما قال الشاعر{[12744]} :

أَلا لَيْتَنِي قَطَّعْتُ مِنْهُ بَنَانَةً *** وَلاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حَاذِرَا

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يعني بالبنان : الأطراف . وكذا قال الضحاك وابن جريج .

وقال السدي : البنان : الأطراف ، ويقال : كل مَفْصِل .

وقال عكرمة ، وعطية العوفي والضحاك - في رواية أخرى - : كل مفصل .

وقال الأوزاعي في قوله تعالى : { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قال : اضرب منه الوجه والعين ، وارمه بشهاب من نار ، فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك .

وقال العوفي ، عن ابن عباس - فذكر قصة بدر إلى أن قال - : فقال أبو جهل : لا تقتلوهم قتلا ولكن خذوهم أخذا ، حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم ، ورغبتهم عن اللات والعزى . فأوحى الله إلى الملائكة : { أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } فقتل أبو جهل لعنه الله ، في تسعة وستين رجلا وأسر عقبة بن أبي مُعَيْط فقتل صبرا ، فوفى ذلك سبعين - يعني : قتيلا .


[12738]:في ك: "وهي".
[12739]:في م: "أنفسهم بذلك".
[12740]:في ك، م، أ: "المؤمنين".
[12741]:في أ: "رسلي".
[12742]:رواه الطبري في تفسيره (13/429) وابن أبي شيبة في المصنف (12/390) من طريق وكيع بهذا الإسناد.
[12743]:البيت للحصين بن الهمام المري، وهو في "الشعر" والشعراء" لابن قتيبة (2/648).
[12744]:هو العباس بن مرداس السلمي، والبيت في تفسير الطبري (13/431) ولسان العرب مادة (بنن).