وقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان } كلام مستأنف لبيان تلك الأيام المعدودات التي كتب علينا الصوم فيها وأنها أيام شهر رمضان الذي يستحق كل مدح وثناء لتشرفه بنزول الكتب السماوية فيه .
قال الإِمام ابن كثير : يمدح - تعالى - شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم ، فقد ورد في الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإِلهية تنزل فيه على الأنبياء . فعن وائلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإِنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " .
و { الشَّهْرَ } مأخوذ من الشهرة ، يقال : شهر الشيء يشهر شهرة وشهراً إذا ظهر بحيث لا يتعذر علمه على أحد ، ومنه يقال : شهرت السيف إذا سللته قال بعضهم : وسمى الهلال شهراً لشهرته وبيانه ، وبه سمى الشهر شهراً .
و { رَمَضَانَ } اسم لهذا الشهر الذي فرض علينا صيامه ، وهو مأخوذ - كما قال القرطبي - من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش ، والرمضاء : شدة الحر ، ومنه الحديث : " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال " - أي صلاة الضحى - قيل : إن العرب لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمى بذلك . وقيل إنما سمى رمضان لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها بالأعمال الصالحة " .
وقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ } خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي شهر رمضان أي : الأيام المعدودات ، وقوله : { الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } صفة للشهر .
ويجوز أن يكون قوله { شَهْرُ } مبتدأ وخبره الموصول بعده ، أو خبره قوله { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وصح وجود الفاء في الخبر لكون المبتدأ موصوفاً بالموصول الذي هو شبه بالشرط . وقرئ بالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف . أي : صوموا شهر رمضان .
و " القرآن " هو كلام الله المعجز المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر المتعبد بتلاوته .
والمراد بإنزال القرآن في شهر رمضان ابتداء إنزاله فيه ، وكان ذلك في ليلة القدر . بدليل قوله - تعالى - { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } أي بدأنا إنزال القرآن في هذه الليلة المباركة ، إذ من المعروف أن القرآن استمر نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرب من ثلاثة وعشرين سنة .
وقيل المراد بذلك ، أنزل في فضله القرآن ، قالوا : ومثله أن يقال : أنزل الله في أبي بكر الصديق كذا آية ، يريدون أنزل في فضله .
وقيل المراد أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن ، كما يقال : أنزل الله في الزكاة كذا وكذا ، يريد في إيجابها وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها .
قال الآلوسي : وقوله - تعالى - : { هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان } حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل . أي : أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير ، وآيات واضحات من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق والفارقة بين الحق والباطل باشتماله على المعارف الإِلهية والأحكام العملية ، كما يشعر بذلك جعله بينات منها ، فهو هاد بواسطة أمرين ، مختص وغير مختص ، فالهدى ليس مكرراً ، وقيل : مكرر تنويهاً وتعظيماً لأمره وتأكيداً لمعنى الهداية كما تقول : علام نحرير " .
وقوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } يصح أن يكون شهد بمعنى حضر . كما يقال : فلان شهد بدراً ، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي : حضرها ، فيكون المعنى : فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله بأن كان مقيما وليس عنده ما يمنعه من الصو كمرض ونحوه ، فليصمه ؛ لأن صيامه ركن من أركان الدين ، وعليه يكون لفظ " الشهر " مصنوب على الظرفية .
ويصح أن يكون شهد بمعنى علم كقوله - تعالى - { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فيكون المعنى : فمن علم منكم هلال الشهر وتيقن من ظهوره فليصمه .
وعليه يكون لفظ " الشهر " منصوب على أنه مفعول به بتقدير المضاف المحذوف و { مَن } موصولة أو شرطية وهو الأظهر و { مِنكُمُ } في محل نصب على الحال من الضمير في شهد فيتعلق بمحذوف أي : كائنا منكم . والضمير في " منكم " يعود على الذين آمنوا ، أي كل من حضر منكم الشهر فليصمه و ( أل ) في الشهر للعهد .
وأعيد ذكر الرخصة في قوله - تعالى - ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ، لئلا يتوهم من تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير ، أنه قد صار متحتماً بحيث لا تتناوله الرخصة بوجه من الوجوه أو تتناوله ولكنها مفضولة ، وفي ذلك عناية بأمر الرخصة وأنها محبوبة له - تعالى - .
وقوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } بيان الحكمة الرخصة .
أي : شرع لكم - سبحانه - الفطر في حالتي المرض والسفر ، لأنه يريد بكم اليسر والسهولة . ولا يريد بكم العسر والمشقة . قال - تعالى - : { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } وقال - تعالى - : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين } وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن : " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا " .
وقوله - تعالى - : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } معطوف على قوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } إذ هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } إلى قوله : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
والمعنى : شرع لكم - سبحانه - ما شرع من أحكام الصيام ، ورخص لكم الفطر في حالتي المرض والسفر ، لأنه يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، ولأنه يريد منكم أن تكملوا عدة الشهر بأن تصوموا أيامة كاملة فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته ، ومن لم يستطع منكم أداء الصوم في هذا الشهر لعذر فعليه قضاء ما فاته منه في أيام أخر ويريد منكم أن تكبروه - سبحانه - أي تحدوه وتعظموه ، فهو وحده الذي هداكم إلى تلك الأحكام النافعة التي في صلاحكم وسعادتكم ويريد منكم أن تشكروه بأن تواظبوا على الثناء عليه ، وعلى استعمال نعمه فما خلقت له فهو - سبحانه - الرءوف الرحيم بعباده ، إذ شرع لهم فيه اليسر لا ما فيه العسر .
وقد دلت الآية الكريمة على الأمر بالتكبير إذ جعلته مما يريده الله - تعالى - ولهذا جاءت السنة باستحباب التحميد والتسبيح والتكبير بعد الصلوات المكتوبات ، وفي عيدى الفطر والأضحى يكون تكبير الله - تعالى - هو مظهرهما الأعظم .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت أكمل بيان وأحكمه فضل الصوم ، وحمة مشروعيته ومظاهر رحمة الله بعباده في هذه الفريضة ، وقد ذكرت أن المسلم له بشأن هذه الفريضة حلاة من حالات ثلاث :
الحالة الأولى : إذا كان المسلم في شهر رمضان كله أو بعضه مريضاً بمرض عارض غير مزمن يرجى الشفاء منه ، أو مسافراً تتوفر فيه شروط الفطر ، فله أن يفطر وأن يقضي بعد رمضان الأيام التي أفطرها بدليل قوله - تعالى - : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
الحالة الثانية : إذا كان المسلم في شهر رمضان مريضاً بمرض مزمن لا يرجى شفاؤه ، والصوم فيه مشقة عليه ، أو كان شيخاً كبيراً أو امرأة عجوزاً ولا يستطيعان الصوم ، فقد أباح الشارع لهؤلاء أن يفطروا وأن يطعموا عن كل يوم مسكيناً ، لأن هذه الأعذار لا يرجى زوالها ، ولا ينتظر أن يكون المبتلى بعذر منها بعد رمضان خيراً منه في رمضان ، لذا أوجب الشارع على هؤلاء الفدية دون القضاء ، بدليل قوله - تعالى - { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ويحرم عليه أن يفطر ، وإن أفطر لغير عذر شرعي كان من الخاسرين في الدنيا والآخرة ، ففي الحديث الشريف الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه - أي لم يجزه - صوم الدهر كله وإن صامه " .
أي : لو حصل منه صوم طول حياته فلن يدرك ثواب ما ضيع بسبب فطره بغير عذر شرعي .
والأحاديث في الترغيب في صوم شهر رمضان ، وفي الترهيب من الفطر فيه كثيرة متنوعة .
وتحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح المقيم . . إنها صوم رمضان : الشهر الذي أنزل فيه القرآن - إما بمعنى أن بدء نزوله كان في رمضان ، أو أن معظمه نزل في أشهر رمضان - والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد ، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور ، فأنشأها هذه النشأة ، وبدلها من خوفها أمنا ، ومكن لها في الأرض ، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة ، ولم تكن من قبل شيئا . وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء . فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن :
( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . . فمن شهد منكم الشهر فليصمه . ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . .
وهذه هي الآية الموجبة الناسخة لرخصة الإفطار والفدية بالنسبة للصحيح المقيم - فيما عدا الشيخ والشيخة كما أسلفنا :
( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) . .
أي من حضر منكم الشهر غير مسافر . أو من رأى منكم هلال الشهر . والمستيقن من مشاهدة الهلال بأية وسيلة أخرى كالذي يشهده في إيجاب الصوم عليه عدة أيام رمضان .
ولما كان هذا نصا عاما فقد عاد ليستثني منه من كان مريضا أو على سفر :
( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . .
وتحبيب ثالث في أداء الفريضة ، وبيان لرحمة الله في التكليف وفي الرخصة سواء :
( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) . .
وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها . فهي ميسرة لا عسر فيها . وهي توحي للقلب الذي يتذوقها ، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها ؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد . سماحة تؤدي معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري ، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء . مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين .
وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر ، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر ، فلا يضيع عليه أجرها :
والصوم على هذا نعمة تستحق التكبير والشكر :
( ولتكبروا الله على ما هداكم . ولعلكم تشكرون ) . .
فهذه غاية من غايات الفريضة . . أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم . وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة . وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية ، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها . وهم شاعرون بالهدى ملموسا محسوسا . ليكبروا الله على هذه الهداية وليشكروه على هذه النعمة . ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة . كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام : ( لعلكم تتقون ) . .
وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقا على الأبدان والنفوس . وتتجلى الغاية التربوية منه ، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه ، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير .
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ مّنَ الْهُدَىَ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ فَعِدّةٌ مّنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قال أبو جعفر : الشهر فيما قيل أصله من الشهرة ، يقال منه : قد شهر فلان سيفه إذا أخرجه من غمده فاعترض به من أراد ضربه ، يشهره شهرا ، وكذلك شهر الشهر إذا طلع هلاله ، وأشهرنا نحن إذا دخلنا في الشهر . وأما رمضان فإن بعض أهل المعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمي بذلك لشدة الحرّ الذي كان يكون فيه حتى تَرْمَضُ فيه الفصال ، كما يقال للشهر الذي يحجّ فيه ذو الحجة ، والذي يرتبع فيه ربيع الأول وربيع الاَخر . وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال رمضان ويقول : لعله اسم من أسماء الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد أنه كره أن يقال رمضان ، ويقول : لعله اسم من أسماء الله ، لكن نقول كما قال الله : { شَهْرُ رَمَضَان } .
وقد بينت فيما مضى أن «شهر » مرفوع على قوله : أياما معدودات ، هن شهر رمضان ، وجائز أن يكون رفعه بمعنى ذلك شهر رمضان ، وبمعنى كتب عليكم شهر رمضان . وقد قرأه بعض القرّاء : «شَهْرَ رَمَضَانَ » نصبا ، بمعنى : كتب عليكم الصيام أن تصوموا شهر رمضان . وقرأه بعضهم نصبا بمعنى أن تصوموا شهر رمضان خير لكم إن كنتم تعلمون . وقد يجوز أيضا نصبه على وجه الأمر بصومه كأنه قيل : شهر رمضان فصوموه ، وجائز نصبه على الوقت كأنه قيل : كتب عليكم الصيام في شهر رمضان .
وأما قوله : { الّذي أُنْزلَ فيهِ القُرآنُ } فإنه ذكر أنه نزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان ، ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن حسان بن أبي الأشرس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن جملة من الذكر في ليلة أربع وعشرين من رمضان ، فجعل في بيت العزّة . قال أبو كريب : حدثنا أبو بكر ، وقال ذلك السدي .
23حدثني عيسى بن عثمان ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن حسان ، عن سعيد بن جبير ، قال : نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان ، فجعل في سماء الدنيا .
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء ، قال : حدثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن ابن أبي المليح عن واثلة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «نزلتْ صُحُف إبراهِيمَ أوّلَ لَيْلَةٍ من شَهْرِ رَمَضَانَ ، وأُنْزِلَت التّوْرَاةُ لِستّ مَضَيْنَ من رَمَضَانَ ، وأُنْزِلَ الإنجيلُ لثَلاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ ، وأُنْزِلَ القُرآنُ لأَرْبَعٍ وعِشْرين مِنْ رَمَضَان » .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ ، أما أنزل فيه القرآن ، فإن ابن عباس قال : شهر رمضان ، والليلة المباركة : ليلة القدر ، فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة ، وهي من رمضان ، نزل القرآن جملة واحدة من الزّبر إلى البيت المعمور ، وهو مواقع النجوم ، في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ، ثم نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رَسَلاً رَسَلاً .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه ، فهو قوله : { أنّا أنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ . }
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، فذكر نحوه ، وزاد فيه : فكان بين أوله وآخره عشرون سنة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أنزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا ، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئا أنزله منه حتى جمعه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء جملة واحدة ، ثم فرّق في السنين بعدُ قال : وتلا ابن عباس هذه الآية : { فَلا أقْسِمُ بِمَواقِع النّجُوم } قال : نزل مفرّقا .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي ، قال : بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قرأه ابن جريج في قوله : { شَهْرُ رَمَضَان الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرآنُ } قال : قال ابن عباس : أنزل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القدر ، فكان لا ينزل منه إلا بأمر . قال ابن جريج : كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كل شيء ينزل من القرآن في تلك السنة ، فنزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا ، فلا يُنزل جبريل من ذلك على محمد إلا ما أمره به ربه ومثل ذلك : { إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ } و{ إنّا أنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةً مبَاركَةٍ . }
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن محمد بن أبي المجالد ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال له رجل : إنه قد وقع في قلبي الشك من قوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الّذي أُنْزِلَ فِيهِ القُرآنُ } وقوله : { إنّا أنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَاركَةٍ } وقوله : { إنّا أنْزَلْنَاه فِي لَيْلَةٍ القَدْرِ } وقد أنزل الله في شوّال وذي القعدة وغيره قال : إنما أنزل في رمضان في ليلة القدر وليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم رَسَلاً في الشهور والأيام .
وأما قوله { هُدىً للنّاسِ } فإنه يعني رشادا للناس إلى سبيل الحقّ وقصد المنهج .
وأما قوله : { وَبَيّناتٍ }فإنه يعني : وواضحات من الهدى ، يعني من البيان الدالّ على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه .
وقوله : { والفُرْقَان } يعني : والفصل بين الحق والباطل . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما وَبَيّناتٍ مِنَ الهُدَى والفُرْقان فبينات من الحلال والحرام .
القول في تأويل قوله تعالى : : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . }
اختلف أهل التأويل في معنى شهود الشهر . فقال بعضهم : هو مقام المقيم في داره ، قالوا : فمن دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فعليه صوم الشهر كله ، غاب بعد فسافر أو أقام فلم يبرح . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن حميد ومحمد بن عيسى الدامغاني ، قالا ، حدثنا ابن المبارك ، عن الحسن بن يحيى ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }قال : هو إهلاله بالدار . يريد إذا هلّ وهو مقيم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عمن حدثه ، عن ابن عباس أنه قال في قوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }فإذا شهده وهو مقيم فعليه الصوم أقام أو سافر ، وإن شهده وهو في سفر ، فإن شاء صام وإن شاء فطر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، عن عبيدة في الرجل يدركه رمضان ثم يسافر ، قال : إذا شهدت أوله فضم آخره ، ألا تراه يقول : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . }
حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام الفردوسي ، عن محمد بن سيرين ، قال : سألت عبيدة ، عن رجل أدرك رمضان وهو مقيم ، قال : من صام أول الشهر فليصم آخره ، ألا تراه يقول : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . }
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما من شهد منكم الشهر فليصمه ، فمن دخل عليه رمضان وهو مقيم في أهله فليصمه ، وإن خرج فيه فليصمه فإنه دخل عليه وهو في أهله .
حدثني المثنى ، ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، عن عليّ فيما يحسب حماد ، قال : من أدرك رمضان وهو مقيم ولم يخرج فقد لزمه الصوم ، لأن الله يقول : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . }
حدثنا هناد بن السرّي . قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن محمد بن سيرين ، قال : سألت عبيدة السلماني عن قول الله : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ قال : من كان مقيما فليصمه ، ومن أدركه ثم سافر فيه فليصمه .
حدثنا هناد قال : حدثنا وكيع ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : من أشهد أول رمضان فليصم آخره .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة أن عليا كان يقول : إذا أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر فعليه الصوم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد الرحيم ، عن عبيدة الضبي ، عن إبراهيم قال : كان يقول : إذا أدركك رمضان فلا تسافر فيه ، فإن صمت فيه يوما أو اثنين ثم سافرت فلا تفطر ، صمه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، قال : كنا عند عبيدة ، فقرأ هذه الآية : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }قال : من صام شيئا منه في المصر فليصم بقيته إذا خرج قال : وكان ابن عباس يقول : إن شاء صام ، وإن شاء أفطر .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قالا جميعا ، حدثنا أيوب ، عن أبي يزيد ، عن أم درّة قالت : أتيت عائشة في رمضان ، قالت : من أين جئت ؟ قلت : من عند أخي حنين ، قالت : ما شأنه ؟ قالت : ودّعته يريد يرتحل ، قالت : فأقرئيه السلام ومريه فليقم ، فلو أدركني رمضان وأنا ببعض الطريق لأقمت له .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا إسحاق بن عيسى ، عن أفلح ، عن عبد الرحمن ، قال : جاء إبراهيم بن طلحة إلى عائشة يسلم عليها ، قالت : وأين تريد ؟ قال : أردت العمرة ، قالت : فجلست حتى إذا دخل عليك الشهر خرجت فيه قال : قد خرج ثقلي ، قالت : اجلس حتى إذا أفطرت فاخرج يعني شهر رمضان .
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ما شهد منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السري ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق : أن أبا ميسرة خرج في رمضان حتى إذا بلغ القنطرة دعا ماءً فشرب .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، قال : خرج أبو ميسرة في رمضان مسافرا ، فمرّ بالفرات وهو صائم ، فأخذ منه كفّا فشربه وأفطر .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مرثد : أن أبا ميسرة سافر في رمضان فأفطر عند باب الجسر هكذا قال هناد عن مرثد ، وإنما هو أبو مرثد .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن مرثد : أنه خرج مع أبي ميسرة في رمضان ، فلما انتهى إلى الجسر أفطر .
حدثنا هناد وأبو هشام قالا : حدثنا وكيع ، عن المسعودي ، عن الحسن بن سعد ، عن أبيه ، قال : كنت مع عليّ في ضيعة له على ثلاث من المدينة ، فخرجنا نريد المدينة في شهر رمضان وعليّ راكب وأنا ماش ، قال : فصام قال هناد : وأفطرت قال أبو هشام : وأمرني فأفطرت .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عتبة ، عن الحسن بن سعد ، عن أبيه قال : كنت مع علي بن أبي طالب ، وهو جاء من أرض له فصام ، وأمرني فأفطرت فدخل المدينة ليلاً وكان راكبا وأنا ماش .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قالا جميعا : حدثنا سفيان ، عن عيسى بن أبي عزّة ، عن الشعبي أنه سافر في شهر رمضان ، فأفطر عند باب الجسر .
حدثني ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : قال لي سفيان : أحبّ إليّ أن تتمه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، قال : سألت الحكم وحمادا وأردت أن أسافر في رمضان فقالا لي : اخرج وقال حماد : قال إبراهيم : أما إذا كان العشر فأحبّ إليّ أن يقيم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا حماد ، عن قتادة ، عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا : من أدركه الصوم وهو مقيم رمضان ثم سافر ، قالا : إن شاء أفطر .
وقال آخرون : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } يعني فمن شهده عاقلاً بالغا مكلفا فليصمه . وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه ، كانوا يقولون : من دخل عليه شهر رمضان وهو صحيح عاقل بالغ فعليه صومه ، فإن جنّ بعد دخوله عليه وهو بالصفة التي وصفنا ثم أفاق بعد انقضائه لزمه قضاء ما كان فيه من أيام الشهر مغلوبا على عقله ، لأنه كان ممن شهده وهو ممن عليه فرض قالوا : وكذلك لو دخل عليه شهر رمضان وهو مجنون إلا أنه ممن لو كان صحيح العقل كان عليه صومه ، فلن ينقضي الشهر حتى صحّ وبرأ أو أفاق قبل انقضاء الشهر بيوم أو أكثر من ذلك ، فإن عليه قضاء صوم الشهر كله سوى اليوم الذي صامه بعد إفاقته ، لأنه ممن قد شهد الشهر قالوا : ولو دخل عليه شهر رمضان وهو مجنون فلم يفق حتى انقضى الشهر كله ثم أفاق لم يلزمه قضاء شيء منه ، لأنه لم يكن ممن شهده مكلفا صومه وهذا تأويل لا معنى له ، لأن الجنون إن كان يسقط عمن كان به فرض الصوم من أجل فقد صاحبه عقله جميع الشهر ، فقد يجب أن يكون ذلك سبيل كل من فقد عقله جميع شهر الصوم . وقد أجمع الجميع على أن من فقد عقله جميع شهر الصوم بإغماء أو برسام ثم أفاق بعد انقضاء الشهر أن عليه قضاء الشهر كله ، ولم يخالف ذلك أحد يجوز الاعتراض به على الأمة وإذا كان إجماعا فالواجب أن يكون سبيل كل من كان زائل العقل جميع شهر الصوم سبيل المغمى عليه .
وإذا كان ذلك كذلك كان معلوما أن تأويل الآية غير الذي تأوّلها قائلو هذه المقالة من أنه شهود الشهر أو بعضه مكلفا صومه . وإذا بطل ذلك فتأويل المتأوّل الذي زعم أن معناه : فمن شهد أوله مقيما حاضرا فعليه صوم جميعه أبطلُ وأفسدُ لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج عام الفتح من المدينة في شهر رمضان بعد ما صام بعضه وأفطر وأمر أصحابه بالإفطار .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : «سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة إلى مكة ، حتى إذا أتى عسفان نزل به ، فدعا بإناء فوضعه على يده ليراه الناس ، ثم شربه » .
حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا هناد ، حدثنا عبيدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال حدثني الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره عام الفتح لعشر مضين من رمضان ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه ، حتى إذا أتى الكديد ما بين عسفان وأمَج وأفطر .
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا عبدة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر أو لعشرين مضت من رمضان عام الفتح ، فصام حتى إذا كان بالكديد أفطر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سالم بن نوح ، قال : حدثنا عمر بن عامر ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لثمان عشرة مضت من رمضان ، فمنا الصائم ، ومنا المفطر ، فلم يعب المفطر على الصائم ، ولا الصائم على المفطر .
فإذا كانا فاسدين هذان التأويلان بما عليه دللنا من فسادهما ، فتبين أن الصحيح من التأويل هو الثالث ، وهو قول من قال : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } جميع ما شهد منه مقيما ، ومن كان مريضا أو على سفر فعدّة من أيام أخر .
القول في تأويل قوله تعالى : { ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } يعني الله تعالى ذكره بذلك : ومن كان مريضا أو على سفر في الشهر فأفطر فعليه صيام عدّة الأيام التي أفطرها من أيام أخر غير أيام شهر رمضان .
ثم اختلف أهل العلم في المرض الذي أباح الله معه الإفطار وأوجب معه عدّة من أيام أخر فقال بعضهم : هو المرض الذي لا يطيق صاحبه معه القيام لصلاته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا معاذ بن شعبة البصري ، قال : حدثنا شريك ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وإسماعيل بن مسلم ، عن الحسن أنه قال : إذا لم يستطع المريض أن يصلي قائما أفطر .
حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة أو عبيدة ، عن إبراهيم في المريض إذا لم يستطع الصلاة قائما : فليفطر يعني في رمضان .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن إسماعيل ، قال : سألت الحسن : متى يفطر الصائم ؟ قال : إذا جهده الصوم ، قال : إذا لم يستطع أن يصلي الفرائض كما أُمر .
وقال بعضهم : وهو كل مرض كان الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة في علته زيادة غير محتملة وذلك هو قول محمد بن إدريس الشافعي ، حدثنا بذلك عنه الربيع .
وقال آخرون : وهو ( كل ) مرض يسمى مرضا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا الحسن بن خالد الربعي ، قال : حدثنا طريف بن تمام العطاردي ، أنه دخل على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل فلم يسأله ، فلما فرغ قال : إنه وجعت إصبعي هذه .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن المرض الذي أذن الله تعالى ذكره بالإفطار معه في شهر رمضان من كان الصوم جاهده جهدا غير محتمل ، فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدّة من أيام أخر ، وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمر ، فإن لم يكن مأذونا له في الإفطار فقد كلف عسرا ومنع يسرا ، وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه بقوله : { يُريدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ . } وأما من كان الصوم غير جاهده ، فهو بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم ، فعليه أداء فرضه .
وأما قوله : { فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } فإن معناها : أيام معدودة سوى هذه الأيام . وأما الأخر فإنها جمع أخرى بجمعهم الكبرى على الكبر والقربى على القرب .
فإن قال قائل : أو ليست الأخر من صفة الأيام ؟ قيل : بلى فإن قال : أوليس واحد الأيام يوم وهو مذكر ؟ قيل : بلى .
فإن قال : فكيف يكون واحد الأخر أخرى وهي صفة لليوم ولم يكن آخر ؟ قيل : إن واحد الأيام وإن كان إذا نعت بواحد الأخر فهو آخر ، فإن الأيام في الجمع تصير إلى التأنيث فتصير نعوتها وصفاتها كهيئة صفات المؤنث ، كما يقال : مضت الأيام جمع ، ولا يقال : أجمعون ، ولا أيام آخرون .
فإن قال لنا قائل : فإن الله تعالى قال : { فَمَنْ كانَ مِنْكُمِ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } ومعنى ذلك عندك : فعليه عدة من أيام أخر كما قد وصفت فيما مضى .
فإن كان ذلك تأويله ، فما قولك فيمن كان مريضا أو على سفر فصام الشهر وهو ممن له الإفطار ، أيجزيه ذلك من صيام عدّة من أيام أخر ، أو غير مجزيه ذلك ؟ وفرض صوم عدة من أيام أخر ثابت عليه بهيئته وإن صام الشهر كله ، وهل لمن كان مريضا أو على سفر صيام شهر رمضان ، أم ذلك محظور عليه ، وغير جائز له صومه ، والواجب عليه الإفطار فيه حتى يقيم هذا ويبرأ هذا ؟ قيل : قد اختلف أهل العلم في كل ذلك ، ونحن ذاكرو اختلافهم في ذلك ، ومخبرون بأولاه بالصواب إن شاء الله .
فقال بعضهم : الإفطار في المرض عزمة من الله واجبة ، وليس بترخيص . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية جميعا ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، قال : الإفطار في السفر عزمة .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : أخبرنا سعيد ، عن يعلى ، عن يوسف بن الحكم ، قال : سألت ابن عمر ، أو سئل عن الصوم في السفر ، فقال : أرأيت لو تصدقت على رجل بصدقة فردّها عليك ألم تغضب ؟ فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم .
حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي ، قال : حدثنا المحاربي عن عبد الملك بن حميد ، قال : قال أبو جعفر كان أبي لا يصوم في السفر وينهى عنه .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك : أنه كره الصوم في السفر .
وقال أهل هذه المقالة : من صام في السفر فعليه القضاء إذا أقام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن علي الخثعمي ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، عن أبيه ، عن رجل : أن عمر أمر الذي صام في السفر أن يعيد .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، عن سعيد بن عمرو بن دينار ، عن رجل من بني تميم عن أبيه ، قال : أمر عمر رجلاً صام في السفر أن يعيد صومه .
حدثني ابن حميد الحمصي ، قال : حدثنا عليّ بن معبد ، عن عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عطاء ، عن المحرر بن أبي هريرة ، قال : كنت مع أبي في سفر في رمضان ، فكنت أصوم ويفطر ، فقال لي أبي : أما إنك إذا أقمت قضيت .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا سليمان بن داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن عاصم مولى قريبة ، قال : سمعت عروة يأمر رجلاً صام في السفر أن يقضي .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن عاصم مولى قريبة أن رجلاً صام في السفر فأمره عروة أن يقضي .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن صبيح ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، عن أبيه كلثوم : أن قوما قدموا على عمر بن الخطاب وقد صاموا رمضان في سفر ، فقال لهم : والله لكأنكم كنتم تصومون فقالوا : والله يا أمير المؤمنين لقد صمنا ، قال : فأطقتموه ؟ قالوا : نعم ، قال : فاقضوه فاقضوه فاقضوه .
وعلة من قال هذه المقالة أن الله تعالى ذكره فرض بقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }صوم شهر رمضان على من شهده مقيما غير مسافر ، وجعل على من كان مريضا أو مسافرا صوم عدّة من أيام أخر غير أيام شهر رمضان بقوله : { ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } قالوا : فكما غير جائز للمقيم إفطار أيام شهر رمضان وصوم عدة أيام أخر مكانها ، لأن الذي فرضه الله عليه بشهوده الشهر صوم الشهر دون غيره ، فكذلك غير جائز لمن لم يشهده من المسافرين مقيما صومه ، لأن الذي فرضه الله عليه عدة من أيام أخر واعتلوا أيضا من الخبر بما :
حدثنا به محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الصّائِمُ في السّفَرِ كالمُفْطِرِ في الحَضَر » .
حدثني محمد بن عبيد الله بن سعيد ، قال : حدثنا يزيد بن عياض ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الصّائمُ في السّفَر كالمُفْطِرِ في الحَضَر » .
وقال آخرون : إباحة الإفطار في السفر رخصة من الله تعالى ذكره رخصها لعباده ، والفرض الصوم ، فمن صام فرضه أدّى ، ومن أفطر فبرخصة الله له أفطر قالوا : وإن صام في سفر فلا قضاء عليه إذا أقام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن البشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، قال : حدثنا عروة وسالم أنهما كانا عند عمر بن عبد العزيز إذ هو أمير على المدينة فتذاكروا الصوم في السفر ، قال سالم : كان ابن عمر لا يصوم في السفر ، وقال عروة : وكانت عائشة تصوم ، فقال سالم : إنما أخذت عن ابن عمر ، وقال عروة : إنما أخذت عن عائشة حتى ارتفعت أصواتهما ، فقال عمر بن عبد العزيز : اللهم عفوا إذا كان يسرا فصوموا ، وإذا كان عسرا فأفطروا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، قال : حدثني رجل ، قال : ذكر الصوم في السفر عند عمر بن عبد العزيز ، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن محمد بن إسحاق ، وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس حدثنا ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله ، قال : خرج عمر بن الخطاب في بعض أسفاره في ليال بقيت من رمضان ، فقال : إن الشهر قد تشعشع قال أبو كريب في حديثه أو تسعسع ، ولم يشك يعقوب ، فلو صمنا فصام وصام الناس معه ثم أقبل مرة قافلاً حتى إذا كان بالروحاء أهلّ هلال شهر رمضان ، فقال إن الله قد قضى السفر ، فلو صمنا ولم نثلم شهرنا قال : فصام وصام الناس معه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثني أبي ، وحدثنا محمد بن بشار ، قال : أخبرنا عبيد الله ، قال : أخبرنا بشير بن سلمان ، عن خيثمة ، قال : سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر ، قال : قد أمرت غلامي أن يصوم فأبى . قلت : فأين هذه الآية : { ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } ؟ قال : نزلت ونحن يومئذ نرتحل جياعا وننزل على غير شبع ، وإنا اليوم نرتحل شباعا وننزل على شبع .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع : عن بشير بن سلمان ، عن خيثمة ، عن أنس نحوه .
حدثنا هناد وأبو السائب قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن أنس أنه سئل عن الصوم في السفر فقال : من أفطر فبرخصة الله ، ومن صام فالصوم أفضل .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أشعث بن عبد الملك ، عن محمد بن عثمان بن أبي العاص ، قال : الفطر في السفر رخصة ، والصوم أفضل .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو الفيض ، قال : كان عليّ علينا أمير بالشام ، فنهانا عن الصوم في السفر ، فسألت أبا قرصافة رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بني ليث قال عبد الصمد : سمعت رجلاً من قومه يقول : إنه واثلة بن الأسقع قال لو صمت في السفر ما قضيت .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن بسطام بن مسلم ، عن عطاء قال : إن صمتم أجزأ عنكم وإن أفطرتم فرخصة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن كهمس ، قال : سألت سالم بن عبد الله عن الصوم في السفر ، فقال : إن صمتم أجزأ عنكم ، وإن أفطرتم فرخصة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد الرحيم ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، قال : من صام فحقّ أدّاه ، ومن أفطر فرخصة أخذ بها .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، قال : الفطر في السفر رخصة ، والصوم أفضل .
حدثنا هناد قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن عطاء ، قال : هو تعليم ، وليس بعزم ، يعني قول الله : { ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } إن شاء صام ، وإن شاء لم يصم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن في الرجل يسافر في رمضان ، قال : إن شاء صام ، وإن شاء أفطر .
حدثنا حميد بن مسعدة . قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، قال : حدثنا العوّام بن حوشب ، قال : قلت لمجاهد : الصوم في السفر ؟ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم فيه ويفطر ، قال : قلت فأيهما أحبّ إليك ؟ قال : إنما هي رخصة ، وأن تصوم رمضان أحبّ إليّ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد أنهم قالوا : الصوم في السفر ، إن شاء صام وإن شاء أفطر ، والصوم أحبّ إليهم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : قال لي مجاهد في الصوم في السفر ، يعني صوم رمضان : والله ما منهما إلا حلال الصوم والإفطار ، وما أراد الله بالإفطار إلا التيسير لعباده .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأشعث بن سليم ، قال : صحبت أبي والأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون وأبا وائل إلى مكة ، وكانوا يصومون رمضان وغيره في السفر .
حدثنا عليّ بن حسن الأزدي . قال : حدثنا معافى بن عمران ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير : الفطر في السفر رخصة ، والصوم أفضل .
حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي ، قال : حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا صالح بن محمد بن صالح ، عن أبيه قال : قلت للقاسم بن محمد : إنا نسافر في الشتاء في رمضان ، فإن صمت فيه كان أهون عليّ من أن أقضيه في الحر . فقال : قال الله : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } ما كان أيسر عليك فافعل .
وهذا القول عندنا أولى بالصواب لإجماع الجميع على أن مريضا لو صام شهر رمضان وهو ممن له الإفطار لمرضه أن صومه ذلك مجزىء عنه ، ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر ، فكان معلوما بذلك أن حكم المسافر حكمه في أن لا قضاء عليه إن صامه في سفره ، لأن الذي جعل للمسافر من الإفطار وأمر به من قضاء عدة من أيام أخر مثل الذي جعل من ذلك للمريض وأمر به من القضاء .
ثم في دلالة الآية كفاية مغنية عن استشهاد شاهد على صحته ذلك بغيرها ، وذلك قول الله تعالى ذكره : { يُريدُ الله بِكُم اليُسْرَ ولاَ يُرِيدُ بِكُم العُسْرَ } ولا عسر أعظم من أن يلزم من صامه في سفره عدة من أيام أخر ، وقد تكلف أداء فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأدّاه .
فإن ظنّ ذو غباوة أن الذي صامه لم يكن فرضه الواجب ، فإن في قول الله تعالى ذكره : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ } ، { شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فيهِ القُرآنُ } ما ينبىء أن المكتوب صومه من الشهور على كل مؤمن هو شهر رمضان مسافرا كان أو مقيما ، لعموم الله تعالى ذكره المؤمنين بذلك بقوله : { يا أيّها الّذين آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ } شَهْرُ رَمَضَانَ ، وأن قوله : { ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر }معناه : ومن كان مريضا أو على سفر فأفطر برخصة الله فعليه صوم عدة أيام أخر مكان الأيام التي أفطر في سفره أو مرضه .
ثم في تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إذا سئل عن الصوم في السفر : «إن شِئْتَ فَصُمْ ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ » ، الكفاية الكافية عن الاستدلال على صحة ما قلنا في ذلك بغيره .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد الرحيم ووكيع ، وعبدة بن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن حمزة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر ، وكان يسرد الصوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ » .
حدثنا أبو كريب وعبيد بن إسماعيل الهباري قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه أن حمزة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد ، قال : أخبرنا حيوة بن شريح ، قال : أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن أبي مراوح عن حمزة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : يا رسول الله إني أسرد الصوم فأصوم في السفر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّمَا هي رُخْصَةٌ مِنَ الله لِعِبَادِهِ ، فَمَنْ فَعَلْها فَحَسَنٌ جَمِيلٌ ، وَمَنْ تَرَكَها فَلا جُناحَ عَلَيْه » فكان حمزة يصوم الدهر ، فيصوم في السفر والحضر وكان عروة بن الزبير يصوم الدهر ، فيصوم في السفر والحضر ، حتى إن كان ليمرض فلا يفطر وكان أبو مراوح يصوم الدهر ، فيصوم في السفر والحضر .
ففي هذا مع نظائره من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب الدلالة الدالة على صحة ما قلنا من أن الإفطار رخصة لا عزم ، والبيان الواضح على صحة ما قلنا في تأويل قوله : { ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر . }
فإن قال قائل : فإن الأخبار بما قلت وإن كانت متظاهرة ، فقد تظاهرت أيضا بقوله : «لَيْسَ مِنَ الْبِرّ الصّيامُ في السّفَر » ؟ . قيل : إن ذلك إذا كان صيام في مثل الحال التي جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك لمن قال له .
حدثنا الحسين بن يزيد السبيعي ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن محمد بن عمرو بن الحسن ، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في سفره قد ظُلّل عليه ، وعليه جماعة ، فقال : «مَنْ هَذَا ؟ » قالوا : صائم ، قال : «لَيْسَ مِنَ البِرّ الصّوْمُ فِي السّفَر » .
قال أبو جعفر : أخشى أن يكون هذا الشيخ غلط وبين ابن إدريس ومحمد بن عبد الرحمن شعبة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري ، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن عليّ ، عن جابر بن عبد الله ، قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قد اجتمع الناس عليه ، وقد ظُلّل عليه ، فقالوا : هذا رجل صائم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ مِنَ الْبِرّ أنْ تَصُومُوا فِي السّفَر » .
فمن بلغ منه الصوم ما بلغ من الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم ، ذلك ، فليس من البرّ صومه لأن الله تعالى ذكره قد حرم على كل أحد تعريض نفسه لما فيه هلاكها ، وله إلى نجاتها سبيل ، وإنما يطلب البرّ بما ندب الله إليه وحضّ عليه من الأعمال لا بما نهى عنه .
وأما الأخبار التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : «الصّائِمُ في السّفَرَ كالمُفْطِر في الحَضَر » فقد يحتمل أن يكون قيل لمن بلغ منه الصوم ما بلغ من هذا الذي ظلل عليه إن كان كان قبل ذلك ، وغير جائز عليه أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قِيلُ ذلك ، لأن الأخبار التي جاءت بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واهية الأسانيد لا يجوز الاحتجاج بها في الدين .
فإن قال قائل : وكيف عطف على المريض وهو اسم بقوله : أوْ عَلى سَفَرٍ و «على » صفة لا اسم ؟ قيل : جاز أن ينسق بعلى على المريض ، لأنها في معنى الفعل ، وتأويل ذلك : أو مسافرا ، كما قال تعالى ذكره : { دَعانا لِجَنْبِه أوْ قاعِدا أو قائما } فعطف بالقاعد والقائم على اللام التي في لجنبه ، لأن معناها الفعل ، كأنه قال : دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما .
القول في تأويل قوله تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ . }
يعني تعالى ذكره بذلك : يريد الله بكم أيها المؤمنون بترخيصه لكم في حال مرضكم وسفركم في الإفطار ، وقضاء عدّة أيام أخر من الأيام التي أفطرتموها بعد أقامتكم وبعد برئكم من مرضكم ، التخفيف عليكم والتسهيل عليكم ، لعلمه بمشقة ذلك عليكم في هذه الأحوال . { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ }يقول : ولا يريد بكم الشدة والمشقة عليكم ، فيكفلكم صوم الشهر في هذه الأحوال ، مع علمه شدة ذلك عليكم وثقل حمله عليكم لو حملكم صومه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } قال : اليسر : الإفطار في السفر ، والعسر : الصيام في السفر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، قال : سألت ابن عباس عن الصوم في السفر ، فقال : يسر وعسر ، فخذ بيسر الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ } قال : هو الإفطار في السفر ، وجعل عدّة من أيام أخر ، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ }فأريدوا لأنفسكم الذي أراد الله لكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن عيينة ، عن عبد الكريم الجزري عن طاوس ، عن ابن عباس قال : لا تعب على من صام ولا على من أفطر ، يعني في السفر في رمضان يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : حدثنا الفضيل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال سمعت الضحاك بن مزاحم في قوله : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ } الإفطار في السفر ، { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ }الصيام في السفر .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة . }
يعني تعالى ذكره بذلك : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة }عدّة ما أفطرتم من أيام أخر أوجبت عليكم قضاء عدّة من أيام أخر بعد برئكم من مرضكم ، أو إقامتكم من سفركم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة } قال : عدة ما أفطر المريض والمسافر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة } قال : إكمال العدة : أن يصوم ما أفطر من رمضان في سفر أو مرض إلى أن يتمه ، فإذا أتمه فقد أكمل العدة .
فإن قال قائل : ما الذي عليه بهذه الواو التي في قوله : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة }عَطَفَتْ ؟ قيل : اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعضهم : هي عاطفة على ما قبلها كأنه قيل : ويريد لتكلموا العدة ولتكبروا الله .
وقال بعض نحويي الكوفة : وهذه اللام التي في قوله : وَلِتُكْمِلُوا لام كي ، لو ألقيت كان صوابا . قال : والعرب تدخلها في كلامها على إضمار فعل بعدها ، ولا تكون شرطا للفعل الذي قبلها وفيها الواو ألا ترى أنك تقول : جئتك لتحسن إليّ ، ولا تقول : جئتك ولتحسن إليّ فإذا قلته فأنت تريد : ولتحسن جئتك . قال : وهذا في القرآن كثير ، منه قوله : { وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفئِدَةُ } وقوله : { وكذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَات وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنين }لو لم تكن فيه الواو كان شرطا على قولك : أريناه ملكوت السموات والأرض ليكون ، فإذا كانت الواو فيها فلها فعل مضمر بعدها ، و «ليكون من الموقنين » أريناه . وهذا القول أولى بالصواب في العربية ، لأن قوله : وَلِتُكْمِلُوا العِدّة ليس قبله لام بمعنى التي في قوله : وَلِتُكْمِلُوا العِدّة فتعطف بقوله : وَلِتُكْمِلُوا العِدّة عليها ، وإن دخول الواو معها يؤذن بأنها شرط لفعل بعدها ، إذ كانت الواو لو حذفت كانت شرطا لما قبلها من الفعل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ .
يعني تعالى ذكره : ولتعظموا الله بالذكر له بما أنعم عليكم به من الهداية التي خذل عنها غيركم من أهل الملل الذين كتب عليهم من صوم شهر رمضان مثل الذي كتب عليكم فيه ، فضلوا عنه بإضلال الله إياهم ، وخصكم بكرامته فهداكم له ، ووفقكم لأداء ما كتب الله عليكم من صومه ، وتشكروه على ذلك بالعبادة له . والذكر الذي خصهم الله على تعظيمه به التكبير يوم الفطر فيما تأوّله جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن داود بن قيس ، قال : سمعت زيد بن أسلم يقول : { وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ } قال : إذا رأى الهلال ، فالتكبير من حين يرى الهلال حتى ينصرف الإمام في الطريق والمسجد إلا أنه إذا حضر الإمام كفّ فلا يكبر إلا بتكبيره .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : سمعت سفيان يقول : { وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ }قال : بلغنا أنه التكبير يوم الفطر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان ابن عباس يقول : حقّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوّال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم لأن الله تعالى ذكره يقول : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ . } قال ابن زيد : ينبغي لهم إذا غدوا إلى المصلى كبروا ، فإذا جلسوا كبروا ، فإذا جاء الإمام صمتوا ، فإذا كبر الإمام كبروا ، ولا يكبرون إذا جاء الإمام إلا بتكبيره ، حتى إذا فرغ وانقضت الصلاة فقد انقضى العيد . قال يونس : قال ابن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد : والجماعة عندنا على أن يغدوا بالتكبير إلى المصلى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرونَ . }
يعني تعالى ذكره بذلك : ولتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق . وتيسير ما لو شاء عسر عليكم . و «لعل » في هذا الموضع بمعنى «كي » ، ولذلك عطف به على قوله : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
قد علمت أن هذه الآيات تكملة للآيات السابقة وأن لا نسخ في خلال هاته الآيات ، فقوله : شهر رمضان شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى والفرقان } خبر مبتدأ محذوف تقديره هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان ، والجملة مستأنفة بيانياً ، لأن قوله : { أياماً معدودات } [ البقرة : 184 ] يثير سؤال السامع عن تعيين هذه الأيام ، ويؤيد ذلك قراءة مجاهد { شهراً } بالنصب على البدلية من { أياماً } : بدل تفصيل .
وحذف المسند إليه جار على طريقة الاستعمال في المسند إليه إذا تقدم من الكلام ما فيه تفصيل وتبيين لأحوال المسند إليه فهم يحذفون ضميره ، وإذا جَوَّزتَ أن يكون هذا الكلام نسخاً لصدر الآية لم يصح أن يكون التقدير هي شهر رمضان فيتعين أن يكون شهر رمضان مبتدأ خبره قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ، واقتران الخبر بالفاء حينئذٍ مراعاة لوصف المبتدأ بالموصول الذي هو شبيه بالشرط ومثله كثير في القرآن وفي كلام العرب ، أو على زيادة الفاء في الخبر كقوله :
*وقائلةٍ خَوْلاَنُ فانكِحْ فَتاتهم{[175]} *
أنشده سيبويه ، وكلا هذين الوجهين ضعيف .
والشهر جزء من اثني عشر جزءاً من تقسيم السنة قال تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض } [ التوبة : 36 ] والشهر يبتدىء من ظهور الهلال إلى المحاق ثم ظهور الهلال مرة أخرى ، وهو مشتق من الشهرة لأن الهلال يظهر لهم فيشهرونه ليراه الناس فيثبت الشهر عندهم .
ورمضان علم وليس منقولاً ؛ إذ لم يسمع مصدر على وزن الفَعلان من رمِض بكسر الميم إذا احترق ؛ لأن الفَعَلان ، يدل على الاضطراب ولا معنى له هنا ، وقيل هو منقول عن المصدر . ورمضان علَم على الشهر التاسع من أشهر السنة العربية القمرية المفتتحة بالمحرم ؛ فقد كان العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم ؛ لأن نهاية العام عندهم هي انقضاء الحج ومدة الرجوع إلى آفاقهم ، ألا ترى أن لَبيداً جعل جمادى الثانية وهو نهاية فصل الشتاء شهراً سادساً إذ قال :
حَتَّى إذا سَلخا جُمادى سِتَّةً *** جَزْءاً فطال صيامُه وصيامها
ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون ؛ لأنه مشتق من الرمضاء وهي الحرارة لأن رمضان أول أشهر الحرارة بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب إذ كانت السنة تنقسم إلى ستة فصول كل فصل منها شهران : الفصل الأول الخريف وشهراه محرم وصفر ، الثاني ربيع الأول وهو وقت نضج الثمار وظهور الرُّطَب والتمر وشهراه شهرُ ربيع الأولُ وشهرُ ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصف لشهر ، ألا ترى أن العرب يقولون « الرطب شهري ربيع » ، الثالث الشتاء وشهراه جمادى الأولى وجمادى الثانية قال حاتم :
في ليلةٍ من جمادَى ذاتتِ أَنْدَيةٍ *** لاَ يُبصِرُ الكَلْبُ مِن ظَلْمَائِها الظُّنُبَا
لاَ يَنَبحُ الكلبُ فيها غيرَ واحِدَةٍ *** حتَّى يَلُفَّ علَى خَيشُومِهِ الذَّنبَــا
الرابع الربيع الثاني - والثاني وصف للربيع - وهذا هو وقت ظهور النَّور والكَمْأَةِ وشهراه رجبٌ وشعبان ، وهو فصل الدَّر والمطَر قال النابغة يذكر غَزَوات النعمان ابن الحارث :
وكانَتْ لَهْم رَبْعِيَّةٌ يَحْذَرُونَها *** إذا خَضْخَضَتْ ماءَ السماء القبائِلُ
وسَمَّوه الثاني لأنه يجيءُ بعد الربيعِ الأول في حساب السنة ، قال النابغة :
فإن يَهلك أبو قابُوسَ يَهلكْ *** رَبِيعُ الثَّانِ والبَلَدُ الحَرامُ
في رواية وراوي « ربيعُ الناس » ، وسموا كلا منهما ربيعاً لأنه وقت خصب ، الفصل الخامس ، الصيف وهو مبدأ الحر وشهراه رمضان وشوال ، لأن النوق تشول أذنابها فيه تطرد الذباب . السادس القيظ وشهراه ذو القعدة وذو الحجة .
وبعض القبائل تقسم السنة إِلى أربعة ، كل فصل له ثلاثة أشهر ؛ وهي الربيع وشهوره رجب وشعبان ورمضان ، والصيف وشهوره شوال وذو القعدة وذو الحجة ، والخريف وشهوره محرم وصفر والربيع الأول ، والشتاء وشهوره شهر ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصفان لشهر لا لربيع وجمادى الأولى وجمادى الثانية .
ولما كانت أشهر العرب قمرية وكانت السنة القمرية أقل من أيام السنة الشمسية التي تجيء بها الفصول تنقص أحد عشر يوماً وكسراً ، وراموا أن يكون الحج في وقت الفراغ من الزروع والثمار ووقت السلامة من البرد وشدة الحر جعلوا للأشهر كبساً بزيادة شهر في السنة بعد ثلاث سنين وهو المعبر عنه بالنسيء .
وأسماء الشهور كلِّها أعلام لها عدا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني فلذلك وجب ذكر لفظ الشهر معهما ثم وصفه بالأول والثاني ؛ لأن معناه الشهر الأول من فصل الربيع أعني الأول ، فالأول والثاني صفتان لشهر ، أما الأشهر الأخرى فيجوز فيها ذكر لفظ الشهر بالإضافة من إضافة اسم النوع إلى واحده مثل شجر الأراك ومدينة بغداد ، وبهذا يشعر كلام سيبويه والمحققين فمن قال : إنه لا يقال رمضان إلاّ بإضافة شهر إليه بناء على أن رمضان مصدر ، حتى تكلف لمنعه من الصرف بأنه صار بإضافة شهر إليه علماً فمنع جزء العلم من الصرف كما منع هريرة في أبي هريرة فقد تكلف شططاً وخالف ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم " من صام ر مضان إيماناً واحتساباً " بنصب رمضان وإنما انجر إليهم هذا الوهم من اصطلاح كتاب الديوان كما في « أدب الكاتب » .
وإنما أضيف لفظ الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن الإيجاز المطلوب لهم يتقضي عدم ذكره إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم ؛ لأنه لو قال رمضان لكان ظاهراً لا نصاً ، لا سيما مع تقدم قوله { أياماً } [ البقرة : 184 ] فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان .
فالمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية هو الذي جعل ظرفاً لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه ، ولما كان ذلك حلوله مكرراً في كل عام كان وجوب الصوم مكرراً في كل سنة إذ لم ينط الصيام بشهر واحد مخصوص ولأن ما أجري على الشهر من الصفات يحقق أن المراد منه جميعُ الأزمنة المسماةُ به طول الدهر .
وظاهر قوله : { الذي أنزل فيه القرآن } أن المخاطبين يعلمون أن نزول القرآن وقع في شهر رمضان ، لأن الغالب في صلة الموصول أن يكون السامع عالماً باختصاصها بمن أجرى عليه الموصول ، ولأن مثل هذا الحدَث الديني من شأنه ألا يخفى عليهم ، فيكون الكلام تذكيراً بهذا الفضل العظيم ، ويجوز أيضاً أن يكون إعلاماً بهذا الفضل وأجري الكلام على طريقة الوصف بالموصول للتنبيه على أن الموصوف مختص بمضمون هذه الصلة بحيث تجعل طريقاً لمعرفته ، ولا نسلم لزوم علم المخاطب باتصاف ذي الصلة بمضمونها في التعريف بالموصولية بل ذلك غَرض أغلبي كما يشهد به تتبع كلامهم ، وليس المقصود الإخبارَ عن شهر رمضان بأنه أنزل فيه القرآن ، لأن تركيب الكلام لا يسمح باعتباره خبراً لأن لفظ { شهر رمضان } خبر وليس هو مبتدأ ، والمراد بإنزال القرآن ابتداءُ إنزاله على النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه ابتداء النزول من عام واحد وأربعين من الفيل فعبر عن إنزال أوله باسم جميعه ؛ لأن ذلك القدْر المنزل مقَدَّرٌ إلحاق تكملته به كما جاء في كثير من الآيات مثل قوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } [ الأنعام : 92 ] وذلك قبل إكمال نزوله فيشمل كل ما يلحق به من بعد ، وقد تقدم عند قوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } ومعنى { الذي أنزل فيه } أنزل في مثله ؛ لأن الشهر الذي أنزل فيه القرآن قد انقضى قبل نزول آية الصوم بعدة سنين ، فإن صيام رمضان فرض من السنة الثانية للهجرة فَبَيْن فرض الصيام والشهرِ الذي أنزل فيه القرآن حقيقةً عدةُ سنين فيتعين بالقرينة أن المراد أنزل في مثله أي في نظيره من عام آخر .
فقد جعل الله للمواقيت المحدودة اعتباراً يشبه اعتبار الشيء الواحد المتجدد ، وإنما هذا اعتبار للتذكير بالأيام العظيمة المقدَار كما قال تعالى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] ، فخلع الله على المواقيت التي قارنها شيء عظيم في الفضل أن جعل لتلك المواقيت فضلاً مستمراً تنويهاً بكونها تذكرة لأمر عظيم ، ولعل هذا هو الذي جعَل الله لأجله سنة الهدي في الحج ، لأن في مثل ذلك الوقت ابتلَى الله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وأظهر عَزْم إبراهيم وطاعته ربه ومنه أخذ العلماء تعظيم اليوم الموافق ليوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ويجيء من هذا إكرام ذرية رسول الله وأبناء الصالحين وتعظيم ولاة الأمور الشرعية القائمين مقام النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم من الأمراء والقضاة والأئمّة .
وهذا يدل على أن مراد الله تعالى من الأمة صوم ثلاثين يوماً متتابعة مضبوطة المبدأ والنهاية متحدة لجميع المسلمين . ولما كان ذلك هو المراد وُقِّتَ بشهر معيَّن وجعل قمرياً لسهولة ضبط بدئه ونهايته برؤية الهلال والتقدير ، واختير شهر رمضان من بين الأشهر لأنه قد شُرف بنزول القرآن فيه ، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة وهداها ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس والتقرب من الحالة المَلَكية واقعاً فيه ، والأغلب على ظني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم أيام تحنثه في غار حراء قبل أن يُنزل عليه الوحي إلهاماً من الله تعالى وتلقيناً لبقية من الملة الحنيفية فلما أنزل عليه الوحي في شهر رمضان أمر الله الأمة الإسلامية بالصوم في ذلك الشهر ، روَى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « جاورت بحِراء شهرَ رمضان » وقال ابن سعد : جاءه الوحي وهو في غار حراء يوم الاثنين لسبع عشرة حلت من رمضان .
وقوله : { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } حالان من ( القرآن ) إشارة بهما إلى وجه تفضيل الشهر بسبب ما نزل فيه من الهدى والفرقان .
والمراد بالهدى الأول : ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة ، وبالبينات من الهدى : ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير مِن الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية . والفرقان مصدر فرق وقد شاع في الفَرق بين الحق والباطل أي إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام ، فالمراد بالهدى الأول : ضرب من الهدى غير المراد من الهدى الثاني ، فلا تكرار .
تفريع على قوله : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } الذي هو بيان لقوله { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] كما تقدم فهو رجوع إلى التبيين بعد الفصل بما عقب به قوله : { كتب عليكم الصيام } من استيناسٍ وتنويهٍ بفضل الصيام وما يرجى من عوده على نفوس الصائمين بالتقوى وما حف الله به فرضه على الأمة من تيسير عند حصول مشقة من الصيام .
وضمير { منكم } عائد إلى { الذين أمنوا } [ البقرة : 183 ] مثل الضمائر التي قبله ، أي كل من حضر الشهر فليصمه ، و { شهد } يجوز أن يكون بمعنى حضر كما يقال : إن فلاناً شهد بَدراً وشهد أُحُداً وشهد العقبة أو شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حضرها فنصب الشهر على أنه مفعول فيه لفعل { شَهِد } أي حضر في الشهر أي لم يكن مسافراً ، وهو المناسب لقوله بعده : { ومن كان مريضاً أو على سفر } . الخ . أي فمن حضر في الشهر فليصمه كله ويُفهم أن مَن حضر بعضه يصوم أيام حضوره .
ويجوز أن يكون { شهد } بمعنى عَلِم كقوله تعالى : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } [ آل عمران : 18 ] فيكون انتصاب الشهر على المفعول به بتقدير مضاف أي علم بحلول الشهر ، وليس شهد بمعنى رأى ؛ لأنه لا يقال : شهد بمعنى رأى ، وإنما يقال شَاهد ، ولا الشهر هنا بمعنى هلاله بناء على أن الشهر يطلق على الهلال كما حكوه عن الزجاج وأنشد في « الأساس » قول ذي الرمة :
فأصبح أَجلَى الطَّرْفِ ما يستزيده *** يَرى الشهرَ قبل الناس وهو نَحيل
أي يرى هلال الشهر ؛ لأن الهلال لا يصح أن يتعدى إليه فعل { شهد } بمعنى حضر ومَن يفهم الآية على ذلك فقد أخطأ خطأ بيناً وهو يفضي إلى أن كل فرد من الأمة معلق وجوب صومه على مشاهدته هلال رمضان فمن لم ير الهلال لا يجب عليه الصوم وهذا باطل ، ولهذا فليس في الآية تصريح على طريق ثبوت الشهر وإنما بينته السنة بحديث " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تُفطروا حتى تروه فإنْ غُمَّ عليكم فاقدروا له " وفي معنى الإقدار له محامل ليست من تفسير الآية .
وقرأ الجمهور : ( القُرْءَان ) بهمزة مفتوحة بعد الراء الساكنة وبعد الهمزة ألف ، وقرأهُ ابن كثير براء مفتوحة بعدها ألف على نقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة لقصد التخفيف .
وقوله : { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة } قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله : { فمن كان منكم مريضاً } [ البقرة : 184 ] أنه لما كان صوم رمضان واجباً على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] الخ وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله { شهر رمضان } الآية وصار الصوم واجباً على التعيين خيف أن يظُنّ الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نسخ فوجب الصوم أيضاً حتى على المريض والمسافر فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة تصريحاً ببقاء تلك الرخصة ، ونُسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحضر والصحة لا غير ، وهو بناء على كون هاته الآية ناسخة للتي قبلها ، فإن درجنا على أنهما نزلتا في وقت واحد كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله : { ومن كان مريضاً } لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم ، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة رفقاً بالسامعين ، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } إذا كان شهد بمعنى تحقق وعَلِم ، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة ولزيادة بيان معنى قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } .
{ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } .
استئناف بياني كالعلة لقوله : { ومن كان مريضاً } الخ بيَّن به حكمة الرخصة أي شرع لكم القضاءَ لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة .
وقوله : { ولا يريد بكم العسر } نفي لضد اليسر ، وقد كان يقوم مقام هاتين الجملتين جملةُ قصر نحو أن يقول : ما يريد بكم إلاّ اليسر ، لكنه عُدل عن جملة القصر إلى جملتي إثبات ونفي لأن المقصود ابتداءً هو جملة الإثبات لتكون تعليلاً للرخصة ، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيداً لها ، ويجوز أن يكون قوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } تعليلاً لجميع ما تقدم من قوله : { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] إلى هنا فيكون إيماء إلى أن مشروعية الصيام وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم .
وقرأ الجمهور : ( اليُسْر ) و ( العُسْر ) بسكون السين فيهما ، وقرأه أبو جعفر بضم السين ضمةَ إتباع .
عطف على جملةٍ : { يريد الله بكم اليسر } الخ ؛ إذ هي في موقع العلة كما علمتَ ؛ فإن مجموعَ هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله : { فمن شهد منكم الشهر } إلى قوله : { فعدة من أيام أُخر } .
واللام في قوله : { ولتكبروا } تسمى شبه الزائدة وهي اللام التي يكثر وقوعها بعد فعل الإرادة وفعل الأمر أي مادة أمَرَ اللذين مفعولهما أنْ المصدرية مع فعلها ، فحق ذلك المفعول أن يتعدى إليه فعل الإرادة وفعل مادة الأمر بنفسه دون حرف الجر ولكن كثر في الكلام تعديته باللام نحو قوله تعالى : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } [ الصف : 8 ] قال في « الكشاف » : أصله يريدون أن يطفئوا ، ومنه قوله تعالى : { وأُمرت لأن أكون أول المسلمين } [ الزمر : 12 ] والفعل الذي بعد اللام منصوب بأنْ ظاهرةٍ أو مقدرةٍ .
والمعنى : يريد الله أن تُكملوا العدة وأن تُكبروا الله ، وإكمالُ العدة يحصل بقضاء الأيام التي أفطرها مَن وجب عليه الصوم ليأتي بعدة أيام شهر رمضان كاملة ، فإن في تلك العدة حكمة تجب المحافظة عليها ، فبالقضاء حصلت حكمة التشريع وبرخصة الإفطار لصاحب العذر حصلت رحمة التخفيف .
وقرأ الجمهور : ( ولتُكْملوا ) بسكون الكاف وتخفيف الميم مضارع أكمل وقَرأه أبو بكر عن عاصم ويعقوب بفتح الكاف وتشديد الميم مضارع كَمَّل .
وقوله : { ولتكبروا الله على ما هداكم } عطف على قوله : { ولتكملوا العدة } ، وهذا يتضمن تعليلاً وهو في معنى علة غيرِ متضمنةٍ لحكمة ولكنها متضمنة لمقصد إرادة الله تعالى وهو أن يكبروه .
والتكبير تفعيل مراد به النسبة والتوصيف أي أن تنسبوا الله إلى الكبر والنسبة هنا نسبة بالقول اللساني ، والكِبَر هنا كبر معنوي لا جسمي فهو العظمة والجلال والتنزيه عن النقائص كلها ، أي لتصفوا الله بالعظمة ، وذلك بأن تقولوا : الله أكبر ، فالتفعيل هنا مأخوذ من فَعَّلَ المنحوتِ من قولٍ يقوله ، مثل قولهم : بَسْمل وحَمْدل وهَلَّل وقد تقدم عند الكلام على البسملة ، أي لتقولوا : الله أكبر ، وهي جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الوَاقع كالحكماء والملوك والسادة والقادة ، ومن كل عظيم في الاعتقاد كالآلهة الباطلة ، وإثبات الأعظمية لله في كلمة ( الله أكبر ) كناية عن وحدانيته بالإلهية ، لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للإلهية ، لأن حقيقتها لا تلاقي شيئاً من النقص ، ولذلك شُرع التكبير في الصلاة لإبطال السجود لغير الله ، وشُرع التكبير عند نحر البُدْن في الحج لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم ، وكذلك شرع التكبير عند انتهاء الصيام بهذه الآية ، فمن أجل ذلك مضت السنة بأن يكبر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد ويكبر الإمام في خطبة العيد .
وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأَكل والتلطيخ بالدماء ، فكان لقول المسلم : الله أكبر ، إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم وأنه متنزه عن ضراوة الأصنام .
وقوله : { ولعلكم تشكرون } تعليل آخر وهو أعم من مضمون جملة { ولتكبروا الله على ما هداكم } فإن التكبير تعظيم يتضمن شكراً والشكر أعم ، لأنه يكون بالأقوال التي فيها تعظيم لله تعالى ويكون بفعل القُرب من الصدقات في أيام الصيام وأيام الفطر ، ومن مظاهر الشكر لبس أحسن الثياب يوم الفطر .
وقد دلت الآية على الأمر بالتكبير ؛ إذ جعلتْه مما يريده الله ، وهو غير مفصَّل في لفظ التكبير ، ومجملٌ في وقت التكبير ؛ وعدده ، وقد بينت السنة القولية والفعلية ذلك على اختلاف بين الفقهاء في الأحوال .
فأما لفظ التكبير فظاهر الآية أنه كل قول فيه لفظ الله أكبر ، والمشهور في السنة أنه يكرر الله أكبر ثلاثاً ، وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك والشافعي : إذا شاء المرءُ زاد على التكبير تهليلاً وتحميداً فهو حسن ولا يترك الله أكبر ، فإذا أراد الزيادة على التكبير كبر مرتين ثم قال : لا إله إلاّ الله والله أكبر ولله الحمد وهو قول ابن عمر وابن عباس ، وقال أحمد : هو واسع ، وقال أبو حنيفة : لا يجزىء غير ثلاث تكبيرات .
وأما وقته : فتكبير الفطر يبتدىء من وقت خروج المصلي من بيته إلى محل الصلاة ، وكذلك الإمامُ ومَنْ خرج معه ، فإذا بلغ محل الصلاة قطع التكبير ، ويسن في أول كل ركعة من ركعتي صلاة العيد افتتاح الأولى بسبع تكبيرات والثانية بست ، هذا هو الأصح مما ثبت في الأخبار وعمل به أهل المدينة من عهد النبي عليه الصلاة والسلام فما بعده وتلقاه جمهور علماء الأمصار ، وفيه خلاف كثير لا فائدة في التطويل بذكره والأمر واسع ، ثم يكبر الإمام في خطبة صلاة العيد بعد الصلاة ويكبر معه المصلون حين تكبيره وينصتون للخطبة فيما سوى التكبير .
وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وعُروة بن الزبير والشافعي : يكبر الناس من وقت استهلال هلال الفطر إلى انقضاء صلاة العيد ثم ينقطع التكبير ، هذا كله في الفطر فهو مورد الآية التي نحن بصدد تفسيرها .
فأما في الأضحى فيزاد على ما يذكر في الفطر التكبير عقب الصلوات المفروضة من صلاة الظهر من يوم الأضحى إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع منه ، ويأتي تفصيله في تفسير قوله تعالى : { واذكروا الله في أياممٍ معدودات } [ البقرة : 203 ] .