التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (18)

وبعد أن بين - سبحانه - ما أعده للمتقين ، وذكر صفاتهم عقب ذلك ببيان أساس التقوى وهو عقيدة التوحيد ، وببيان أن الإسلام هو الدين الذى ارتضاه الله - تعالى - للناس ، وأن من يعارض فى ذلك معارضته داحضة وسيعاقبه الله بما يستحقه . استمع إلى القرآن وهو يحكي ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول : { شَهِدَ الله . . . } .

قال القرطبي : " لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما للآخر : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذى يخرج في آخر الزمان ! فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له : أنت محمد ؟ قال نعم قالا : وأنت أحمد ؟ قال : نعم . قالا : نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك . فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلاني . فقالا : أخبرنا عن الأعظم شهادة في كتاب الله . فأنزل الله تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط } فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله تعالى : { شَهِدَ الله } أى بين وأعلم كما يقول : شهد فلان عند القاضي إذا بين وأعلم لمن الحق أو على من هو قال الزجاج : " الشاهد هو الذى يعلم الشيء ويبينه ، فقد دلنا الله على وحدانيته بما خلق وبين " .

والمعنى : أخبر الله - تعالى - عباده وأعلمهم بالآيات القرآنية التي أنزلها على نبيه ، وبالآيات الكونية التى لا يقدر على خلقها أحد سواه ، وبغير ذلك من الأدلة القاطعة التي تشهد بوحدانيته ، وأنه لا معبود بحق سواه ، وأنه هو المنفرد بالألوهية لجميع الخلائق . وأن الجميع عبيده وفقراء إليه وهو الغني عن كل ما عداه . وشهد بذلك " الملائكة " بأن أقروا بأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد فعبدوه حق العبادة ، وأطاعوه حق الطاعة ، وشهد بذلك أيضاً " أولو العلم " بأن اعترفوا له - سبحانه - بالوحدانية ، وصدقوا بما جاهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبلغوا ذلك لغيرهم .

قال الزمخشرى : شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التى لا يقدر عليها غيره ، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما ، بشهادة الشاهد فى البيان والكشف وكذلك إقرار الملائكة وأولى العلم بذلك واحتجاجهم عليه " .

وقالوا : وفي هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء ، فإنه لو كان أحد أشرف العلماء ، لقرنهم الله باسمه وسام ملائكته كما قرن العلماء . وقال في شرف العلم لنبيه - صلى الله عليه وسلم - { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله نبيه أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم . وقال صلى الله عليه وسلم " إن العلماء ورثة الأنبياء " وقال : " العلماء أمناء الله على خلقه " وهذا شرف للعلماء عظيم ومحل لهم في الدين خطير .

والمراد بأولى العلم هنا جميع العلماء الذين سخروا ما أعطاهم الله من معارف في خدمة عقيدتهم ، وفيما ينفعهم وينفع غيرهم ، وأخلصوا لله في عبادتهم ، وصدقوا في أقوالهم وأفعالهم . وقدم سبحانه - الملائكة على أولى العلم ، لأن فيهم من هو واسطة لتوصيل العلم إلى ذويه ، لأن علمهم كله ضرورى بخلاف البشر فإن علمهم منه ما ضرورى ، ومنه ما هو اكتسابى .

وقوله - تعالى - { قَآئِمَاً بالقسط } بيان لكماله - سبحانه - في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته . والقسط : العدل . يقال قسط ويقسط قسطاً ، وأقسط إقساطاً فهو مقسط إذا عدل ومنه { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } ويطلق القسط على الجور ، والفاعل قاسط ، ومنه { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أى : مقيما للعدل في تدبير أمر خلقه ، وفى أحكامه . وفيما يقسم بينهم من الأرزاق والآجال ، وفيما يأمر به وينهى عنه ، وفى كل شأن من شؤونه .

قال الجمل و { قَآئِمَاً } منصوب على أنه حال من الضمير المنفصل الواقع بعد إلا ، فتكون الحال أيضا فى حيز الشهادة ، فيكون المشهود به أمرين : الوحدانية والقيام بالقسط وهذا أحسن من جعله حالا من الاسم الجليل فاعل شهد ، لأن عليه يكون المشهود به الوحدانية فقط والحال ليست في حيز الشهادة .

وقوله { لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } تكرير للمشهود به للتأكيد والتقرير ، وفيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعى إنما يكون بالدليل ، والاعتناء به يتقضى الاعتناء بأدلته .

{ العزيز الحكيم } صفتان مقررتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل . أي لا إله في هذا الوجود يستحق العبادة بحق إلا الله { العزيز } الذى لا يمتنع عليه شيء أراده ، وينتصر من كل أحد عاقبه أو انتقم منه { الحكيم } في تدبيره فلا يدخله خلل .

قال ابن جرير : " وإنما عنى جل ثناؤه - بهذه الآية نفى ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من النبوة ، وما نسب إليه سائر أهل الشرك : من أن له شريكا ، واتخاذهم دونه أربابا ، فأخبرهم الله عن نفسه ، أنه الخالق كل ما سواه ، وأنه رب كل ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربا دونه ، وأن ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهل العلم به من خلقه . فبدا - جل ثناؤه - بنفسه تعظيما لنفسه ، وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إليها ، كما سن لعباده أن يبدأوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره مؤدباً خلقه بذلك " .

هذا ، ومن الآثار التى وردت في فضل هذه الآية ما رواه الإمام أحمد عن الزبير بن العوام قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } . . . إلى آخر الآية . فقال صلى الله عليه وسلم : " وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب " . وقال غالب القطان : أتيت الكوفة في تجارة لي فنزلت قريبا من الأعمش فكنت اختلف إليه ، فقام في ليلة متهجدا فمر بهذه الآية { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فقال : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة وهى لى وديعة { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } ، - قالها مراراً - فقلت . لقد سمع فيها شيئا فسألته في ذلك فقال : حدثني أبو وائل بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله - تعالى - " عبدي عهد إلى وأنا أحق من وفى العهد أدخلوا عبدي الجنة " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (18)

18

فلنأخذ في التفصيل بعد هذا الإجمال . .

( شهد الله أنه لا إله إلا هو - والملائكة وأولوا العلم - قائما بالقسط . لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) . .

هذه هي الحقيقة الأولى التي يقوم عليها التصور الاعتقادي في الإسلام . حقيقة التوحيد : توحيد الألوهية ، وتوحيد القوامة . . القوامة بالقسط . . وهي الحقيقة التي بدأت بها السورة : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . . وهي تستهدف إقرار حقيقة العقيدة الإسلامية من جهة ، وجلاء الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب من جهة . جلاءها عن أهل الكتاب أنفسهم ، وجلاءها عن المسلمين الذين قد تؤثر هذه الشبهات في عقيدتهم .

وشهادة الله - سبحانه - أنه لا إله إلا هو . . هي حسب كل من يؤمن بالله . . وقد يقال : إنه لا يكتفي بشهادة الله إلا من يؤمن بالله . وأن من يؤمن بالله ليس في حاجة إلى هذه الشهادة . . ولكن واقع الأمر أن أهل الكتاب كانوا يؤمنون بالله ولكنهم في نفس الوقت يجعلون له ابنا وشريكا . بل إن المشركين أنفسهم كانوا يؤمنون بالله ، ولكن الضلال كان يجيئهم من ناحية الشركاء والأنداد والأبناء والبنات ! فإذا قرر لهؤلاء وهؤلاء أن الله - سبحانه - شهد أنه لا إله إلا هو ، فهذا مؤثر قوي في تصحيح تصوراتهم .

على أن الأمر - كما يبدو من متابعة السياق كما تابعناه فيما تقدم - أعمق من هذا وأدق . فإن شهادة الله - سبحانه - بأنه لا إله إلا هو ، مسوقة هنا ليساق بعدها ما هو من مستلزماتها ؛ وهو أنه لا يقبل إذن من العباد إلا العبودية الخالصة له ، الممثلة في الإسلام بمعنى الاستسلام - لا اعتقادا وشعورا فحسب - ولكن كذلك عملا وطاعة واتباعا للمنهج العملي الواقعي المتمثل في أحكام الكتاب . . ومن هذه الناحية نجد كثيرين في كل زمان يقولون : إنهم يؤمنون بالله ، ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية ، حين يتحاكمون إلى شريعة من صنع غيره ، وحين يطيعون من لا يتبع رسوله وكتابه ؛ وحين يتلقون التصورات والقيم والموازين والأخلاق والآداب من غيره . . فهذه كلها تناقض القول بأنهم يؤمنون بالله . ولا تستقيم مع شهادة الله - سبحانه - بأنه لا إله إلا هو .

وأما شهادة الملائكة وشهادة أولي العلم ، فهي متمثلة في طاعتهم لأوامر الله وحدها ، والتلقي عن الله وحده ، والتسليم بكل ما يجيئهم من عنده بدون تشكك ولا جدال ، متى ثبت لهم أنها من عنده . وقد سبق في السورة بيان حال أولي العلم هؤلاء في قوله : ( والراسخون في العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند ربنا ) . . فهذه شهادة أولي العلم وشهادة الملائكة : تصديق . وطاعة . واتباع . واستسلام .

وشهادة الله سبحانه وشهادة الملائكة وأولي العلم بوحدانية الله يصاحبها شهادتهم بأنه - تعالى - قائم بالقسط . بوصفها حالة ملازمة للألوهية .

( شهد الله أنه لا إله إلا هو - والملائكة وأولوا العلم - قائما بالقسط ) . .

فهي حالة ملازمة للألوهية كما تفيد صياغة العبارة . وهذا إيضاح للقوامة التي وردت في مطلع السورة :

( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . . فهي قوامة بالقسط .

وتدبير الله لهذا الكون ولحياة الناس متلبس دائما بالقسط - وهو العدل - فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس ، ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون ، التي يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دور كل كائن آخر . . لا يتحقق هذا إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس ، وبينه في كتابه . وإلا فلا قسط ولا عدل ، ولا استقامة ولا تناسق ، ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان . وهو الظلم إذن والتصادم والتشتت والضياع !

وها نحن أولاء نرى على مدار التاريخ أن الفترات التي حكم فيها كتاب الله وحدها هي التي ذاق فيها الناس طعم القسط ، واستقامت حياتهم استقامة دورة الفلك - بقدر ما تطيق طبيعة البشر المتميزة بالجنوح إلى الطاعة والجنوح إلى المعصية ، والتأرجح بين هذا وذاك ؛ والقرب من الطاعة كلما قام منهج الله ، وحكم في حياة الناس كتاب الله . وأنه حيثما حكم في حياة الناس منهج آخر من صنع البشر ، لازمه جهل البشر وقصور البشر . كما لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور . ظلم الفرد للجماعة . أو ظلم الجماعة للفرد . أو ظلم طبقة لطبقة . أو ظلم أمة لأمة . أو ظلم جيل لجيل . . وعدل الله وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء . وهو إله جميع العباد . وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .

( لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) . .

يؤكد حقيقة وحدة الألوهية مرة أخرى في الآية الواحدة ، مصحوبة بصفة العزة وصفة الحكمة . والقدرة والحكمة لازمتان كلتاهما للقوامة بالقسط . فالقسط يقوم على وضع الأمور في مواضعها مع القدرة على إنفاذها . وصفات الله سبحانه تصور وتوحي بالفاعلية الإيجابية . فلا سلبية في التصور الإسلامي لله . وهو أكمل تصور وأصدقه لأنه وصف الله لنفسه سبحانه . وقيمة هذه الفاعلية الإيجابية أنها تعلق القلب بالله وإرادته وفعله ، فتصبح العقيدة مؤثرا حيا دافعا لا مجرد تصور فكري بارد !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (18)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

يعني بذلك جل ثناؤه : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وشهدت الملائكة ، وأولو العلم . فالملائكة معطوف بهم على اسم الله ، و«أنه » مفتوحة بشَهِد .

وكان بعض البصريين يتأول قوله شهد الله : قضى الله ، ويرفع «الملائكة » ، بمعنى : والملائكة شهود وأولو العلم . وهكذا قرأت قراء أهل الإسلام بفتح الألف من أنه على ما ذكرت من إعمال «شهد » في «أنه » الأولى وكسر الألف من «إنّ » الثانية وابتدائها ، سوى أن بعض المتأخرين من أهل العربية كان يقرأ ذلك جميعا بفتح ألفيهما ، بمعنى : شهد الله أنه لا إلَه إلا هو ، وأن الدين عند الله الإسلام ، فعطف بأنّ الدين على «أنه » الأولى ، ثم حذف واو العطف وهي مرادة في الكلام . واحتج في ذلك بأن ابن عباس قرأ ذلك : «شَهِدَ اللّهُ إنّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ » . . . الاَية ، ثم قال : { أنّ الدّينَ } بكسر «إن » الأولى وفتح «أنّ » الثانية بإعمال «شهد » فيها ، وجعل «أن » الأولى اعتراضا في الكلام غير عامل فيها «شهد »¹ وأن ابن مسعود قرأ : { شَهِدَ اللّهُ أنّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ } بفتح «أنّ » ، وكسر

«إنّ » من : { إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلامُ } على معنى إعمال الشهادة في «أن » الأولى و«أنّ » الثانية مبتدأة ، فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بالفتح جمع قراءة ابن عباس وابن مسعود . فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك على ما وصفت جميع قراء أهل الإسلام المتقدمين منهم والمتأخرين ، بدعوى تأويل على ابن عباس وابن مسعود زعم أنهما قالاه وقرآ به ، وغير معلوم ما ادعى عليهما برواية صحيحة ، ولا سقيمة . وكفى شاهدا على خطإ قراءته خروجها من قراءة أهل الإسلام . فالصواب إذ كان الأمر على ما وصفنا من قراءة ذلك فتح الألف من «أنه » الأولى ، وكسر الألف من «إنّ » الثانية ، أعني من قوله : { إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلام } ابتداء .

وقد رُوي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدّال على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية في فتح

«أن » من قوله : { أنّ الدّينَ } وهو ما :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : { شَهِدَ اللّهُ أنّهُ لاَ إلَهَ إلاّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ } إلى : { لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } فإن الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس أن الدين عند الله الإسلام .

فهذا التأويل يدل على أن الشهادة إنما هي عامة في «أن » الثانية التي في قوله : { أنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإسْلام } فعلى هذا التأويل جائز في «أن » الأولى وجهان من التأويل : أحدهما أن تكون الأولى منصوبة على وجه الشرط ، بمعنى : شهد الله بأنه واحد ، فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية ، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم ، والشهادة عاملة في «أنّ » الثانية ، كأنك قلت : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، لأنه واحد ، ثم تقدم «لأنه واحد » فتفتحها على ذلك التأويل .

والوجه الثاني : أن تكون «إن » الأولى مكسورة بمعنى الابتداء لأنها معترض بها ، والشهادة واقعة على «أن » الثانية ، فيكون معنى الكلام : شهد الله فإنه لا إلَه إلا هو والملائكة ، أن الدين عند الله الإسلام ، كقول القائل : أشهد فإني محق أنك مما تعاب به بريء ، ف«إنّ » الأولى مكسورة لأنها معترضة ، والشهادة واقعة على «أن » الثانية .

وأما قوله : { قائما بالقِسطِ } فإنه بمعنى أنه الذي يلي العدل بين خلقه . والقسط : هو العدل ، من قولهم : هو مقسط ، وقد أقسط ، إذا عدل ، ونصب «قائما » على القطع .

وكان بعض نحويي أهل البصرة يزعم أنه حال من «هو » التي في «لا إلَه إلا هو » .

وكان بعض نحويي الكوفة يزعم أنه حال من اسم الله الذي مع قوله : { شَهِدَ اللّهُ } فكان معناه : شهد الله القائم بالقسط أنه لا إلَه إلا هو . وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود كذلك : «وأولُو العِلْمِ القَائِمُ بالقِسْطِ » ، ثم حذفت الألف واللام من القائم فصار نكرة وهو نعت لمعرفة ، فنصب .

وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي قول من جعله قطعا على أنه من نعت الله جل ثناؤه ، لأن الملائكة وأولي العلم معطوفون عليه ، فكذلك الصحيح أن يكون قوله «قائما » حالاً منه .

وأما تأويل قوله : { لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } فإنه نفى أن يكون شيء يستحق العبودية غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه . ويعني بالعزيز : الذي لا يمتنع عليه شيء أراده ، ولا ينتصر منه أحد عاقبة أو انتقم منه ، الحكيم في تدبيره ، فلا يدخله خلل .

وإنما عنى جل ثناؤه بهذه الاَية نفي ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من البنوة ، وما نسب إليه سائر أهل الشرك من أن له شريكا ، واتخاذهم دونه أربابا . فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالق كل ما سواه ، وأنه رب كل ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربا دونه ، وأن ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهل العلم به من خلقه . فبدأ جل ثناؤه بنفسه تعظيما لنفسه ، وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إليها ، كما سن لعباده أن يبدءوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره ، مؤدبا خلقه بذلك .

والمراد من الكلام : الخبر عن شهادة من ارتضاهم من خلقه فقدموه من ملائكته وعلماء عباده ، فأعلمهم أن ملائكته التي يعظمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدها الكثير منهم وأهلَ العلم منهم منكرون ما هم عليه مقيمون من كفرهم ، وقولهم في عيسى وقول من اتخذ ربا غيره من سائر الخلق ، فقال شهدت الملائكة وأولو العلم أنه لا إلَه إلا هو ، وأن كل من اتخذ ربا دون الله فهو كاذب¹ احتجاجا منه لنبيه عليه الصلاة والسلام على الذين حاجوه من وفد نجران في عيسى ، واعترض بذكر الله وصفته على ما نبينه ، كما قال جل ثناؤه : { وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنّ لِلّهِ خُمُسَهُ } افتتاحا باسمه الكلام ، فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادة بما وصفنا من نفي الألوهة من غيره وتكذيب أهل الشرك به . فأما ما قال الذي وصفنا قوله من أنه عَنَى بقوله شهد : قضى ، فمما لا يعرف في لغة العرب ولا العجم ، لأن الشهادة معنى ، والقضاء غيرها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي عن بعض المتقدمين القول في ذلك .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { شَهِدَ اللّهُ أنّهُ لاَ إلَهَ إلاّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ } بخلاف ما قالوا ، يعني : بخلاف ما قال وفد نجران من النصارى ، { قائما بالْقِسْطِ } أي بالعدل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { بالقِسْطِ } بالعدل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (18)

أصل { شهد } في كلام العرب حضر ، ومنه قوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }{[3028]} ثم صرفت الكلمة حتى قيل في أداء ما تقرر علمه في النفس بأي وجه تقرر من حضور أو غيره : شهد يشهد فمعنى { شهد الله } أعلم عباده بهذا الأمر الحق وبينه ، وقال أبو عبيدة : { شهد الله } معناه ، قضى الله وهذا مردود من جهات ، وقرأ جميع القراء : { أنه لا إله } بفتح الألف من { أنه } وبكسرها من قوله : { إن الدين } [ آل عمران : 19 ] واستئناف الكلام ، وقرأ الكسائي وحده «أن الدين » بفتح الألف ، قال أبو علي : «أن » بدل من { أنه } الأولى ، وإن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو هو ، لأن الإسلام هو التوحيد والعدل ، وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل ، وإن شئت جعلت «إن الدين » بدلاً من القسط لأنه هو في المعنى . ووجه الطبري هذه القراءة ، بأن قدر في الكلام ، واو عطف ثم حذفت وهي مرادة كأنه قال : { وإن الدين } [ آل عمران : 19 ] وهذا ضعيف ، وقرأ عبد الله بن العباس : «إنه لا إله إلا هو » بكسر الألف من «إنه » ، وقرأ «أن الدين » بفتح الألف ، فأعمل { شهد } في «أن الدين » وجاء قوله : «إنه لا إله إلا هو » اعتراضاً جميلاً في نفس الكلام المتصل . وتأول السدي الآية على نحو قراءة ابن عباس فقال : الله وملائكته والعلماء يشهدون : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وقرأ أبو المهلب{[3029]} عم محارب بن دثار{[3030]} ، «شهداء الله » على وزن فعلاء ، وبالإضافة إلى المكتوبة ، قال أبو الفتح{[3031]} ، هو نصب على الحال من الضمير في { المستغفرين } [ آل عمران : 17 ] وهو جمع شهيد أو جمع شاهد كعالم وعلماء ، وروي عن أبي المهلب هذا أنه قرأ «شهدُ الله » برفع الشهداء ، وروي عنه أنه قرأ «شُهُد الله » على وزن - فُعُل- بضم الفاء والعين ونصب شهداء على الحال ، وحكى النقاش أنه قرىء «شُهُد الله » بضم الشين والهاء ، والإضافة إلى المكتوبة قال : فمنهم من نصب الدال ومنهم من رفعها ، وأصوب هذه القراءات قراءة الجمهور ، وإيقاع الشهادة على التوحيد ، و { الملائكة وأولو العلم } عطف على اسم الله تعالى ، وعلى بعض ما ذكرناه من القراءات يجيء قوله : { والملائكة وأولو العلم }ابتداء وخبره مقدر ، كأنه قال : { والملائكة وأولو العلم } يشهدون و { قائماً } نصب على الحال من اسمه تعالى في قوله : { شهد الله } أو من قوله { إلا هو } وقرأ ابن مسعود «القائم بالقسط » والقسط العدل .


[3028]:- من الآية (185) من سورة البقرة.
[3029]:- لم أجد في من يكنون بهذه الكنية من يعد عما لمحارب، وسقطت لفظة "عم" من المحتسب 1/155 فأصبح: "أبو المهلب محارب بن دثار".
[3030]:- محارب بن دثار السدوسي الكوفي، كان قاضيا بالكوفة، روى عن ابن عمر وعبد الله بن يزيد النخعي وغيرهما، وعنه عطاء بن السائب، وأبو إسحاق الشيباني والأعمش وغيرهم، تابعي ثقة (تهذيب التهذيب 1/ 49).
[3031]:- انظر المحتسب 1/ 155-156، وقوله قبل ذلك (إلى المكتوبة) يريد بالمكتوبة لفظ الجلالة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (18)

استئناف وتمهيد لقوله : { إن الدين عند اللَّه الإسلام } [ آل عمران : 19 ] ذلك أنّ أساس الإسلام هو توحيد الله ، وإعلان هذا التوحيد ، وتخليصه من شوائب الإشراك ، وفيه تعريض بالمشركين وبالنصارى واليهود ، وإن تفاوَتوا في مراتب الإشراك ، وفيه ضرب من ردّ العجز على الصدر : لأنّه يؤكد ما افتتحت به السورة من قوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، نزل عليك الكتاب بالحق } ( آل عمران : 2 ، 3 ) .

والشهادة حقيقتها خبر يصدَّق به خَبَرُ مُخْبِرٍ وقد يكذّب به خبرُ آخرَ كما تقدم عند قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } في سورة البقرة ( 282 ) . وإذ قد كان شأنه أن يكون للتصديق والتكذيب في الحقوق ، كان مظنّة اهتمام المخبِر به والتثبّتِ فيه ، فلذلك أطلق مجازاً على الخبر الذي لا ينبغي أن يشكّ فيه قال تعالى : { واللَّه يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] وذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة التلازم ، فشهادة اللَّه تحقيقُه وحدانيتَه بالدلائل التي نصبها على ذلك ، وشهادةُ الملائكة تحقيقهم ذلك فيما بينهم ، وتبليغ بعضهم ذلك إلى الرسل ، وشهادة أولي العلم تحقيقهم ذلك بالحجج والأدلة .

فإطلاق الشهادة على هذه الأخبار مجاز بعلاقة اللزوم ، أو تشبيه الإخبار بالإخبار أو المخبِر بالمخبِر ، ولك أن تجعل « شهد » بمعنى بيَّن وأقام الأدلة ، شُبه إقامة الأدلة على وحدانيته : من إيجاد المخلوقات ونصب الأدلة العقلية ، بشهادة الشاهد بتصديق الدعوى في البيان والكشف على طريق الاستعارة التَبعية ، وبَيّن ذلك الملائكة بما نَزَلوا به من الوحي على الرسل ، وما نطقوا به من محامد ، وبيَّن ذلك أولو العلم بما أقاموا من الحجج على الملاحدة ، ولك أن تجعل شهادة الله بمعنى الدلالة ونصب الأدلة ، وشهادة الملائكة وأولي العلم بمعنى آخر وهو الإقرار أو بمعنيين : إقرار الملائكة ، واحتجاج أولي العلم ، ثم تِبْنيَه على استعمال شهد في معانٍ مجازية ، مثل : { إنّ الله وملائكته يصلّون } [ الأحزاب : 56 ] ، أو على استعمال شهد في مجاز أعم ، وهو الإظهار ، حتى يكون نصب الأدلة والإقرار والاحتجاج من أفراد ذلك العام ، بناء على عموم المجاز .

وانتصب { قائماً بالقسط } على الحال من الضمير في قوله : { إلاّ هو } أي شهد بوحدانيته وقيامِه بالعدل ، ويجوز أن يكون حالاً من اسم الجلالة من قوله : { شهد الله } فيكون حالاً مؤكدة لمضمون شهد ؛ لأنّ الشهادة هذه قيام بالقسط ، فالشاهد بها قائم بالقسط ، قال تعالى : { كونوا قوامين للَّه شهداء بالقسط } [ المائدة : 8 ] . وزعم ابن هشام في الباب الرابع : أنّ كونه حالاً مؤكدة وهَم ، وعلّله بما هو وهَم . وقد ذكر الشيخ محمد الرصاع جريان بحث في إعرَاب مثل هذه الحال من سورة الصف في درس شيخه محمد ابن عقاب .

والقيام هنا بمعنى المواظبة كقوله : { أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت } [ الرعد : 33 ] وقوله :

{ ليقوم الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] وتقول : الأمير قائم بمصالح الأمة ، كما تقول : ساهر عليها ، ومنه « إقام الصلاة » وقول أيمن بن خُريم الأنصاري :

أقامتْ غَزالةُ سُوقَ الضِّراب *** لأِهْل العِراقَيْننِ حَوْلاً قميطاً

وهو في الجميع تمثيل .

والقسط : العدل وهو مختصر من القسطاس بضم القاف روى البخاري عن مجاهد أنّه قال : القسطاس : العدل بالرومية وهذه الكلمة ثابتة في اللغات الرومية وهي من اللاطينية ، ويطلق القسط والقسطاس على الميزان ، لأنّه آلة للعدل قال تعالى : { وزنوا بالقسطاس المستقيم } [ الإسراء : 35 ] وقال : { ونضع الموازين القِسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] . وقد أقام الله القسط في تكوين العوالم على نُظُمها ، وفي تقدير بقاء الأنواع ، وإيداع أسباب المدافعة في نفوس الموجودات ، وفيما شرع للبشر من الشرائع في الاعتقاد والعمل : لدفع ظلم بعضهم بعضاً ، وظلمِهم أنفسَهم ، فهو القائم بالعدل سبحانه ، وعَدْل الناس مقتبس من محاكاة عدله .

وقوله : { لا إله إلا هو } تمجيد وتصديق ، نشأ عن شهادة الموجودات كلّها له بذلك فهو تلقينُ الإقرار له بذلك على نحو قوله تعالى : { إن الله وملائكته يصلّون على النبي يأيها الذين ءامنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً } [ الأحزاب : 56 ] أي اقتداء بالله وملائكته ، على أنّه يفيد مع ذلك تأكيد الجملة السابقة ، ويمهّد لوصفه تعالى بالعزيز الحكيم .