التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ} (8)

وقوله - سبحانه - { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً . . . } لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، ولاستنكار ان يكون لهم عهد حقيق بالمرعاة ، وبيان لما يكون عليه أمرهم عند ظهورهم على المؤمنين .

وفائدة هذا التكرار للفظ { كَيْفَ } : التأكيد والتمهيد لتعداد الأسباب التي تدعو المؤمنين إلى مجاهدتهم والإِغلاظ عليهم ، والحذر منهم .

قال الآلوسى : وحذف الفعل كيف هنا لكونه معلوماً من الآية السابقة ، وللإِيذان بأن النفس مستضحرة له ، مترقبة لورود ما يوجب استنكاره .

وقد كثر الحذف للفعل المستفهم عنه مع كيف ويدل عليه بجملة حالية بعده . ومن ذلك قول كعب الغنوى يرثى أخاه أبا المغوار :

وخبرتمانى أنما الموت بالقرى . . . فيكف وماتا هضبة وقليب

يريد فكيف مات والحال ما ذكر .

والمراد هنا : كيف يكون لهم عهد معتد به عند الله وعند رسوله وحالهم أنهم { وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } .

وقوله : { يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } يظفروا بكم ويغلبوكم . يقال : ظهرت على فلان أى : غلبته ومنه قوله - تعالى - { فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } أى : غالبين .

وقوله : { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ } أى : لا يراعوا في شأنكم . يقال : رقب فلان الشئ يرقبه إذا رعاه وحفظه . . ورقيب القوم حارسهم .

والإِل : يطلق على العهد ، وعلى القرابة ، وعلى الحلق .

قال ابن جرير - بعد أن ساق أوالا في معنى الإِل - وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : والإِل : اسم يشتمل على معان ثلاثة : وهى العهد والعقد ، والحلف ، والقرابة . . ومن ادلالة على أنه يكون بمعنى القرابة قول ابن مقبل :

أفسد الناس خلوف خلفوا . . . قطعوا الإِل وأعراق الرحم

أى قطعوا القرابة .

ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى العهد قول القائل :

وجدناهم كاذبا إلهم . . . وذو الإِل والعهد لا يكذب

وإذا كان الكلمة تشمل هذه المعانى الثلاثة ، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى ، فالصواب أن يعم ذلك كما عم بها - جل ثناؤه - معانيها الثلاثة . .

والذمة : كل أمر لزمك بحيث إذا ضيعته لزمك مذمة أو هي ما يتذمم به أى يجتنب فيه الذم .

والمعنى : بأية صفة أو بأية كيفية يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، والحال المعهود منهم أن إن يظفروا بكم ويغلبوكم ، لا يراعوا في أمركم لا عهدا ولا حلفا ولا قرابة ولا حقا من الحقوق .

وقوله - تعالى - { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } زيادة بيان للأحال القبيحة الملازمة لهؤلاء المشركين .

أى : أن هؤلاء المشركين إن غلبوكم - أيها المؤمنون - فلعوا بكم الأفاعيل ، وتفتنوا في إيذاكم من غير أن يقيموا وزنا لما بينكم وبينهم من عهود وموايثق ، وقرابات وصلات . . أما إذا كانت الغلبة لكم فإنهم في هذه الحالة { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ } أى : يعطونكم من ألسنتهم كلاما معسولا إرضاء لكم ، وهم في الوقت نفسه { وتأبى قُلُوبُهُمْ } المملوءة حقدا عليكم وبغضا لكم تصديق ألسنتهم ، فهم كما وصفهم - سبحانه - في آية أخرى : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } وقوله : { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } أى : خارجون عن حدود الحق ، منفصلون عن كل فضيلة ومكرمة ، إذ الفسق هو الخروج والانفصال . يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها وفسق فلان إذا خرج عن حدود الشرع .

وإنما وصف أكرهم بالفسوق ، لأن هؤلاء الاكثرين منهم ، هم الناقضون لعهودهم ، الخارجون على حدود ربهم ، أما الأقلون منهم فهم الذين وفوا بعهودهم ، ولم ينقصوا المؤمنين شيئا ، ولم يظاهروا عليهم أحدا .

وبذلك نرى أن الاية الكريمة قد وصفت هؤلاء المشركين وصفا في نهاية الذم والقبح ، لأنهم إن كانوا أقوياء فجروا واسرفوا في الإِيذاء ، نابذين كل عهد وقراءة وعرف . . أما إذا شعروا بالضعف فإنهم يقدمون للمؤمنين الكلام اللين الذي تنطق به ألسنتهم ، وتأباه قلوبهم الحاقدة الغادرة .

أى أن الغدر ملازم لهم في حالتى قوتهم وضعفهم ، لأنهم في حالة قوتهم { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } . وفى حالة ضعفهم يخادعون ويداهون حتى تحين لهم الفرصة للانقضاض على المؤمنين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ} (8)

ثم يعود لاستنكار مبدأ التعاهد بأسبابه التاريخية والواقعية ؛ بعد استنكاره بأسبابه العقيدية والإيمانية ؛ ويجمع بين هذه وتلك في الآيات التالية :

( كيف ? وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ، اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون ) . .

كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، وهم لا يعاهدونكم إلا في حال عجزهم عن التغلب عليكم . ولو ظهروا عليكم وغلبوكم لفعلوا بكم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد قائم بينهم وبينكم ، وفي غير ذمة يرعونها لكم ؛ أو في غير تحرج ولا تذمم من فعل يأتونه معكم ! فهم لا يرعون عهدا ، ولا يقفون كذلك عند حد في التنكيل بكم ؛ ولا حتى الحدود المتعارف عليها في البيئة والتي يذمون لو تجاوزوها . فهم لشدة ما يكنونه لكم من البغضاء يتجاوزون كل حد في التنكيل بكم ، لو أنهم قدروا عليكم . مهما يكن بينكم وبينهم من عهود قائمة . فليس الذي يمنعهم من أي فعل شائن معكم أن تكون بينكم وبينهم عهود ؛ إنما يمنعهم أنهم لا يقدرون عليكم ولا يغلبونكم ! . . وإذا كانوا اليوم - وأنتم أقوياء - يرضونكم بأفواههم بالقول اللين والتظاهر بالوفاء بالعهد . فإن قلوبهم تنغل عليكم بالحقد ؛ وتأبى أن تقيم على العهد ؛ فما بهم من وفاء لكم ولا ود !

( وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله . إنهم ساء ما كانوا يعملون ) .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ} (8)

القول في تأويل قوله تعالى : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىَ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم أو لمن لا عهد له منهم منكم أيها المؤمنون عهد وذمة ، وهم إن يظهروا عليكم يغلبوكم ، لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمة . واكتفى ب «كيف » دليلاً على معنى الكلام ، لتقدم ما يراد من المعنى بها قبلها وكذلك تفعل العرب إذا أعادت الحرف بعد مضي معناه استجازوا حذف الفعل ، كما قال الشاعر :

وخَبّرْتُمَانِي أنّمَا المَوْتُ فِي القُرَى *** فَكَيْفَ وَهَذِي هَضْبَةٌ وكَثِيبُ

فحذف الفعل بعد كيف لتقدم ما يراد بعدها قبلها .

ومعنى الكلام : فكيف يكون الموت في القرى وهذي هضبة وكثيب لا ينجو فيهما منه أحد .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاّ وَلا ذمّةً فقال بعضهم : معناه : لا يراقبوا الله فيكم ولا عهدا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ قال الله .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان ، عن أبي مجلز ، في قوله : لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلا ذِمّةً قال : مثل قوله جبرائيل ميكائيل إسرافيل ، كأته يقال : يضاف «جبر » و «ميكا » و «إسراف » إلى «إيل » ، يقول : عبد الله لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ كأنه يقول : لا يرقبون الله .

حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثني محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ وَلا ذِمّةً لا يرقبون الله ولا غيره .

وقال آخرون : الإلّ : القرابة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلا ذِمّةً يقول : قرابة ولا عهدا . وقوله : وإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاّ وَلا ذِمّةً قال : الإلّ : يعني القرابة ، والذمة : العهد .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : لاَ يَرْقَبُوا إلاّ وَلا ذِمّةً الإلّ : القرابة ، والذمة : العهد . يعني : أهل العهد من المشركين ، يقول : ذمتهم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، وعبدة عن حوشب ، عن الضحاك : الإلّ : القرابة .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله ، عن سلمة بن كهيل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلاَ ذِمّةً قال : الإلّ : القرابة ، والذمة : العهد .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلاَ ذِمّةً الإلّ : القرابة ، والذمة : الميثاق .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : كَيْفَ وَإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ المشركون ، لا يرقبوا فيكم عهدا ولا قرابة ولا ميثاقا .

وقال آخرون : معناه : الحلف . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لاَ يَرْقَبُوا فِيكُمْ إلاّ ولاَ ذِمّةً قال : الإلّ : الحلف ، والذمة : العهد .

وقال آخرون : الإلّ : هو العهد ولكنه كرّر لما اختلف اللفظان وإن كان معناهما واحدا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ قال : عهدا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لاَ يَرْقُبُوا فِيْكُمْ إلاّ وَلاَ ذِمّةً قال : لا يرقبوا فيكم عهدا ولا ذمة . قال : إحداهما من صاحبتها كهيئة «غفور رحيم » ، قال : فالكلمة واحدة وهي تفترق ، قال : والعهد هو الذمة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن خصيف ، عن مجاهد : وَلا ذِمّةً قال : العهد .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن خصيف ، عن مجاهد : وَلاَ ذِمّةً قال : الذمة العهد .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المشركين الذين أمر نبيه والمؤمنين بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم وحصرهم والقعود لهم على كلّ موصد أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم إلاّ ، والإلّ : اسم يشتمل على معان ثلاثة : وهي العهد والعقد ، والحلف ، والقرابة ، وهو أيضا بمعنى الله . فإذ كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة ، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى ، فالصواب أن يعمّ ذلك كما عمّ بها جلّ ثناؤه معانيها الثلاثة ، فيقال : لا يرقبون في مؤمن الله ، ولا قرابة ، ولا عهدا ، ولا ميثاقا . ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى القرابة قول ابن مقبل :

أفْسَدَ النّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا *** قَطَعُوا الإلّ وأعْرَاقَ الرّحِيمْ

بمعنى : قطعوا القرابة وقول حسان بن ثابت :

لَعَمْرُكَ إنّ إلّكَ مِنْ قُرَيْشٍ *** كإلّ السّقْبِ مِنْ رَألِ النّعامِ

وأما معناه : إذا كان بمعنى العهد . فقول القائل :

وَجَدْنَاهُمُ كاذِبا إلّهُمْ *** وذُو الإلّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ

وقد زعم بعض من ينسب إلى معرفة كلام العرب من البصريين ، أن الإلّ والعهد والميثاق واليمين واحد ، وأن الذمة في هذا الموضع : التذمم ممن لا عهد له ، والجمع : ذمم . وكان ابن إسحاق يقول : عنى بهذه الآية : أهل العهد العام .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : كَيْفَ وَإنْ يَظهَرُوا عَلَيْكُمْ أي المشركون الذين لا عهد لهم إلى مدة من أهل العهد العام لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاّ وَلاَ ذِمّةً .

وأما قوله : يَرْضُونَكُمْ بأفْوَاهِهِمْ فإنه يقول : يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء . وتَأْبَى قُلُوبُهُمْ : أي تأبى عليهم قلوبهم أن يذعنوا لكم بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم . يحذر جلّ ثناؤه أمرهم المؤمنين ويشحذهم على قتلهم واجتياحهم حيث وجدوا من أرض الله ، وألا يقصروا في مكروههم بكل ما قدروا عليه . وأكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ يقول : وأكثرهم مخالفون عهدكم ناقصون له ، كافرون بربهم خارجون عن طاعته .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ} (8)

بعد { كيف } في هذه الآية فعل مقدر ولا بد ، يدل عليه ما تقدم ، فيحسن أن يقدر كيف يكون لهم عهد ونحوه قول الشاعر : [ الطويل ]

وخيرتماني إنما الموت في القرى*** فكيف وهاتا هضبة وكثيب{[5524]}

وفي { كيف } هنا تأكيد للاستبعاد الذي في الأولى ، و { لا يرقبوا } معناه لا يراعوا ولا يحافظوا وأصل الارتقاب بالبصر ، ومنه الرقيب في الميسر وغيره ، ثم قيل لكل من حافظ على شيء وراعاه راقبه وارتقبه ، وقرأ جمهور الناس «إلاً » وقرأ عكرمة مولى ابن عباس بياء بعد الهمزة خفيفة اللام «إيلاً » وقرأت فرقة «ألاً » بفتح الهمزة ، فأما من قرأ «إلاً » فيجوز أن يراد به الله عز وجل قاله مجاهد وأبو مجلز ، وهو اسمه بالسريانية ، ومن ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع كلام مسيلمة فقال هذا كلام لم يخرج من إل{[5525]} ، ويجوز أن يراد به العهد والعرب تقول للعهد والخلق والجوار ونحو هذه المعاني إلاً ، ومنه قول أبي جهل : [ الطويل ]

لإل علينا واجب لا نضيعه*** متين فواه غير منتكث الحبل{[5526]}

ويجوز أن يراد به القرابة ، فإن القرابة في لغة العرب يقال له إل ، ومنه قول ابن مقبل : [ الرمل ]

أفسد الناس خلوفٌ خلّفوا*** قطعوا الإل وأعراق الرحم{[5527]}

أنشده أبو عبيدة على القرابة ، وظاهره أنه في العهود ، ومنه قول حسان [ الوافر ]

لعمرك أن إلَّك في قريش*** كإل السقب من رأل النعام{[5528]}

وأما من قرأ «ألاً » بفتح الهمزة فهو مصدر من فعل للإل الذي هو العهد ، ومن قرأ «إيلاً » فيجوز أن يراد به الله عز وجل ، فإنه يقال أل وأيل ، وفي البخاري قال الله : جبر ، وميك ، وسراف : عبد بالسريانية ، وإيل : الله عز وجل{[5529]} ، ويجوز أن يريد { إلاً } المتقدم فأبدل من أحد المثلين ياء كما فعلوا ذلك في قولهم أما وأيما ، ومنه قول سعد بن قرط يهجو أمه : [ البسيط ]

يا ليت أمنا شالت نعامتها*** أيما إلى جنة أيما إلى نار{[5530]}

ومنه قول عمر بن أبي ربيعة : [ الطويل ]

رأت رجلاً أيما إذا الشمس عارضت*** فيضحي وأما بالعشي فيخصر{[5531]}

وقال آخر : [ الرجز ]

لا تفسدوا آبا لكم*** أيما لنا أيما لكم{[5532]}

قال أبو الفتح ويجوز أن يكون مأخوذاً من آل يؤول إذا ساس{[5533]} .

قال القاضي أبو محمد : كما قال عمر بن الخطاب : قد ألنا وإيل علينا ، فكان المعنى على هذا : لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة ، وقلبت الواو ياء لسكونها والكسرة قبلها . والذمة «أيضاً بمعنى المتاب والحلف والجوار ، ونحوه قول الأصمعي : الذمة كل ما يجب أن يحفظ ويحمى{[5534]} ، ومن رأى الإل أنه العهد جعلها لفظتين مختلفتين لمعنى واحد أو متقارب ، ومن رأى الإل لغير ذلك فهما لفظان لمعنيين ، { وتأبى قلوبهم } معناه تأبى أن تذعن لما يقولونه بالألسنة ، وأبى يأبى شاذ لا يحفظ فعل يفعل بفتح العين في الماضي والمستقبل ، وقد حكي ركن يركن ، وقوله { وأكثرهم } يريد به الكل أو يريد استثناء من قضى له بالإيمان كل ذلك محتمل .


[5524]:- هذا البيت لكعب بن سعيد الغنوي (مجموع أشعار العرب -14) من قصيدة له يرثي أخا له، ورواية البيت فيه: وحدثتماني أنما الموت في القرى فكيف وهاتا روضة وقليب؟ والتقدير: فكيف مات؟ والبيت في شواهد سيبويه وفي جمهرة أشعار العرب: "هضبة وقليب"، قال الشنتمري: أراد بالقليب القبر، وأصله البئر، كأن الشاعر حذّر من وباء الأمصار وهي القُرى فخرج إلى البادية فرأى قبرا فعلم أنه لا نجاة من الموت فقال هذا ينكر على من حذّره من الإقامة في القرى. هذا وقد جاء حذف الفعل بعد (كيف) لدلالة المعنى عليه في قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد}؟.
[5525]:- قال الزهري: الإلّ: اسم الله بالعبرانية، وأصله من الأليل وهو البريق، وقال السهيلي في "الروض": حذار أن تقول هو اسم الله تعالى فتسمي الله باسم لم يسمّ به نفسه لأنه نكرة، ونفى ذلك أيضا صاحب اللسان لأنه لم يسمع. وأصل الإل في اللغة: التحديد، ومنه الألّة للحربة، ومنه أذن مؤللة أي محددة، ومنه ول طرفة بن العبد يصف أذني ناقته بالحدّة والانتصاب: مؤلّلتان يعرف العتق فيهما كسامعتي شاة بحومل مفرد أي هما مثل أذني ثور وحشي مفرد في هذه الرملة المعروفة بحومل.
[5526]:- نكَثَ الحبل: نقضه، وانتكث الحبل: انتقض أي تفكك وتفرقت خيوطه. والإلّ في البيت بمعنى: العهد والحِلف والجوار كما ذكر ابن عطية.
[5527]:- الخُلُوف: جمع خلف بسكون اللام، وهم الذين يخلفون غيرهم في ديارهم خيارا كانوا أو شرارا، وقيل: هو خاص بالأشرار، يقال: هؤلاء خلف سوء وهم الأخساء الأراذل، والإلّ في البيت: القرابة على ما قال أبو عبيدة، وإن كان المعنى ينسجم مع العهد كما قال ابن عطية رحمه الله، والأعراق: جمع عرق وهو أصل الشيء.
[5528]:- استشهد صاحب اللسان بالبيت على أن (الإلّ) بمعنى القرابة، ونسبه أيضا لحسان ابن ثابت، والسقب: ولد الناقة، والرّأل: ولد النعام. يقول: إن قرابتك من قريش مثل قرابة ولد الناقة لولد النعام.
[5529]:- معنى ذلك أن هذه الأسماء تحمل معنى العبودية لله، فهي كلها بمعنى "عبد الله".
[5530]:-نسب إلى البيت إلى سعد بن قرط، أو سعد بن قرين، أو معبد بن قرط، وهو فيه يدعو على أمه بالموت وقد كان عاقا لها، والبيت في الخزانة 4/431، وفي شواهد السيوطي 67، وفي مغني اللبيب 85، والنحويون يستشهدون بهذا البيت على أمور منها: فتح الهمزة في (إما)، والإبدال، وأن (إما) الثانية عاطفة عند أكثرهم، قالوا: وزعم يونس، والفارسي، وابن كيسان أنها غير عاطفة كالأولى، ووافقهم ابن مالك لأنها غالبا ما تلازم الواو، ومن غير الغالب جاء هذا البيت.
[5531]:-عارضت: غدت في عرض السماء، ويضحى: يبرز للشمس، ويخصر: يبرد، والبيت كناية عن مواصلة السفر بالنهار وفي العشي، وهو في الديوان، وذكره في الحزانة 4/552.
[5532]:- لم نعثر على قائله، والشاهد فيه إبدال الميم ياء في إما الأولى وإما الثانية.
[5533]:- يقال: أُلْتُ الشيء أولا وإيالا، سُسْتُه، والإيالة: السياسة، وآل عليهم أولا وإيالا وإيالة: ولي، وفي المثل: "قد أُلْنا وإيلَ علينا". نسبه ابن برّي إلى عمر وقال: معناه: سُسْنا وسيس علينا. وقال الشاعر: أبا مالك فانظر فإنك حالب صرى الحرب فانظر أي أول تؤولها (عن اللسان).
[5534]:- قال أبو عبيدة معمر: الذمة: التذمّم، وجمع ذمّة: ذمم، وبئر ذمة (بفتح الذال): قليلة الماء، وجمعها: ذمام، وأهل الذمة: أهل العقد.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ} (8)

{ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة }

و{ كيف } هذه مؤكدة ل { كيف } [ التوبة : 7 ] التي في الآية قبلها ، فهي معترضة بين الجملتين وجملة : { وإن يظهروا عليكم } إلخ يجوز أن تكون جملة حالية ، والواو للحال ويجوز أن يكون معطوفة على جملة { كيف يكون للمشركين عهد } [ التوبة : 7 ] إخباراً عن دخائلهم .

وفي إعادة الاستفهام إشعار بأنّ جملة الحال لها مزيد تعلّق بتوجّه الإنكار على دوام العهد للمشركين ، حتّى كأنّها مستقلّة بالإنكار ، لا مجرّدُ قيد للأمر الذي توجّه إليه الإنكار ابتداء ، فيؤول المعنى الحاصل من هذا النظم إلى إنكار دوام العهد مع المشركين في ذاته ، ابتداء ، لأنّهم ليسوا أهلاً لذلك ، وإلى إنكار دوامه بالخصوص في هذه الحالة . وهي حالة ما يبطنونه من نية الغدر إن ظهروا على المسلمين ، ممّا قامت عليه القرائن والأمارات ، كما فعلت هوازن عقب فتح مكة . فجملة : { وإن يظهروا عليكم } معطوفة على جملة { كيف يكون للمشركين عهد } [ التوبة : 7 ] .

وضمير { يظهروا } عائد إلى المشركين في قوله : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله } [ التوبة : 7 ] ومعنى { وإن يظهروا } إن ينتصروا . وتقدّم بيان هذا الفعل آنفاً عند قوله تعالى : { ولم يظاهروا عليكم أحدا } [ التوبة : 4 ] . والمعنى : لو انتصر المشركون ، بعد ضعفهم ، وبعد أن جرّبوا من العهد معكم أنّه كان سبباً في قوتكم ، لنقضوا العهد . وضمير { عليكم } خطاب للمؤمنين .

ومعنى { لا يرقبوا } لا يوفوا ولا يراعوا ، يقال : رقَب الشيء ، إذا نظر إليه نظر تعهّد ومراعاة ، ومنه سمّي الرقيب ، وسمّي المرْقَبَ مكان الحراسة ، وقد أطلق هنا على المراعاة والوفاء بالعهد ، لأنّ من أبطل العمل بشيء فكأنّه لم يَره وصرف نظره عنه .

والإلّ : الحلف والعهد ؛ ويطلق الإلّ على النسب والقرابة . وقد كانت بين المشركين وبين المسلمين أنساب وقرابات ، فيصحّ أن يراد هنا كلا معنييه .

والذمّة ما يمتّ به من الأواصر من صحبة وخلة وجوار ممّا يجب في المروءة أن يحفظ ويحمى ، يقال : في ذمّتي كذا ، أي ألتزم به وأحفظه .

{ يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون }

استئناف ابتدائي ، أي هم يقولون لكم ما يرضيكم ، كيداً ولو تمكّنوا منكم لم يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمّة . من يسمع كلاماً فيأباه .

والإباية : الامتناع من شيء مطلوب وإسناد الإباية إلى القلوب استعارة ، فقلوبهم لمّا نوت الغدر شبّهت بمن يطلب منه شيء فيأبى .

وجملة : { وأكثرهم فاسقون } في موضع الحال من واو الجماعة في { يرضونكم } مقصود منها الذمّ بأن أكثرهم موصوف ، مع ذلك ، بالخروج عن مهيع المروءة والرُّجلة ، إذ نجد أكثرهم خالعين زمام الحياة ، فجمعوا المذمة الدينية والمذمّة العرفية . فالفسق هنا الخروج عن الكمال العرفي بين الناس ، وليس المراد الخروج عن مهيع الدين لأنّ ذلك وصف لجميعهم لا لأكثرهم ، ولأنّه قد عرف من وصفهم بالكفر .