التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِنَّ كُلّٗا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ رَبُّكَ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ إِنَّهُۥ بِمَا يَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (111)

ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المختلفين فى شأن الكتاب ، الشاكين فى صدقه ، سوف يجمعهم الله - تعالى - مع غيرهم يوم القيامة للجزاء والحساب على أعمالهم فقال - تعالى - { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

وقد وردت فى هذه الآية الكريمة عدة قراءات متوارتة منها : قراءة ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بتشديد ، إن ولما ، وقد قيل فى تخريجها :

إن لفظ { كلا } اسم { إن } والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه ، واللام فى ، { لما } هى الداخلة فى خبر { إن } وما بعد اللام هو حرف " من " الذى هو من حروف الجر ، و " ما " موصولة أو نكره موصوفة والمراد بها من يعقل ، فيحكون تقدير الكلام : وإن كلا " لمن ما " فقلبت النون ميما للإِدغام فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت واحدة منها للتخفيف ، فصارت " لما " والجار والمجرور خبر " إن " ، واللام فى { ليوفينهم } ، جواب قسم مضمر ، والجملة صلة أو صفة { لما } .

والتقدير : وإن كلا من أولئك المختلفين وغيرهم لمن خلق الله الذين هم بحق ربك ليوفينهم - سبحانه - جزاء أعمالهم بدون أن يلفت منهم أحد ، إنه - سبحانه - لا يخفى عليه شئ منها .

وفى الآية الكريمة توكيدات متنوعة ، حتى لا يشك فى نزول العذاب بالظالمين مهما تأجل ، وحتى لا يشك أحد - أيضا - فى أن ما عليه المشركون هو الباطل الذى لا يعرفه الحق ، وأنه الكفر الذى تلقاه الخلف عن السلف .

وكان مقتضى حال الدعوة الإِسلامية فى تلكالفترة التى نزلت فيها هذه السورة - وهى فترة ما بعد حادث الإِسراء والمعراج وقبل الهجرة - يستلزم هذه التأكيدات تثبيتا لقلوب المؤمنين ، وتوهينا للشرك والمشركين .

قال الإِمام الفخر الرازى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : سمعت بعض الأفاضل قال : إنه - تعالى - لما أخبر عن توفية الأجيزة على المستحقين فى هذه الآية ، ذكر فيها سبعة أنواع من التأكيدات :

أولها : كلمة " إن " وهى للتأكيد ، وثانيها كلمة " كل " وهى أيضا للتأكيد ، وثالثها : اللام الداخلة على خبر " إن " وهى تفيد التأكيد - أيضا - ، ورابعها حرف " ما " إذا جعلناه على قول الفراء موصولا ، وخامسها : القسم المضمر فإن تقدير الكلام : وإن جميعهم والله ليوفينهم : وسادسها : اللام الثانية الداخلة على جواب القسم ، وسابعها : النون المؤكدة فى قوله " ليوفينهم " .

فجميع هذه المؤكدات السبتعة تدل على أن أمر القيامة والحساب والجزاء حق . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِنَّ كُلّٗا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ رَبُّكَ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ إِنَّهُۥ بِمَا يَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (111)

100

( وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم . إنه بما يعملون خبير ) وفي التعبير توكيدات منوعة حتى لا يشك أحد في الجزاء والوفاء من جراء الإنظار والتأجيل . وحتى لا يشك أحد في أن ما عليه القوم هو الباطل الذي لا شك في بطلانه ، وأنه الشرك الذي زاوله من قبل كل المشركين .

ولقد كان لهذه التوكيدات ما يقتضيها من واقع الحركة في تلك الفترة . فقد وقف المشركون وقفتهم العنيدة منها ومن رسول الله [ ص ] والقلة المؤمنة معه ، وتجمدت الدعوة على وجه التقريب . بينما عذاب الله الموعود مؤجل لم يقع بعد . والأذى ينزل بالعصبة المؤمنة ويمضي أعداؤها ناجين ! . . إنها فترة تهتزفيها بعض القلوب . وحتى القلوب الثابتة تنالها الوحشة ، وتحتاج إلى مثل هذه التسرية وإلى مثل هذا التثبيت .

وتثبيت القلوب المؤمنة لا يكون بشيء كما يكون بتوكيد أن أعداءها هم أعداء الله ، وأنهم على الباطل الذي لا شك فيه !

كذلك لا يكون تثبيت القلوب المؤمنة بشيء كما يكون بجلاء حكمة الله في إمهال الظالمين ، وإرجاء الطغاة إلى يوم معلوم ، ينالون فيه جزاءهم ولا يفلتون !

وهكذا نلمح مقتضيات الحركة بهذه العقيدة في النصوص القرآنية ، ونرى كيف يخوض القرآن المعركة بالجماعة المسلمة ، وكيف يكشف لها معالم الطريق !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِنَّ كُلّٗا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ رَبُّكَ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ إِنَّهُۥ بِمَا يَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (111)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّ كُلاّ لّمّا لَيُوَفّيَنّهُمْ رَبّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

اختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة من قرأة أهل المدينة والكوفة : وَإنّ مشددة كُلاّ لمّا مشدّدة .

واختلفت أهل العربية في معنى ذلك ؛ فقال بعض نحويي الكوفيين : معناه إذا قرىء كذلك : وإن كلاّ لمما ليوفيهم ربك أعمالهم ، ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة ، فبقيت ثنتان ، فأدغمت واحدة في الأخرى ، كما قال الشاعر :

وإنّي لَمّا أُصْدِرُ الأمْرَ وَجْهَهُ *** إذَا هُوَ أعْيا بالنّبِيل مَصَادِرُه

ثم تخفف ، كما قرأ بعض القرأة : { والبَغْي يَعِظُكُمْ } ، يخفف الياء مع الياء ، وذكر أن الكسائي أنشده :

وأشْمَتّ العُدَاةَ بِنَا فَأضْحَوا *** لَدَيْ يَتَباشَرُونَ بِمَا لَقَيْنَا

وقال : يريد : لديّ يتباشرون بما لقينا ، فحذف «ياء » لحركتهن واجتماعهن ، قال : ومثله :

كأنَّ مِنْ آخرَها إلقادِم *** مَخْرِمُ نَجْدٍ فارعِ المَخارِمِ

وقال : أراد : إلى القادم ، فحذف اللام عند اللام .

وقال آخرون : معنى ذلك إذا قرىء كذلك : وإنّ كُلاّ شديدا وحقّا ليوفيهم ربك أعمالهم . قال : وإنما يراد إذا قرىء ذلك كذلك : وإنّ كُلاّ لَمّا بالتشديد والتنوين ، ولكن قارىء ذلك كذلك حذف منه التنوين ، فأخرجه على لفظ : «فَعْلَى » ، لما كما فعل ذلك في قوله : { ثُمّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرَى } ، فقرأ «تترى » بعضهم بالتنوين ، كما قرأ من قرأ : «لَمّا » بالتنوين ، وقرأ آخرون بغير تنوين ، كما قرأ لَمّا بغير تنوين من قرأه ، وقالوا : أصله من اللمّ ، من قول الله تعالى : { وتَأْكُلُونَ التّراثَ أكْلاً لَمّا } ، يعني : أكلاً شديدا .

وقال آخرون : معنى ذلك إذا قرىء كذلك : وإن كلاّ إلا ليوفيهم ، كما يقول القائل : لقد قمت عنا ، وبالله إلا قمت عنا . ووجدت عامة أهل العلم بالعربية ينكرون هذا القول ، ويأبون أن يكون جائزا توجيه «لما » إلى معنى «إلا » في اليمين خاصة ، وقالوا : لو جاز أن يكون ذلك بمعنى إلا ، جاز أن يقال : قام القوم لما أخاك ، بمعنى : إلا أخاك ، ودخولها في كل موضع صلح دخول إلا فيه . وأنا أرى أن ذلك فاسد من وجه هو أبين مما قاله الذين حكينا قولهم من أهل العربية إنّ في فساده ، وهو أنّ «إنّ » إثبات للشيء وتحقيق له ، و «إلا » أيضا تحقيق أيضا ، وإنما تدخل نقضا لجحد قد تقدمها . فإذا كان ذلك معناها : فواجب أن تكون عند متأوّلها التأويل الذي ذكرنا عنه ، أن تكون بمعنى الجحد عنده ، حتى تكون إلا نقضا لها . وذلك إن قاله قائل ، قولٌ لا يخفى جهل قائله ، اللهمّ إلا أن يخفف قارىء «إنّ » ، فيجعلها بمعنى : «إن » التي تكون بمعنى الجحد . وإن فعل ذلك فسدت قراءته ذلك كذلك أيضا من وجه آخر ، وهو أنه يصير حينئد ناصبا ل «كلّ » ، بقوله : ليوفيهم ، وليس في العربية أن ينصب ما بعد «إلا » من الفعل الاسم الذي قبلها ، لا تقول العرب : ما زيدا إلا ضربت ، فيفسد ذلك إذا قرىء كذلك من هذا الوجه إلا أن يرفع رافع الكلّ ، فيخالف بقراءته ذلك كذلك قراءة القرأة وخطّ مصاحف المسلمين ، ولا يخرج بذلك من العيب بخروجه من معروف كلام العرب . وقد قرأ ذلك بعض قراء الكوفيين ) ، { وإنْ كُلاّ } ، بتخفيف «إن » ونصب «كلاّ لمّا » مشددة . وزعم بعض أهل العربية أن قارىء ذلك كذلك أراد «إنّ » الثقيلة ، فخففها . وذُكر عن أبي زيد البصري أنه سمع : كأنْ ثدييه حُقّان ، فنصب ب «كأنْ » ، والنون مخففة من «كأن » ، ومنه قول الشاعر :

وَوَجْهٌ مُشْرِقُ النّحْرِ *** كأنْ ثَدْيَيْهِ حُقّانٍ

وقرأ ذلك بعض المدنين بتخفيف «إنّ » ونصب «كُلاّ » وتخفيف «لَمَا » . وقد يحتمل أن يكون قارىء ذلك كذلك قصد المعنى الذي حكيناه عن قارىء الكوفة من تخفيفه نون «إن » ، وهو يريد تشديدها ، ويريد بما التي في «لَمَا » التي تدخل في الكلام صلة ، وأن يكون قصد إلى تحميل الكلام معنى : وإن كلاّ ليوفينهم ، ويجوز أن يكون معناه كان في قراءته ذلك كذلك : وإنْ كُلاّ ليوفينهم ، أيْ : ليوفّينّ كُلاّ ، فيكون نيته في نصب «كلّ » كانت بقوله : «ليَوفينهم » ، فإن كان ذلك أراد ففيه من القبح ما ذكرت من خلافه كلام العرب ، وذلك أنها لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسما قبلها .

وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والبصرة : «وإنّ » مشددة «كُلاّ لَمَا » مخففة ، لَيُوفّيَنّهُمْ ، ولهذه القراءة وجهان من المعنى : أحدهما : أن يكون قارئها أراد : وإنّ كُلاّ لمَنْ ليوفيهم ربك أعمالهم ، فيوجه «ما » التي في «لما » إلى معنى «مَنْ » ، كما قال جلّ ثناؤه : { فانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } ، وإن كان أكثر استعمال العرب لها في غير بني آدم ، وينوي باللام التي في «لما » اللام التي يتلقى بها «وإن » جوابا لها ، وباللام التي في قوله : لَيُوفّيَنّهُمْ لام اليمين دخلت فيما بين ما وصلتها ، كما قال جلّ ثناؤه : { وإنْ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطّئَنّ } ، وكما يقال هذا ما لغيره أفضل منه . والوجه الاَخر : أن يجعل «ما » التي في «لما » بمعنى : «ما » التي تدخل صلة في الكلام ، واللام التي فيها اللام التي يجاب بها ، واللام التي في : لَيُوَفّيَنّهُمْ هي أيضا اللام التي يجاب بها «إنّ » كرّرت وأعيدت ، إذا كان ذلك موضعها ، وكانت الأولى مما تدخلها العرب في غير موضعها ، ثم تعيدها بعدُ في موضعها ، كما قال الشاعر :

فَلَوْ أنّ قَوْمي لَمْ يَكُونُوا أعِزّةً *** لَبَعْدُ لَقَدْ لا قَيْتُ لا بُدّ مَصْرَعا

وقرأ ذلك الزهري ، فيما ذكر عنه : { وَإنّ كُلاّ } ، بتشديد إنّ ولَمّا بتنوينها ، بمعنى : شديدا وحقّا وجميعا .

وأصح هذه القراءات مخرجا على كلام العرب المستفيض فيهم قراءة من قرأ : «وإنّ » بتشديد نونها ، «كُلاّ لَمَا » بتخفيف ما { لَيُوَفّيَنّهُمْ رَبّكَ } ، بمعنى : وإن كلّ هؤلاء الذين قصصنا عليك يا محمد قصصهم في هذه السور ، لمن ليوفينهم ربك أعمالهم بالصالح منها بالجزيل من الثواب ، وبالطالح منها بالتشديد من العقاب ، فتكون «ما » بمعنى : «من » واللام التي فيها : جوابا لأن واللام في قوله : لَيُوفّيَنّهُمْ لام قسم .

وقوله : { إنّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ، يقول تعالى ذكره : إن ربك بما يعمل هؤلاء المشركون بالله من قومك ، يا محمد ، { خبير } ، لا يخفى عليه شيء من عملهم ، بل يخبرُ ذلك كله ويعلمه ويحيط به حتى يجازيهم على جميع ذلك جزاءهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِنَّ كُلّٗا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ رَبُّكَ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ إِنَّهُۥ بِمَا يَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (111)

وقرأ الكسائي وأبو عمرو : «وإنَّ كلاًّ لمَا » بتشديد النون وتخفيف الميم من { لما } وقرأ ابن كثير ونافع بتخفيفهما ، وقرأ حمزة بتشديدهما ، وكذلك حفص عن عاصم ؛ وقرأ عاصم - في رواية أبي بكر - بتخفيف «إنْ » وتشديد الميم من «لمّا » وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم : «وإن كلاًّ لمَّاً » بتشديد الميم وتنوينها . وقرأ الحسن بخلاف : «وإنْ كلّ لما » بتخفيف «إن » ورفع «كلٌّ » وشد «لمّا » وكذلك قرأ أبان بن تغلب إلا أنه خفف «لما » ، وفي مصحف أبيّ وابن مسعود «وإن كل إلا ليوفينهم » وهي قراءة الأعمش ، قال أبو حاتم : الذي في مصحف أبيّ : «وإن من كل إلا ليوفينهم أعمالهم » . فأما الأول ف «إن » فيها على بابها ، و «كلاًّ » اسمها ، وعرفها أن تدخل على خبرها لام . وفي الكلام قسم تدخل لامه أيضاً على خبر «إن » فلما اجتمع لامان فصل بينهما ب «ما » - هذا قول أبي علي - والخبر في قوله { ليوفينهم }{[1]} ، وقال بعض النحاة : يصح أن تكون «ما » خبر «إن » وهي لمن يعقل لأنه موضع جنس وصنف ، فهي بمنزلة من ، كأنه قال : وإن كلاًّ لخلق ليوفينهم ؛ ورجح الطبري هذا واختاره{[2]} ، اما أنه يلزم القول أن تكون «ما » موصوفة إذ هي نكرة ، كما قالوا : مررت بما معجب لك ، وينفصل بأن قوله : { ليوفينهم } يقوم معناه مقام الصفة ، لأن المعنى : وإن كلاً لخلق موفى عمله ، وأما من خففها - وهي القراءة الثانية في ترتيبنا فحكم «إن » وهي مخففة حكمها مثقلة ، وتلك لغة فصيحة ، حكى سيبويه أن الثقة أخبره : أنه سمع بعض العرب يقول : إن عمراً لمنطلق وهو نحو قول الشاعر :

ووجه مشرق النحر*** كأن ثدييه حقان{[3]}

رواه أبو زيد .

ويكون القول في فصل «ما » بين اللامين حسبما تقدم ، ويدخلها القول الآخر من أن تكون «ما » خبر «إن »{[4]} وأما من شددهما أو خفف «إنْ » وشدد «الميم »{[5]} ففي قراءتيهما إشكال ، وذلك أن بعض الناس قال : إن «لما » بمعنى إلا ، كما تقول : سألتك لما فعلت كذا وكذا بمعنى إلا فعلت{[6]} قال أبو علي : وهذا ضعيف لأن «لما » هذه لا تفارق القسم ، وقال بعض الناس : المعنى لمن ما أبدلت النون ميماً ، وأدغمت في التي بعدها فبقي «لمما » فحذفت الأولى تخفيفاً لاجتماع الأمثلة ، كما قرأ بعض القراء { والبغي يعظكم }{[7]} به بحذف الياء مع الياء وكما قال الشاعر :

وأشمت العداة بنا فأضحوا*** لدى يتباشرون بما لقينا{[8]}

قال أبو علي وهذا ضعيف ؛ وقد اجتمع في هذه السورة ميمات أكثر من هذه في قوله : { أمم ممن معك }{[9]} ولم يدغم هناك فأحرى أن لا يدغم هنا .

قال القاضي أبو محمد : وقال بعض الناس أصلها : لمن ما ، ف «من » خبر «إن » و «ما » زائدة وفي التأويل الذي قبله أصله : لمن ما ، ف «ما » هي الخبر دخلت عليها «من » على حد دخولها في قول الشاعر :

وإنا لمن ما نضرب الكبش ضربة*** على رأسه تلقي اللسان من الفم{[10]}

وقالت فرقة «لما » أصلها «لماً » منونة ، والمعنى : وإن كلاً عاماً حصراً شديداً ، فهو مصدر لم يلم ، كما قال : { وتأكلون التراث أكلاً لمَّاً }{[11]} أي شديداً قالت : ولكنه ترك تنوينه وصرفه وبني منه فعلى كما فعل في تترى فقرىء : تترى{[12]} .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، حكي عن الكسائي أنه قال : لا أعرف وجه التثقيل في «لما » ، قال أبو علي : وأما من قرأ «لمَّا » بالتنوين وشد الميم فواضح الوجه كما بينا ، وأما من قرأ : «وإن كل لما » فهي المخففة من الثقيلة ، وحقها - في أكثر لسان العرب - أن يرتفع ما بعدها ، و «لما » هنا بمعنى إلا ، كما قرأ جمهور القراء : { إن كل نفس لما عليها حافظ }{[13]} . ومن قرأ «إلا » مصرحة فمعنى قراءته واضح ، وهذه الآية وعيد .

وقرأ الجمهور : «يعملون » بياء على ذكر الغائب ، وقرأ الأعرج «تعملون » بتاء على مخاطبة الحاضر .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[3]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني.
[4]:- هو أبو هاشم المكي الليثي، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، يروي عن أبيه ابن عمر.
[5]:- من الآية رقم (7) من سورة آل عمران.
[6]:- رواه الترمذي وصححه، والإمام أحمد ولفظه: (الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)، وهذا الحديث يرد على القولين معا.
[7]:- رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، ونص الترمذي: (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها. وإنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته)، وقد يكون هذا الحديث سندا لما اعتاده الناس من قراءة الفاتحة، وقد أخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ فاتحة الكتاب حتى تختمها تقض إن شاء الله، نقله الجلال السيوطي. وللغزالي في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني المأمور بقراءتها في كل صلاة، وتكرارها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق أن ليس في التوراة ولا في الإنجيل والفرقان مثلها، قال الشيخ زروق: وفيه تنبيه بل تصريح أن يكثر منها لما فيها من الفوائد والذخائر. انتهى.
[8]:- رواه عبد الله بن حميد في مسنده، والفريابي في تفسيره عن ابن عباس بسند ضعيف.
[9]:- من الناس من يذهب إلى أن هذا من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، قال ابن عبد البر: السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام وأسلم. وحديث : (قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) رواه الإمام مالك في الموطأ، والبخاري، والترمذي، وروى الترمذي عن أنس وابن عباس قالا: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن). ومن الناس من يؤول ذلك باعتبار المعاني التي تشتمل عليها، وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى هذين القولين، ويشير بذلك إلى أنه لا تفاضل بين كلام الله لأنه صفة ذاتية، وإنما التفاضل في المعاني باعتبار الأجر والثواب. والله أعلم.
[10]:- رواه الإمام أحمد، والحاكم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك. ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة) ومن تمام الحديث كما في الجامع الصغير: (وحط عنه ثلاثون خطيئة).
[11]:- في بعض النسخ (رفْع) بالراء.
[12]:- رواه أصحاب الكتب الستة، وفيه زيادة: (وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، والحاكم أيضا حديث الترمذي: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) فجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.
[13]:- أي في غير مقابلة النعمة.