التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

ثم أرشد - سبحانه - إلى مظهر آخر من مظاهر وحدانيته ، وعظيم قدرته وعجيب صنعه ، وسعة رحمته ، حيث خلق للناس الأنعام ، وسقاهم من ألبانها ، فقال - تعالى - : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً . . . } .

والأنعام : تطلق على الإِبل والبقر والغنم من الحيوان ، ويدخل في الغنم المعز .

والعبرة : مصدر بمعنى العبور ، أي : التجاوز من محل إلى آخر ، والمراد بها هنا : العظة والاعتبار والانتقال من الجهل إلى العلم ، ومن الغفلة إلى اليقظة .

أي : وإن لكم - أيها الناس - في خلق الأنعام ، وفيما يخرج منها من ألبان لعبرة عظيمة ، وعظة بليغة ، ومنفعة جليلة توجب عليكم إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، ومداومة الشكر له على نعمه . فالتنكير في قوله : { لعبرة } ؛ للتفخيم والتهويل .

وقوله - تعالى - : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } ، استئناف بياني ، كأنه قيل : وما وجه العبرة في الأنعام ؟ فكان الجواب : نسقيكم مما في بطونه .

قال الألوسي : " والضمير في { بطونه } يعود للأنعام ، وهو اسم جمع ، واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار معناه . . . " .

وقوله - سبحانه - : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } ، بيان لموطن العبرة ومحل النعمة ، ومظهر الدلالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ورحمته .

والفرث : الطعام المتبقى في أمعاء الحيوان بعد هضمه . وأصل الفرث : التفتيت . يقال فرثت كبده . أي : فتتتها .

قال الجمل ما ملخصه : " والفرث : الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش - بفتح الكاف وكسر الراء - فإذا خرجت من الكرش لا تسمى فرثا ، بل تسمى روثا . وقوله { لبنا } مفعول ثان لنسقيكم ، والأول هو الكاف " .

والخالص : النقي الصافي الخالي من الشوائب والأكدار . يقال : خلص الشيء من التلف خلوصا - من باب قعد - إذا سلم منه .

والسائغ : اللذيذ الطعم ، السهل المدخل إلى الحلق . يقال : ساغ الشراب يسوغ سوغا ، من باب قال - إذا سهل مدخله في الحلق .

أي : نسقيكم من بين الفرث والدم الذي اشتملت عليه بطون الأنعام ، { لبنا } ، نافعا لأبدانكم ، { خالصا } ، من رائحة الفرث ، ومن لون الدم ، مع أنه موجود بينهما . { سائغا للشاربين } ، بحيث يمر فى الحلوق بسهولة ويسر ، ويشعر شاربه بلذة وارتياح .

وقدم - سبحانه - قوله : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } ، على قوله : { لبنا } ؛ لأن خروج اللبن من بينهما هو موطن العبرة ، وموضع الدليل الأسمى على قدرة الله - تعالى - ووحدانيته .

قال صاحب الكشاف : قوله - تعالى - : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } ، أي : يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله - تعالى - ، بحيث لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة ، بل هو خالص من ذلك كله . . . فسبحان الله ما أعظم قدرته ، وألطف حكمته ، لمن تفكر وتأمل . وسئل " شقيق " عن الإِخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب ، كتمييز اللبن من بين فرث ودم .

ثم قال - رحمه الله - : فإن قلت : أي فرق بين " من " الأولى والثانية ؟ . قلت : الأولى للتبعيض ؛ لأن اللبن بعض ما في بطونها . . . والثانية لابتداء الغاية ؛ لأن بين الفرث والدم مكان الإِسقاء الذي منه يبتدأ . . .

وإنما قدم قوله : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } ؛ لأنه موضع العبرة ، فهو قمن بالتقديم .

وقال الألوسي عند تفسيره لهذه الآية : " ومن تدبر في بدائع صنع الله - تعالى - فيما ذكر من الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها ، والأسباب المولدة لها ، وتسخير القوى المتصرفة فيها . . . اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه - سبحانه - وقدرته ، وحكمته ، وتناهي رأفته ورحمته : حكم حارت البرية فيها . . . وحقيق بأنها تحتار . والحق ، أن هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة على وحدانية الله تعالى ونفاذ قدرته ، وعجيب صنعته ، حيث استخرج - سبحانه - من بين فرث ودم في بطون الأنعام ، لبنا خالصا سائغا للشاربين .

وهذا الاستخراج قد تكلم العلماء المتخصصون عن كيفيته وعن مراحله . . كلاما يقوي إيمان المؤمنين ، ويدفع باطل الملحدين . هذا ، وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن اللبن نعمة جزيلة من نعم الله - تعالى - على خلقه .

قال القرطبي ما ملخصه : " روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب ، ثم قال : " إذا أكل أحدكم طعاما فليقل ، اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ، وإذا سقي لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه ، وزدنا منه ، فإنه ليس شيء يجزئ عن الطعام والشراب إلا اللبن " " .

ثم قال الإِمام القرطبي : قال علماؤنا : فكيف لا يكون كذلك ، وهو أول ما يغتذي به الإنسان ، وتنمو به الأبدان ، فهو قوت به قوام الأجسام ، وقد جعله الله - تعالى - علامة لجبريل على هداية هذه الأمة ، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن . فقال لي جبريل : اخترت الفطرة . . . " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

51

وعبرة أخرى في الأنعام تشير إلى عجيب صنع الخالق ، وتدل على الألوهية بهذا الصنع العجيب :

( وإن لكم في الأنعام لعبرة ، نسقيكم مما في بطونه - من بين فرث ودم - لبنا خالصا سائغا للشاربين ) فهذا اللبن الذي تدره ضروع الأنعام مم هو ؟ إنه مستخلص من بين فرث ودم . والفرث ما يتبقى في الكرش بعد الهضم ، وامتصاص الأمعاء للعصارة التي تتحول إلى دم . هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم ، فإذا صار إلى غدد اللبن في الضرع تحول إلى لبن ببديع صنع الله العجيب ، الذي لا يدري أحد كيف يكون .

وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دم ، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج إليها من مواد هذا الدم ، عملية عجيبة فائقة العجب ، وهي تتم في الجسم في كل ثانية ، كما تتم عمليات الاحتراق . وفي كل لحظة تتم في هذا الجهاز الغريب عمليات هدم وبناء مستمرة لا تكف حتى تفارق الروح الجسد . . ولا يملك إنسان سوى الشعور أن يقف أمام هذه العمليات العجيبة لا تهتف كل ذرة فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الجهاز الإنساني ، الذي لا يقاس إليه أعقد جهاز من صنع البشر ، ولا إلى خلية واحدة من خلاياه التي لا تحصى .

ووراء الوصف العام لعمليات الامتصاص والتحول والاحتراق تفصيلات تدير العقل ، وعمل الخلية الواحدة في الجسم في هذه العملية عجب لا ينقضي التأمل فيه .

وقد بقى هذا كله سرا إلى عهد قريب . وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر ، وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلا على أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة . وما يملك إنسان يحترم عقله أن يماري في هذا أو يجادل . ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن . فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة .

والقرآن - يعبر هذه الحقائق العلمية البحتة - يحمل أدلة الوحي من الله في خصائصه الأخرى لمن يدرك هذه الخصائص ويقدرها ؛ ولكن ورود حقيقة واحدة على هذا النحو الدقيق يفحم المجادلين المتعنتين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نّسْقِيكُمْ مّمّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشّارِبِينَ } .

يقول تعالى ذكره : وإن لكم أيها الناس لعظة في الأنعام ، التي نُسْقيكم مما في بطونه .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : " نُسْقِيكُمْ " فقرأته عامة أهل مكة والعراق والكوفة والبصرة ، سوى عاصم ، ومن أهل المدينة أبو جعفر : " نُسْقِيكُمْ " بضم النون . بمعنى : أنه أسقاهم شرابا دائما . وكان الكسائي يقول : العرب تقول : أسقيناهم نَهْرا ، وأسقيناهم لبنا : إذا جعلته شِرْبا دائما ، فإذا أرادوا أنهم أعطوه شربة ، قالوا : سقيناهم ، فنحن نَسْقِيهم ، بغير ألف . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة سوى أبي جعفر ، ومن أهل العراق عاصم : «نَسْقِيكم » ، بفتح النون ، من سقَاه الله ، فهو يَسْقيه . والعرب قد تدخل الألف فيما كان من السقي غير دائم ، وتنزعها فيما كان دائما ، وإن كان أشهر الكلامين عندها ، ما قال الكسائي ، يدلّ على ما قلنا من ذلك ، قول لَبيد في صفة سحاب :

سَقَى قَوْمي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى *** نُمَيْرا والقَبائِلَ مِنْ هِلالِ

فجمع اللغتين كلتيهما في معنى واحد . فإذا كان ذلك كذلك ، فبأية القراءتين قرأ القارىء فمصيب ، غير أن أعجب القراءتين إليّ قراءة ضمّ النون ؛ لما ذكرت من أن الكلامين عند العرب فيما كان دائما من السقي أسقى بالألف ، فهو يُسْقِي . وما أسقى الله عباده من بطون الأنعام فدائم له ، غير منقطع عنهم . وأما قوله : { ممّا فِي بُطُونِهِ } وقد ذكر الأنعام قبل ذلك ، وهي جمع ، والهاء في البطون موحدة ، فإن لأهل العربية في ذلك أقوالاً ، فكان بعض نحويي الكوفة يقول : النّعم والأنعام شيء واحد ؛ لأنهما جميعا جمعان ، فردّ الكلام في قوله : { مِمّا فِي بُطُونِهِ } ، إلى التذكير ، مرادا به معنى النّعم ، إذ كان يؤدي عن الأنعام ويستشهد لقوله ذلك ، برجز بعض الأعراب :

إذا رأيْتَ أنْجُما منَ الأسَدْ *** جَبْهَتهُ أوِ الخَرَاةِ والكَتَدْ

بال سُهَيْلٌ في الفَضِيخِ فَفَسَدْ *** وطابَ ألْبانُ اللّقاحِ فَبَردْ

ويقول : رجع بقوله : «فبرد » إلى معنى اللبن ؛ لأن اللبن والألبان تكون في معنى واحد . وفي تذكير النعم قول آخر :

أكُلّ عامٍ نَعَمٌ تَحُوونَهْ *** يُلْقحُهُ قَوْمٌ وتَنْتِجُونَهْ

فذكرّ النعم . وكان غيره منهم يقول : إنما قال : مِمّا فِي بُطُونِهِ ؛ لأنه أراد : مما في بطون ما ذكرنا ، وينشد في ذلك رَجزا لبعضهم :

*** مِثْلُ الفِراخِ نُتّفَتْ حَوَاصِلُهْ ***

وقول الأسود بن يَعْفُر :

إنّ المَنِيّةَ والحُتُوفَ كلاهُما *** يُوفي المخَارِمَ يَرْقُبانِ سَوَادِي

فقال : «كلاهما » ، ولم يقل : «كلتاهما » وقول الصّلتان العَبْديّ :

إنّ السّماحَةَ والمُرُوءَة ضُمّنا *** قَبْرا بمَرْوَ على الطّرِيقِ الوَاضِحِ

وقول الاَخر :

وعَفْرَاءُ أدْنَى النّاس مِنّي مَوَدّةً *** وعَفْرَاءُ عَنّي المُعْرِضُ المُتَوَانِي

ولم يقل : المعرضة المتوانية وقول الاَخرة :

إذا النّاسُ ناسٌ والبِلادُ بِغبْطَةٍ *** وَإذْ أُمّ عَمّارٍ صَديقٌ مُساعِفُ

ويقول : كل ذلك على معنى هذا الشيء ، وهذا الشخص والسواد ، وما أشبه ذلك . ويقول : من ذلك قول الله تعالى ذكره : { فَلَمّا رأى الشّمْسَ بازِغَةً قالَ هذَا رَبّي } ، بمعنى : هذا الشيء الطالع ، وقوله : { إنّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ } ، ولم يقل ذكرها ؛ لأن معناه : فمن شاء ذكر هذا الشيء ، وقوله : { وَإنّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ فَلَمّا جاءَ سُلْيمانَ } ، ولم يقل «جاءت » .

وكان بعض البصريين يقول : قيل : مِمّا فِي بُطُونِه ؛ ِ لأن المعنى : نسقيكم من أيّ الأنعام كان في بطونه . ويقول : فيه اللبن مضمر ، يعني : أنه يسقي من أيها كان ذا لبن ، وذلك أنه ليس لكلها لبن ، وإنما يُسقى من ذوات اللبن . والقولان الأوّلان أصحّ مخرجا على كلام العرب من هذا القول الثالث .

وقوله : { مِنْ بينِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنا خالِصا } ، يقول : نسقيكم لبنا ، نخرجه لكم من بين فرث ودم خالصا يقول : خلص من مخالطة الدم والفرث فلم يختلطا به . { سائِغا للشّارِبِينَ } ، يقول : يسوغ لمن شربه ، فلا يَغَصّ به ، كما يَغَصّ الغاصّ ببعض ما يأكله من الأطعمة . وقيل : إنه لم يَغَصّ أحد باللبن قَطّ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

{ وإن لكم في الأنعام لعبرة } ، دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم . { نسقيكم مما في بطونه } ، استئناف لبيان العبرة ، وإنما ذكر الضمير ووحده ها هنا ؛ للفظ . وأنثه في سورة " المؤمنين " ؛ للمعنى ، فإن الأنعام اسم جمع ، ولذلك عده سيبويه في المفردات المبنية على أفعال ، كأخلاق وأكياس ، ومن قال إنه جمع " نعم " ، جعل الضمير للبعض ، فإن اللبن لبعضها دون جميعها ، أو لواحدة ، أو له على المعنى ، فإن المراد به الجنس . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر ، ويعقوب : { نسقيكم } ، بالفتح هنا ، وفي " المؤمنين " . { من بين فرث ودم لبناً } ، فإنه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث ، وهو : الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن البهيمة إذا اعتلفت ، وانطبخ العلف في كرشها ، كان أسفله فرثا ، وأوسطه لبنا ، وأعلاه دما ، ولعله إن صح ، فالمراد : أن أوسطه يكون مادة اللبن ، وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن ؛ لأنهما لا يتكونان في الكرش ، بل الكبد يجذب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش ، ويبقي ثقله ، وهو : الفرث ، ثم يمسكها ريثما يهضمها هضما ثانيا ، فيحدث أخلاطا أربعة ، معه مائية ، فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين ، وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال ، ثم يوزع الباقي على الأعضاء بحسبها ، فيجري إلى كل حقه ، على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم ، ثم إن كان الحيوان أنثى : زاد أخلاطها على قدر غذائها ؛ لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها ، فيندفع الزائد أولا إلى الرحم ؛ لأجل الجنين ، فإذا انفصل ، انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع ، فيبيض بمجاورة لحومها الغددية البيض ، فيصير لبناً ، ومن تدبر صنع الله تعالى في إحداث الخلاط والألبان ، وإعداد مقارها ومجاريها ، والأسباب المولدة لها ؟ ، والقوى المتصرفة فيها ، كل وقت على ما يليق به ، اضطر إلى الإقرار بكمال حكمته وتناهي رحمته ، و{ من } ، الأولى : تبعيضية ، لأن اللبن بعض ما في بطونها ، والثانية : ابتدائية ، كقولك : سقيت من الحوض ؛ لأن بين الفرث والدم المحل الذي يبتدأ منه الإسقاء ، وهي متعلقة ب { سقيكم } ، أو حال من : { لبناً } ، قدم عليه لتنكيره ، وللتنبيه على أنه موضع العبرة . { خالصا } ، صافيا ، لا يستصحب لون الدم ولا رائحة الفرث ، أو مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه . { سائغا للشاربين } ، سهل المرور في حلقهم ، وقرئ " سيِّغاً " بالتشديد والتخفيف .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

هذه حُجّة أخرى ومنّة من المنن الناشئة عن منافع خلق الأنعام ، أدمج في منّتها العبرة بما في دلالتها على بديع صنع الله تبعاً لقوله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء } إلى قوله : { لرؤوف رحيم } [ سورة النحل : 5 7 ] .

ومناسبة ذكر هذه النّعمة هنا أن بألبان الأنعام حياة الإنسان كما تحيا الأرض بماءِ السماء ، وأن لآثار ماء السماء أثراً في تكوين ألبان الحيوان بالمرعى .

واختصّت هذه العبرة بما تنبّه إليه من بديع الصّنع والحكمة في خلق الألبان بقوله : { مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً } ، ثم بالتذّكير بما في ذلك من النّعمة على الناس إدماجاً للعبرة بالمنّة .

فجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } معطوفة على جملة { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } [ سورة النحل : 65 ] ، أي كما كان القوم يسمعون عِبرة في إنزال الماء من السماء لكم في الأنعام عبرة أيضاً ، إذ قد كان المخاطبون وهم المؤمنون القومَ الذين يسمعون .

وضمير الخطاب التفات من الغيبة . وتوكيدها ب { إن } ولام الابتداء كتأكيد الجملة قبلها .

و { الأنعام } : اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز .

والعبرة : ما يُتّعظ به ويُعتبر . وقد تقدم في نهاية سورة يوسف .

وجملة { نسقيكم مما في بطونه } واقعة موقع البيان لجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } .

والبطون : جمع بطن ، وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كله من معدة وكبد وأمْعاء .

و ( من ) في قوله تعالى : { مما في بطونه } ابتدائية ، لأن اللبن يفرز عن العلف الذي في البطون . وما صْدَقُ « ما في بطونه » العلف . ويجوز جعلها تبْعيضية ويكون ما صدق « ما في بطونه » هو اللبن اعتداداً بحالة مُروره في داخل الأجهزة الهضمية قبل انحداره في الضرع .

و { من } في قوله تعالى : { من بين فرث } زائدة لتوكيد التوسّط ، أي يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم .

ووقع البيان ب { نسقيكم } دون أن يقال : تشربون أو نحوه ، إدماجاً للمنّة مع العبرة .

ووجه العبرة في ذلك أن ما تحتويه بطون الأنعام من العلف والمرعى ينقلب بالهضم في المعدة ، ثم الكَبِد ، ثم غدد الضرع ، مائعاً يسقى وهو مفرز من بين أفراز فرث ودم .

والفرث : الفضلات التي تركها الهضم المَعِدي فتنحدر إلى الأمعاء فتصير فَرثا . والدمّ : إفراز تفرزه الكبد من الغذاء المنحدر إليها ويصعد إلى القلب فتدفعه حركة القلب الميكانيئية إلى الشرايين والعروق ويبقى يَدور كذلك بواسطة القلب . وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى : { حرّمت عليكم الميتة والدم } في سورة العقود ( 3 ) .

ومعنى كون اللّبن من بين الفرث والدم أنه إفراز حاصل في حين إفراز الدّم وإفراز الفرث . وعلاقته بالفرث أن الدم الذي ينحدر في عروق الضرع يمرّ بجوار الفضلات البوليّة والثفلية ، فتفرزه غدد الضرع لبَناً كما تفرزه غدد الكليتين بَولاً بدون معالجة زائدة ، وكما تفرز تكاميش الأمعاء ثَفلاً بدون معالجة بخلاف إفراز غدد المثانة للمَنِيّ لتوقّفه على معالجة ينحدر بها الدم إليها .

وليس المراد أن اللّبن يتميّع من بين طبقتيّ فرث ودم ، وإنما الذي أوهم ذلك مَن تَوهمه حمْله { بينَ } على حقيقتها من ظرف المكان ، وإنما هي تستعمل كثيراً في المكان المجازي فيراد بها الوسط بين مرتبتين كقولهم : الشجاعة صفة بين التهوّر والجبن . فمن بلاغة القرآن هذا التعبيرُ القريب للأفهام لكل طبقة من الناس بحسب مبالغ علمهم ، مع كونه موافقاً للحقيقة .

والمعنى : إفراز ليس هو بدم لأنه أليَنُ من الدم ، ولأنه غير باققٍ في عروق الضرع كبقاء الدّم في العروق ، فهو شبيه بالفضلات في لزوم إفرازه ، وليس هو بالفضلة لأنه إفراز طاهر نافع مغذّ ، وليس قذراً ضاراً غير صالح للتغذية كالبول والثفل .

وموقع { من بين فرث ودم } موقع الصفة ل { لبناً } ، قدمت عليه للاهتمام بها لأنها موضع العبرة ، فكان لها مزيد اهتمام ، وقد صارت بالتقديم حالاً .

ولما كان اللبن يحصل في الضرع لا في البطن جعل مفعولاً ل { نَسقيكم } ، وجعل { مما في بطونه } تبييناً لمصدره لا لمَورده ، فليس اللبن مما في البطون ؛ ولذلك كان { مما في بطونه } متقدماً في الذكر ليظهر أنه متعلق بفعل { نسقيكم } وليس وصفاً لِْلّبن .

وقد أحاط بالأوصاف التي ذكرناها لِلْلّبن قوله تعالى : { خالصاً سائغاً للشاربين } . فخلوصه نزاهته مما اشتمل عليه البول والثفل ، وسوغه للشاربين سلامته مما يشتمل عليه الدم من المضار لمن شَربه ، فلذلك لا يسيغه الشارب ويتجهّمه .

وهذا الوصف العجيب من معجزات القرآن العلمية ، إذ هو وصف لم يكن لأحد من العرب يومئذٍ أن يعرف دقائق تكوينه ، ولا أن يأتي على وصفه بما لو وَصف به العالم الطبيعي لم يصفه بأوجز من هذا وأجمعَ .

وإفراد ضمير الأنعام في قوله تعالى : { مما في بطونه } مراعاة لكون اللفظ مفرداً لأن اسم الجمع لفظ مفرد ، إذ ليس من صيغ الجموع ، فقد يراعى اللفظ فيأتي ضميره مفرداً ، وقد يراعى معناه فيعامل معاملة الجموع ، كما في آية سورة المؤمنين ( 21 ) { نسقيكم مما في بطونها } والخالص : المجرّد مما يكدّر صفاءه ، فهو الصافي . والسائغ : السهل المرور في الحلق .

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب { نسقيكم } بفتح النون مضارع سَقى . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف بضم النون على أنه مضارع أسْقى ، وهما لغتان ، وقرأه أبو جعفر بمثناة فوقية مفتوحة عوضاً عن النون على أن الضمير للأنعام .