التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض المحرمات المتعلقة بالأنفس والأموال ، بعد أن بين لهم قبل ذلك المحرمات من النساء والمحللات منهم ومظاهر فضله - سبحانه - بعباده ورحمته بهم فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . كَرِيماً } .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( 29 ) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 30 ) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ( 31 )

المراد بالأكل فى قوله { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ } مطلق الأخذ الذى يشمل سائر التصرفات التى نهى الله عنها .

وخص الأكل بالذكر ؛ لأن المقصود الأعظم من الأموال هو التصرف فيها بالأكل .

والباطل : اسم لكل تصرف لا يبيحه الشرع كالربا والقمار والرشوة والغضب والسرقة والخيانة والظلم إلى غير ذلك من التصرفات المحرمة .

والمعنى . يأيها المؤمنون لا يحل لكم أن يأكل بعضكم مال غيره بطريقة باطلة لا يقرها الشرع ، ولا يرتضيها الدين ، كما أنه لا يحل لكم أن تتصرفوا فى الأموال التى تملكونها تصرفا منهيا عنه بأن تنفقوها فى وجوه المعاصى التى نهى الله عنها ؛ فإن ذلك يتنافى مع طبيعة هذا الدين الذى آمنتم به .

وناداهم - سبحانه - بصفة الإِيمان ، لتحريك حرارة العقيدة فى قلوبهم وإغرائهم بالاستجابة لما أمروا به أو نهو عنه .

وفى قوله { أَمْوَالَكُمْ } إشارة إلى أن هذه الأموال هى نعمة من الله لنا ، وأن على الأمة جميعها أن تصون هذه الأموال عن التصرفات الباطة التى لا تبيحها شريعة الله .

وفى قوله { بَيْنَكُمْ } إشارة إلى أن تبادل الأموال بين الأفراد والجماعات يجب أن يكون على أساس من الحق والعدل ولا يكون بالباطل أو بالظلم .

والاستثناء فى قوله { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } استثناء منقطع لأن التجارة ليست من جنس الأموال المأكولة بالباطل .

والمعنى : لا يحل لكم - أيها المؤمنون - أن تتصرفوا فى أموالكم بالطرق المحرمة ، لكن يباح لكم أن تتصرفوا فيها بالتجارة الناشئة عن تراض فيما بينكم ؛ لأنه لا يحل لمسلم أن يقتطع مال أخيه المسلم إلا عن طيب نفس منه .

والتجارة : اسم يقع على عقود المعارضات التى يقصد بها طلب الربح . وخصت بالذكر من بين سائر أسباب الملك ؛ لكونها أغلب وقوعا ولأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها .

أخرج الأصبهانى عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا باعوا لم يمدحوا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ، وإذا كان لهم لم يعسروا " .

وكلمة { تِجَارَةً } قرأها عاصم وحمزة والكسائى بالنصب على أنها خبر لكان الناقصة ، واسم كان ضمير يعود عل الأموال أى إلا أن تكون الأموال المتداولة بينكم تجارة صادرة عن تراض منكم . وقرأها الباقون بالرفع على أنها فاعل لكان التامة أى : إلا أن تقع تجارة بينكم عن تراض منكم .

وقوله { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } صفة لقوله { تِجَارَةً } ولفظ { عَن } للمجاوزة أى : إلا أن تكون تجارة صادرة عن تراض كائن منكم .

والتراضى : هو الرضا من الجانبين بما بدل عليه من لفظ أو عرف ، وهو أساس العقود بصفة عامة ، وأساس المبادلات المالية بصفة خاصة ، فلا بيع ولا شراء ولا إجارة ولا شركة ولا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا .

قال بعضهم : وحقيقة التراضى لا يعلمها إلى الله - تعالى - والمراد هنا أمارته . كالإِيجاب والقبول وكالتعاطى عند القائل به . وقد قال - تعالى - { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } فدل ذلك على أن مجرد التراضى هو المناط . ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة ، بأى لفظ وقع وعلى أى صفة كان ، وبأى إشارة مفيدة حصل .

وقال الآلوسى : والمراد بالتراضى مراضاة المتبايعين بما تعاقدوا عليه فى حال المبايعة وقت الإِيجاب والقبول عندنا . وعند المالكية والشافعية حالة الافتراق عن مجلس العقد وقيل التراضى : التخيير بعد البيع . . .

هذا ، وظاهر قوله - تعالى - { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } يفيد إباحة جميع أنواع التجارات ما دام قد حصل التراضى بين المتعاقدين ، ولكن هذا الظاهر غير مراد ؛ لأن الشارع قد حرم المتاجرة فى أشياء معينة حتى ولو تم التراضى بين المتعاقدين بين المتعاقدين فيها ، وذلك مثل المتاجرة فى الخمر والميتة ولحم الخنزير ، ومثل بيع الغرر والعبد الآبق ونحو ذلك مما نهى عنه الشارع من العقود والمعاملات .

وقوله { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } معطوف على ما قبله .

وللعلماء فى تأويله اتجاهات : فمنهم من يرى أن معناه : ولا يقتل بعضكم بعضا ، فإن قتل بعضكم لبعض قتل لأنفسكم . والتعبير عن قتل بعضهم لبعض بقتل أنفسهم للمبالغة فى الزجر عن هذا الفعل ، وبتصويره بصورة مالا يكاد يفعله عاقل .

وإلى هذا المعنى اتجه الفخر الرازى فقد قال : اتفقوا على أن هذا نهى عن أن يقتل بعضهم بعضا . وإنما قال : { أَنْفُسَكُمْ } لقوله صلى الله عليه وسلم " المؤمنون كنفس واحدة " ولأن العرب يقولون :

قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم ؛ لأن قتل بعضهم يجرى مجرى قتلهم .

ومنهم من يرى أن معناه النهى عن قتل الإِنسان لنفسه . ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من تردى من جبل فقتل نفسه فهو فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً . ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه فى يده يتحساه فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً . ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته فى يده يجأ - أى يطعن - بها فى بطنه فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً " .

وروى مسلم عن جابر بن سمرة قال : أتى النبى صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص - أى سهام عراض واحدها مشقص - فلم يصل عليه .

ومنهم من يرى أن معناه : لا تقتلوا أنفسكم بأكل بعضكم أموال بعض وبارتكابكم للمعاصى التى نهى الله عنها ، فإن ذلك يؤدى إلى إفساد أمركم ، وذهاب ريحكم ، وتمزق وحدتكم ، ولا قتل للأمم والجماعات أشد من فساد أمرها ، وذهاب ريحها .

وقد ذهب إلى هذا المعنى الإِمام ابن كثير فقد قال : وقوله : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } أى بارتكاب محارم الله - وتعاطى معاصيه ، وأكل أموالكم بينكم بالباطل .

والذى نراه أن الجملة الكريمة تتناول كل هذه الاتجاهات ، فهى تنهى المسلم عن أن يقتل نفسه ، كما أنها تنهاه عن أن يقتل غيره ، وهى أيضا تنهاه عن ارتكاب المعاصى التى تؤدى إلى هلاكه .

وقدم - سبحانه - النهى عن أكل الأموال بالباطل على النهى عن قتل الأنفس مع أن الثانى أخطر ، للإِشعار بالتدريج فى النهى من الشديد إلى الأشد ولأن وقوعهم فى أكل الأموال بالباطل كان أكثر منهم وأسهل عليهم من وقوعهم فى القتل .

وقد ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } لبيان أن ما نهى الله عنه من محرمات ، وما أباحه من مباحات ، إنما هو من باب الرحمة بالناس ، وعدم المشقة عليهم . فالله - تعالى- رءوف بعباده ومن مظاهر ذلك أنه لم يكلفهم إلا بما هو فى قدرتهم واستطاعتهم .

وهذه الآية الكريمة أصل عظيم فى حرمة الأموال والأنفس . ولقد أكد النبى صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فى خطبته فى حجة الوداع حيث قال : " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، فى شهركم هذا ، فى بلدكم هذا " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

24

والفقرة الثانية في هذا الدرس ، تتناول جانبًا من العلاقات المالية في المجتمع المسلم ، لتنظيم طرق التعامل في هذا الجانب ؛ لضمان طهارة التعامل بين الأفراد عامة ؛ ثم لتقرير حق النساء كالرجال في الملك والكسب - كل حسب نصيبه - وأخيرًا لتنظيم التعامل في عقود الولاء التي كانت سارية في الجاهلية وفي القسم الأول من صدر الإسلام ، لتصفية هذا النظام ، وتخصيص الميراث بالأقارب ؛ ومنع عقود الولاء الجديدة :

يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم ، إن الله كان بكم رحيما . ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارًا . وكان ذلك على الله يسيرًا . إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ؛ وندخلكم مدخلا كريمًا . ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ، وأسالوا الله من فضله ، إن الله كان بكل شيء عليمًا . ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ؛ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .

إنها حلقة في سلسلة التربية ، وحلقة في سلسلة التشريع . . والتربية والتشريع في المنهج الإسلامي متلازمان ؛ أو متداخلان ؛ أو متكاملان . . فالتشريع منظور فيه إلى التربية ؛ كما هو منظور فيه إلى تنظيم شؤون الحياة الواقعية ؛ والتوجيهات المصاحبة للتشريع منظور فيها إلى تربية الضمائر ؛ كما أنه منظور فيها إلى حسن تنفيذ التشريع ، وانبعاث التنفيذ عن شعور بجدية هذا التشريع ؛ وتحقق المصلحة فيه . والتشريع والتوجيه المصاحب منظور فيهما - معًا - إلى ربط القلب بالله ، وإشعاره بمصدر هذا المنهج المتكامل من التشريع والتوجيه . . وهذه هي خاصية المنهج الرباني للحياة البشرية . . هذا التكامل الذي يصلح الحياة الواقعية ، ويصلح الضمير البشري في ذات الأوان . .

وهنا في هذه الفقرة نجد النهي للذين آمنوا عن أكل أموالهم بينهم بالباطل - وبيان الوجه الحلال للربح في تداول الأموال - وهو التجارة - ونجد إلى جانبه تصوير أكل الأموال بالباطل بأنه قتل للأنفس ؛ وهلكة وبوار . ونجد إلى جانبه كذلك التحذير من عذاب الآخرة ، ومس النار ! . . وفي الوقت ذاته نجد التيسير والوعد بالمغفرة والتكفير ، والعون على الضعف والعفو عن التقصير . . كذلك نجد تربية النفوس على عدم التطلع إلى ما أنعم الله على البعض ، والتوجه إلى الله - صاحب العطاء - وسؤال من بيده الفضل والعطاء . وذلك التوجيه مصاحب لتقرير حق الرجال ونصيبهم فيما اكتسبوا ، وحق النساء ونصيبهن فيما اكتسبن ، وهذا وذلك مصحوب بأن الله كان بكل شيء عليمًا . . كما أن بيان التصرف في عقود الولاء ، والأمرء بالوفاء بها نجده مصحوبًا بأن الله كان على كل شيء شهيدًا . . وهي لمسات وجدانية مؤثرة مصاحبة للتشريع ، وتوجيهات تربوية من صنع العليم بالإنسان ، وتكوينه النفسي ، ومسالك نفسه ودروبها الكثيرة .

( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيمًا . ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا ، وكان ذلك على الله يسيرًا ) .

النداء للذين آمنوا ، والنهي لهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .

( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) .

مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي ؛ واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء : يا أيها الذين آمنوا . . واستحياء مقتضيات الإيمان . مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها ، لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .

وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله ، أو نهى عنها ، ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها ، وجميع أنواع البيوع المحرمة - والربا في مقدمتها - ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله ؛ فإن كان قد نزل قبله ، فقد كان تمهيدًا للنهي عنه . فالربا أشد الوسائل أكلا للأموال بالباطل . وإن كان قد نزل بعده ، فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل .

واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري :

( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) . .

وهو استثناء منقطع . . تأويله : ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق . . ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني ، يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى ، التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل . . وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا - في سورة البقرة - من قول المرابين في وجه تحريم الربا : ( إنما البيع مثل الربا ) . . ورد الله عليهم في الآية نفسها : ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) . . فقد كان المرابون يغالطون ، وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون . فيقولون : إن البيع - وهو التجارة - تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح . فهو - من ثم - مثل الربا . فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا !

والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولا ، وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير ؛ والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير .

فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك ؛ تقوم بترويج البضاعة وتسويقها ؛ ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معًا . وهي خدمة للطرفين ، وانتفاع عن طريق هذه الخدمة . انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد ؛ ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة . .

والربا على الضد من هذا كله . يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة . وهو في الوقت ذاته - كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عندما بلغ أوجه - يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة ؛ وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية . ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات ! ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز ، المحطمة للكيان الإنساني . . وفوق كل شيء . . هذا الربح الدائم لرأس المال ؛ وعدم مشاركته في نوبات الخسارة - كالتجارة - وقلة اعتماده على الجهد البشري ، الذي يبذل حقيقة في التجارة . . إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي ؛ وتقتضي الحكم عليه بالإعدام ؛ كما حكم عليه الإسلام !

فهذه الملابسة بين الربا والتجارة ، هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك - ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل . وإن كان استثناء منقطعًا كما يقول النحويون !

( ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيما ) . .

تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل ؛ فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة ؛ إنها عملية قتل . . يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها ، حين ينهاهم عنها !

وإنها لكذلك . فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة : بالربا . والغش . والقمار . والاحتكار . والتدليس . والاختلاس . والاحتيال . والرشوة . والسرقة . وبيع ما ليس يباع : كالعرض . والذمة . والضمير . والخلق . والدين ! - مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء - ما تروج هذه الوسائل في جماعة ، إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها ، وتتردى في هاوية الدمار !

والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة ، المردية للنفوس ؛ وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم ؛ ومن تدارك ضعفهم الإنساني ، الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله ، إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } . .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا } صَدّقوا الله ورسوله ، { لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ } يقول : لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه من الربا والقمار ، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم الله عنها ، إلا أن تكون تجارة . كما :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ ، إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنكُم } نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا والقمار والبخس والظلم ، إلا أن تكون تجارة ، ليربح في الدرهم ألفا إن استطاع .

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا خالد الطحان ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ } قال : الرجل يشتري السلعة ، فيردّها ويردّ معها درهما .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا بعد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب ، فيقول : إن رضيته أخذته ، وإلا رددته ورددت معه درهما ، قال : هو الذي قال الله : { لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ } .

وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية بالنهي عن أن يأكل بعضهم طعام بعض إلا بشراء ، فأما قِرًى فإنه كان محظورا بهذه الاَية ، حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور : { لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ وَلا على أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } . . . الاَية . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسن بن واقد ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة والحسن البصريّ ، قالا في قوله : { لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضِ مِنْكُمْ } . . . الاَية ، فكان الرجل يتحرّج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الاَية ، فنسخ ذلك بالاَية التي في سورة النور ، فقال : «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتَكُمْ أوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أوْ بُيُوتِ أُمّهاتِكُمْ » . . . إلى قوله : { جَمِيعا أوْ أشْتاتا } فكان الرجل الغنيّ يدعو الرجل من أهله إلى الطعام ، فيقول : إني لأتجنح والتجنح : التحرّج ويقول : المساكين أحقّ مني به . فأحلّ من ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وأحلّ طعام أهل الكتاب .

قال أبو جعفر : وأولى هذين القولين بالصواب في ذلك قول السدي : وذلك أن الله تعالى ذكره حرّم أكل أموالنا بيننا بالباطل ، ولا خلاف بين المسلمين أن أكل ذلك حرام علينا ، فإن الله لم يحلّ قَطّ أكل الأموال بالباطل ، وإذا كان ذلك كذلك فلا معنى لقول من قال : كان ذلك نهيا عن أكل الرجل طعام أخيه قرى على وجه ما أذن له ، ثم نسخ ذلك لنقل علماء الأمة جميعا وجها لها أن قرى الضيف ، وإطعام الطعام كان من حميد أفعال أهل الشرك والإسلام ، التي حمد الله أهلها عليه وندبهم إليها ، وإن الله لم يحرّم ذلك في عصر من العصور ، بل ندب الله عباده ، وحثهم عليه ، وإذ كان ذلك كذلك فهو من معنى الأكل بالباطل خارج ، ومن أن يكون ناسخا أو منسوخا بمعزل ، لأن النسخ إنما يكون لمنسوخ ، ولم يثبت النهي عنه ، فيجوز أن يكون منسوخا بالإباحة . وإذ كان ذلك كذلك ، صحّ القول الذي قلناه ، من أن الباطل الذي نهى الله عن أكل الأموال به ، هو ما وصفنا مما حرمه على عباده في تنزيله ، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وشذّ ما خالفه .

واختلفت القراء في قراءة قوله : { إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فقرأها بعضهم : { إلاّ أنْ تَكُونَ تِجاَرةٌ } رفعا بمعنى : إلا أن توجد تجارة ، أو تقع تجارة عن تراض منكم ، فيحلّ لكم أكلها حينئذٍ بذلك المعنى . ومذهب من قرأ ذلك على هذا الوجه «أن تكون » تامة ههنا لا حاجة بها إلى خبر على ما وصفت¹ وبهذه القراءة قرأ أكثر أهل الحجاز وأهل البصرة . وقرأ ذلك آخرون ، وهم عامة قراء الكوفيين : { إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً } نصبا ، بمعنى : إلا أن تكون الأمْوَلُ التي تأكلونها بينكم تجارة عن تراض منكم ، فيحل لكم هنالك أكلها ، فتكون الأموال مضمرة في قوله : { إلاّ أنْ تَكُونَ } والتجارة منصوبة على الخبر . وكلتا القراءتين عندنا صواب جائز القراءة بهما ، لاستفاضتهما في قراءة الأمصار مع تقارب معانيهما . غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن قراءة ذلك بالنصب أعجب إليّ من قراءته بالرفع ، لقوّة النصب من وجهين : أحدهما : أنّ في تكون ذكرا من الأموال¹ والاَخر : أنه لو لم يجعل فيها ذكر منها ثم أفردت بالتجارة وهي نكرة ، كان فصيحا في كلام العرب النصب ، إذ كانت مبنية على اسم وخبر ، فإذا لم يظهر معها إلا نكرة واحدة نصبوا ورفعوا ، كما قال الشاعر :

*** إذَا كانَ طَعْنا بَيْنَهُمْ وَعِنَاقا ***

ففي هذه الاَية إبانة من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوّفة المنكرين طلب الأقوات بالتجارات والصناعات ، والله تعالى يقول : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } : اكتسابا أحلّ ذلك لها . كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ إلاّ أنْ تَكُون تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ } قال : التجارة رزق من رزق الله ، وحلال من حلال الله لمن طلبها بصدقها وبرّها ، وقد كنا نحدّث أن التاجر الأمين الصدوق مع السبعة في ظلّ العرش يوم القيامة .

وأما قوله : { عَنْ تَراضٍ } فإن معناه كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : { عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } في تجارة أو بيع أو عطاء يعطيه أحد أحدا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شيل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } في تجارة أو بيع أو عطاء يعطيه أحد أحدا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن القاسم ، عن سليمان الجعفي ، عن أبيه ، عن ميمون بن مهران ، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : «البَيْعُ عَنْ تَراضٍ ، وَالخيارُ بَعْدَ الصّفْقَةِ ، وَلا يَحِلّ لُمسْلمٍ أنْ يَغُشّ مُسْلِما » .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : المماسحة بيع هي ؟ قال : لا ، حتى يخيره التخيير بعد ما يجب البيع ، إن شاء أخذ وإن شاء ترك .

واختلف أهل العلم في معنى التراضي في التجارة ، فقال بعضهم : هو أن يخير كل واحد من المتبايعين بعد عقدهما البيع بينهما فيما تبايعا فيه من إمضاء البيع أو نقضه ، أو يتفرّقا عن مجلسهما الذي تواجبا فيه البيع بأبدانهما ، عن تراض منهما بالعقد الذي تعاقداه بينهما قبل التفاسخ . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثنى أبي ، عن قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن شريح قال : اختصم رجلان ، باع أحدهما من الاَخر بُرْنُسا ، فقال : إني بعت من هذا برنسا ، فاسترضيته فلم يرضني . فقال : أرضه كما أرضاك ! قال : إني قد أعطيته دراهم ولم يرض . قال : أرضه كما أرضاك ! قال : قد أرضيته فلم يرض . فقال : البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي ، عن شريح ، قال : البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن شريج ، مثله .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن جابر ، قال : ثنى أبو الضحى ، عن شريح أنه قال : البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا . قال : قال أبو الضحى : كان شريح يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .

وحدثني الحسن بن يزيد الطحان ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن عبد السلام ، عن رجل ، عن أبي حوشب ، عن ميمون ، قال : اشتريت من ابن سيرين سابريّا فسام عليّ سَوْمَة ، فقلت : أحسن ! فقال : إما أن تأخذ وإما أن تدع . فأخذت منه ، فلما زنت الثمن وضع الدراهم ، فقال : اختر إما الدراهم وإما المتاع ! فاخترت المتاع فأخذته .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي أنه كان يقول في البيعين : إنهما بالخيار ما لم يتفرّقا ، فإذا تصادر فقد وجب البيع .

حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا سفيان بن دينار ، عن طيسلة ، قال : كنت في السوق ، وعليّ رضي الله عنه في السوق ، فجاءته جارية إلى بَيّعِ فاكهة بدرهم ، فقالت : أعطني هذا ! فأعطاها إياه . فقالت : لا أريده أعطني درهمي ! فأبي ، فأخذه منه عليّ فأعطاها إياه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي أنه أتى في رجل اشترى من رجل برذونا ووجب له ، ثم إن المبتاع ردّه قبل أن يتفرّقا ، فقضى أنه قد وجب عليه . فشهد عنده أبو الضحى أن شريحا قضى في مثله أن يرده على صاحبه ، فرجع الشعبي إلى قضاء شريح .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن شريح ، أنه كان يقول في البيعين : إذا ادعى المشترى أنه قد أوجب له البيع ، وقال البائع : لم أوجب له ، قال شاهدان عدلان أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير ، وإلا فيمين البائع : أنكما ( ما ) افترقتما عن بيع ولا تخاير .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، قال : كان شريح يقول : شاهدان ذوا عدل أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع وتخاير ، وإلا فيمينه بالله ما تفرّقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير .

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن شريح أنه كان يقول : شاهدان ذوا عدل أنهما تفرّقا عن تراض بعد بيع أو تخاير .

وعلة من قال هذه المقالة ما :

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الله ، قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «كُلّ بَيّعَيْنِ فَلا بَيْعَ بَيْنَهُما حتى يَتَفَرّقا إلاّ أنْ يَكُونَ خِيارا » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : ثنى يحيى بن أيوب ، قال : كان أبو زرعة إذا بايع رجلاً يقو له : خيّرني ! ثم يقول : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يَفْتَرِقُ اثْنانِ إلاّ عَنْ رِضا » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أهْلَ البَقِيعِ ! » فسمعوا صوته ، ثم قال : «يا أهْلَ البَقِيعِ ! » فاشرأبوا ينظرون حتى عرفوا أنه صوته ، ثم قال : «يا أهْلَ البَقِيعِ لا يَتَفَرّقَنّ بَيّعانِ إلاّ عَنْ رِضا » .

حدثني أحمد بن محمد الطوسيّ ، قال : حدثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بايع رجلاً ثم قال له : «اخْتَرْ ! » فقال : قد اخترت ، فقال : «هَكَذَا البَيْعُ » .

قالوا : فالتجارة عن تراض هو ما كان على بينه النبي صلى الله عليه وسلم من تخيير كل واحد من المشترى والبائع في إمضاء البيع فيما يتبايعانه بينهما ، أو نقضه بعد عقد البيع بينهما وقبل الافتراق ، أو ما تفرّقا عنه بأبدانهما ، عن تراض منهما بعد مواجبة البيع فيه عن مجلسهما ، فما كان بخلاف ذلك فليس من التجارة التي كانت بينهما عن تراض منهما .

وقال آخرون : بل التراضي في التجارة تواحب عقد البيع فيما تبايعه المتبايعان بينهما عن رضا من كل واحد منهما ما ملك عليه صاحبه وملك صاحبه عليه ، افترقا عن مجلسهما ذلك أو لم يفترقا ، تخايرا في المجلس أو لم يتخايرا فيه بعد عقده .

وعلة من قال هذه المقالة : أن البيع إنما هو بالقول ، كما أن النكاح بالقول ، ولا خلاف بين أهل العلم في الإجبار في النكاح لأحد المتناكحين على صاحبه ، افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما ، الذي جرى ذلك فيه قالوا : فكذلك حكم البيع . وتأوّلوا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «البَيّعانِ بالخيارِ ما لَمْ يَتَفَرّقا » على أنه ما لم يتفرقا بالقول . وومن قال هذه المقالة مالك بن أنس ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ومحمد .

قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا قول من قال : إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين : ما تفرق المتبايعان على المجلس الذي تواجبا فيه بينهما عقدة البيع بأبدانهما ، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما ، وعن تخيير كل واحد منهما صاحبه¹ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «البَيّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرّقا ، أوْ يَكُونَ بَيْعُ خِيارٍ » وربما قال : «أوْ يَقُولُ أحَدُهُما للاَخَرِ اخْتَرْ » .

فإذ كان ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا ، فليس يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه اختر ، من أن يكون قبل عقد البيع ، أو معه ، أو بعده . فإن يكن قبله ، فذلك الخلف من الكلام الذي اختر ، من أن يكون قبل عقد البيع ، أو معه ، أو بعده . فإن يكن قبله ، فذلك الخلف من الكلام الذي لا معنى له ، لأنه لم يملك قبل عقد البيع أحد المتبايعين على صاحبه ، ما لم يكن له مالكا ، فيكون لتخييره صاحبه فيما يملك عليه وجه مفهوم ، ولا فيهما من يجهل أنه بالخيار في تمليك صاحبه ما هو له غير مالك بعوض يعتاضه منه ، فيقال له : أنت بالخيار فيما تريد أن تحدثه من بيع أو شراء . أو يكون إن بطل هذا المعنى تخيير كل واحد منهما صاحبه مع عقد البيع ، ومعنى التخيير في تلك الحال ، نظير معنى التخيير قبلها ، لأنها حالة لم يزل فيها عن أحدهما ما كان مالكه قبل ذلك إلى صاحبه ، فيكون للتخيير وجه مفهوم . أو يكون ذلك بعد عقد البيع ، إذا فسد هذان المعنيان . وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن المعنى الاَخر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعني قوله : «ما لَمْ يَتَفَرَقّا » إنما هو التفرّق بعد عقد البيع ، كما كان التخيير بعده ، وإذا صحّ ذلك ، فسد قول من زعم أن معنى ذلك : إنما هو التفرّق بالقول الذي به يكون البيع . وإذا فسد ذلك صحّ ما قلنا من أن التخيير والافتراق إنما هما معنيان بهما يكون تمام البيع بعد عقده ، وصحّ تأويل من قال : معنى قوله : { إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } إلا أن يكون أكلكم الأموال التي يأكلها بعضكم لبعض عن ملك منكم عمن ملكتموها عليه بتجارة تبايعتموها بينكم ، وافترقتم عنها ، عن تراض منكم بعد عقد بينكم بأبدانكم ، أو يخير بعضكم بعضا .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَقْتَلُوا أنْفُسَكُمْ إنّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيما } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } ولا يقتل بعضكم بعضا ، وأنتم أهل ملة واحدة ، ودعوة واحدة ودين واحد فجعل جلّ ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضهم من بعض ، وجعل القاتل منهم قتيلاً في قتله إياه منهم بمنزلة قتله نفسه ، إذ كان القاتل والمقتول أهل يد واحدة على من خالف ملتهما . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلا تَقْتَلُوا أنْفُسَكُمْ } يقول : أهلَ ملتكم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح : { وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } قال : قتل بعضكم بعضا .

وأما قوله جل ثناؤه : { إنّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيما } فإنه يعني أن الله تبارك وتعالى لم يزل رحيما بخلقه ، ومن رحمته بكم كفّ بعضكم عن قتل بعض أيها المؤمنون ، بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها ، وحظر أكل مال بعضكم على بعض بالباطل ، إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه ، لولا ذلك هلكتم وأهلك بعضكم بعضا قتلاً وسلبا وغصبا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } بما لم يبحه الشرع كالغصب والربا والقمار . { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } استثناء منقطع أي ، ولكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه ، أو اقصدوا كون تجارة . وعن تراض صفة لتجارة أي تجارة صادرة عن تراضي المتعاقدين ، وتخصيص التجارة من الوجوه التي بها يحل تناول مال الغير ، لأنها أغلب وأرفق لذوي المروءات ، ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقا . وقيل : المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله . وبالتجارة صرفه فيما يرضاه . وقرأ الكوفيون { تجارة } بالنصب على كان الناقصة وإضمار الاسم أي إلا أن تكون التجارة أو لجهة تجارة . { ولا تقتلوا أنفسكم } بالبخع كما تفعله جهلة الهند ، أو بإلقاء النفس إلى التهلكة . ويؤيده ما روي : أن عمرو بن العاص تأوله التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها . أو باقتراف ما يذلها ويرديها فإنه القتل الحقيقي للنفس . وقيل المراد بالأنفس من كان من أهل دينهم ، فإن المؤمنين كنفس واحدة . جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم ريثما تستكمل النفوس ، وتستوفى فضائلها رأفة بهم ورحمة كما أشار إليه بقوله : { إن الله كان بكم رحيما } أي أمر ما أمر ونهى عما نهى لفرط رحمته عليكم . وقيل : معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيما لما أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

هذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن إن كانت تجارة فكلوها{[3968]} .

وقرأ المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : «تجارةٌ » بالرفع على تمام «كان » وأنها بمعنى : وقع ، وقرأت فرقة ، هي الكوفيون حمزة وعاصم والكسائي : «تجارةً » بالنصب على نقصان «كان » ، وهو اختيار أبي عبيد .

قال القاضي أبو محمد : وهما قولان قويان ، إلا أن تمام «كان » يترجح عند بعض ، لأنها صلة «أن » فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها ، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن ، و { أن } في موضع نصب ، ومن نصب «تجارة » جعل اسم كان مضمراً ، تقديره الأموال أموال تجارة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، أو يكون التقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة ، ومثل ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إذا كان يوماً ذا كواكبَ أشنعا{[3969]}

أي : إذا كان اليوم يوماً ، والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع . فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمّة ، والجمهور على جواز الغبن في التجارة ، مثال ذلك : أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة ، فذلك جائز ، ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يبع حاضر لبادٍ »{[3970]} لأنه إنما أراد بذلك أن يبيع البادي باجتهاده ، ولا يمنع الحاضر الحاضر من رزق الله في غبنه ، وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود ، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات ، وأما المتفاحش الفادح فلا ، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله . و { عن تراض } معناه عن رضا ، إلا أنها جاءت من المفاعلة ، إذ التجارة من اثنين ، واختلف أهل العلم في التراضي ، فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر فيقول : قد اخترت ، وذلك بعد العقدة أيضاً ، فينجزم حينئذ ، هذا هو قول الشافعي وجماعة من الصحابة ، وحجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار »{[3971]} وهو حديث ابن عمر وأبي برزة ، ورأيهما - وهما الراويان - أنه افتراق الأبدان .

قال القاضي أبو محمد : والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان ، لأنه من صفات الجواهر ، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله : تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار ، وقالا في الحديث المتقدم : إنه التفرق بالقول ، واحتج بعضهم بقوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته }{[3972]} فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق ، قال من احتج للشافعي : بل هي فرقة بالأبدان ، بدليل تثنية الضمير ، والطلاق لا حظّ للمرأة فيه ، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق ، قال الشافعي : ولو كان معنى قوله : يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله : البيعان بالخيار ، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد ، فجاء الإخبار لا طائل فيه ، قال من احتجّ لمالك : إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد ، فجاء قوله : البيعان بالخيار توطئة لذلك ، وإن كانت التوطئة معلومة ، فإنها تهيىء النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها ، واستدل الشافعي بقوله عليه السلام :

«لا يسم الرجل على سوم أخيه ، ولا بيع الرجل على بيع أخيه »{[3973]} فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختارربها حل الصفقة الأولى ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الإفساد ، ألا ترى أنه عليه السلام قال : «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه »{[3974]} فهي في درجة ؛ لا يسم ، ولم يقل : لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييراً بإجماع من الأمة ، قال من يحتج لمالك رحمه الله : قوله عليه السلام : لا يسم ولا يبع ، هي درجة واحدة كلها قبل العقد ، وقال : لا بيع تجوزاً في لا يسم ، إذ مآله إلى البيع ، فهي جميعاً بمنزلة قوله : لا يخطب ، والعقد جازم فيهما جميعاً .

قال القاضي أبو محمد : وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار » معناه عند المالكين : المتساومان بالخيار ما لم يعقدا ، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما ، فإنه لا يبطل الخيار فيه ، ومعناه عند الشافعيين : المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما ، إلا بيعاً يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار ، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان ، وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } قرأ الحسن «ولا تقتّلوا » على التكثير ، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها ، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل ، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه ، فهذا كله يتناوله النهي ، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفاً على نفسه منه ، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه{[3975]} .


[3968]:- إنما كان الاستثناء منقطعا لوجهين: أولهما أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل فتستثنى منها سواء فسرنا الباطل بأنه أخذ المال بغير عوض أو بغير طريق شرعي، وثانيهما أن الاستثناء إنما وقع على الكون، والكون معنى من المعاني، وليس مالا من الأموال. وهذا استثناء لا يدل على الحصر في أنه لا يجوز أكل المال إلا بالتجارة فقط، بل هو ذكر نوع غالب من طرق اكتساب المال وهو التجارة. البحر المحيط 3/ 231. =ونظير هذه الآية في الاستثناء المنقطع قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}، وقوله سبحانه: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى}، ذكر ذلك ابن كثير 2/ 253.
[3969]:- هذا عجز البيت، وهو بتمامه: فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوما ذا كواكب أشهب. على أن (كان) تامة.
[3970]:- الحاضر: هو المقيم في المدينة أو القرية، والبادي: هو المقيم بالبادية- والمنهي عنه في هذا الحديث أن يأتي البدوي المدينة ومعه قوت يبغي بيعه بسرعة ولو رخيصا، فيقول له الحضري: اتركه عندي لأغالي في بيعه، وسئل ابن عباس عن معنى الحديث فقال: "لا يكون له سمسارا". (عن ابن الأثير).
[3971]:- رواه سمرة بن جندب، وأبو برزة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة، وحكيم بن حزام، وغيرهم، وهو ثابت في الصحيحين، وفي لفظ البخاري: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا). وفي رواية: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر). وقوله: (أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر) هو معنى الرواية الأخرى: (إلا بيع الخيار).
[3972]:- من الآية (130) من سورة (النساء).
[3973]:- عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سومه) قال "في نيل الأوطار": متفق عليه.
[3974]:- رواه الدارمي في سننه عن ابن عمر بلفظ: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه، ولا يبيع على بيع أخيه حتى يأذن له). ورواه أحمد عن ابن عمر أيضا. وأخرجه مسلم أيضا. وأخرجه كذلك البخاري. نيل الأوطار.
[3975]:- أخرج أحمد، وأبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عمرو بن العاص قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل، احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت به، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله، إني =احتلمت في ليل باردة شديدة البرد فأشفقت- إن اغتسلت- أن أهلك، وذكرت قول الله: {ولا تقتلوا أنفسكم} فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئا). الدر المنثور 2/ 144، 145.