ثم ختم - سبحانه - هذا التهوين لحطام الدنيا فقال : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } .
و { وَلَوْلاَ } حرف امتناع لامتناع . والكلام على حذف مضاف . والمراد بالأمة الواحدة : أمة الكفر . والمعارج مع معرج وهى المصاعد التى يصعد عليها إلى أعلى .
أى : ولولا كراهة أن يكون الناس جميعا أمة واحدة مجتمعة على الكفر حين يشاهدون سعة الرزق ، ورفاهية العيش ، ظاهرة بين الكافرين . .
لولا كراهية ذلك . لجعلنا بمشيئتنا وقدرتنا ، لمن يكفر بالرحمن ، الشئ الكثير من حطام الدنيا ، بأن نجعل لبيوتهم سقفا من فضة ، ولجعلنا لهم مصاعد فخمة عليها يرقون إلى أعلى مساكنهم .
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون . وزخرفاً . وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا . والآخرة عند ربك للمتقين . .
فهكذا - لولا أن يفتتن الناس . والله أعلم بضعفهم وتأثير عرض الدنيا في قلوبهم - لجعل لمن يكفر بالرحمن صاحب الرحمة الكبيرة العميقة - بيوتاً سقفها من فضة ، وسلالمها من ذهب .
بيوتاً ذات أبواب كثيرة . قصورا . فيها سرر للاتكاء ، وفيها زخرف للزينة . . رمزاً لهوان هذه الفضة والذهب والزخرف والمتاع ؛ بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمن !
( وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ) . .
متاع زائل ، لا يتجاوز حدود هذه الدنيا . ومتاع زهيد يليق بالحياة الدنيا .
( والآخرة عند ربك للمتقين ) . .
وهؤلاء هم المكرمون عند الله بتقواهم ؛ فهو يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى ؛ ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى . ويميزهم على من يكفر بالرحمن ، ممن يبذل لهم من ذلك المتاع الرخيص ما يبذله للحيوان !
وإن عرض الحياة الدنيا الذي ضرب الله له بعض الأمثال من المال والزينة والمتاع ليفتن الكثيرين . وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار ، ويرون أيادي الأبرار منه خالية ؛ أو يرون هؤلاء في عسر أو مشقة أو ابتلاء ، وأولئك في قوة وثروة وسطوة واستعلاء . والله يعلم وقع هذه الفتنة في نفوس الناس . ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه ؛ ويكشف لهم كذلك عن نفاسة ما يدخره للأبرار الأتقياء عنده . والقلب المؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار وللفجار .
وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيار الله لرجل لم يؤت شيئاً من عرض هذه الحياة الدنيا ؛ ويقيسون الرجال بما يملكون من رياسة ، أو بما يملكون من مال . يرون من هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند الله . وأنها مبذولة لشر خلق الله وأبغضهم عند الله . فهي لا تدل على قربى منه ولا تنبئ عن رضى ، ولا تشي باختيار !
وهكذا يضع القرآن الأمور في نصابها ؛ ويكشف عن سنن الله في توزيع الأرزاق في الدنيا والآخرة ؛ ويقرر حقيقة القيم كما هي عند الله ثابتة . وذلك في صدد الرد على المعترضين على رسالة محمد ؛ واختياره . واطراح العظماء المتسلطين !
وهكذا يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير ؛ ولا تؤثر فيها تطورات الحياة ، واختلاف النظم ، وتعدد المذاهب ، وتنوع البيئات . فهناك سنن للحياة ثابتة ، تتحرك الحياة في مجالها ؛ ولكنها لا تخرج عن إطارها . والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة ، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي ، الذي يجمع بين الثبات والتغير ، في صلب الحياة وفي أطوار الحياة ؛ ويحسبون أن التطور والتغير ، يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها . ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور ؛ وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر . فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته !
فأما نحن - أصحاب العقيدة الإسلامية - فنرى في واقع الحياة مصداق ما يقرره الله من وجود الثبات والتغير متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون ، وفي كل جانب من جوانب الحياة . وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم ثبات التفاوت في الرزق بين الناس ، وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات . . وهذا التلازم مطرد في غير هذا المثال .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً لّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرّحْمََنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَوْلا أن يَكُونَ النّاسُ أُمّةً : جماعة واحدة .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي لم يؤمن اجتماعهم عليه ، لو فعل ما قال جلّ ثناؤه ، وما به لم يفعله من أجله ، فقال بعضهم : ذلك اجتماعهم على الكفر . وقال : معنى الكلام : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على الكفر ، فيصيرَ جميعهم كفارا لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بالرّحمَنِ لبُيُوتِهِمْ سُقُفا مِنْ فِضّةٍ ذكر من قال ذلك .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً يقول الله سبحانه : لولا أن أجعل الناس كلهم كفارا ، لجعلت للكفار لبيوتهم سقفا من فضة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوذة بن خليفة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال : لولا أن يكون الناس كفارا أجمعون ، يميلون إلى الدنيا ، لجعل الله تبارك وتعالى الذي قال ، ثم قال : والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها ، وما فعل ذلك ، فكيف لو فعله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً : أي كفارا كلهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال : لولا أن يكون الناس كفارا .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً يقول : كفارا على دين واحد .
وقال آخرون : اجتماعهم على طلب الدنيا وترك طلب الاَخرة . وقال : معنى الكلام : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على طلب الدنيا ورفض الاَخرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال : لولا أن يختار الناس دنياهم على دينهم ، لجعلنا هذا لأهل الكفر .
وقوله : لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بالرّحْمَن لِبُيُوتِهِمْ سُقْفا مِنْ فِضّةٍ يقول تعالى ذكره : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن في الدنيا سقفا ، يعني أعالي بيوتهم ، وهي السطوح فضة . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لِبُيُوتهِمْ سُقُفا مِنْ فِضّةٍ السُقُف : أعلى البيوت .
واختلف أهل العربية في تكرير اللام التي في قوله : لِمَنْ يَكْفُرُ ، وفي قوله : لِبُيُوتهِمْ ، فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنها أدخلت في البيوت على البدل . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : إن شئت جعلتها في لِبُيُوتهِمْ مكرّرة ، كما في يَسْئَلُونَكَ عَن الشّهْرِ الحَرَام قِتالٍ فِيهِ ، وإن شئت جعلت اللامين مختلفتين ، كأن الثانية في معنى على ، كأنه قال : جعلنا لهم على بيوتهم سقفا . قال : وتقول العرب للرجل في وجهه : جعلت لك لقومك الأعطية : أي جعلته من أجلك لهم .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : «سَقْفا » فقرأته عامة قرّاء أهل مكة وبعض المدنيين وعامة البصريين سَقْفا بفتح السين وسكون القاف اعتبارا منهم ذلك بقوله : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وتوجيها منهم ذلك إلى أنه بلفظ واحد معناه الجمع . وقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة سُقُفا بضم السين والقاف ، ووجّهوها إلى أنها جمع سقيفة أو سقوف . وإذا وجهت إلى أنها جمع سقوف كانت جمع الجمع ، لأن السقوف : جمع سَقْف ، ثم تجمع السقوف سُقُفا ، فيكون ذلك نظير قراءة من قرأه فرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ بضم الراء والهاء ، وهي الجمع ، واحدها رهان ورهون ، وواحد الرهون والرهان : رَهْن . وكذلك قراءة من قرأ كُلُوا مِنْ ثُمُرِهِ بضم الثاء والميم ، ونظير قول الراجز :
*** حتى إذَا ابْتَلّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ ***
وقد زعم بعضهم أن السّقُف بضم السين والقاف جمع سَقْف ، والرّهُن بضم الراء والهاء جمع رَهْن ، فأغفل وجه الصواب في ذلك ، وذلك أنه غير موجود في كلام العرب اسم على تقدير فعل بفتح الفاء وسكون العين مجموعا على فُعُل ، فيجعل السّقُف والرّهُن مثله .
والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، معروفتان في قرأة الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ يقول : ومراقي ودَرَجا عليها يصعدون ، فيظهرون على السقف والمعارج : هي الدرج نفسها ، كما قال المثنى بن جندل :
*** يا رَبّ البَيْتِ ذي المَعارِج ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَمَعارِجَ قال : معارج من فضة ، وهي درج .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ : أي دَرجا عليها يصعدون .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال : المعارج : المراقي .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَمَعَارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال : دُرُج عليها يُرفعون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن ابن عباس قوله : وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال : درج عليها يصعدون إلى الغرف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال : المعارج : درج من فضة .
{ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } لولا أن يرغبوا في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة وتنعم لحبهم الدنيا فيجتمعوا عليه . { لجعنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج } ومصاعد جمع معراج ، وقرئ " معاريج " جمع معراج . { عليها يظهرون } يعلون السطوح لحقارة الدنيا ، و{ لبيوتهم } بدل من { لمن } بدل الاشتمال أو على كقولك : وهبت له ثوبا لقميصه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " وسقفا " اكتفاء بجميع البيوت ، وقرئ " سقفا " بالتخفيف و " سقوفا " و " سقفا " وهي لغة في سقف .
ثم استمرّ القول في تحقيرها بقوله تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة )الآية ، وذلك أن معنى الآية أن الله تعالى أبقى على عباده وأنعم بمراعاة بقاء الخير والإيمان وشاء حِفظه على طائفة منهم بقية الدهر ، ولولا كراهية أن يكون الناس كفارا كلهم وأهل حب في الدنيا وتجرّد لها لوسّع الله تعالى على الكفار غاية التوسعة ومكّنهم من الدنيا ؛ إذ حقارتها عنده تقتضي ذلك ؛ لأنها لا قدر لها ولا وزن لفنائها وذهاب رسومها ، فقوله تعالى : ( أمة واحدة ) معناه : في الكفر ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والحسن ، والسدي ، ومن هذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماءٍ ) ( {[10200]} ) ، ثم يتركب معنى الآية على معنى هذا الحديث ، واللام في قوله تعالى : ( لمن يكفر ) لام المِلْك ، واللام في قوله تعالى : [ لبيوتهم ] لام تخصيص ، كما تقول : هذا الكِساء لزيد لدابته ، أي : هو لدابّته حِلْسٌ( {[10201]} ) ولزيد مِلْك ، قال المهدوي : ودلت هذه الآية على أن السقف لربّ البيت الأسفل ؛ إذ هو منسوب إلى البيوت .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وقرأ جمهور القراء : [ سُقُفاً ] بضم السين والقاف ، وقرأ مجاهد : [ سُقْفاً ] بضم السين وسكون القاف ، وهذا جمعان ، وقرأ ابن كثير ، وأبو جعفر : [ سَقْفاً بفتح السين وسكون القاف على الإفراد ، و " المعارج " : الأدراج التي يطلع عليها ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والناس ، وقرأ طلحة : [ وَمَعَارِيجَ ] بزيادة ياءٍ ، و[ يظْهَرُونَ ] معناه : يَعْلون ، ومنه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها : ( والشمس في حجرتها قبل أن تظهر ) ( {[10202]} ) ،