1- سورة " قريش " تسمى –أيضا- سورة " لإيلاف قريش " ، وهي من السور المكية عند جماهير العلماء ، وقيل : مدنية ، والأول أصح ؛ لأنه المأثور عن ابن عباس وغيره ، وعدد آياتها أربع آيات ، وعند الحجازيين خمس آيات .
وكان نزولها بعد سورة " التين " ، وقبل سورة " القارعة " . فهي السورة التاسعة والعشرون في ترتيب النزول .
2- ومن أهدافها : تذكير أهل مكة بجانب من نعم الله –تعالى- عليهم ، لعلهم عن طريق هذا التذكير يفيئون إلى رشدهم ، ويخلصون العبادة لخالقهم ، ومانحهم تلك النعم العظيمة .
الإِيلاف : مصدر آلفت الشيء إيلافا و " إلفا " إذا لزمته وتعودت عليه . وتقول : آلفت فلانا الشيء ، إذا ألزمته إياه . والإِيلاف - أيضا - اجتماع الشمل مع الالتئام ، ومنه قوله - تعالى - { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً . . . } ولفظ " إيلاف " مضاف لمفعوله وهو قريش ، والفاعل هو الله - تعالى - : و " قريش " هم ولد النضر بن كنانه - على الأرجح - وهو الجد الثالث عشر للنبى صلى الله عليه وسلم .
قال القرطبى ما ملخصه : وأما قريش فهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي .
وسموا قريشا لتجمعهم بعد التفرق ، إذ التقرش : التكسب ، ويقال : قرَشَ فلان يقرُشُ قَرْشا - كقتل - ، إذا كسب المال وجمعه .
استجاب الله دعوة خليله إبراهيم ، وهو يتوجه إليه عقب بناء البيت وتطهيره : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ) . . فجعل هذا البيت آمنا ، وجعله عتيقا من سلطة المتسلطين وجبروت الجبارين ؛ وجعل من يأوي إليه آمنا والمخافة من حوله في كل مكان . . حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربهم وعبدوا معه الأصنام . . لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام .
ولما توجه أصحاب الفيل لهدمه كان من أمرهم ما كان ، مما فصلته سورة الفيل . وحفظ الله للبيت أمنه ، وصان حرمته ؛ وكان من حوله كما قال الله فيهم : ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ? ) .
وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة ، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش ، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين ، حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية ، وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة - عن طريق القوافل - إلى اليمن في الجنوب ، وإلى الشام في الشمال . وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين : إحداهما إلى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف .
ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء ؛ وعلى ما كان شائعا من غارات السلب والنهب ، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية ، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة ؛ وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول ، في أمان وسلام وطمأنينة . وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين ، فصارتا لهم عادة وإلفا !
هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها - بعد البعثة - كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة ، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف ، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين - وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله . ومنة أمنهم الخوف . سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله ، أم في أسفارهم وترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء .
يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه ؛ وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين ؛ ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين . .
يقول لهم : من أجل إيلاف قريش : رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة ، وتنال من ورائها ما تنال ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع ) . . وكان الأصل - بحسب حالة أرضهم - أن يجوعوا ، فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع ( وآمنهم من خوف ) . . وكان الأصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف !
وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس . ويثير الخجل في القلوب . وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها . وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده . وها هو ذا عبد المطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة . إنما يواجهه برب هذا البيت الذي يتولى حماية بيته ! لم يواجهه بصنم ولا وثن ، ولم يقل له . . إن الآلهة ستحمي بيتها . إنما قال له : " أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه " . . ولكن انحراف الجاهلية لا يقف عند منطق ، ولا يثوب إلى حق ، ولا يرجع إلى معقول .
القول في تأويل قوله تعالى : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَآءِ وَالصّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبّ هََذَا الْبَيْتِ * الّذِيَ أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مّنْ خَوْفٍ } .
اختلفت القراء في قراءة{ لإيلافِ قُرَيْشٍ إيلافِهِمْ } فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار بياء بعد همز لإيلاف وإيلافهم ، سوى أبي جعفر ، فإنه وافق غيره في قوله( لإيلافِ ) فقرأه بياء بعد همزة ، واختلف عنه في قوله ( إيلافِهِمْ ) ، فروي عنه أنه كان يقرؤه : «إلْفِهِمْ » على أنه مصدر من ألف يألف إلفا ، بغير ياء . وحَكى بعضهم عنه أنه كان يقرؤه : «إلافِهِمْ » بغير ياء مقصورة الألف .
والصواب من القراءة في ذلك عندي : من قرأه : { لإيلافِ قُرَيْشٍ إيلافِهِمْ } بإثبات الياء فيهما بعد الهمزة ، من آلفت الشيء أُولفه إيلافا ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه . وللعرب في ذلك لغتان : آلفت ، وألفت ، فمن قال : آلفت بمد الألف قال : فأنا أؤالف إيلافا ، ومن قال : ألفت بقصر الألف قال : فأنا آلَفُ إلْفا ، وهو رجل آلِف إلْفا . وحُكي عن عكرِمة أنه كان يقرأ ذلك : «لتألّفِ قُرَيْشٍ إلْفَهُمْ رِحْلَةَ الشّتاءِ والصّيْفِ » .
حدثني بذلك أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي مكين ، عن عكرِمة .
وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مِهْران ، عن سفيان ، عن ليث ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد ، قالت : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ : «إلْفَهُمْ رِحْلَةَ الشّتاءِ وَالصّيْفِ » .
واختلف أهل العربية في المعنى الجالب هذه اللام في قوله : لإيلافِ قُرَيْشٍ ، فكان بعض نحويي البصرة يقول : الجالب لها قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } فهي في قول هذا القائل صلة لقوله : جعلهم ، فالواجب على هذا القول أن يكون معنى الكلام : ففعلنا بأصحاب الفيل هذا الفعل ، نعمة منا على أهل هذا البيت ، وإحسانا منا إليهم ، إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء والصيف ، فتكون اللام في قوله ( لإِيلافِ ) بمعنى إلى ، كأنه قيل : نعمة لنعمة وإلى نعمة ؛ لأن إلى موضع اللام ، واللام موضع إلى . وقد قال معنى هذا القول بعض أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشّتاءِ وَالصّيْفِ } قال : إيلافهم ذلك ، فلا يشقّ عليهم رحلة شتاء ولا صيف .
حدثني إسماعيل بن موسى السديّ ، قال : أخبرنا شريك ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن مجاهد { لإيلافِ قُرَيْشٍ } قال : نعمتي على قريش .
حدثني محمد بن عبد الله الهلاليّ ، قال : حدثنا فَرْوة بن أبي المَغْراء الكِندّي ، قال : حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهانيّ ، قال : حدثنا خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، في قوله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } قال : نعمتي على قريش .
وكان بعض نحويي الكوفة يقول : قد قيل هذا القول ، ويقال : إنه تبارك وتعالى عجّب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : اعجب يا محمد لنِعَم الله على قريش ، في إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . ثم قال : فلا يتشاغلوا بذلك عن الإيمان واتباعك ، يستدل بقوله : { فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْتِ } .
وكان بعض أهل التأويل يوجّه تأويل قوله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } إلى أُلفة بعضهم بعضا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } فقرأ : { ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِأصحَابِ الْفِيلِ } إلى آخر السورة ، قال : هذا لإيلاف قريش ، صنعت هذا بهم لألفة قريش ، لئلا أفرّق أُلفتهم وجماعتهم ، إنما جاء صاحب الفيل ليستبيد حريمهم ، فصنع الله ذلك .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن هذه اللام بمعنى التعجب . وأن معنى الكلام : اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، وتركهم عبادة ربّ هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، فليعبدوا ربّ هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف . والعرب إذا جاءت بهذه اللام ، فأدخلوها في الكلام للتعجب ، اكتفوا بها دليلاً على التعجب من إظهار الفعل الذي يجلبها ، كما قال الشاعر :
أغَرّكَ أنْ قالُوا لِقُرّةَ شاعِرا *** فيالأَباهُ مِنْ عَرِيفٍ وَشاعِرِ
فاكتفى باللام دليلاً على التعجب من إظهار الفعل ، وإنما الكلام : أغرّك أن قالوا : اعجبوا لقرّة شاعرا ، فكذلك قوله : لإيلافِ .
وأما القول الذي قاله من حَكينا قوله ، أنه من صلة قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } فإن ذلك لو كان كذلك ، لوجب أن يكون «لإيلاف » بعض «ألم تر » ، وأن لا تكون سورة منفصلة من «ألم تر » ، وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامّتان كلّ واحدة منهما منفصلة عن الأخرى ، ما يبين عن فساد القول الذي قاله من قال ذلك . ولو كان قوله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } من صلة قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأكُولٍ } لم تكن «ألم تر » تامّة حتى توصلَ بقوله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } لأن الكلام لا يتمّ إلاّ بانقضاء الخبر الذي ذُكر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : «إلْفَهُمْ رِحْلَةَ الشّتاءِ وَالصّيْفِ » يقول : لزومهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } قال : نهاهم عن الرحلة ، وأمرهم أن يعبدوا ربّ هذا البيت ، وكفاهم المؤنة ، وكانت رحلتهم في الشتاء والصيف ، فلم يكن لهم راحة في شتاء ولا صيف ، فأطعمهم بعد ذلك من جوع ، وآمنهم من خوف ، وألفوا الرحلة ، فكانوا إذا شاءوا ارتحلوا ، وإذا شاءوا أقاموا ، فكان ذلك من نعمة الله عليهم .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرِمة قال : كانت قريش قد ألفوا بُصْرَى واليمن ، يختلفون إلى هذه في الشتاء ، وإلى هذه في الصيف { فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذا الْبَيْتِ } فأمرهم أن يقيموا بمكة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح { لإيلافِ قُرَيْشٍ إيلافِهِمْ } قال : كانوا تجارا ، فعلم الله حبهم للشام .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { لإيلافِ قُرَيْشٍ } قال : عادة قريش عادتهم رحلة الشتاء والصيف .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } كانوا ألفوا الارتحال في القيظ والشتاء .