التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

ثم قال - تعالى - : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة } . المعنى : فإن لم تفعلوا أي : تعارضوا القرآن ، وتبين لكم أن أحداً لا يستطيع معارضته ، فخافوا العذاب الذي أعده الله للجاحدين وهو النار التي وقودها الناس والحجارة " .

والوقود : ما يلقى في النار لإِضرامها كالحطب ونحوه ، والحجارة : الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله كما قال - تعالى - : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } واقتران المشركين بما كانوا يعبدون في النار مبالغة في إيلامهم وتحسيرهم والاقتصار على ذكر الناس والحجارة لا يؤخذ منه أن ليس في النار غيرهما بدليل ما ذكر في مواضع أخرى من القرآن أن الجن والشياطين يدخلونها .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : انتفاء إتيانهم بالسورة واجب فهلا جيء ب " إذا " الذي للوجوب دون " إن " الذي للشك ؟ قلت : فيه وجهان :

أحدهما : أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم ، وأن العجز عن المعارضة كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لا تكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام .

والثاني : أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يعاديه : إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه تهكماً به .

وقال : فإن لم تفعلوا ، ولم يقل فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، لأن قوله { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } جار مجرى الكناية التي تعطي اختصاراً ووجازة تغني عن طول المكنى عنه ، ولأن الإِتيان ما هو إلا فعل من الأفعال ، تقول : أتيت فلانا . فيقال لك : نعم ما فعلت .

وجملة { وَلَن تَفْعَلُواْ } جملة معترضة بين الشرط والجزاء ، جيء بها لتأكيد عجزهم عن معارضته . فإن في نفيها في المستقبل بإطلاق تأكيدا لنفيها في الحال .

قال الإِمام الرازي : ( فإن قيل : فما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله ؟ فالجواب أنه إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار ، فاتقاء النار يوجب ترك العناد ، فأقيم المؤثر مقام الأثر ، وجعل قوله : { فاتقوا النار } قائماً مقام قوله فاتركوا العناد ، وهذا هو الإِيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة ، وفيه تهويل لشأن العناد ، لإِنابه اتقاء النار منابه متبعاً ذلك بتهويل صفة النار ) .

ومعنى { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } هيئت لهم ، لأنهم الذين يخلدون فيها ، أو أنهم خصوا بها وإن كانت معدة للفاسقين - أيضاً لأنه يريد بذلك ناراً مخصوصة لا يدخلها غيرهم كما قال - تعالى - { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } وفي هذه الآية الكريمة معجزة من نوع الإِخبار بالغيب ، إذ لم تقع المعارضة من أحد في أيام النبوة وفيما بعدها إلى هذا العصر . قال صاحب الكشاف : ( فإن قلت : من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو عليه حتى يكون معجزة ؟ قلت : لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه ، إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال ، لا سيما والطاعنون فيه أكثف عدداً من الذابين عنه ، فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيب على ما هو به ، فكان معجزة ) .

وقال بعض العلماء : ( هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدى الكافرين بالتزيل الكريم ) . وقد تحداهم الله في غير موضع منه فقال في سورة القصص :

{ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وقال في سورة الإِسراء : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }

وقال في سورة يونس : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وكل هذه الآيات مكية . ثم تحداهم أيضا في المدينة بهذه الآية { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } . . إلخ . فعجزوا عن آخرهم ، وهم فرسان الكلام ، وأرباب النظام ، وقد خصوا من البلاغة والحكم ما لم يخص به غيرهم من الأمم ، جعل الله لهم ذلك طبعاً وخلقه وفيهم غريزة وقوة . يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون ، ويمدحون ، ويقدحون ، ويتوسلون ، ويتوصلون ، ويرفعون ، ويضعون ، فيأتون بالسحر الحلال . . . ومع هذا فلم يتصد لمعارضة القرآن منهم أحد ، ولم ينهض - لمقدار سورة منه - ناهض من بلغائهم ، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإِفراط في المضارة والمضادة . وقد جرد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجة أولا ، والسيف آخراً فلم يعارضوا إلا السيف وحده ، وما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أنهم أعجز من المعارضة ، وبذلك يظهر أن في قوله - تعالى - { وَلَن تَفْعَلُواْ } معجزة أخرى ، فإنهم ما فعلوا ، وما قدروا . . .

وحيث عجزت عرب ذلك العصر فما سواهم أعجز في هذا الأمر . . . فدل على أن القرآن ليس من كلام البشر ، بل هو كلام خالق القوى والقدر أنزله تصديقاً لرسوله ، وتحقيقاً لمقوله . . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

1

وهذا التحدي ظل قائما في حياة الرسول [ ص ] وبعدها ، وما يزال قائما إلى يومنا هذا وهو حجة لا سبيل إلى المماحكة فيها . . وما يزال القرآن يتميز من كل كلام يقوله البشر تميزا واضحا قاطعا . وسيظل كذلك أبدا . سيظل كذلك تصديقا لقول الله تعالى في الآية التالية :

( فإن لم تفعلوا - ولن تفعلوا - فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافري ) والتحدي هنا عجيب ، والجزم بعدم إمكانه أعجب ، ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة . وما من شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا ، وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل إلى المماراة فيها . ولقد كان المجال أمامهم مفتوحا ، فلو أنهم جاءوا بما ينقض هذا التقرير القاطع لأنهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع ولن يقع كذلك فالخطاب للناس جميعا ، ولو أنه كان في مواجهة جيل من أجيال الناس .

وهذه وحدها كلمة الفصل التاريخية .

على أن كل من له دراية بتذوق أساليب الأداء ؛ وكل من له خبرة بتصورات البشر للوجود وللأشياء ؛ وكل من له خبرة بالنظم والمناهج والنظريات النفسية أو الاجتماعية التي ينشئها البشر . . لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن في هذه المجالات كلها شيء آخر ليس من مادة ما يصنعه البشر . والمراء في هذا لا ينشأ إلا عن جهالة لا تميز ، أو غرض يلبس الحق بالباطل . .

ومن ثم كان هذا التهديد المخيف لمن يعجزون عن هذا التحدي ثم لا يؤمنون بالحق الواضح :

( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) . .

ففيم هذا الجمع بين الناس والحجارة ، في هذه الصورة المفزعة الرعيبة ؟ لقد أعدت هذه النار للكافرين . الكافرين الذين سبق في أول السورة وصفهم بأنهم ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ) . . والذين يتحداهم القرآن هنا فيعجزون ، ثم لا يستجيبون . . فهم إذن حجارة من الحجارة ! وإن تبدوا في صورة آدمية من الوجهة الشكلية ! فهذا الجمع بين الحجارة من الحجر والحجارة من الناس هو الأمر المنتظر !

على أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى في المشهد المفزع : مشهد النار التي تأكل الأحجار . ومشهد الناس الذين تزحمهم هذه الأحجار . . في النار . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ }

قال أبو جعفر : يعني تعالى بقوله : فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا : إن لم تأتوا بسورة من مثله ، وقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم . فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعجز جميع خلقي عنه ، وعلمتم أنه من عندي ، ثم أقمتم على التكذيب به . وقوله : وَلَنْ تَفْعَلُوا أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدا . كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه .

وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا فقد بين لكم الحقّ .

القول في تأويل قوله تعالى : فاتقُوا النّارَ الّتِي وَقُودُها النّاسِ وَالْحِجَارَةُ .

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : فاتّقُوا النّارَ يقول : فاتقوا أن تَصْلَوا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنزيلي ، بعد تبينكم أنه كتابي ومن عندي ، وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي ، بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله . ثم وصف جل ثناؤه النار التي حذرهم صِلِيّها ، فأخبرهم أن الناس وقودها ، وأن الحجارة وقودها ، فقال : الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ والحِجارَةُ يعني بقوله وقودها : حطبها ، والعرب تجعله مصدرا ، وهو اسم إذا فتحت الواو بمنزلة الحطب ، فإذا ضمت الواو من الوقود كان مصدرا من قول القائل : وقدت النار فهي تقد وُقودا وقِدَةً وَوَقَدَانا ووَقْدا ، يراد بذلك أنها التهبت .

فإن قال قائل : وكيف خُصّت الحجارة فقرنت بالناس حتى جعلت لنار جهنم حطبا ؟ قيل : إنها حجارة الكبريت ، وهي أشدّ الحجارة فيما بلغنا حرّا إذا أحميت . كما :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله في قوله : وَقُودُهَا النّاسُ وَالحجارَةُ قال : هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدّها للكافرين .

وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا ابن عيينة ، عن مسعر عن عبد الملك الزرّاد عن عمرو بن ميمون ، عن ابن مسعود في قوله : وَقُودُها النّاسُ والحجارَةُ قال : حجارة الكبريت جعلها الله كما شاء .

وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : اتّقُوا النّارَ الّتِي وَقُودُها النّاسُ وَالحِجَارَةِ أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود يعذّبون به مع النار .

وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : وَقُودُها النّاسُ والحجارَةُ قال : حجارة من كبريت أسود في النار . قال : وقال لي عمرو بن دينار : حجارة أصلب من هذه وأعظم .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود ، قال : حجارة من الكبريت خلقها الله عنده كيف وشاء وكما شاء .

القول في تأويل قوله تعالى : أُعِدّتْ للكافِرِينَ .

قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن الكافر في كلام العرب هو الساتر شيئا بغطاء ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا لجحوده آلاءه عنده ، وتغطيته نعماءه قبله فمعنى قوله إذا : أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ : أعدّت النار للجاحدين أن الله ربهم المتوحد بخلقهم وخَلْق الذين من قبلهم ، الذي جعل لهم الأرض فراشا ، والسماء بناءً ، وأنزل من السماء ماءً ، فأخرج به من الثمرات رزقا لهم ، المشركين معه في عبادته الأنداد والاَلهة ، وهو المتفرّد لهم بالإنشاء والمتوحد بالأقوات والأرزاق . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس : أُعِدّتْ للْكافِرِينَ أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .