ثم بين - سبحانه - نوعا سابعا من المحرمات فقال : { والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } .
وقوله { والمحصنات } من الإِحصان وهو فى اللغة بمعنى المنع . يقال : هذه درع حصينة ، أى مانعة صاحبها من الجراحة . ويقال : هذا موضع حصين ، أى مانع من يريده بسوء . ويقال امرأة حصينة أى مانعة نفسها من كل فاحشة بسبب عفتها أو حريتها أو زواجها .
قال الراغب : ويقال حصان للمرأة العفيفة ولذات الحرمة . قال - تعالى - : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } وقال - تعالى - { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } أى تزوجن . وأحصن زوجن والحصان فى الجملة : المرأة المحسنة إما بعفتها أو بتزوجها أو يمانع من شرفها وحريتها . والمراد بالمحصنات هنا : ذوات الأزواج من النساء .
وقوله { والمحصنات مِنَ النسآء } معطوف على قوله { وَأُمَّهَاتُكُمُ } فى قوله - تعالى - : فى آية المحرمات السابقة { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } إلخ .
والمعنى : وكما حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم إلخ ، فقد حرم عليكم - أيضا - نكاح ذوات الأزواج من النساء قبل مفارقة أزواجهن لهن ، لكى لا تختلط المياه فتضيع الأنساب .
وقوله { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } استثناء من تحريم نكاح ذوات الأزواج .
والمراد به : النساء المسبيات اللاتى أصابهن السبى ولهن أزواج فى دار الحرب ، فانه يحل لمالكهن وطؤهن بعد الاستبراء ، لارتفاع النكاح بينهن وبين أزواجهن بمجرد السبى . و بسبيهن وحدهن دون أزواجهن .
أى : وحرم الله - تعالى - عليكم نكاح ذوات الأزواج من النساء ، إلا ما ملكتموهن بسبى فسباؤكم لهن هادم لنكاحهن السابق فى دار الكفر ، ومبيح لكم نكاحهن بعد استبرائهن .
قال القرطبى ما ملخصه : فالمراد بالمحصنات هاهنا ذوات الأزواج . أى هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبى من أرض الحرب ، فإن تلك حلال للذى تقع فى سهمه وإن كان لها زوج ، وهو قول الشافعى فى أن السباء يقطع العصمة . وقاله ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك ، وقال به أشهب يدل عليه ما رواه مسلم فى صحيح عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا يوم حنين إلى أوطاس فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا . فكان ناس من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وقد تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين . فأنزل الله - عز وجل - فى ذلك { والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } أى فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن ، وهذا نص صحيح صريح فى أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم عن وطء المسبيات ذوات الأزواج فأنزل الله فى جوابهم { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } . وبه قال مالك وابو حنيفة وأصحابه والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - .
وقيل إن المراد بالمحصنات هنا : ذوات الأزواج - كما تقدم - ، ولما ملكت أيمانكم : مطلق ملك اليمين . فكل من انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو سباء أو غير ذلك وكانت متزوجة كان ذلك الانتقال مقتضيا لطلاقها وحلها لمن انتلقت إليه .
وهذا القول ضعيف ، لأن عائشة - رضى الله عنها - اشترت بريرة وأعتقتها وكانت ذات زوج ، ثم خيرها النبى صلى الله عليه وسلم بين فسخ نكاحها من زوجها وبين بقائها على هذا النكاح ، فدل ذلك على أن بيع الأمة ليس هادما للعصمة ، لأنه لو كان هادما لها ما خير النبى صلى الله عليه وسلم بريرة .
أخرج البخارى عن عائشة - " رضى الله عنها - قالت : اشتريت بريرة . فاشترط أهلها ولاءها . فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : " أتقيها فإن الولاء لمن أعطى الورق " .
قالت : فأعتقتها . قال : فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخيرها فى زوجها ، فقالت : لو أعطانى كذا وكذا مابت عنده . فاختارت نفسها " .
وقوله - تعالى - { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } ساقه - سبحانه - لتأكيده تحريم نكاح الأنواع التى سبق ذكرها .
وقوله { كِتَابَ } مصدر كتب ، وهو مصدر مؤكد بعامله أى : كتب الله عليكم تحريم هذه الأنواع التى سبق ذكرها وفرضه فرضا ، فليس لكم أن تفعلوا شيئا مما حرمه الله عليكم ، وإنما الواجب عليكم أن تقفوا عند حدوده وشرعه .
وقيل : إن قوله { كِتَابَ } منصوب على الإِغراء . أى : الزموا كتابا لله الذى هو حجة عليكم إلى يوم القيامة ولا تخالفوا شيئا من أوامره أو نواهيه .
وعليه فيكون المراد بالكتاب هنا القرآن الكريم الذى شرع الله فيه ما شرع من الأحكام .
وإلى هنا تكون هذه الآيات الثلاث قد بينت خمسة عشر نوعا من الأنكحة المحرمة .
أما الآية الأولى وهى قوله - تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } الخ فقد بينت نوعا واحدا .
وأما الآية الثانية وهى قوله - تعالى - : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الخ فقد بينت ثلاثة عشر نوعا .
وأما الآية الثانية وهى قوله - تعالى - : { والمحصنات مِنَ النسآء } . الخ فقد بينت نوعا واحدا .
قال الفخر الرازى عند تفسيره لقوله - تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } . . . الآية : اعلم أنه - تعالى - نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النساء : سبعة منهن من جهة النسب وهن : الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخلات وبنات الأخ وبنات الأخت .
وسبعة أخرى لا من جهة النسب وهن : الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة ، وأمهات النساء والربائب بنات النساء بشرط أن يكون قد دخل بالنساء ، وأزواج الأبناء والآباء إلا أن أزواج الأبناء مذكورة ها هنا ، وأزواج الآباء مذكورة فى الآية المتقدمة ، - وهى قوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } والجمع بين الاختين .
هذا ، وبعد أن بين - سبحانه - المحرمات من النساء ، عقب ذلك بإيراد جملة كريمة بين فيها ما يحل نكاحه من النساء فقال - تعالى - : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } .
و { مَّا } هنا المراد بها عموم النساء .
وكلمة { وَرَاءَ } هنا بمعنى غير أو دون كما فى قول بعضهم : ( وليس وراء الله للمرء مذهب ) .
واسم الإِشارة { أُحِلَّ لَكُمْ } يعود إلى ما تقدم من المحرمات .
والجملة الكريمة معطوفة على قوله { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الخ .
ومن قرأ { أُحِلَّ لَكُمْ } ببناء الفعل للفاعل جعلها معطوفة على كتب المقدر فى قوله { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ . . . } .
والمعنى : حرمت عليكم هؤلاء المذكورات ، وأحل لكم نكاح ما سواهن من النساء .
قال القرطبى : قوله - تعالى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } قرأ حمزة والكسائى وعاصم فى رواية حفص { وَأُحِلَّ لَكُمْ } ردا على { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } وقرأ الباقون بالفتح ردا على قوله - تعالى - { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } .
وهذا يقتضى ألا يحرم من النساء إلا من ذكر ، وليس كذلك ؛ فإن الله - تعالى - قدر حرم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من لم يذكر فى الآية فيضم إليها . قال - تعالى - : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } روى مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها " وقد قيل : إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها - أو خالتها - فى معنى الجمع بين الأختين ؛ أو لأن الخالة فى معنى الوالدة والعمة فى معنى الوالد والصحيح الأول : لأن الكتاب والسنة كالشئ الواحد فكأنه قال : " أحللت لكم ما وراء من ذكرنا فى الكتاب وما وراء ما أكملت به البيان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم " .
ثم رفع - سبحانه - من شأن المرأة وكرمها بأن جعل إيتاءها المهر شرطا لاستحلال نكاحها إعزازا لها فقال - تعالى - { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } .
وقوله : { تَبْتَغُواْ } من الابتغاء بمعنى الطلب الشديد .
وقوله : { مُّحْصِنِينَ } من الإِحصان وهو هنا بمعنى العفة وتحصين النفس ومنعها عن الوقوع فيما يغضب الله - تعالى - .
وقوله : { مُسَافِحِينَ } من السفاح بمعنى الزنا والمسافح : هو الزانى . ولفظ السفاح مأخوذ من السفح وهو صب الماء وسيلانه . به الزنا ؛ لأن الزانى لا غرض له إلا صب النطفة فقط دون نظر إلى الأهداف الشريفة التى شرعها الله وراء النكاح .
وقوله { أَن تَبْتَغُواْ } فى محل نصب بنزع الخافض على أنه مفعول له لما دل عليه الكلام و { مُّحْصِنِينَ } و { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } حالان من فاعل { تَبْتَغُواْ } .
والمعنى : بين لكم - سبحانه - ما حرم عليكم من النساء ، وأحل لكم ما وراء ذلكم ، من أجل أن تطلبوا الزواج من النساء اللائى أحلهن الله لكم أشد الطلب ، عن طريق ما تقدمونه لهن من أموالكم كمهور ، وبذلك تكونون قد أحصنتم أنفسكم ومنعتموها عن السفاح والفجور والزنا .
قال بعضهم : وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل منهم قال : انكحينى . فإذا أراد الزنا قال : بعض الشفعية : لا حجة فى ذلك ، لأن تخصيص المال كونه الأغلب المتعارف ، فيجوز النكاح على ما ليس بمال . ويؤيد ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلا خطب الواهبة نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم ماذا معك من القرآن ؟ قال : معى سورة كذا وكذا وعددهن . قال : تقرؤهن على ظهر قلبك ؟ قال : نعم قال : اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن " .
ووجه التأييد أنه لو كان فى الآية حجة لما خالفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجيب بأن كون القرآن معه لا يوجب كونه بدلا ، والتعليم ليس له ذكر فى الخبر ، فيجوز أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم : زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك منه .
ثم قال - تعالى - : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } .
والاستمتاع : طلب المتعة والتلذذ بما فيه منفعة ولذة .
والمراد بقوله { أُجُورَهُنَّ } أى مهورهن لأنها فى مقابلة الاستمتاع فسميت أجراً .
و { مَا } فى قوله { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } واقعة على الاستمتاع والعائد فى الخبر محذوف أى فآتوهن أجورهن عليه .
والمعنى : فما انتفعتم وتلذذتم به من النساء عن طريق النكاح الصحيح فآتوهن أجورهن عليه .
ويصح أن يكون { مَا } واقعة على النساء باعتبار الجنس أو الوصف . وأعاد الضمير عليها مفرداً فى قوله { بِهِ } باعتبار لفظها ، وأعاده عليها جمعا فى قوله { مِنْهُنَّ } باعتبار معناها .
ومن فى قوله { مِنْهُنَّ } للتبعيض أو للبيان . والجار والمجرور فى موضع النصب على الحال من ضمير { بِهِ } :
والمعنى : فأى فرد أو الفرد الذى تمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فأعطوهن أجورهن على ذلك . والمراد من الأجور : المهور . وسمى المهر أجراً ؛ لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين .
وقوله { فَرِيضَةً } مصدر مؤكد لفعل محذوف أى : فرض الله عليكم ذلك فريضة . أو حال من الأجور بمعنى مفروضة . أى : فآتوهن أجورهن حالة كونها مفروضة عليكم .
ثم بين - سبحانه - أنه لا حرج فى أن يتنازل أحد الزوجين لصاحبه عن حقه أو عن جزء منه ما دام ذلك حاصلا بالتراضى فقال - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .
أى : لا إثم ولا حرج عليكم فيما تراضيتم به أنتم وهو من إسقاط شئ من المهر أو الإِبراء منه أو الزيادة عليه ما دام ذلك بالتراضى بينكم ومن بعد اتفاقكم على مقدار المهر الذى سميتموه وفرضتموه على أنفسكم .
وقد ذيل - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } لبيان أن ما شرعه هو بمقتضى علمه الذى أحاط بكل شئ ، وبمقتضى حكمته التى تضع كل شئ فى موضعه .
فأنت ترى ان الآية الكريمة مسوقة لبيان بعض الأنواع من النساء اللاتى حرم الله نكاحهن ، ولبيان ما أحله الله منهن بعبارة جامعة ، ثم لبيان أن الله - تعالى - قد فرض على الأزواج الذين يبتغون الزوجات عن طريق النكاح الصحيح الشريف أن يعطوهن مهورهن عوضا عن انتفاعهم بهن ، وأنه لا حرج فى أن يتنازل أحد الزوجين لصاحبه عن حقه أو عن شئ منه ما دام ذلك بسماحة نفس ، ومن بعد تسمية المهر المقدر .
هذا ، وقد حمل بعض الناس هذه الآية على أنها واردة فى نكاح المتعة وهو عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين لكى يستمتع بها .
قالوا : لأن معنى قوله - تعالى - : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } : فمن جامعتموهن ممن نكحتموهن نكاح المتعة فآتوهن أجورهن .
ولا شك أن هذا القول بعيد عن الصواب ، لأنه من المعلوم أن النكاح الذى يحقق الإِحصان والذى لا يكون الزوج به مسافحا . هو النكاح الصحيح الدائم المستوفى شرائطه ، والذى وصفه الله بقوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } .
وإذاً فقد بطل حمل الآية على أنها فى نكاح المتعة ؛ لأنها تتحدث عن النكاح الصحيح الذى يتحقق معه الإِحصان ، وليس النكاح الذى لا يقصد به إلا سفح الماء وقضاء الشهوة .
قال ابن كثير : وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ، ولا شك أنه كان مشروعا فى ابتداء الإِسلام ثم نسخ بعد ذلك . وقد روى عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة . ولكن الجمهور على خلاف ذلك ، والعمدة ما ثبت فى الصحيحين عن امير المؤمنين على بن أبى طالب قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، وفى صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة الجهنى عن أبيه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يأ أيها الناس إنى كنت أذنت لكم فى الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة . فمن كانت عنده منهن شئ فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " .
وقال الآلوسى : وقيل الآية فى المتعة ، وهى النكاح إلى أجل معلوم من يوم أو أكثر .
والمراد ، { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ } من استئناف عقد آخر بعد انقضاء الأجل المضروب فى عقد المتعة ، بأن يزيد الرجل فى الأجر وتزيد المرأة فى المدة ، وإلى ذلك ذهبت الإِمامية - من طائفة الشيعة - .
ثم قال : ولا نزاع عندنا فى أنها أحلت ثم حرمت ، والصواب المختار أن التحريم والإِباحة كانا مرتين . فقد كانت حلالا قبل يوم خيبر ثم حرمت يوم خيبر ، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما ، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاث تحريما مؤبداً إلى يوم القيامة . . .
وقال بعض العلماء : وهذا النصف وهو قوله - تعالى - { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } قد تعلق به بعض المفسدين الذين لم يفهموا معنى العلاقات المحرمة بين الرجل والمرأة ، فادعوا أنه يبيح المتعة . . والنص بعيد عن هذا المعنى الفاسد بعد من قالوه عن الهداية ؛ لأن الكلام كله فى عقد الزواج فسابقه ولاحقه فى عقد الزواج ، والمتعة حتى على كلامهم لا يسمى عقد نكاح أبدا .
وقد تعلقوا مع هذا بعبارات رووها عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أباح المتعة فى غزوات ثم نسخها ، وبأن ابن عباس كان يبيحها فى الغزوات وهذا الاستلال باطل ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم نسخها ، فكان عليهم عند تعلقهم برواية مسلم أن يأخذوا بها جملة أو يتركوها ، وجملتها تؤدى إلى النسخ لا إلى البقاء .
وإذا قالوا إننا نتفق معكم على الإِباحة ونخالفكم فى النسخ فنأخذ المجمع عليه ونترك غيره قلنا لهم : إن النصوص التى أثبتت الإِباحة هى التى أثبتت النسخ ، وما اتفقنا معكم على الإِباحة ، لأننا نقرر نسخ الإِباحة .
على أننا نقول : إن ترك النبى صلى الله عليه وسلم المتعة لهم قبل الأمر الجازم بالمنع ، ليس من قبيل الإِباحة ، بل هو من قبيل الترك حتى تستأنس القلوب بالإِيمان وتترك عادات الجاهلية ، وقد كان شائعا بينهم اتخاذ الأخدان وهو ما نسميه اتخاذ الخلائل . وهذه هى متعتهم ، فنى القرآن الكريمة والنبى صلى الله عليه وسلم عنها . وإن الترك مدة لا يسمى إباحة وإنما يسمى متعتهم ، فنهى القرآن الكريم والنبى صلى الله عليه وسلم عنها . وإن الترك مدة لا يسمى إباحة وإنما يسمى عفوا حتى تخرج النفوس من جاهليتها ، والذين يستبيحونها باقون على الجاهلية الأولى .
وابن عباس - رضى الله عنه - قد رجع عن فتواه بعد أن قال له إمام الهدى على بن أبى طالب : إنك امرؤ تائه ، لقد نسخا النبى صلى الله عليه وسلم والله لا أوتى بمستمتعين إلا رجمتهما .
وبذلك نرى أن الآية الكريمة واردة فى شأن النكاح الصحيح الذى يحقق الإِحصان ولا يكون الزوج به مسافحا . وأن القول بأنها تدل على نكاح المتعة قول بعيد عن الحق والصواب للأسباب التى سبق ذكرها .
هذا الدرس تكملة لما جاء في هذه السورة عن تنظيم الأسرة ، على قواعد الفطرة ، ولا يعود السياق بعد ذلك إلا في موضعين لبيان بعض الأحكام التكميلية في هذا الموضوع الأساسي الهام ، الذي يترتب على تنظيمه جريان الحي
ومما يلاحظ - بوجه عام - أن السياق يربط ربطا دقيقا بين هذه التنظيمات والأحكام وبين الأصل الأول الكبير للإيمان : وهو أن هذه التنظيمات والأحكام صادرة من الله . وهي مقتضى ألوهيته . فأخص خصائص الألوهية - كما كررنا ذلك في مطلع السورة - هو الحاكمية ، والتشريع للبشر ، ووضع الأسس التي تقوم عليها حياتهم وارتباطاتهم .
والسياق ما يني يكرر هذا الارتباط الدقيق ؛ وينبه إلى هذه الخاصية من خصائص الألوهية . ويكرر كذلك الإشارة إلى صدور هذه التنظيمات عن العليم الحكيم . . وهي إشارة ذات مغزى . . فالأمر في هذا المنهج الإلهي كله هو قبل كل شيء أمر العلم الشامل الكامل ، والحكمة المدركة البصيرة . . هذه الخصائص الإلهية التي يفقدها الإنسان ، فلا يصلح بعدها أبدا لوضع المنهج الأساسي لحياة الإنسان ! ومن هنا شقوة الإنسان في الأرض كلما حاد عن منهج العليم الحكيم ، وراح يخبط في التيه بلا دليل ، ويزعم أنه قادر ، بجهله وطيشه وهواه ، أن يختار لنفسه ولحياته خيرا مما يختاره الله ! ! !
والأمر الآخر الذي يؤكده سياق الدرس ويكرره : هو أن منهج الله هذا أيسر على الإنسان وأخف وأقرب إلى الفطرة ، من المناهج التى يريدها البشر ويهوونها ، وأنه من رحمة الله بضعف الإنسان أن يشرع له هذا المنهج ، الذي تكلفه الحيدة عنه عنتا ومشقة ، فوق ما تكلفه من هبوط وارتكاس .
وسنرى - عند استعراض النصوص بالتفصيل - مصداق هذه الحقيقة في واقع البشر التاريخي وهي حقيقة واضحة في هذا الواقع ، لولا أن الهوى يطمس القلوب ، ويعمي العيون ، عندما ترين الجاهلية على القلوب والعيون !
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين . فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . إن الله كان عليما حكيما . ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن ، وآتوهن أجورهن بالمعروف ، محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان . فإذا أحصن ، فإن أتين بفاحشة ، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب - ذلك لمن خشي العنت منكم - وأن تصبروا خير لكم ، والله غفور رحيم . يريد الله ليبين لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم ، والله عليم حكيم . والله يريد أن يتوب عليكم . ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما . يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الإنسان ضعيفا . .
لقد سبق في نهاية الجزء الرابع بيان المحرمات من النساء حرمة ذاتية . وذلك في قوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا . حرمت عليكم أمهاتكم ، وبناتكم ، وأخواتكم وعماتكم ، وخالاتكم ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة ، وأمهات نسائكم ، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - وحلائل أبنائكم - الذين من أصلابكم - وأن تجمعوا بين الأختين - إلا ما قد سلف - إن الله كان غفورا رحيما ) .
فتتعلق بالمحرمات لأنهن في عصمة رجال آخرين . محصنات بالزواج منهم : فهن محرمات على غير أزواجهن ، لا يحل نكاحهن . . . وذلك تحقيقا للقاعدة الأولى في نظام المجتمع الإسلامي ، من قيامه على قاعدة الأسرة ، وجعلها وحدة المجتمع ، وصيانة هذه الأسرة من كل شائبة ، ومن كل اختلاط في الأنساب ، ينشأ من " شيوعية " الاتصال الجنسي ، أو ينشأ من انتشار الفاحشة ، وتلوث المجتمع بها .
والأسرة القائمة على الزواج العلني ، الذي تتخصص فيه امرأة بعينها لرجل بعينه ، ويتم به الإحصان - وهو الحفظ والصيانة - هي أكمل نظام يتفق مع فطرة " الإنسان " وحاجاته الحقيقية ، الناشئة من كونه إنسانا ، لحياته غاية أكبر من غاية الحياة الحيوانية - وإن كانت تتضمن هذه الغاية في ثناياها - ويحقق أهداف المجتمع الإنساني ، كما يضمن لهذا المجتمع السلم المطمئنة : سلم الضمير . وسلم البيت . وسلم المجتمع في نهاية المطاف .
والملاحظ بصفة ظاهرة ، أن الطفل الإنساني يحتاج إلى فترة رعاية أطول من الفترة التي يحتاج إليها طفل أي حيوان آخر . كما أن التربية التي يحتاج إليها ليصبح قادرا على إدراك مقتضيات الحياة الإنسانية الاجتماعية المترقية - التي يتميز بها الإنسان - تمتد إلى فترة طويلة أخرى .
وإذا كانت غاية الميل الجنسي في الحيوان تنتهي عند تحقيق الاتصال الجنسي والتناسل والإكثار ، فإنها في الإنسان لا تنتهي عند تحقيق هذا الهدف ، إنما هي تمتد إلى هدف أبعد هو الارتباط الدائم بين الذكر والأنثى - بين الرجل والمرأة - ليتم إعداد الطفل الإنساني لحماية نفسه وحفظ حياته ، وجلب طعامه وضرورياته ، كما يتم - وهذا هو الأهم بالنسبة لمقتضيات الحياة الإنسانية - تربية هذا الطفل وتزويده برصيد من التجارب الإنسانية والمعرفة الإنسانية يؤهله للمساهمة في حياة المجتمع الإنساني ، والمشاركة في حمل تبعته من اطراد الترقي الإنساني عن طريق الأجيال المتتابعة .
ومن ثم لم تعد اللذة الجنسية هي المقوم الأول في حياة الجنسين في عالم الإنسان ؛ إنما هي مجرد وسيلة ركبتها الفطرة فيهما ليتم الالتقاء بينهما ويطول بعد الاتصال الجنسي للقيام بواجب المشاركة في اطراد نمو النوع . ولم يعد " الهوى " الشخصي هو الحكم في بقاء الارتباط بين الذكر والأنثى . إنما الحكم هو " الواجب " . . . واجب النسل الضعيف الذي يجيء ثمرة للالتقاء بينهما ، وواجب المجتمع الإنساني الذي يحتم عليهما تربية هذا النسل إلى الحد الذي يصبح معه قادرا على النهوض بالتبعة الإنسانية ، وتحقيق غاية الوجود الإنساني .
وكل هذه الاعتبارات تجعل الارتباط بين الجنسين على قاعدة الأسرة ، هو النظام الوحيد الصحيح . كما تجعل تخصيص امرأة لرجل هو الوضع الصحيح الذي تستمر معه هذه العلاقة . والذي يجعل " الواجب " لا مجرد اللذة ولا مجرد الهوى ، هو الحكم في قيامها ، ثم في استمرارها ، ثم في معالجة كل مشكلة تقع فيأثنائها ، ثم عند فصم عقدتها عند الضرورة القصوى .
وأي تهوين من شأن روابط الأسرة ، وأي توهين للأساس الذي تقوم عليه - وهو " الواجب " لإحلال " الهوى " المتقلب ، و " النزوة " العارضة ، و " الشهوة " الجامحة محله ، هي محاولة آثمة ، لا لأنها تشيع الفوضى والفاحشة والانحلال في المجتمع الإنساني فحسب ، بل كذلك لأنها تحطم هذا المجتمع ؛ وتهدم الأساس الذي يقوم عليه .
ومن هنا ندرك مدى الجريمة التي تزاولها الأقلام والأجهزة الدنسة ، المسخرة لتوهين روابط الأسرة ، والتصغير من شأن الرباط الزوجي ، وتشويهه وتحقيره ، للإعلاء من شأن الارتباطات القائمة على مجرد الهوى المتقلب ، والعاطفة الهائجة ، والنزوة الجامحة . وتمجيد هذه الارتباطات ، بقدر الحط من الرباط الزوجي !
كما ندرك مدى الحكمة والعمق في قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرجل أراد أن يطلق زوجته ، معللا ذلك بأنه لم يعد يحبها : " ويحك ! ألم تبن البيوت إلا على الحب ؟ فأين الرعاية ؟ وأين التذمم ؟ " . . مستمدا قولته هذه من توجيه الله سبحانه وتربية القرآن الكريم لتلك الصفوة المختارة من عباده : ( وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . . وذلك للإمساك بالبيوت - ما أمكن - ومقاومة نزوات القلوب ، وعلاجها حتى تفيء ، وعدم بت هذه الصلة إلا حين تفلس المجادلات كلها ، رعاية للجيل الناشيء في هذه البيوت ؛ وصيانة لها من هزات العاطفة المتقلبة ، والنزوة الجامحة ، والهوى الذاهب مع الريح !
وفي ظل هذه النظرة السامية العميقة ، تتبدى التفاهة والسطحية فيما ينعق به اليوم أولئك المائعون ، وهم يمجدون كل ارتباط إلا الارتباط الذي يحكم الواجب ، والذي يرعى أمانة الجنس البشري كله ، وهي تنشئة أجيال تنهض بمقتضيات الحياة الإنسانية المترقية ، وتحكيم مصلحة هذه الأجيال ، لا مصلحة العواطف الوقتية الزائلة !
إن أقلاما دنسة رخيصة وأجهزة خبيثة لئيمة توحي لكل زوجة ينحرف قلبها قليلا عن زوجها أن تسارع إلى خدين ؛ ويسمون ارتباطها بخدينها هذا " رباطا مقدسا ! " بينما يسمون ارتباطها بذلك الزوج " عقد بيع للجسد " !
والله سبحانه يقول : في بيان المحرمات من النساء : ( والمحصنات من النساء ) . . فيجعلهن " محرمات " . هذا قول الله . وذلك قول المائعين المسخرين لتحطيم هذا المجتمع ونشر الفاحشة فيه . . . ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) .
إن جهودا منظمة موجهة تبذل لإنشاء موازين وقيم وتصورات للمجتمع غير تلك التي يريدها الله . ولإقامة أسس للحياة والارتباطات غير تلك التي أقامها الله . ولتوجيه الناس والحياة وجهة غير التي قررها الله . . والموجهون لهذه الجهود يحسبون أنهم ينتهون إلى تحطيم قواعد المجتمع الإسلامي ، وتدمير حياة المسلمين في الأوطان الإسلامية ، حتى لا تبقى أمامهم حواجز تصد أطماعهم القديمة في هذه الأوطان ، بعد أن تنهار عقائدها ، وتنهار أخلاقها ، وتنهار مجتمعاتها . . ولكن الكارثة أبعد من هذا مدى . . إنها تحطيم قواعد المجتمع الإنساني كله - لا المجتمع الإسلامي وحده - تحطيم قواعد الفطرة التي تقوم عليها حياة الإنسان . وحرمان المجتمع البشري من العناصر التي تحمل أمانته الكبرى . أمانة الحياة الإنسانية المترقية . وذلك بحرمانه منالأطفال المؤهلين - في جو الأسرة الهادى ء ، المطمئن ، الآمن من عواصف الشهوات الجامحة ، والنزوات المتقلبة والهوى الذاهب مع الريح - للنهوض بأمانة الجنس البشري كله . وهي شيء آخر غير مجرد التناسل الحيواني ! وغير مجرد الالتقاء الشهواني على أساس " العواطف " وحدها ، وتنحية " الواجب " المطمئن الثابت الهادى ء !
وهكذا تحق اللعنة على الجنس البشري كله ، إذ يحطم نفسه بنفسه ؛ ويدمر الجيل الحاضر منه مستقبل الأجيال القادمة . لتحقيق لذاته هو ، وشهواته هو ، وعلى الأجيال القادمة اللعنة . وتحق كلمة الله على الخارجين على كلمته وفطرته وتوجيهه . ويذوق الجنس البشري كله وبال أمره . إلا أن يرحمه الله بالعصبة المؤمنة التي تقر كلمة الله ومنهجه في الأرض ، وتأخذ بيد الناس إليها ؛ وتعصمهم من الشر الماحق الذي يهيئونه لأنفسهم بأيديهم . وهم يحسبون أنهم فقط إنما يحطمون الأوطان الإسلامية ، لتنهار حواجزها بتلك الجهود الموجهة الخبيثة ! التي تتولاها أقلام وأجهزة من داخل هذه الأوطان ذاتها .
( والمحصنات من النساء - إلا ما ملكت أيمانكم . . ) .
وهذا الاستثناء يتعلق بالسبايا اللواتي كن يؤخذن أسيرات في حروب الجهاد الإسلامي وهن متزوجات في دار الكفر والحرب . حيث تنقطع علاقاتهن بأزواجهن الكفار ، بانقطاع الدار . ويصبحن غير محصنات . فلا أزواج لهن في دار الإسلام . ومن ثم يكفي استبراء أرحامهن بحيضة واحدة ؛ يظهر منها خلو أرحامهن من الحمل . ويصبح بعدها نكاحهن حلالا - إن دخلن في الإسلام - أو أن يباشرهن من غير عقد نكاح من يقعن في سهمه ، باعتبارهن ملك يمين . سواء أسلمن أم لم يسلمن .
ولقد سبق لنا في الجزء الثاني من هذه الظلال ، بيان موقف الإسلام من مسألة الرق بجملتها . . كذلك ورد بيان آخر عند تفسير قوله تعالى : ( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ؛ فإما منا بعد وإما فداء ؛ حتى تضع الحرب أوزارها ) . . في سورة " محمد " في الجزء السادس والعشرين فيرجع إليهما في مواضعهما .
ونكتفي هنا بالقول : بأن المعسكر الإسلامي كان يعامل أعداءه في مسألة استرقاق الأسرى في الحرب كما يعاملونه من حيث مبدأ الرق ، ويفضلهم في نوع معاملته للرقيق وفي اعتبار إنسانيته فضلا كبيرا . ولم يكن له بد من ذلك . حيث كان استرقاق الأسرى نظاما عالميا لا يملك الإسلام إبطاله من جانب واحد . وإلا كان الأسرى من المسلمين يصبحون رقيقا ؛ بينما الأسرى من الكفار يصبحون أحرارا . فترجح كفة المعسكرات الكافرة على المعسكر الإسلامي ، وتطمع هذه المعسكرات في مهاجمته وهي آمنة مطمئنة من عواقب الهجوم ، بل وهي رابحة غانمة !
ومن ثم لم يكن بد من أن تكون هناك سبايا كوافر في المجتمع المسلم . فكيف يصنع بهن ؟ إن الفطرة لا تكتفي بأن يأكلن ويشربن . فهناك حاجة فطرية أخرى لا بد لهن من إشباعها وإلا التمسنها في الفاحشة التي تفسد المجتمع كله وتدنسه ! ولا يجوز للمسلمين أن ينكحوهن وهن مشركات . لتحريم الارتباط الزوجي بين مسلم ومشركة فلا يبقى إلا طريق واحد هو إحلال وطئهن بلا نكاح ما دمن مشركات - بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن ، وانقطاع صلتهن بأزواجهن في دار الكفر والحرب .
وقبل أن يمضي السياق القرآني في تقرير ما يحل بعد تلك المحرمات ، يربط بين أصل التحريم والتحليل ومصدر التحريم والتحليل . المصدر الذي ليس لغيره أن يحرم أو يحلل ؛ أو يشرع للناس شيئا في أمور حياتهم جميعا :
هذا عهد الله عليكم وميثاقه وكتابه فليست المسألة هوى يتبع ، أو عرفا يطاع ، أو موروثات بيئة تتحكم . . إنما هو كتاب الله وعهده وميثاقه . . فهذا هو المصدر الذي تتلقون منه الحل والحرمة ؛ وترعون ما يفرضه عليكم وما يكتبه ، وتطالبون بما كتب عليكم وما عهد إليكم كذلك .
ومما يلاحظ أن معظم المحرمات التي حرمها القرآن في الآيات السابقة ، كانت محرمة في الجاهلية ولم يكن يباح منها في عرف الجاهلية إلا ما نكح الآباء ، والجمع بين الأختين - على كره من العرف الجاهلي ذاته لنكاح زوجات الآباء . وقد كان يسمى عندهم " مقيتا نسبة إلى المقت " ! ولكن لما جاء القرآن يقرر حرمة هذه المحرمات ، لم يرجع في تحريمها إلى عرف الجاهلية هذا ، إنما قال الله سبحانه : ( كتاب الله عليكم ) . .
هذه لمسة تقتضي الوقوف أمامها لبيان حقيقة الأصل الاعتقادي في الإسلام ، وحقيقة الأصل الفقهي . فهذا البيان يفيدنا في أمور كثيرة في حياتنا الواقعية :
إن الإسلام يعتبر أن الأصل الوحيد الذي يقوم عليه التشريع للناس هو أمر الله وإذنه . بإعتبار أنه هو مصدر السلطان الأول والأخير . فكل ما لم يقم ابتداء على هذا الأصل فهو باطل بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح المستأنف . فالجاهلية بكل ما فيها - والجاهلية هي كل وضع لا يستمد وجوده من ذلك الأصل الوحيد الصحيح - باطلة بطلانا أصليا . باطلة بكل تصوراتها وقيمها وموازينها وعرفها وتقاليدها وشرائعها وقوانينها . والإسلام حين يسيطر على الحياة ويصرفها ، يأخذ الحياة جملة ، ويأخذ الأمر جملة ؛ فيسقط ابتداء كل أوضاع الجاهلية وكل قيمها ، وكل عرفها ، وكل شرائعها ؛ لأنها باطلة بطلانا أصليا غير قابل للتصحيح المستأنف . . فإذا أقر عرفا كان سائدا في الجاهلية ، فهو لا يقره بأصله الجاهلي ؛ مستندا إلى هذا الأصل . إنما هو يقرره ابتداء بسلطانه المستمد من أمر الله وإذنه . أما ذلك الذي كان في الجاهلية فقد سقط ولم يعد له وجود من الناحية الشرعية .
كذلك حين يحيل الفقه الإسلامي على " العرف " في بعض المسائل فهو يمنح العرف ابتداء سلطانا من عنده هو - بأمر الله - فتصبح للعرف - في هذه المسائل - قوة الشريعة ، استمدادا من سلطان الشارع - وهو الله - لا استمدادا من الناس ومن البيئة التي تواضعت على هذا العرف من قبل . فليس تواضع البيئة على هذا العرف هو الذي يمنحه السلطان . . كلا . . إنما الذي يمنحه السلطان هو اعتبار الشارع إياه مصدرا في بعض المسائل . وإلا بقي على بطلانه الأصلي ، لأنه لم يستمد من أمر الله . وهو وحده مصدر السلطان . وهو يقول عما كانت الجاهلية تشرعه مما لم يأذن به الله : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ؟ ) فيشير إلى أن الله وحده هو الذي يشرع . فهل لهم آلهة شرعت لهم ما لم يأذن به الله ؟
هذا الأصل الكبير ، الذي تشير إليه هذه اللمسة : ( كتاب الله عليكم ) تقرره وتؤكده النصوص القرآنيةفي كل مناسبات التشريع ، فما من مرة ذكر القرآن تشريعا إلا أشار إلى المصدر الذي يجعل لهذا التشريع سلطانا . أما حين يشير إلى شرائع الجاهلية وعرفها وتصوراتها فهو يردفها غالبا بقوله : ما نزل الله بها من سلطان لتحريرها من السلطان ابتداء ، وبيان علة بطلانها ، وهي كونها لم تصدر من ذلك المصدر الوحيد الصحيح .
وهذا الأصل الذي نقرره هنا هو شيء آخر غير الأصل المعروف في التشريع الإسلامي . من أن الأصل في الأشياء الحل ، ما لم يرد بتحريمها نص . فكون الأصل في الاشياء الحل ، إنما هو كذلك بأمر الله وإذنه . فهو راجع إلى الأصل الذي قررناه ذاته . إنما نحن نتحدث عما تشرعه الجاهلية لنفسها دون رجوع إلى ما شرعه الله . وهذا الأصل فيه البطلان جملة وكلية ، حتى يقرر شرع الله ما يرى تقريره منه من جديد ، فيكتسب منذ أن يرد في شرع الله المشروعية والسلطان .
فإذا انتهى السياق من بيان المحرمات ، وربطها بأمر الله وعهده ، أخذ في بيان المجال الذي يملك فيه الناس أن يلبوا دوافع فطرتهم في التزاوج ، والطريقة التي يحب الله أن يلتقي بها أفراد الجنسين لتكوين البيوت ، وإقامة مؤسسات الأسرة ، والمتاع بهذا الالتقاء في نظافة وطهر وجد تليق بهذا الأمر العظيم :
( وأحل لكم - ما وراء ذلكم - أن تبتغوا بأموالكم . . محصنين غير مسافحين . . فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن - فريضة - ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . إن الله كان عليما حكيما ) . .
ففيما وراء هذه المحرمات المذكورة فالنكاح حلال ، وللراغبين فيه أن يبتغوا النساء ، بأموالهم - أي لأداء صداقهن - لا لشراء أعراضهن بالأموال من غير نكاح ! ومن ثم قال :
وجعلها قيدا وشرطا للابتغاء بالأموال ، قبل أن يتم الجملة ، وقبل أن يمضي في الحديث . ولم يكتف بتقرير هذا القيد في صورته الإيجابية المثبته : ( محصنين ) بل أردفها بنفي الصورة الأخرى : ( غير مسافحين ) زيادة في التوكيد والإيضاح ، في معرض التشريع والتقنين . . ثم لكي يرسم صورة لطبيعة العلاقة الأولى التي يحبها ويريدها . . علاقة النكاح . . وصورة لطبيعة العلاقة الأخرى التي يكرهها وينفيها . . علاقة المخادنة أو البغاء . . وقد كانت هذه وتلك معروفة في مجتمع الجاهلية ، ومعترفا بها كذلك من المجتمع !
جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - :
" ان النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم . يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته ، فيصدقها ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته - إذا طهرت من طمثها - أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه . فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر . يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة ، كلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ، ومر عليها ليال ، بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، فهو ابنك يا فلان . تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل . والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما ، فمن أرادهن دخل عليهن ، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ودعوا لهم القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون ، فالتاطه ، ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك "
فالنوعان الثالث والرابع هما السفاح الذي ينص على نفيه - سواء منه المخادنة والبغاء - والأول هو الإحصان الذي ينص على طلبه . . أما الثاني فما ندري كيف نسميه ! ! !
والقرآن يصور طبيعة النوع الذي يريده الله . . فهو إحصان . . هو حفظ وصيانة . . هو حماية ووقاية . . هو إحصان للرجل وإحصان للمرأة . ففي هذه القراءة( محصنين )بصيغة اسم الفاعل ، وفي قراءة أخرى : ( محصنين ) بصيغة اسم المفعول . وكلا المعنيين يتحقق في هذه الصورة النظيفة القويمة العفيفة . وهو إحصان للبيت والأسرة والأطفال . إحصان لهذة المؤسسة التي تقوم على هذا الأساس ثابتة راسخة وطيدة .
والآخر : سفاح . . مفاعلة من السفح ، وهو إراقة الماء في المنحدر الواطى ء ! مسافحة يشترك فيها الرجل والمرأة ، فيريقان ماء الحياة ، الذي جعله الله لامتداد النوع ، ورقيه ، عن طريق اشتراك الرجل والمرأة في إنجاب الذرية وتربيتها وحضانتها وصيانتها . فإذا هما يريقانه للذة العابرة ، والنزوة العارضة . يريقانه في السفح الواطى ء ! فلا يحصنهما من الدنس ، ولا يحصن الذرية من التلف ، ولا يحصن البيت من البوار !
وهكذا يرسم التعبير القرآني صورتين كاملتين لنوعين من الحياة ؛ في كلمتين اثنتين . ويبلغ غايته من تحسين الصورة التي يرتضيها ، وتبشيع الصورة التي لا يرتضيها ، بينما هو يقرر حقيقة كل من الصورتين في واقع الحياة . وذلك من بدائع التعبير في القرآن .
فإذا انتهى من هذا القيد للابتغاء بالأموال . عاد ليقرر كيف يبتغى بالأموال :
( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ) .
فهو يجعل صداق المرأة فريضة لها مقابل الاستمتاع بها . فمن أراد أن يستمتع بامرأة من الحلائل - وهن ما وراء ذلكم من المحرمات - فالطريق هو ابتغاؤها للإحصان - أي عن طريق النكاح [ الزواج ] لا عن أي طريق آخر - وعليه أن يؤدي لها صداقها حتما مفروضا ، لا نافلة ، ولا تطوعا منه ، ولا إحسانا ، فهو حق لها عليه مفروض . وليس له أن يرثها وراثة بلا مقابل - كما كان يقع في بعض الأحوال في الجاهلية - وليس له أن يقايض عليها مقايضة كما كان يقع في زواج الشغار في الجاهلية . وهو أن يتزوج الرجل امرأة في مقابل أن يدفع لوليها امرأة من عنده ! كأنهما بهيمتان ! أو شيئان !
وبعد تقرير هذا الحق للمرأة وفرضيته ، يدع الباب مفتوحا لما يتراضى عليه الزوجان بينهما وفق مقتضيات حياتهما المشتركة ، ووفق مشاعرهما وعواطفهما أحدهما تجاه الآخر :
( ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) .
فلا حرج عليهما في أن تتنازل الزوجة عن مهرها - كله أو بعضه - بعد بيانه وتحديده . وبعد أن أصبح حقا لها خالصا تتصرف فيه كما تتصرف في سائر أموالها بحرية - ولا جناح عليهما في أن يزيدها الزوج على المهر ، أو يزيدها فيه . فهذا شأنه الخاص . وهذا شأنهما معا يتراضيان عليه في حرية وسماحة .
ثم يجىء التعقيب . يربط هذه الأحكام بمصدرها ؛ ويكشف عما وراءها من العلم الكاشف ، والحكمة البصيرة :
( إن الله كان عليما حكيما ) . .
فهو الذي شرع هذه الأحكام . وهو الذي شرعها عن علم وعن حكمة . . فيعرف ضمير المسلم من أين يتلقى الأحكام في كل شأن من شئون حياته - وأخصها هذا الذي بينه وبين زوجه - ويطمئن إلى ما يتلقاه من هذه الأحكام ، الصادرة عن العلم وعن الحكمة ( إن الله كان عليما حكيما ) . . .
{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلّ لَكُمْ مّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : حرّمت عليكم المحصنات من النساء ، إلا ما ملكت أيمانكم .
واختلف أهل التأويل في المحصنات التي عناهنّ الله في هذه الاَية ، فقال بعضهم : هن ذوات الأزواج غير المسبيات منهنّ . وملكُ اليمين : السبايا اللواتي فرّق بينهنّ وبين أزواجهنّ السباء ، فحللن لمن صرن له بملك اليمين من غير طلاق كان من زوجها الحربيّ لها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كل ذات زوج إتيانها زنا ، إلا ما سَبَيْتَ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكْتَ أيمَانُكُمْ } يقول : كل امرأة لها زوج فهي عليك حرام إلا أمة ملكتها ولها زوج بأرض الحرب ، فهي لك حلال إذا استبرأتها .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن خالد ، عن أبي قلابة في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمانُكُمْ } قال : ما سبيتم من النساء ، إذا سَبَيْتَ المرأة ولها زوج في قومها ، فلا بأس أن تطأها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : كل امرأة محصنة لها زوج فهي محرمة إلا ما ملكت يمينك من السبي وهي محصنة لها زوج ، فلا تحرم عليك به . قال : كان أبي يقول ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي ، قال : حدثنا سعيد ، عن مكحول في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : السبايا .
واعتلّ قائلوا هذه المقالة بالأخبار التي رُويت أن هذه الاَية نزلت فيمن سُبي من أَوْطاس . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن أبي علقمة الهاشمي ، عن أبي سعيد الخدريّ : أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس ، فلقوا عدوا ، فأصابوا سبايا لهنّ أزواج من المشركين ، فكان المسلمون يتأثّمون من غشيانهنّ ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الاَية : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمانُكُمْ } أي هنّ حلال لكم إذا ما انقضت عِدَدُهن .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن صالح أبي الخليل : أن أبا علقمة الهاشمي حدّث ، أن أبا سعيد الخدريّ حدّث : أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين سرية ، فأصابوا حيّا من أحياء العرب يوم أوطاس ، فهزموهم وأصابوا لهم سبايا ، فكان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأثمون من غشيانهن من أجل أزواجهنّ ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ منهنّ ، فحلال لكم ذلك .
حدثني عليّ بن سعيد الكناني ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن أشعث بن سوار ، عن عثمان البتي ، عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : لما سبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل أوطاس ، قلنا : يا رسول الله ، كيف نقع على نساء قد عرفنا أنسابهن وأزواجهنّ ؟ قال : فنزلت هذه الاَية : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن عثمان البتي ، عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري ، قال : أصبنا نساء من سبي أوطاس لهنّ أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهنّ ولهن أزواج ، فسألنا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { والمُحْصّناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } فاستحللنا فروجهنّ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أبي الخليل عن أبي سعيد ، قال : نزلت في يوم أوطاس ، أصاب المسلمون سبايا لهن أزواج في الشرك ، فقال : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } يقول : إلا ما أفاء الله عليكم ، قال : فاستحللنا بها فروجهنّ .
وقال آخرون ممن قال : «المحصنات ذوات الأزواج في هذا الموضع » . بل هنّ كل ذات زوج من النساء حرام على غير أزواجهنّ ، إلا أن تكون مملوكة اشتراها مشتر من مولاها فتحلّ لمشتريها ، ويُبطل بيع سيدها إياها النكاحَ بينها وبين زوجها . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب سلم بن جنادة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : كل ذات زوج عليك حرام إلا أن تشتريها ، أو ما ملكت يمينك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن مغيرة عن إبراهيم : أنه سئل عن الأمة تباع ولها زوج ، قال : كان عبد الله يقول : بيعها طلاقها ، ويتلو هذه الاَية : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : كل ذات زوج عليك حرام ، إلا ما اشتريت بمالك¹ وكان يقول : بيع الأمة : طلاقها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } قال : هنّ ذوات الأزواج حرم الله نكاحهنّ إلا ما ملكت يمينك ، فبيعها طلاقها . قال معمر : وقال الحسن مثل ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : إذا كان لها زوج فبيعها طلاقها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أن أبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك قالوا : بيعها طلاقها .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أن أبيّ بن كعب وجابرا وابن عباس ، قالوا : بيعها طلاقها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عمر بن عبيد ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : قال عبد الله : بيع الأمة طلاقها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ومغيرة والأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : بيع الأمة طلاقها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمّل ، قال : حدثنا سعيد ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله . مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله مثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : طلاق الأمة ستّ : بيعها طلاقها ، وعتقها طلاقها ، وهبتها طلاقها ، وبراءتها طلاقها ، وطلاق زوجها طلاقها .
حدثني أحمد بن المغيرة الحمصي . قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن عيسى بن أبي إسحاق ، عن أشعث ، عن الحسن ، عن أبيّ بن كعب : أنه قال : بيع الأمة طلاقها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بيع الأمة طلاقها ، وبيعه طلاقها .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا خالد ، عن أبي قلابة ، قال : قال عبد الله : مشتريها أحقّ ببُضْعِها . يعني : الأمة تباع ولها زوج .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن الحسن ، قال : طلاق الأمة بيعها .
حدثنا حميد ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن أن أبيّا ، قال : بيعها طلاقها .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن ابن مسعود ، قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحقّ بُبْضعها .
حدثنا حميد ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنى سعيد ، عن قتادة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، قال : بيعها طلاقها . قال : فقيل لإبراهيم : فبيعه ؟ قال : ذلك ما لا نقول فيه شيئا .
وقال آخرون : بل معنى المحصنات في هذا الموضع : العفائف . قالوا : وتأويل الاَية : والعفائف من النساء حرام أيضا عليكم ، إلا ما ملكت أيمانكم منهنّ بنكاح وصداق وسنة وشهود من واحدة إلى أربع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن أبي جعفر ، عن أبي العالية ، قال : يقول : انكحوا ما طاب لكم من النساء : مثَنى ، وثلاثَ ، ورباع ، ثم حرم ما حرم من النسب والصهر ، ثم قال : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : فرجع إلى أوّل السورة إلى أربع ، فقال : هنّ حرام أيضا ، ألا بصداق وسنّة وشهود .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين عن عبيدة ، قال : أحلّ الله لك أربعا في أوّل السورة ، وحرّم نكاح كلّ محصنة بعد الأربع ، إلا ما ملكت يمينك . قال معمر : وأخبرني ابن طاوس عن أبيه : إلا ما ملكت يمينك ، قال : فزوجك مما ملكت يمينك ، يقول : حرّم الله الزنا ، لا يحلّ لك أن تطأ امرأة إلا ما ملكت يمينك .
حدثني عليّ بن مسروق الكندي ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن هشام بن حسان ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن قول الله تعالى : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : أربع .
حدثني عليّ بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الرحيم ، عن أشعث بن سوار ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن عمر بن الخطاب ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : الأربع ، فمابعدهنّ حرام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عنها ، فقال : حرّم الله ذوات القرابة ، ثم قال : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } يقول : حرّم ما فوق الأربع منهنّ .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } قال : الخامسة حرام كحرمة الأمهات والأخوات .
ذكر من قال : عَنَى بالمحصنات في هذا الموضع العفائفَ من المسلمين وأهل الكتاب :
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : ( والمُحْصَناتُ ) قال : العفيفة العاقلة من مسلمة ، أو من أهل الكتاب .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن بعض أصحابه ، عن مجاهد : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : العفائف .
وقال آخرون : المحصنات في هذا الموضع ذوات الأزواج ، غير أن الذي حرم الله منهن في هذه الاَية الزنا بهن ، وأباحهن بقوله : { إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } بالنكاح أو الملك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : { والمُحْصَناتُ } قال : نهى عن الزنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } قال : نهى عن الزنا أن تنكح المرأة زوجين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : كل ذات زوج عليكم حرام ، إلا الأربع اللاتي ينكحن بالبينة والمهر .
حدثنا أحمد بن عثمان ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا أبي ، قال : سمعت النعمان بن راشد يحدث عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أنه سئل عن المُحصنات من النساء ، قال : هن ذوات الأزواج .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين . وقال علي : ذوات الأزواج من المشركين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } قال : كل ذات زوج عليكم حرام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن عبد الكريم ، عن مكحول ، نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن الصلب بن بهرام ، عن إبراهيم ، نحوه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثنى عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } . . . إلى : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يعني : ذوات الإزواج من النساء لا يحل نكاحهن ، يقول : لا يخلب ولا يعد فتنشُز على زوجها ، وكل امرأة لا تنكح إلا ببينة ومهر فهي من المحصنات التي حرم الله إلا ما ملكت أيمانكم ، يعني : التي أحل الله من النساء ، وهو ما أحل من حرائر النساء مثنى وثلاث ورباع .
وقال آخرون : بل هن نساء أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عيسى بن عبيد ، عن أيوب بن أبي العوجاء عن أبي مجلز في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : نساء أهل الكتاب .
وقال آخرون : بل هن الحرائر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنى حماد بن مسعدة ، قال : حدثنا سليمان بن عرعرة ، في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } قال : الحرائر .
وقال آخرون : المحصنات : هن العفائف وذوات الأزواج ، وحرام كل من الصنفين إلا بنكاح أو ملك يمين . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى الليث ، قال : ثنى عقيل ، عن ابن شهاب ، وسئل عن قول الله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } . . . الاَية ، قال : نرى أنه حرم في هذه الاَية المحصنات من النساء ذوات الأزواج أن ينكحن مع أزواجهن والمحصنات : العفائف ولا يحللن إلا بنكاح ، أو ملك يمين . والإحصان إحصانان : إحصان تزويج ، وإحصان عفاف في الحرائر والمملوكات ، كل ذلك حرّم الله ، إلا بنكاح أو ملك يمين .
وقال آخرون : نزلت هذه الاَية في نساءكنّ يهاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهنّ أزواج ، فيتزوّجهن بعض المسلمين ، ثم يقدم أزواجهنّ مهاجرين ، فنهي المسلمون عن نكاحهن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ثنى حبيب بن أبي ثابت عن أبي سعيد الخدري ، قال : كان النساء يأتينا ثم يهاجر أزواجهنّ فمنعناهنّ¹ يعني قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } .
وقد ذكر ابن عباس وجماعة غيره أنه كان ملتبسا عليهم تأويل ذلك .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : قال رجل لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الاَية : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } فلم يقل فيها شيئا ؟ قال : فقال : كان لا يعلمها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن مجاهد ، قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الاَية لضربت إليه أكباد الإبل ، قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } . . . إلى قوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } . . . إلى آخر الاَية .
قال أبو جعفر : فأما المحصنات فإنهنّ جمع محصنة ، وهي التي قد منع فرجها بزوج ، يقال منه : أحصن الرجل امرأته فهو يُحْصِنها إحصانا وحَصُنَتْ هي فهي تَحْصُنُ حَصَانَةً : إذا عفّت ، وهي حاصن من النساء : عفيفة ، كما قال العجاج :
وحاصِنٍ مِنْ حاصِنَاتٍ مُلْسِ ***عَنِ الأذَى وَعَنْ قِرَافِ الوَقْسِ
ويقال أيضا إذا هي عفت وحفظت فرجها من الفجور : قد أحصنت فرجها فيه محصنة ، كما قال جلّ ثناؤه : { وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها } بمعنى : حفظته من الريبة ومنعته من الفجور . وإنما قيل لحصون المدائن والقرى حصون لمنعها من أرادها وأهلها ، وحفظها ما وراءها ممن بغاها من أعدائها ، ولذلك قيل للدرع درع حصينة . فإذا كان أصل الإحصان ما ذكرنا من المنع والحفظ فبين أن معنى قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } : والممنوعات من النساء حرام عليكم { إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } . وإذ كان ذلك معناه ، وكان الإحصان قد يكون بالحرية ، كما قال جل ثناؤه : { والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ويكون بالإسلام ، كما قال تعالى ذكره : { فإذَا أُحْصِنّ فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ ما على المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ } ويكون بالعفة كما قال جل ثناؤه : { وَالّذِينَ يَرْمُون المُحْصَناتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } ويكون بالزوج¹ ولم يكن تبارك وتعالى خصّ محصنة دون محصنة في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } فواجب أن يكون كل محصنة بأي معاني الإحصان كان إحصانها حراما علينا سفاحا أو نكاحا ، إلا ما ملكته أيماننا منهن بشراء ، كما أباحه لنا كتاب الله جل ثناؤه ، أو نكاح على ما أطلقه لنا تنزيل الله . فالذي أباحه تبارك وتعالى لنا نكاحا من الحرائر الأربع سوى اللواتي حرمن علينا بالنسب والصهر ، ومن الإماء ما سبينا من العدو سوى اللواتي وافق معناهن معنى ما حرم علينا من الحرائر بالنسب والصهر ، فإنهن والحرائر فيما يحل ويحرم بذلك المعنى متفقات المعاني ، وسوى اللواتي سبيناهن من أهل الكتابين ولهن أزواج ، فإن السباء يحلهن لمن سباهن بعد الاستبراء ، وبعد إخراج حق الله تبارك وتعالى الذي جعله لأهل الخمس منهن . فأما السّفاح فإن الله تبارك وتعالى حرمه من جميعهن ، فلم يحلّه من حرّة ولا أمة ولا مسلمة ولا كافرة مشركة . وأما الأمة التي لها زوج فإنها لا تحل لمالكها إلا بعد طلاق زوجها إياها ، أو وفاته وانقضاء عدتها منه ، فأما بيع سيدها إياها فغير موجب بينها وبين زوجها فراقا ولا تحليلاً لمشتريها ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنه خير بريرة إذ أعتقتها عائشة بين المقام مع زوجها الذي كان سادتها زوّجوها منه في حال رقها ، وبين فراقه » ولم يجعل صلى الله عليه وسلم عتق عائشة إياها طلاقا . ولو كان عتقها وزوال ملك عائشة إياها لها طلاقا لم يكن لتخيير النبيّ صلى الله عليه وسلم إياها بين المقام مع زوجها والفراق معنى ، ولوجب بالعتق الفراق ، وبزوال ملك عائشة عنها الطلاق¹ فلما خيرها النبيّ صلى الله عليه وسلم بين الذي ذكرنا وبين المقام مع زوجها والفراق كان معلوما أنه لم يخير بين ذلك إلا والنكاح عقده ثابت ، كما كان قبل زوال ملك عائشة عنها ، فكان نظيرا للعتق الذي هو زوال ملك مالك المملوكة ذات الزوج عنها البيع الذي هو زوال ملك مالكها عنها ، إذ كان أحدهما زوالاً ببيع والاَخر بعتق في أن الفرقة لا يجب بها بينها وبين زوجها بهما ولا بواحد منهما طلاق وإن اختلفا في معان أخر ، من أن لها في العتق الخيار في المقام مع زوجها والفراق ، لعلة مفارقة معنى البيع ، وليس ذلك لها في البيع .
فإن قال قائل : وكيف يكون معنيا بالاستثناء من قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } ما وراء الأربع من الخمس إلى ما فوقهنّ بالنكاح والمنكوحات به غير مملوكات ؟ قيل له : إن الله تعالى لم يخصّ بقوله : { إلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } المملوكات الرقاب دون المملوك عليها بعقد النكاح أمرها ، بل عمّ بقوله : { إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } كلا المعنيين ، أعني ملك الرقبة وملك الاستمتاع بالنكاح ، لأن جميع ذلك ملكته أيماننا ، أما هذه فملك استمتاع ، وأما هذه فملك استخدام واستمتاع وتصريف فيما أبيح لمالكها منها . ومن ادعى أن الله تبارك وتعالى عني بقوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } محصنة وغير محصنة ، سوى من ذكرنا أولاً بالاستثناء بقوله : { إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُم } بَعْضَ أملاك أيماننا دون بعض ، غير الذي دللنا على أنه غير معني به ، سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير ، فلن يقول في ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله . فإن اعتل معتل منكم بحديث أبي سعيد الخدري أن هذه الاَية نزلت في سبايا أوطاس ، قيل له : إن سبايا أوطاس لم يوطأن بالملك والسباء دون الإسلام ، وذلك أنهن كن مشركات من عبدة الأوثان ، وقد قامت الحجة بأن نساء عبدة الأوثان لا يحللن بالملك دون الإسلام ، وأنهن إذا أسلمن فرق الإسلام بينهنّ وبين الأزواج ، سبايا كنّ أو مهاجرات ، غير أنهّ إذا كنّ سبايا حللن إذا هن أسلمن بالاستبراء . فلا حجة لمحتج في أن المحصنات اللاتي عناهن بقوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } ذوات الأزواج من السبايا دون غيرهن بخبر أبي سعيد الخدري أن ذلك نزل في سبايا أوطاس¹ لأنه وإن كان فيهن نزل ، فلم ينزل في إباحة وطئهن بالسباء خاصة دون غيره من المعاني التي ذكرنا ، مع أن الاَية تنزل في معنى فتعمّ ما نزلت به فيه وغيره ، فيلزم حكمها جميع ما عمته لما قد بينا من القول في العموم والخصوص في كتابنا «كتاب البيان عن أصول الأحكام » .
القول في تأويل قوله تعالى : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } .
يعني تعالى ذكره : كتابا من الله عليكم . فأخرج الكتاب مُصَدّرا من غير لفظه . وإنما جاز ذلك لأن قوله تعالى : { حُرّمَتْ عَلَيْكُم أُمّهاتُكُمْ } . . . إلى قوله : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } بمعنى : كتب الله تحريم ما حرم من ذلك وتحليل ما حلل من ذلك عليكم كتابا .
وبما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } قال : ما حرم عليكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عنها فقال : { كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } قال : هو الذي كتب عليكم الأربع أن لا تزيدوا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، قال : قلت لعبيدة : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } وأشار ابن عون بأصابعه الأربع .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة ، عن قوله : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } قال : أربع .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } : الأربع .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } قال : هذا أمر الله عليكم ، قال : يريد ما حرم عليهم من هؤلاء وما أحلّ لهم . وقرأ : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بأمْوَالِكُمْ } . . . إلى آخر الاَية . قال : كتاب الله عليكم الذي كتبه ، وأمره الذي أمركم به . { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } : أَمْرَ الله .
وقد كان بعض أهل العربية يزعم أن قوله : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } منصوب على وجه الإغراء ، بمعنى : عليكم كتابَ الله ، الزموا كتابَ الله . والذي قال من ذلك غير مستفيض في كلام العرب ، وذلك أنه لا ( تكاد ) تنصب بالحرف الذي تغري به ، لا تكاد تقول : أخاك عليك وأباك دونك ، وإن كان جائزا . والذي هو أولى بكتاب الله أن يكون محمولاً على المعروف من لسان من نزل بلسانه هذا مع ما ذكرنا من تأويل أهل التأويل ذلك بمعنى ما قلنا ، وخلاف ما وجهه إليه من زعم أنه نصب على وجه الإغراء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بأمْوَالِكُمْ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وأحلّ لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وأُحِلّ لَكُم ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } : ما دون الأربع أن تبتغوا بأموالكم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة السلمانيّ : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يعني : ما دون الأربع .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأحلّ لكم ما وراء ذلكم من سَمّى لكم تحريمه من أقاربكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عنها ، فقال : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } قال : ما وراءَ ذات القرابة ، { أن تَبْتَغُوا بأمْوالِكُمْ } . . . الاَية .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } : عدد ما أحل لكم من المحصنات من النساء الحرائر ومن الإماء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } قال : ما ملكت أيمانكم .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، ما نحن مبينوه¹ وهو أن الله جلّ ثناؤه بين لعباده المحرّمات بالنسب والصهر ، ثم المحرّمات من المحصنات من النساء ، ثم أخبرهم جلّ ثناؤه أنه قد أحلّ لهم ما عدا هؤلاء المحرّمات المبينات في هاتين الاَيتين أن نبتغيه بأموالنا نكاحا وملك يمين لا سفاحا .
فإن قال قائل : عرفنا المحللات اللواتي هنّ وراء المحرّمات بالأنساب والأصهار ، فما المحللات من المحصنات والمحرّمات منهنّ ؟ قيل : هو ما دون الخمس من واحدة إلى أربع على ما ذكرنا عن عبيدة والسديّ من الحرائر ، فأما ما عدا ذوات الأزواج فغير عدد محصور بملك اليمين .
وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن قوله : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاء ذَلِكُمْ } عامّ في كل محلّل لنا من النساء أن نبتغيها بأموالنا ، فليس توجيه معنى ذلك إلى بعض منهنّ بأولى من بعض ، إلا أن تقوم بأن ذلك كذلك حجة يجب التسليم لها ، ولا حجة بأن ذلك كذلك .
واختلف القراء في قراءة قوله : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } فقرأ ذلك بعضهم : «وأَحَلّ لَكُمْ » بفتح الألف من أحلّ ، بمعنى : كتب الله عليكم وأحلّ لكم ما وراء ذلكم . وقرأه آخرون : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاء ذَلِكُم } اعتبارا بقوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمّهاتُكُمْ . . . وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاء ذَلِكُمْ } .
قال أبو جعفر : والذي نقول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة الإسلام غير مختلفتي المعنى ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب الحقّ .
وأما معنى قوله : { ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } فإنه يعني : ما عدا هؤلاء اللواتي حرمتهن عليكم أن تبتغوا بأموالكم ، يقول : أن تطلبوا وتلتمسوا بأموالكم ، إما شراء بها وإما نكاحا بصداق معلوم ، كما قال جلّ ثناؤه : { ويكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } يعني : بما عداه وبما سواه . وأما موضع «أن » من قوله : { أنْ تَبْتَغُوا بأمْوَالِكُمْ } فرفعٌ ترجمةً عن «ما » التي في قوله : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } في قراءة من قرأ : { وأُحِلّ } بضم الألف . ونصبٌ على ذلك في قراءة من قرأ ذلك : «وأَحَلّ » بفتح الألف . وقد يحتمل النصب في ذلك في القراءتين على معنى : وأحلّ لكم ما وراء ذلكم لأن تبتغوا ، فلما حذفت اللام الخافضة اتصلت بالفعل قبلها فنصبت . وقد يحتمل أن تكون في موضع خفض بهذا المعنى إذ كانت اللام في هذا الموضع معلوما أن بالكلام إليها الحاجة .
القول في تأويل قوله تعالى : { مُحْصِنِينَ غيْرَ مُسافِحِينَ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { مُحْصِنِينَ } أعفاء بابتغائكم ما وراء ما حرّم عليكم من النساء بأموالكم { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } يقول : غير مزانين . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله { مُحْصِنِينَ } قال : متناكحين . { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } قال : زانين بكل زانية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : { مُحْصِنِينَ } متناكحين . { غير مُسَافِحِينَ } السفاح : الزنا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { مُحْصِنينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ } يقول : محصنين غير زناة .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنّ فَآتُوهُنّ أجُورَهُنّ فَرِيضَةً } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } فقال بعضهم : معناه : فما نكحتم منهنّ فجامعتموهنّ ، يعني من النساء¹ { فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً } يعني : صدقاتهن فريضة معلومة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً } يقول : إذا تزوّج الرجل منكم ثم نكحها مرة واحدة فقد وجب صداقها كله . والاستمتاع هو النكاح ، وهو قوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِحْلَةً } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } قال : هو النكاح .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } : النكاح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } قال : النكاح أراد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُوَرَهُنّ فَرِيضَة } . . . الاَية ، قال : هذا النكاح ، وما في القرآن الإنكاح إذا أخذتها واستمتعت بها ، فأعطها أجرها الصداق ، فإن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ فرض الله عليها العدة وفرض لها الميراث . قال : والاستمتاع هو النكاح ههنا إذا دخل بها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فما تمتعتم به منهنّ بأجر تمتع اللذة ، لا بنكاح مطلق على وجه النكاح الذي يكون بولىّ وشهود ومهر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَريضَةِ » . فهذه المتعة الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمى ، ويشهد شاهدين ، وينكح باذن وليها ، وإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهي منه برة ، وعليها أن تستبرىء ما في رحمها ، وليس بينهما ميراث ، ليس يرث واحد منهما صاحبه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } قال : يعني نكاح المتعة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، قال : حدثنا نصير بن أبي الأشعث ، قال : ثنى حبيب ابن أبي ثابت ، عن أبيه ، قال : أعطاني ابن عباس مصحفا ، فقال : هذا على قراءة أبيّ . قال أبو كريب ، قال يحيى : فرأيت المصحف عند نصير فيه : «فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجل مسمّى » .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن أبي نضرة ، قال : سألت ابن عباس عن متعة النساء ، قال : أما تقرأ سورة النساء ؟ قال : قلت بلى . قال : فما تقرأ فيها : «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمى » ؟ قلت : لا ، لو قرأتها هكذا ما سألتك ! قال : فإنها كذا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنى عبد الأعلى ، قال : ثنى داود ، عن أبي نضرة ، قال : سألت ابن عباس عن المتعة ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي سلمة ، عن أبي نضرة ، قال : قرأت هذه الاَية على ابن عباس : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } قال ابن عباس : «إلى أجل مسمى » ، قال قلت : ما أقرؤها كذلك ! قال : والله لأنزلها الله كذلك ثلاث مرات .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عمير : أن ابن عباس قرأ : «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجل مسمّى » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة وثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر ، قال : أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : في قراءة أبيّ بن كعب : «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجل مسمى » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قاال : سألته عن هذه الاَية : { والمُحْصَنَاتُ مِن النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } إلى هذا الموضع : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } أمنسوخة هي ؟ قال : لا . قال الحكم : قال عليّ رضي الله عنه : لولا أن عمر رضي الله عنه نهى عن المتعة ما زنى إلا شقّى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عيسى بن عمر القارىء الأسديّ ، عن عمرو بن مرة أنه سمع سعيد بن جبير يقرأ : «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ » .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله : فما نكحتموه منهنّ فجامعتموه فآتوهنّ أجورهنّ¹ لقيام الحجة بتحريم الله متعة النساء على غير وجه النكاح الصحيح أو الملك الصحيح على لسان رسوله اصلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، قال : ثنى الربيع بن سبرة الجهنيّ ، عن أبيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذِهِ النّساءِ » والاستمتاع عندنا يومئذٍ التزويج .
وقد دللنا على أن المتعة على غير النكاح الصحيح حرام في غير هذا الموضع من كتبنا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وأما رُوي عن أبيّ بن كعب وابن عباس من قراءتهما : «فَمَا اسْتَمْتَعُتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجل مسمّى » فقراءة بخلاف ما جاءت به مصاحف المسلمين ، وغير جائز لأحد أن يلحق في كتاب الله تعالى شيئا لم يأت به الخبر القاطع العذر عمن لا يجوّز خلافه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : لا حرج عليكم أيها الإزواج إن أدركتكم عسرة بعد أن فرضتم لنسائكم أجورهنّ فريضة فيما تراضيتم به ، من حطّ وبراءة ، بعد الفرض الذي سلف منكم لهن ما كنتم فرضتم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ أن رجالاً كانوا يفرضون المهر ، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة ، فقال الله : { وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ } .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم أنتم والنساء واللواتي استمتعتم بهنّ إلى أجل مسمى ، إذا انقضى الأجل الذي أجلتموه بينكم وبينهم في الفراق ، أن يزدنكم في الأجل وتزيدوا من الأجر والفريضة قبل أن يستبرئن أرحامهنّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ } إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى ، يعني : الأجرة التي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما ، فقال : أتمتع منك أيضا بكذا وكذا ، فازداد قبل أن يستبرىء رحمها ، ثم تنقضي المدة ، وهو قوله : { فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ } .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم بعد أن تؤتوهن أجورهم على استمتاعكم بهنّ من مقام وفراق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلا جَناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ } والتراضي أن يوفيها صداقها ، ثم يخيرها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا جناح عليكم فيما وضعت عنكم نساؤكم من صدقاتهنّ من بعد الفريضة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ } قال : إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ولا حرج عليكم أيها الناس فيما تَراضيتم به أنتم ونساؤكم من عد إعطائهنّ أجورهنّ على النكاح الذي جرى بينكم وبينهنّ من حطّ ما وجب لهنّ عليكم ، أو إبراء أو تأخير ووضع . وذلك نظير قوله جلّ ثناؤه : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِحْلَةً فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئَا } . فأما الذي قاله السدي فقول لا معنى له الفساد القول بإحلال جماع امرأة بغير نكاح ولا ملك يمين .
وأما قوله : { إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حكِيما } فإنه يعني : إن الله كان ذا علم بما يصلحكم أيها الناس في مناكحكم وغيرها من أموركم وأمور سائر خلقه بما يدبر لكم ولهم من التدبير ، وفيما يأمركم وينهاكم¹ لا يدخل حكمته خلل ولا زلل .