التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ} (98)

ثم فتحت السورة الكريمة للمكذبين باب الأمل والنجاة ، فذكرتهم بقوم يونس - عليه السلام - الذين نجوا من العذاب بسبب إيمانهم ، كما ذكرتهم بإرادة الله التامة ، وقدرته النافذة ، ودعتهم إلى الاعتبار والاتعاظ بما اشتمل عليه هذا الكون .

استمع إلى السورة الكريمة وهى تسوق كل ذلك وغيره بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :

{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا . . . } .

قال القرطبي ما ملخصه : " روى في قصة يونس - عليه السلام - عن جماعة من المفسرين ، أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل - بالعراق - وكانوا يعبدون الأًنام ، فأرسل الله إليهم يونس يدعوهم إلى الإِسلام ، وترك ما هم عليه فأبوا ، فقيل : إنه أقام يدعوهم تسع سنين فيئس من إيمانهم . فقيل له : أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ففعل . وقالوا : هو رجل لا يكذب فارقبوه ، فإن أقام معكم وبين أظهركم فلا عليكم ، ون ارتحل عنكم ، فهو نزول العذاب لا شك . .

فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم ، فأصبحوا فلم يجدوه ، فآمنوا وتابوا ، ودعوا الله ولبسوا المسوح ، وفرقاو بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم ، وردوا المظالم . .

قال الزواج : " إنهم لم يقع بهم العذاب ، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب ، ولو رأوا العذاب لما نفعهم الإِيمان " .

وكلمة { لولا } في قوله - سبحانه - { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ . . . } للحث والتحضيض ، فهى بمعنى هلا .

والمقصود بالقرية أهلا وهم أقوام الأنبياء السابقين ، وهى اسم كان . وقوله { آمنت } خبرها . وقوله { فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا } معطوف على { آمنت } .

والمعنى : فهلا عاد المكذبون إلى رشدهم وصوابهم ، فآمنوا بالحق الذي جاءتهم به رسلهم ، فنجوا بذلك من عذاب الاستئصال الذي حل بهم فقطع دابرهم ، كما نجا منه قوم يونس - عليه السلام - فإنهم عندما رأوا أمارت العذاب الذي أنذرهم به نبيهم آمنوا وصدقوا ، فكشف الله عنهم هذا العذاب الذي كاد ينزل بهم ، ومتعهم بالحياة المقدرة لهم ، إلى حين انقضاء آجالهم في هذه الدنيا .

قال الإِمام الشوكانى : والاستثناء بقوله : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ . . } منقطع ، وهو استثناء من القرية لأن المراد أهلها .

والمعنى : فهلا قرية واحدة من القرى التي أهلكناها آمنت إيمانا معتدا به - وذلك بأن يكون خالصا لله - قبل معاينة العذاب ، ولم تؤخره كما أخره فرعون ، لكن قوم يونس " لما آمنوا " إيمانا معتدا به قبل معاينة العذاب ، أو عند أول المعاينة قبل حلوله بهم " كشفنا عنهم عذا الخزى " أى : الذل والهوان .

وقيل يحوز أن يكون متصلا ، والجملة في معنى النفى ، كأنه قيل : " ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس . . . "

وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه : " وما يرويه بعض المفسرين هنا من أن العذاب نزل عليهم ، وجعل يدور على رءوسهم . . ونحو هذا ، ليس له أصل لا في القرآن ولا في السنة . . .

وفى الآية إشارة إلى أنه لم توجد قرية آمنت بأجمعها بنبيها المرسل إليها من سائر القرى ، سوى قوم يونس .

والبقية دأبهم التكذيب ، كلهم أو أكثرهم ، كما قال - تعالى -

{ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } وفي الحديث الصحيح : " عرض على الأنبياء ، فجعل النبى يمر ومعه الفئام من الناس - أى العدد القليل - والنبى معه الرجل ، والنبى معه الرجلان ، والنبى ليس معه أحد " .

وفي الآية الكريمة - أيضاً - تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من حزن بسبب إعراض قومه عن دعوته ، وفيها كذلك تعريض بأهل مكة ، وإنذارهم من سوء عاقبة الإِصرار على الكفر والجحود ، وحض لهم على أن يكونوا كقوم يونس - عليه السلام - الذين آمنوا قبل نزول العذاب فنفعهم إيمانهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ} (98)

71

( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانهاً ! إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ، ومتعناهم إلى حين ) . .

وهو تحضيض ينسحب على الماضي ، فيفيد أن مدلوله لم يقع . . ( فلولا كانت قرية آمنت )من هذه القرى التي مر ذكرها . ولكن القرى لم تؤمن . إنما آمنت منها قلة ، فكانت الصفة الغالبة هي صفة عدم الإيمان . . ذلك فيما عدا قرية واحدة - والقرية : القوم ، والتسمية هكذا إيذان بأن الرسالات كانت في قرى الحضر ولم تكن في محلات البدو - ولا يفصل السياق هنا قصة يونس وقومه ، إنما يشير إلى خاتمتها هذه الإشارة ؛ لأن الخاتمة وحدها هي المقصودة هنا . فلا نزيدها نحن تفصيلاً . وحسبنا أن ندرك أن قوم يونس كان عذاب مخز يتهددهم ، فلما آمنوا في اللحظة الأخيرة قبل وقوعه كشف عنهم العذاب ، وتركوا يتمتعون بالحياة إلى أجل . ولو لم يؤمنوا لحل العذاب بهم وفاقاً لسنة الله المترتبة آثارها على تصرفات خلقه . . حسبنا هذا لندرك أمرين هامين :

أولهما : الإهابة بالمكذبين أن يتعلقوا بخيوط النجاة الأخيرة ، فلعلهم ناجون كما نجا قوم يونس من عذاب الخزي في الحياة الدنيا . وهو الغرض المباشر من سياقة القصة هذا المساق . .

وثانيهما : أن سنة الله لم تتعطل ولم تقف بكشف هذا العذاب ، وترك قوم يونس يتمتعون فترة أخرى . بل مضت ونفذت . لأن مقتضى سنة الله كان أن يحل العذاب بهم لو أصروا على تكذيبهم حتى يجيء . فلما عدلوا قبل مجيئه جرت السنة بإنجائهم نتيجة لهذا العدول . فلا جبرية إذن في تصرفات الناس ، ولكن الجبرية في ترتيب آثارها عليها .