وقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان } كلام مستأنف لبيان تلك الأيام المعدودات التي كتب علينا الصوم فيها وأنها أيام شهر رمضان الذي يستحق كل مدح وثناء لتشرفه بنزول الكتب السماوية فيه .
قال الإِمام ابن كثير : يمدح - تعالى - شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم ، فقد ورد في الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإِلهية تنزل فيه على الأنبياء . فعن وائلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإِنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " .
و { الشَّهْرَ } مأخوذ من الشهرة ، يقال : شهر الشيء يشهر شهرة وشهراً إذا ظهر بحيث لا يتعذر علمه على أحد ، ومنه يقال : شهرت السيف إذا سللته قال بعضهم : وسمى الهلال شهراً لشهرته وبيانه ، وبه سمى الشهر شهراً .
و { رَمَضَانَ } اسم لهذا الشهر الذي فرض علينا صيامه ، وهو مأخوذ - كما قال القرطبي - من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش ، والرمضاء : شدة الحر ، ومنه الحديث : " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال " - أي صلاة الضحى - قيل : إن العرب لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمى بذلك . وقيل إنما سمى رمضان لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها بالأعمال الصالحة " .
وقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ } خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي شهر رمضان أي : الأيام المعدودات ، وقوله : { الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } صفة للشهر .
ويجوز أن يكون قوله { شَهْرُ } مبتدأ وخبره الموصول بعده ، أو خبره قوله { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وصح وجود الفاء في الخبر لكون المبتدأ موصوفاً بالموصول الذي هو شبه بالشرط . وقرئ بالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف . أي : صوموا شهر رمضان .
و " القرآن " هو كلام الله المعجز المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر المتعبد بتلاوته .
والمراد بإنزال القرآن في شهر رمضان ابتداء إنزاله فيه ، وكان ذلك في ليلة القدر . بدليل قوله - تعالى - { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } أي بدأنا إنزال القرآن في هذه الليلة المباركة ، إذ من المعروف أن القرآن استمر نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرب من ثلاثة وعشرين سنة .
وقيل المراد بذلك ، أنزل في فضله القرآن ، قالوا : ومثله أن يقال : أنزل الله في أبي بكر الصديق كذا آية ، يريدون أنزل في فضله .
وقيل المراد أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن ، كما يقال : أنزل الله في الزكاة كذا وكذا ، يريد في إيجابها وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها .
قال الآلوسي : وقوله - تعالى - : { هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان } حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل . أي : أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير ، وآيات واضحات من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق والفارقة بين الحق والباطل باشتماله على المعارف الإِلهية والأحكام العملية ، كما يشعر بذلك جعله بينات منها ، فهو هاد بواسطة أمرين ، مختص وغير مختص ، فالهدى ليس مكرراً ، وقيل : مكرر تنويهاً وتعظيماً لأمره وتأكيداً لمعنى الهداية كما تقول : علام نحرير " .
وقوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } يصح أن يكون شهد بمعنى حضر . كما يقال : فلان شهد بدراً ، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي : حضرها ، فيكون المعنى : فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله بأن كان مقيما وليس عنده ما يمنعه من الصو كمرض ونحوه ، فليصمه ؛ لأن صيامه ركن من أركان الدين ، وعليه يكون لفظ " الشهر " مصنوب على الظرفية .
ويصح أن يكون شهد بمعنى علم كقوله - تعالى - { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فيكون المعنى : فمن علم منكم هلال الشهر وتيقن من ظهوره فليصمه .
وعليه يكون لفظ " الشهر " منصوب على أنه مفعول به بتقدير المضاف المحذوف و { مَن } موصولة أو شرطية وهو الأظهر و { مِنكُمُ } في محل نصب على الحال من الضمير في شهد فيتعلق بمحذوف أي : كائنا منكم . والضمير في " منكم " يعود على الذين آمنوا ، أي كل من حضر منكم الشهر فليصمه و ( أل ) في الشهر للعهد .
وأعيد ذكر الرخصة في قوله - تعالى - ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ، لئلا يتوهم من تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير ، أنه قد صار متحتماً بحيث لا تتناوله الرخصة بوجه من الوجوه أو تتناوله ولكنها مفضولة ، وفي ذلك عناية بأمر الرخصة وأنها محبوبة له - تعالى - .
وقوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } بيان الحكمة الرخصة .
أي : شرع لكم - سبحانه - الفطر في حالتي المرض والسفر ، لأنه يريد بكم اليسر والسهولة . ولا يريد بكم العسر والمشقة . قال - تعالى - : { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } وقال - تعالى - : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين } وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن : " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا " .
وقوله - تعالى - : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } معطوف على قوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } إذ هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } إلى قوله : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
والمعنى : شرع لكم - سبحانه - ما شرع من أحكام الصيام ، ورخص لكم الفطر في حالتي المرض والسفر ، لأنه يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، ولأنه يريد منكم أن تكملوا عدة الشهر بأن تصوموا أيامة كاملة فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته ، ومن لم يستطع منكم أداء الصوم في هذا الشهر لعذر فعليه قضاء ما فاته منه في أيام أخر ويريد منكم أن تكبروه - سبحانه - أي تحدوه وتعظموه ، فهو وحده الذي هداكم إلى تلك الأحكام النافعة التي في صلاحكم وسعادتكم ويريد منكم أن تشكروه بأن تواظبوا على الثناء عليه ، وعلى استعمال نعمه فما خلقت له فهو - سبحانه - الرءوف الرحيم بعباده ، إذ شرع لهم فيه اليسر لا ما فيه العسر .
وقد دلت الآية الكريمة على الأمر بالتكبير إذ جعلته مما يريده الله - تعالى - ولهذا جاءت السنة باستحباب التحميد والتسبيح والتكبير بعد الصلوات المكتوبات ، وفي عيدى الفطر والأضحى يكون تكبير الله - تعالى - هو مظهرهما الأعظم .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت أكمل بيان وأحكمه فضل الصوم ، وحمة مشروعيته ومظاهر رحمة الله بعباده في هذه الفريضة ، وقد ذكرت أن المسلم له بشأن هذه الفريضة حلاة من حالات ثلاث :
الحالة الأولى : إذا كان المسلم في شهر رمضان كله أو بعضه مريضاً بمرض عارض غير مزمن يرجى الشفاء منه ، أو مسافراً تتوفر فيه شروط الفطر ، فله أن يفطر وأن يقضي بعد رمضان الأيام التي أفطرها بدليل قوله - تعالى - : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
الحالة الثانية : إذا كان المسلم في شهر رمضان مريضاً بمرض مزمن لا يرجى شفاؤه ، والصوم فيه مشقة عليه ، أو كان شيخاً كبيراً أو امرأة عجوزاً ولا يستطيعان الصوم ، فقد أباح الشارع لهؤلاء أن يفطروا وأن يطعموا عن كل يوم مسكيناً ، لأن هذه الأعذار لا يرجى زوالها ، ولا ينتظر أن يكون المبتلى بعذر منها بعد رمضان خيراً منه في رمضان ، لذا أوجب الشارع على هؤلاء الفدية دون القضاء ، بدليل قوله - تعالى - { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ويحرم عليه أن يفطر ، وإن أفطر لغير عذر شرعي كان من الخاسرين في الدنيا والآخرة ، ففي الحديث الشريف الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه - أي لم يجزه - صوم الدهر كله وإن صامه " .
أي : لو حصل منه صوم طول حياته فلن يدرك ثواب ما ضيع بسبب فطره بغير عذر شرعي .
والأحاديث في الترغيب في صوم شهر رمضان ، وفي الترهيب من الفطر فيه كثيرة متنوعة .
وتحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح المقيم . . إنها صوم رمضان : الشهر الذي أنزل فيه القرآن - إما بمعنى أن بدء نزوله كان في رمضان ، أو أن معظمه نزل في أشهر رمضان - والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد ، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور ، فأنشأها هذه النشأة ، وبدلها من خوفها أمنا ، ومكن لها في الأرض ، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة ، ولم تكن من قبل شيئا . وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء . فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن :
( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . . فمن شهد منكم الشهر فليصمه . ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . .
وهذه هي الآية الموجبة الناسخة لرخصة الإفطار والفدية بالنسبة للصحيح المقيم - فيما عدا الشيخ والشيخة كما أسلفنا :
( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) . .
أي من حضر منكم الشهر غير مسافر . أو من رأى منكم هلال الشهر . والمستيقن من مشاهدة الهلال بأية وسيلة أخرى كالذي يشهده في إيجاب الصوم عليه عدة أيام رمضان .
ولما كان هذا نصا عاما فقد عاد ليستثني منه من كان مريضا أو على سفر :
( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . .
وتحبيب ثالث في أداء الفريضة ، وبيان لرحمة الله في التكليف وفي الرخصة سواء :
( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) . .
وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها . فهي ميسرة لا عسر فيها . وهي توحي للقلب الذي يتذوقها ، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها ؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد . سماحة تؤدي معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري ، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء . مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين .
وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر ، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر ، فلا يضيع عليه أجرها :
والصوم على هذا نعمة تستحق التكبير والشكر :
( ولتكبروا الله على ما هداكم . ولعلكم تشكرون ) . .
فهذه غاية من غايات الفريضة . . أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم . وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة . وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية ، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها . وهم شاعرون بالهدى ملموسا محسوسا . ليكبروا الله على هذه الهداية وليشكروه على هذه النعمة . ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة . كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام : ( لعلكم تتقون ) . .
وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقا على الأبدان والنفوس . وتتجلى الغاية التربوية منه ، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه ، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير .