ثم قال - تعالى - : { وهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } أى : وهو الغالب المتصرف فى شئون خلقه يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وأماتة وإثابة وعقابا إلى غير ذلك ، والمراد بالفوقية فوقية المكانة والرتبة لا فوقية المكان والجهة .
قال الإمام الرازى : وتقرير هذا القهر من وجوه :
الأول : أنه قهار للعدم بالتكوين والإيجاد .
والثانى : أنه قهار للوجود بالإفناء والإفساد ، فإنه - تعالى - هو الذى ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ، ومن الوجود إلى العدم تارة أخرى ، فلا وجود إلا بإيجاده ، ولا عدم إلا بإعدامه فى الممكنات .
والثالث : أنه قهار لكل ضد بضده ، فيقهر النور بالظلمة ، والظلمة بالنور ، والنهار بالليل ، والليل بالنهار ، وتمام تقريره فى قوله : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وقوله { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } أى : ويرسل عليكم ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها وتسجل ما تعملونه من خير أو شر . قال : - تعالى - : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } وقال - تعالى - : { إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } وفى الصحيحين عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار يجتمعون فى صلاة الفجر وصلاة العصر ؛ ثم يعرج بالذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادى فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون " .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت إن الله - تعالى - غنى بعلمه عن كتابة الملائكة فما فائدتها ؟ قلت : فيها لطف للعباد ، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم ، والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها فى صحائف تعرض على رءوس الأشهاد فى مواقف القيامة ، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء ) .
وجملة { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } يجوز أن تكون معطوفة على اسم الفاعل الواقع صلة ل ( أل ) ، لأنه فى معنى يقهر والتقدير وهو الذى يقهر عباده ويرسل ، فعطف الفعل على الإسم لأنه فى تأويله .
وقوله { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } أى : حتى إذا احتضر أحدكم وحان أجله قبضت روحه ملائكتنا الموكلون بذلك حالة كونهم لا يتوانون ولا يتأخرون فى أداء مهمتهم .
قال الآلوسى : وحتى فى قوله { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت } هى التى يبتدأ بها الكلام وهى مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها ، كأنه قيل : ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما يحفظون منكم مدة حياتكم ، حتى إذا انتهت مدة أحدكم وجاءت أسباب الموت ومباديه توفته رسلنا الآخرون المفوض إليهم ذلك ، وانتهى هناك حفظ الحفظة .
والمراد بالرسل - على ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس - أعوان ملك الموت .
وقال الجمل : فإن قلت : إن هناك آية تقول : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } وثانية تقول : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ } والتى معنا تقول { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } فكيف الجمع بين هذه الآيات ؟
فالجواب على ذلك أن المتوفى فى الحقيقة هو الله ، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه ، ولملك الموت أعوان من الملائكة فيأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده ، فإذا وصلت إلى الحلقوم تلوى قبضها ملك الموت نفسه ، وقيل المراد من قوله { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } ملك الموت وحده وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له .
ولمسة أخرى من حقيقة الألوهية . . لمسة القوة القاهرة فوق العباد . والرقابة الدائمة التي لا تغفل . والقدر الجاري الذي لا يتقدم ولا يتأخر ، والمصير المحتوم الذي لا مفر منه ولا مهرب . والحساب الأخير الذي لا يني ولا يمهل . . وكله من الغيب الذي يلف البشر ويحيط بالناس :
( وهو القاهر فوق عباده ، ويرسل عليكم حفظة ، حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون . ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ، ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين )
فهو صاحب السلطان القاهر ؛ وهم تحت سيطرته وقهره . هم ضعاف في قبضة هذا السلطان ؛ لا قوة لهم ولا ناصر . هم عباد . والقهر فوقهم . وهم خاضعون له مقهورون . .
وهذه هي العبودية المطلقة للألوهية القاهرة . . وهذه هي الحقيقة التي ينطق بها واقع الناس - مهما ترك لهم من الحرية ليتصرفوا ، ومن العلم ليعرفوا ، ومن القدرة ليقوموا بالخلافة - إن كل نفس من أنفاسهم بقدر ؛ وكل حركة في كيانهم خاضعة لسلطان الله بما أودعه في كيانهم من ناموس لا يملكون أن يخالفوه . وإن كان هذا الناموس يجري في كل مرة بقدر خاص حتى في النفس والحركة !
لا يذكر النص هنا ما نوعهم . . وفي مواضع أخرى أنهم ملائكة يحصون على كل إنسان كل ما يصدر عنه . . أما هنا فالمقصود الظاهر هو إلقاء ظل الرقابة المباشرة على كل نفس . ظل الشعور بأن النفس غير منفردة لحظة واحدة ، وغير متروكة لذاتها لحظة واحدة . فهناك حفيظ عليها رقيب يحصي كل حركة وكل نأمة ؛ ويحفظ ما يصدر عنها لا يند عنه شيء . . وهذا التصور كفيل بأن ينتفض له الكيان البشري ؛ وتستيقظ فيه كل خالجة وكل جارحة .
( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ) . .
الظل نفسه ، في صورة أخرى . . فكل نفس معدودة الأنفاس ، متروكة لأجل لا تعلمه - فهو بالنسبة لها غيب لا سبيل إلى كشفه - بينما هو مرسوم محدد في علم الله ، لا يتقدم ولا يتأخر . وكل نفس موكل بأنفاسها وأجلها حفيظ قريب مباشر حاضر ، لا يغفو ولا يغفل ولا يهمل - فهو حفيظ من الحفظة - وهو رسول من الملائكة - فإذا جاءت اللحظة المرسومة الموعودة - والنفس غافلة مشغولة - أدى الحفيظ مهمته ، وقام الرسول برسالته . . وهذا التصور كفيل كذلك بأن يرتعش له الكيان البشري ؛ وهو يحس بالقدر الغيبي يحيط به ؛ ويعرف أنه في كل لحظة قد يقبض ، وفي كل نفس قد يحين الأجل المحتوم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.