في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَيُرۡسِلُ عَلَيۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ} (61)

56

ولمسة أخرى من حقيقة الألوهية . . لمسة القوة القاهرة فوق العباد . والرقابة الدائمة التي لا تغفل . والقدر الجاري الذي لا يتقدم ولا يتأخر ، والمصير المحتوم الذي لا مفر منه ولا مهرب . والحساب الأخير الذي لا يني ولا يمهل . . وكله من الغيب الذي يلف البشر ويحيط بالناس :

( وهو القاهر فوق عباده ، ويرسل عليكم حفظة ، حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون . ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ، ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين )

( وهو القاهر فوق عباده ) . .

فهو صاحب السلطان القاهر ؛ وهم تحت سيطرته وقهره . هم ضعاف في قبضة هذا السلطان ؛ لا قوة لهم ولا ناصر . هم عباد . والقهر فوقهم . وهم خاضعون له مقهورون . .

وهذه هي العبودية المطلقة للألوهية القاهرة . . وهذه هي الحقيقة التي ينطق بها واقع الناس - مهما ترك لهم من الحرية ليتصرفوا ، ومن العلم ليعرفوا ، ومن القدرة ليقوموا بالخلافة - إن كل نفس من أنفاسهم بقدر ؛ وكل حركة في كيانهم خاضعة لسلطان الله بما أودعه في كيانهم من ناموس لا يملكون أن يخالفوه . وإن كان هذا الناموس يجري في كل مرة بقدر خاص حتى في النفس والحركة !

( ويرسل عليكم حفظة ) . .

لا يذكر النص هنا ما نوعهم . . وفي مواضع أخرى أنهم ملائكة يحصون على كل إنسان كل ما يصدر عنه . . أما هنا فالمقصود الظاهر هو إلقاء ظل الرقابة المباشرة على كل نفس . ظل الشعور بأن النفس غير منفردة لحظة واحدة ، وغير متروكة لذاتها لحظة واحدة . فهناك حفيظ عليها رقيب يحصي كل حركة وكل نأمة ؛ ويحفظ ما يصدر عنها لا يند عنه شيء . . وهذا التصور كفيل بأن ينتفض له الكيان البشري ؛ وتستيقظ فيه كل خالجة وكل جارحة .

( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ) . .

الظل نفسه ، في صورة أخرى . . فكل نفس معدودة الأنفاس ، متروكة لأجل لا تعلمه - فهو بالنسبة لها غيب لا سبيل إلى كشفه - بينما هو مرسوم محدد في علم الله ، لا يتقدم ولا يتأخر . وكل نفس موكل بأنفاسها وأجلها حفيظ قريب مباشر حاضر ، لا يغفو ولا يغفل ولا يهمل - فهو حفيظ من الحفظة - وهو رسول من الملائكة - فإذا جاءت اللحظة المرسومة الموعودة - والنفس غافلة مشغولة - أدى الحفيظ مهمته ، وقام الرسول برسالته . . وهذا التصور كفيل كذلك بأن يرتعش له الكيان البشري ؛ وهو يحس بالقدر الغيبي يحيط به ؛ ويعرف أنه في كل لحظة قد يقبض ، وفي كل نفس قد يحين الأجل المحتوم .