السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَيُرۡسِلُ عَلَيۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ} (61)

{ وهو القاهر } مستعلياً { فوق عباده } لأنّ من قهر شيئاً وغلبه فهو مستعل عليه أمّا قهره للمعدوم فبالتكوين والإيجاد وأمّا قهره للموجود فبالإفناء والإفساد بنقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى ويقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور والنهار بالليل والليل بالنهار إلى غير ذلك من ضروب الكائنات وصنوف الممكنات { ويرسل عليكم } من ملائكته { حفظة } أي : تحفظ أعمالكم وهم الكرام الكاتبون ، وعن أبي حاتم السجستاني أنه كان يكتب عن الأصمعي كل شيء تلفظ به من فوائد العلم حتى قال فيه : أنت شبيه الحفظة تكتب لفظ اللفظة فقال أبو حاتم : وهذا أيضاً مما يكتب .

فإن قيل : الله تعالى غني عن كتابة الملائكة فما فائدتها ؟ أجيب : بأنّ فيها لطفاً للعباد لأنهم إذا علموا أنّ الله رقيب عليهم والملائكة موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة ، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } أي : ملك الموت وأعوانه { وهم لا يفرّطون } أي : لا يقصرون فيما يؤمرون ، وقيل : ملك الموت وحده فذكر الواحد بلفظ الجمع وجاء في الأخبار أنّ الله تعالى جعل الدنيا بين يدي الموت كالمائدة الصغيرة فيقبض من ههنا ومن ههنا فإذا كثرت عليه الأرواح يدعوها فتستجيب له .

فإن قيل : قال الله تعالى في آية أخرى { الله يتوفى الأنفس حين موتها } ( الزمر ، 42 ) وفي أخرى { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } ( السجدة ، 11 ) وقال هنا : { توفته رسلنا } فكيف الجمع ؟ أجيب : بأن المتوفى في الحقيقة هو الله تعالى فإذا حضر أجل العبد أمر الله تعالى ملك الموت أن يقبض روحه ولملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت بنفسه فحصل الجمع بين الآيات ، وقال مجاهد : ما من أهل بيت شعر ولا مدر إلا وملك الموت يطوف بهم كل يوم مرّتين ، وقرأ حمزة بعد فاء توفته بألف ممالة على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وسكن السين من رسلنا أبو عمرو ورفعها الباقون .