تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَيُرۡسِلُ عَلَيۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ} (61)

الآية 61 وقوله تعالى : { وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة } فيه جميع ما يحتاج أهل التوحيد [ إليه ]{[7175]} لأنه أخبر أنه قاهر لخلقه ، وهم مقهورون . ومن البعيد أن يشبه القاهر المقهور بشيء ، أو يشبه المقهور القاهر بوجه ، أو يكون شريك القاهر في معنى ، لأنه لو كان شيء من ذلك لم يكن قاهرا من جميع الوجوه ، ولا كان الخلق مقهورا في الوجوه كلها . فإذا كان الله قاهرا بذاته الخلق كله كانت آثار قهره فيهم ظاهرة وأعلام سلطانه فيهم بادية على تعاليه عن الأشباه والأضداد وأنه كما وصف { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] .

وقوله تعالى : { وهو القاهر فوق عباده } يكون على وجهين :

أحدهما : { وهو القاهر } وهو { فوق عباده } .

والثاني : على التقديم والتأخير ؛ وهو فوق عباده القاهر . ويحتمل قوله : { فوق عباده } بالنصر لهم والمعونة والدفع عنهم كقوله : { يد الله فوق أيديهم } أي بالنصر والمعونة والعظمة والرفعة والجلال ونفاذ السلطان والربوبية .

وقوله تعالى : { ويرسل عليكم حفظة } [ يحتمل وجهين :

أحدهما ]{[7176]} : أخبر أنه القاهر فوق عباده وأنه أرسل عليهم الحفظة ليعلموا أن إرسال الحفظة عليهم لا لحاجة له ؛ لم يكن قاهرا لأن من وقعت له حاجة صار مقهورا تحت قهر آخر . فالله تعالى أن تمسه حاجة ، أو يصيبه [ مثل ما يصيب الخلق ، بل وإنما أرسلهم عليهم لحاجة الخلق ]{[7177]} إما امتحانا منه للحفظة على محافظة أعمال العباد والكتابة عليهم من غير أن تقع له في ذلك حاجة ، يمتحنهم بذلك . {[7178]} ولله أن يمتحن عباده بما شاء من أنواع المحن ، وإن أكرمهم ، ووصفهم بالطاعة في الأحوال كلها بقوله تعالى : { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } [ التحريم : 6 ] وغير ذلك من الآيات .

والثاني : [ يرسل الحفظة ]{[7179]} عليهم بمحافظة أعمالهم والكتاب عليهم ليكونوا على حذر في ذلك ؛ [ وذلك ]{[7180]} في الزجر أبلغ وأكثر [ نظرا ]{[7181]} لأن من علم أن عليه رقيبا في عمله وفعله كان أحذر في ذلك [ العمل وانظر ]{[7182]} فيه وأحفظ له ممن لم يكن عليه ذلك ، وإن كان يعلم كل مسلم أن الله عالم الغيب ، لا يخفى عليه شيء ، عالم بما كان منهم ، وبما يكون أن يكون ، ومتى يكون ؟

ثم اختلف في الحفظة ههنا : قال بعضهم : هم الذين قال الله تعالى { وإن عليكم لحافظين } { كراما كاتبين } { يعلمون ما تفعلون } [ الانفطار : 10 و 11 و 12 ] يكتبون أعمالهم ، ويحفظون عليهم . وقال آخرون : هم الذين يحفظون أنفاس الخلق . ويعدون عليهم إلى وقت انقضائها وفنائها ، ثم تقبض منه الروح ، ويموت .

ألا ترى أنه قال على إثره : { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون } ؟ دل على أن الحفظة ههنا هم الذين سلطوا على حفظ الأنفاس والعد عليهم إلى وقت الموت ، والله أعلم .

ثم في قوله تعالى : { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } دلالة خلق أفعال العباد ؛ لأنه ذكر مجيء الموت وتوفي الرسل ، وقال : خلق الموت والحياة ، ومجيء الموت هو بتوفي الرسل{[7183]} ، ثم أخبر أنه خلق الموت . دل أنه خلق توفيهم{[7184]} .

فاحتال بعض المعتزلة في هذا ، وقال : إن الملك هو الذي ينزع الروح ، ويجمعه في موضع ، ثم إن الله يتلفه ، ويهلكه . فلأن كان ما قال فإذن لا يموت بتوفي الرسل أبدا ؛ لأنهم إذا نزعوا ، وجمعوا في موضع ، تزداد حياة الموضع الذي جمعوا فيه ، لأنه اجتمع كل روح النفس في ذلك . فإن لم يكن ، دل أن ذلك خبال . والوجه فيه ما ذكرنا من الدلالة ، وهو ظاهر بحمد الله ؛ يعرفه كل عاقل ، يتأمل فيه ، ولم يعاند{[7185]} ، وبالله التوفيق .

ثم اختلف في قوله تعالى : { توفته رسلنا } قال بعضهم : هو ملك الموت وحده ، وإن خرج الكلام مخرج العموم بقوله : { رسلنا } والمراد منه الخصوص : ألا ترى أنه قال في آية أخرى : { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } [ السجدة : 11 ] أخبر أنه الموكل والمسلط على ذلك ؟

وقال آخرون : يتوفاه أعوان ملك [ الموت ]{[7186]} ، ثم يقبضه ملك الموت ، ويتوفاه . وقال قائلون : يكون معه ملائكة تقبض الأنفاس ، ويتوفاه ملك الموت . لكن ذلك لا يدرى{[7187]} أن كيف هو ؟ وليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة ، ولكن إلى معرفة ما ذكرنا .

وقوله تعالى : { وهم لا يفرطون } فيه إخبار عن شدة طاعة الملائكة ربهم ، وأن الرأفة لا تأخذهم في ما فيه تأخير أمر الله وتفريطه ، لأن من دخل على من في النزع أخذته من الرأفة ما لو ملك حياته لبذل له . فأخبر عز وجل أنهم { لا يفرطون } في ما أمروا ، ولا يؤخرونه لتعظيمهم أمر الله وشدة طاعتهم له .

وعلى ذلك وصفهم : { غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } /150-ب/ [ التحريم : 6 ] وقال عز وجل : { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 27 ] وقال : { لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 19 و 20 ] .


[7175]:- ساقطة من الأصل وم .
[7176]:- ساقطة من الأصل وم.
[7177]:- من م، في الأصل: الخلق.
[7178]:- في الأصل وم: على ذلك.
[7179]:- في الأصل وم: يرسله.
[7180]:- من م، ساقطة من الأصل.
[7181]:من م، ساقطة من الأصل.
[7182]:- من م، في الأصل: وذلك.
[7183]:- أدرج بعدها في الأصل وم: هو مجيء الموت.
[7184]:- من م، في الأصل: الموت لهم.
[7185]:- من م، في الأصل: يعاندوا.
[7186]:- من م، ساقطة من الأصل.
[7187]:- في الأصل: تدري، فيم: ندري.