التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَيُرۡسِلُ عَلَيۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ} (61)

{ وهو القاهر فوق عباده }

عطف على جملة { وهو الذي يتوفَّاكم } [ الأنعام : 60 ] ، وتقدّم تفسير نظيره آنفاً . والمناسبة هنا أنّ النوم والموت خلقهما الله فغلبا شِدّة الإنسان كيفما بلغت فبيَّن عقب ذكرهما أنّ الله هو القادر الغالب دون الأصنام . فالنوم قهر ، لأنّ الإنسان قد يريد أن لا ينام فيغلبه النوم ، والموت قهر وهو أظهر ، ومن الكلم الحق : سبحان من قهر العباد بالموت .

{ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } .

{ ويرسل } عطف على { القاهر } ، فيعتبر المسند إليه مقدّماً على الخبر الفعلي ، فيدلّ على التخصيص أيضاً بقرينة المقام ، أي هو الذي يرسل عليكم حفظة دون غيره . والقصر هنا حقيقي ، فلا يستدعي ردّ اعتقاد مُخالف . والمقصود الإعلام بهذا الخبر الحقّ ليحذر السامعون من ارتكاب المعاصي .

ومعنى ( على ) في قوله { عليكم } الاستعلاء المجازي ، أي إرسال قهر وإلزام ، كقوله : { بعثنا عليكم عباداً لنا } [ الإسراء : 5 ] ، لأنّ سياق الكلام خطاب للمشركين كما علمتَ ، ومثله قوله تعالى : { كلاّ بل تكذّبون بالدِّين وإنّ عليكم لحافظين } [ الإنفطار : 9 ، 10 ] .

و { عليكم } متعلِّق بِ { يرسل } فعلم ، أنّ المراد بحفظ الحفظة الإحصاء والضبط من قولهم : حفظتُ عليه فعله كذا . وهو ضدّ نسيَ . ومنه قوله تعالى : { وعندنا كتاب حفيظ } [ ق : 4 ] . وليس هو من حفظ الرعاية والتعهّد مثل قوله تعالى : { حافظات للغيب بما حفظ الله } [ النساء : 34 ] .

فالحفظة ملائكة وظيفتهم إحصاء أعمال العباد من خير وشرّ . وورد في الحديث الصحيح : « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار » الحديث .

وقوله : { إذا جاء أحدَكم الموت } غاية لما دلّ عليه اسم الحفظة من معنى الإحصاء ، أي فينتهي الإحصاء بالموت ، فإذا جاء الوقت الذي ينتهي إليه أجل الحياة توفَّاه الملائكة المرسلون لقبض الأرواح .

فقوله : { رسلُنا } في قوّة النكرة لأنّ المضاف مشتقّ فهو بمعنى اسم المفعول فلا تفيده الإضافة تعريفاً ، ولذلك فالمراد من الرسل التي تتوفَّى رسلٌ غيرُ الحفظة المرسلين على العباد ، بناء على الغالب في مجيء نكرة عقب نكرة أنّ الثانية غيرُ الأولى . وظاهر قوله : { توفّته رُسُلنا } أنّ عدداً من الملائكة يتولّى توفّي الواحد من الناس . وفي الآية الأخرى { قل يَتوفَّاكم مَلَك الموت الذي وُكِّل بكم } [ السجدة : 11 ] ، وسمِّي في الآثار عزرائيلَ ، ونقل عن ابن عباس : أنّ لِملك الموت أعواناً . فالجمع بين الآيتين ظاهر .

وعُلِّق فعل التوفِّي بضمير { أحدكم } الذي هو في معنى الذات . والمقصود تعليق الفعل بحال من أحوال أحدكم المناسب للتَّوفي ، وهو الحياة ، أي توفَّت حياتَه وختمتْها ، وذلك بقبض روحه .

وقرأ الجمهور { توفَّته } بمثناة فوقية بعد الفاء . وقرأ حمزة وحده { توفّاه رسلنا } وهي في المصحف مرسومة بنتْأة بعد الفاء فتصلح لأن تكون مثناة فوقية وأن تكون مثناة تحتية على لغة الإمالة . وهي التي يرسم بها الألفات المنقلبة عن الياءات .

والوجهان جائزان في إسناد الفعل إلى جمع التكسير .

وجملة : { وهم لا يفرّطون } حال . والتفريط : التقصير في العمل والإضاعة في الذوات . والمعنى أنَّهم لا يتركون أحداً قد تمّ أجله ولا يؤخّرون توفّيَه .