البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَيُرۡسِلُ عَلَيۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ} (61)

{ وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة } تقدم الكلام في تفسير وهو القاهر فوق عباده .

قال هنا ابن عطية : { القاهر } أن أخذ صفة فعل أي مظهر القهر بالصواعق والرياح والعذاب ، فيصح أن تجعل { فوق } ظرفية للجهة لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها للعباد من فوقهم وإن أخذ { القاهر } صفة ذات بمعنى القدرة والاستيلاء ففوق لا يجوز أن يكون للجهة وإنما هو لعلو القدر والشأن ، كما تقول : الياقوت فوق الحديد ؛ انتهى .

وظاهر { ويرسل } أن يكون معطوفاً على { وهو القاهر } عطف جملة فعلية على جملة اسمية وهي من آثار القهر .

وجوز أبو البقاء أن تكون معطوفة على قوله : { يتوفاكم } وما بعده من الأفعال وأن يكون معطوفاً على { القاهر } التقدير وهو الذي يقهر ويرسل ، وأن يكون حالاً على إضمار مبتدإ أي وهو يرسل وذو الحال إما الضمير في { القاهر } وإما الضمير في الظرف وهذا أضعف هذه الأعاريب ، { وعليكم } ظاهره أنه متعلق بيرسل كقوله : { يرسل عليكما شواظ } ولفظة على مشعرة بالعلو والاستعلاء لتمكنهم منا جعلوا كان ذلك علينا ويحتمل أن يكون متعلقاً بحفظة أي ويرسل حفظة عليكم أي يحفظون عليكم أعمالكم ، كما قال : { وإن عليكم لحافظين } كما تقول : حفظت عليك ما تعمل .

وجوّزوا أن يكون حالاً لأنه لو يتأخر لكان صفة أي حفظه كائنة عليكم أي مستولين عليكم و { حفظة } جمع حافظ وهو جمع منقاس لفاعل وصفاً مذكراً صحيح اللام عاقلاً وقل فيما لا يعقل .

قال الزمخشري : أي ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون ؛ انتهى .

وقال ابن عطية : المراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب الأعمال ؛ انتهى .

وما قالاه هو قول ابن عباس وظاهر الجمع أنه مقابل الجمع ولم تتعرض الآية لعدد ما على كل واحد ولا لما يحفظون عليه .

وعن ابن عباس : ملكان مع كل إنسان أحدهما عن يمينه للحسنات ، والآخر عن شماله للسيئات وإذا عمل سيئة قال من على اليمين : انتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتبت عليه .

وقيل : ملكان بالليل وملكان بالنهار أحدهما يكتب الخير والآخر يكتب الشر ، فإذا مشى كان أحدهما بين يديه والآخر وراءه وإذا جلس فأحدهما عن يمينه والآخر عن شماله .

وقيل : خمسة من الملائكة اثنان بالليل واثنان بالنهار ، وواحد لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً والمكتوب الحسنة والسيئة .

وقيل : الطاعات والمعاصي والمباحات .

وقيل : لا يطلعون إلا على القول والفعل لقوله : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } ولقوله : { يعلمون ما تفعلون } وأما أعمال القلوب فعلمه لله تعالى .

وقيل : يطلعون عليها على الإجمال لا على التفصيل فإذا عقد سيئة خرجت من فيه ريح خبيثة أو حسنة خرجت ريح طيبة .

وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : الله غني بعلمه عن كتب الكتبة فما فائدتها ؟ ( قلت ) : فيها لطف للعباد لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم ، والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة ، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد من السوء ؛ انتهى .

وقوله : والملائكة الذين هم أشرف خلقه هو جار على مذهب المعتزلة في الملائكة ، ولا تتعين هذه الفائدة إذ يحتمل أن تكون الفائدة فيها أن توزن صحائف الأعمال يوم القيامة لأن وزن الأعمال بمجردها لا يمكن ، وهذه الفائدة جارية على مذهب أهل السنة ، وأما المعتزلة فتأولوا الوزن والميزان ولا يشعر قوله : { حفظة } أن ذلك الحفظ بالكتابة كما فسروا بل قد قيل : هم الملائكة الذي قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم :

« تتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار » قاله قتادة والسدّي .

وقيل : يحفظون الإنسان من كل شيء حتى يأتي أجله .

{ حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } أي أسباب الموت { توفته } قبضت روحه { رسلنا } جاء جمعاً .

فقيل : عنى به ملك الموت عليه السلام وأطلق عليه الجمع تعظيماً .

وقيل : ملك الموت وأعوانه والأكثرون على أن { رسلنا } عين الحفظة يحفظونهم مدة الحياة ، وعند مجيء أسباب الموت يتوفونهم ولا تعارض بين قوله : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } وبين قوله : { قل يتوفاكم ملك الموت } وبين قوله : { توفته رسلنا } لأن نسبة ذلك إلى الله تعالى بالحقيقة ولغيره بالمباشرة ، ولملك الموت لأنه هو الآمر لأعوانه وله ولهم بكونهم هم المتولون قبض الأرواح .

وعن مجاهد جعلت الأرض له كالطست يتناول منه من يتناوله وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين .

وقرأ حمزة : توفاه بألف ممالة وظاهره أنه فعل ماض كتوفته إلا أنه ذكر على معنى الجمع ، ومن قرأ توفته أنث على معنى الجماعة ويحتمل أن يكون مضارعاً وأصله تتوفاه فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في تعيين المحذوفة .

وقرأ الأعمش يتوفاه بزيادة ياء المضارعة على التذكير .

{ وهم لا يفرطون } جملة حالية والعامل فيها توفته أو استئنافية أخبر عنهم بأنهم لا يفرطون في شيء مما أمروا به من الحفظ والتوفي ومعناه : لا يقصرون .

وقرأ الأعرج وعمرو بن عبيد { لا يفرطون } بالتخفيف أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به .

قال الزمخشري : فالتفريط التولي والتأخر عن الحد والإفراط مجاوزة الحد أي لا ينقصون مما أمروا به ولا

يزيدون فيه ؛ انتهى ، وهو معنى كلام ابن جني .

وقال ابن بحر : { يفرطون } لا يدعون أحداً يفرط عنهم أي يسبقهم ويفوتهم .

وقيل : يجوز أن تكون قراءة التخفيف معناها لا يتقدّمون على أمر الله وهذا لا يصح إلا إذا نقل أن أفرط بمعنى فرط أي تقدم .

وقال الحسن : إذا احتضر الميت احتضره خمسمائة ملك يقبضون روحه فيعرجون بها .