التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك سبع آيات بينت فيها ما يجب أن يكون عليه موقف المسلمين من المنحرفين من أهل الكتاب ، كما حكت بعض أقوالهم الذميمة ، وأفعالهم القبيحة ، التي تدعو المسلمين إلى قتالهم حتى يخضعوا لسلطان الإِسلام ، وقد بدئت هذه الآيات بقوله - تعالى - { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ . . . . } .

قال الإِمام الرازى : اعلم أنه لما ذكر - سبحانه - حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم ، وفى إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفى وجوب مقاتلتهم ، وفى تبعيدهم عن المسجد الحرام . . ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط ، ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد .

وقال ابن كثير ما ملخصه : هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب - اليهود والنصارى . وكان ذلك في سنة تسع ، ولهذا " تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقتال الروم ، ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة ، فندبهم فأوعبوا معه ، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة . ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جدب ، ووقت قيظ حر . وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، ونزل بها ، وأقام بها قريباً من عشرين يوماً ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال ، وضعف الناس . . . " .

وقوله : { قَاتِلُواْ الذين } أمر منه - سبحانه - للمؤمنين بقتال أهل الكتاب ، وبيان للأسباب التي اقتضت هذا الأمر ، وهى أنهم :

أولاً : { لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } لأنهم لو كانوا مؤمنين به إيماناً صحيحاً ، لاتبعوا رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، ولأن منهم من قال : { عُزَيْرٌ ابن الله } ومنهم من قال : { المسيح ابن الله } وقولهم هذا كفر صريح ، لأنه - سبحانه - منزله عما يقولون .

قال - تعالى - { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } وثانياً : أنهم " لا يؤمنون باليوم الآخر " على الوجه الذي أمر الله - تعالى - به ، ومن كان كذلك كان إيمانه . على فرض وجوده . كلا إيمان .

قال الجمل ما ملخصه : فإن قلت : اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف نفى الله عنهم ذلك ؟

قلت : إن إيمانهم بهما باطل لا يفيد ، بدليل أنهم لم يؤمنوا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - فلما لم يؤمنوا به كان إيمانهم بالله واليوم الآخر كالعدم فصح نفيه في الآية ولأن إيمانهم بالله ليس كإيمان المؤمنين ، وذلك أن اليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه ، والنصارى يعتقدون الحلول ، ومن اعتقد ذلك فليس بمؤمن بالله بل هو مشرك .

وأيضاً فإن إيمانهم باليوم الآخر ليس كإيمان المؤمنين ، وذلك لأنهم يعقتدون بعث الأرواح دون الأجساد ، وأن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون ولا ينكحون - أى أنهم يرون نعيم الجنة وعذاب النار يتعلقان بالروح فقط ولا شأن للجسد بذلك .

ومن اعتقد ذلك فليس إيمانه كإيمان المؤمنين وإن زعم أنه مؤمن .

وثالثاً : أنهم { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ } أى : لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والسنة ، وفضلاً عن ذلك فهم لا يلتزمون ما حرمته شريعتهم على ألسنة رسلهم ، وإنما غيروا وبدلوا فيها على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم . أى أنهم لا يحرمون ما حرمه الله لا في شريعتنا ولا في شريعتهم .

فاليهود - بجانب كفرهم بشريعتنا - لم يطيعوا شريعتهم ، بدليل أنهم استحلوا أكل أموال الناس بالباطل مع أنها . أى شريعتهم . نهتهم عن ذلك .

قال - تعالى - { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل . . . } والنصارى - بجانب كفرهم - أيضاً - بشريعتنا - لم يطيعوا شريعتهم بدليل أنهم ابتدعوا الرهبانية مع أن شريعتهم لم تشرع لهم ذلك .

قال - تعالى - { ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } ورابعاً : { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق } وقوله : { يَدِينُونَ } بمعنى يعتقدون ويطيعون . يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده وأطاع أوامره ونواهيه .

والمراد بدين الحق : دين الإِسلام الناسخ لغيره من الأديان .

أى : أنهم لا يتخذون دين الإِسلام ديناً لهم ، مع أنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده ، والذى لا يقبل - سبحانه - ديناً سواه . قال - تعالى - : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً . . . } وقال - تعالى - : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } ويصح أن يكون المراد بدين الحق . ما يشمل دين الإِسلام وغيره من الأديان السماوية التي جاء بها الأنبياء السابقون .

أى : ولا يدينون بدين من الأديان التي أنزلها الله على أنبيائه ، وشرعها لعباده ، وإنما هم يتبعون أحبارهم ورهبانهم فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم .

وعبر عنهم في قوله : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ . . } بالاسم الموصول للإِيذان بعلية ما في حيز الصلة للأمر بالقتال .

أى أن العلة في الأمر بقتالهم ، كونهم لا يؤمنون باللهو لا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق .

وقوله : { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } بيان للمتصفين بهذه الصفات الأربعة وهم اليهود والنصارى ؛ لأن الحديث عنهم ، وعن الأسباب التي توجب قتالهم .

والمراد بالكتاب : جنسه الشامل للتوراة والإِنجيل .

أى : قاتلوا من هذه صفاتهم ، وهم اليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإِنجيل - عن طريق موسى وعيسى - عليهما السلام - ولكنهم لم يعملوا بتعاليمهما وإنما عملوا بما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم .

والمقصود بقوله : { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } تميزهم عن المشركين عبدة الأوثان في الحكم ، لأن حكم هؤلاء قتالهم حتى يسلموا ، أما حكم أهل الكتاب فهو القتال ، أو الإِسلام ، أو الجزية :

وقوله : { حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } غاية لإِنهاء القتال .

أى : قاتلوا من هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يعطو الجزية عن طوع وانقياد ، فإن فعلوا ذلك فاتركوا قتالهم .

والجزية : ضرب من الخراج يدفعه أهل الكتاب للمسلمين وهى - كما يقول القرطبى : - من جزى يجزى - مجازاة - إذا كافأ من اسدى إليه . فكأنهم أعطوها للمسلمين جزاء ما منحوا من الأمن ، وهى كالقعدة والجلسة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :

يجزيك أو يثنى عليك وإن من . . . أثنى عليك بما فعلت فقد جزى

والمراد بإعطائها في قوله : { حتى يُعْطُواْ الجزية } ، التزام دفعها وإن لم يذكر الوقت المحدد لذلك .

واليد هنا : يحتمل أن تكون كناية عن الاستسلام والانقياد . أى : حتى يعطوا الجزية عن خضوع وإنقياد .

ويحتمل أن تكون كناية و " عن " الدفع نقداً بدون تأجيل . أى : حتى يعطوها نقداً بدون تسويف أو تأخير .

ويحتمل أن تكون على معناها الحقيقى ، و " عن " بمعنى الباء أى : حتى يعطوها بيدهم إلى المسلمين لا أن يبعثوا بها بيد أحد سواهم .

وهذه المعانى لليد إنما تتأتى إذا أريد بها يد المعطى . أى : يد الكتابى .

أما إذا أردنا بها اليد الآخذة - وهى يد الحاكم المسلم - ففى هذه الحالة يكون معناها القوة والقهر والغلبة .

أى : حتى يعطوها عن يد غالبة قوية لا قبل لهم بالوقوف أمامها .

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : قوله : " عن يد " إما أن يراد يد المعطى أو الآخذ فمعناه على إرادة يد المعطى حتى يعطوها عن يده ، أى عن يد مؤاتيه غير ممتنعة ، إذ أن من أبى وامتنع لم يعط يده ، بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده ، إذا انقاد وأصحب - أى : سهل بعد صعوبة - ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، كما يقال : خلع ربقة الطاعة عن عنقه .

أو المعنى : حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة ، لا مبعوثاً بها على يد أحد ، ولكن يد المعطى إلى يد الآخذ .

ومعناه على إرادة يد الآخذ : حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية - وهى يد المسلمين - أو حتى يعطوها عن إنعام عليهم ، لأن قبول الجزية منهم ، وترك أرواحهم لهم ، نعمة عظيمة عليهم .

وقوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } من الصغار بمعنى الذل والهوان . يقال : صغر فلان يصغر صغراً وصغاراً إذا ذل وهان وخضع لغيره .

والمعنى : قاتلوا من هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يدفعوا لكم الجزية عن طواعية وانقياد . وهم أذلاء خاضعون لولايتكم عليهم . . فإن الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرمه الله ورسوله .

ولا يتخذون الدين الحق ديناً لهم . يستحقون هذا الهوان في الدنيا ، أما في الآخرة فعذابهم أشد وأبقى .

هذا . ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

1- إن هذه الآية أصل في مشروعية الجزية ، وأنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عند كثير من الفقهاء - لأن أهل الكتاب هم الذين يخيرون بين الإِسلام أو القتال أو الجزية ، أما غيرهم من مشركى العرب فلا يخيرون إلا بين الإِسلام أو القتال .

قال القرطبى ما ملخصه : وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية فقال الشافعى : لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة ، عربا كانوا أو عجماً لهذه الآية : فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم ، لقوله - تعالى - في شأن المشركين : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } ولم يقل : حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب .

وقال الشافعى : وتقبل من المجوس لحديث " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " أى : في أخذ الجزية منهم .

وبه قال وأبو ثور . وهو مذهب الثورى وأبى حنيفة وأصحابه وقال الأوزاعى : تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب .

وكلذلك مذهب مالك : فإنه يرى أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد ، عربيا أو عجمياً تغليبا أو قرشياً ؛ كئنا من كان إلا المرتد . .

2- أن أخذ الجزية منهم إنما هو نظير ما ينالهم ، وكفنا عن قتالهم ، ومساهمة منهم في رفع شأن الدولة الإِسلامية التي أمنتهم وأموالهم وأعراضهم ومعتقداتهم . ومقدساتهم . . وإقرار منهم بالخضوع لتعاليم هذه الدولة وأنهم متى التزموا بدفعها وجب علينا حمايتهم ، ورعايتهم ، ومعاملتهم بالعدل والرفق والرحمة . .

وفى تاريخ الإِسلام كثير من الأمثلة التي تؤيد هذا المعنى ، ومن ذلك ، ما جاء في كتاب الخراج لأبى يوسف أنه قال في خطابه لهارون الرشيد " وينبغى يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد - صلى الله عليه وسلم - والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم ، ولا يؤخذ شئ من أموالهم إلا بحق يجب عليهم ؛ فقد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من ظلم من أمتى معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه " .

وكان فيما تكلم عمر بن الخطاب عند وفاته : أوصى الخليفة من بعدى بذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوفى لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم .

وجاء في كتاب " أشهر مشاهير الإِسلام " أن جيوش التتار ، لما اكتسحت بلاد الإِسلام من حدود الصين إلى الشام ، ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى ثم خضد المسلمون شوكة التتار ، ودان ملوكهم بالإِسلام ، خاطب شيخ الإِسلام ابن تيمية ، أمير التتار بإطلاق الأسرى فسمح له بالمسلمين وأُبى أن يسمح بأهل الذمة ، فقال له شيخ الإِسلام : لا بد من إطلاق وجميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة ، ولا من أهل الذمة ، فأطلقهم له .

وجاء في كتاب " الإِسلام والنصرانية " للأستاذ الإِمام محمد عبده ما ملخصه :

" . . . الإِسلام كان يكتفى من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ، ثم يترك الناس وما كانوا عليه من دين . ثم يكلفهم بجزية يدفعونها لتكون عوناً على صيانتهم والمحافظة على أمنهم في ديارهم ، وهم عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار ، لا يضايقون في عمل ، ولا يضامون في معاملة " .

خلفاء المسلمين كانوا يوصون قوادهم باحترام العباد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديرة للعبادة ، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال وكل من لم يعن على القتال .

جاءت السنة بالنهى عن إيذاء أهل الذمة ، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين ، " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " و " من آذى ذميا فليس منا " .

واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإِسلام . ولست أبلى إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عندما بدأ الضعف في أبناء الإِسلام فضيق الصدر من طبع الضعيف .

ثم قال : أما المسيحية فترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها تراقب أعمال أهله ، وتخصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر مهما عظم ، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم - بعد العجز عن إخراجهم من دينهم - طردتهم عن ديارهم ، وغسلت الديار عن آثارهم ، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقاً .

ولا يمنع غير المسيحى من تعدى المسيحى إلا كثرة العدد أو شدة العضد ، كما شهد التاريخ ، وكما يشهد كاتبوه .

ثم قال : فأنت ترى الإِسلام يكتفى من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها ، بشئ من المال ، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم ، وبأن يعيشوا في هدوء ، لا يعكرون معه صفو الدولة ، ولا يخلون بنظام السلطة العامة ، ثم يرخى لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم ، لا رقيب عليهم فيها سوى ضمائرهم .

وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه : قال السيوطى : استدل بقوله - تعالى - { وَهُمْ صَاغِرُونَ وَهُمْ صَاغِرُونَ } من قال إنها تؤخذ بإهانة ، بأن يجلس الآخذ ويقوم الذمى ويطأطئ رأسه ، ويجنى ظهره ، ويقبض الآخذ لحيته . . . إلخ .

وقد رد الإِمام ابن القيم على هذا القائل بقوله : هذا كله مما لا دليل عليه ، ولا هو من مقتضى الآية ، ولا نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه .

والصواب في الآية ، أن الصغار : هو التزامهم بجريان أحكام الله عليهم ، وإعطاء الجزية ، فإن ذلك هو الصغار ، وبه قال الشافعى .

والذى ناره أن ما قاله الإِمام ابن القيم في رده هو عين الصواب ، وأن ما نقله السيوطى عن بعضهم . . . يتنافى مع سماحة الإِسلام وعدله ورحمته بالناس .

هذا ، وهناك أحكام أخرى تتعلق بالجزية لا محال لذكرها هنا ، فليرجع إليها من شاء في بعض كتب الفقه والتفسير .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

29

إن هذه الآية تأمر المسلمين بقتال أهل الكتاب { الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } . . والذي يقول ببنوة عزير لله أو بنوة المسيح لله لا يمكن أن يقال عنه : إنه يؤمن بالله . وكذلك الذي يقول : إن الله هو المسيح ابن مريم . أو إن الله ثالث ثلاثة . أن إن الله تجسد في المسيح . . . إلى آخر التصورات الكنسية التي صاغتها المجامع المقدسة على كل ما بينها من خلاف ! .

والذين يقولون : إنهم لن يدخلوا النار إلا أياماً معدودات مهما ارتكبوا من آثام بسبب أنهم أبناء الله وأحباؤه وشعب الله المختار ، والذين يقولون : إن كل معصية تغفر بالاتحاد بالمسيح وتناول العشاء المقدس ؛ وأنه لا مغفرة إلا عن هذا الطريق ! هؤلاء وهؤلاء لا يقال : إنهم يؤمنون باليوم الآخر . .

وهذه الآية تصف أهل الكتاب هؤلاء بأنهم { لا يحرمون ما حرم الله ورسوله } . وسواء كان المقصود بكلمة { رسوله } هو رسولهم الذي أرسل إليهم ، أو هو النبي - صلى الله عليه وسلم - فالفحوى واحدة . ذلك أن الآيات التالية فسرت هذا بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل . وأكل أموال الناس بالباطل محرم في كل رسالة وعلى يد كل رسول . . وأقرب النماذج لأكل أموال الناس بالباطل هو المعاملات الربوية . وهو ما يأخذه رجال الكنيسة مقابل " صك الغفران " ! وهو الصد عن دين الله والوقوف في وجهه بالقوة وفتنة المؤمنين عن دينهم . وهو تعبيد العباد لغير الله وإخضاعهم لأحكام وشرائع لم ينزلها الله . . فهذا كله ينطبق عليه : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } . . وهذا كله قائم في أهل الكتاب ، كما كان قائماً يومذاك !

كذلك تصفهم الآية بأنهم { لا يدينون دين الحق } . . وهذا واضح مما سبق بيانه . فليس بدين الحق أي اعتقاد بربوبية أحد مع الله . كما أنه ليس بدين الحق التعامل بشريعة غير شريعة الله ، وتلقي الأحكام من غير الله ، والدينونة لسلطان غير سلطان الله . وهذا كله قائم في أهل الكتاب ، كما كان قائماً فيهم يومذاك . .

والشرط الذي يشترطه النص للكف عن قتالهم ليس أن يسلموا . . فلا إكراه في الدين . ولكن أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . . فما حكمة هذا الشرط ، ولماذا كانت هذه هي الغاية التي ينتهي عندها القتال ؟

إن أهل الكتاب بصفاتهم تلك حرب على دين الله اعتقاداً وسلوكاً ؛ كما أنهم حرب على المجتمع المسلم بحكم طبيعة التعارض والتصادم الذاتيين بين منهج الله ومنهج الجاهلية الممثلة في عقيدة أهل الكتاب وواقعهم - وفق ما تصوره هذه الآيات - كما أن الواقع التاريخي قد أثبت حقيقة التعارض وطبيعة التصادم ؛ وعدم إمكان التعايش بين المنهجين ؛ وذلك بوقوف أهل الكتاب في وجه دين الله فعلاً ، وإعلان الحرب عليه وعلى أهله بلا هوادة خلال الفترة السابقة لنزول هذه الآية ( وخلال الفترة اللاحقة لها إلى اليوم أيضاً ! ) .

والإسلام - بوصفه دين الحق الوحيد القائم في الأرض - لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق المادية من وجهه ؛ ولتحرير الإنسان من الدينونة بغير دين الحق ؛ على أن يدع لكل فرد حرية الاختيار ، بلا إكراه منه ولا من تلك العوائق المادية كذلك .

وإذن فإن الوسيلة العملية لضمان إزالة العوائق المادية ، وعدم الإكراه على اعتناق الإسلام في الوقت نفسه ، هي كسر شوكة السلطات القائمة على غير دين الحق ؛ حتى تستسلم ؛ وتعلن استسلامها بقبول إعطاء الجزية فعلاً .

وعندئذ تتم عملية التحرير فعلاً ، بضمان الحرية لكل فرد أن يختار دين الحق عن اقتناع . فإن لم يقتنع بقي على عقيدته ، وأعطى الجزية . لتحقيق عدة أهداف :

أولها : أن يعلن بإعطائها استسلامه وعدم مقاومته بالقوة المادية للدعوة إلى دين الله الحق .

وثانيها : أن يساهم في نفقات الدفاع عن نفسه وماله وعرضه وحرماته التي يكفلها الإسلام لأهل الذمة ( الذين يؤدون الجزية فيصبحون في ذمة المسلمين وضمانتهم ) ويدفع عنها من يريد الاعتداء عليها من الداخل أو من الخارج بالمجاهدين من المسلمين .

وثالثها : المساهمة في بيت مال المسلمين الذي يضمن الكفالة والإعاشة لكل عاجز عن العمل ، بما في ذلك أهل الذمة ، بلا تفرقة بينهم وبين المسلمين دافعي الزكاة .

ولا نحب أن نستطرد هنا إلى الخلافات الفقهية حول من تؤخذ منهم الجزية ومن لا تؤخذ منهم . ولا عن مقادير هذه الجزية . ولا عن طرق ربطها ومواضع هذا الربط . . ذلك أن هذه القضية برمتها ليست معروضة علينا اليوم ، كما كانت معروضة علىعهود الفقهاء الذين أفتوا فيها واجتهدوا رأيهم في وقتها .

إنها قضية تعتبر اليوم " تاريخية " وليست " واقعية " . . إن المسلمين اليوم لا يجاهدون ! . . ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون ! . . إن قضية " وجود " الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلى علاج !

والمنهج الإسلامي - كما قلنا من قبل مراراً - منهج واقعي جاد ؛ يأبى أن يناقش القضايا المعلقة في الفضاء ؛ ويرفض أن يتحول إلى مباحث فقهية لا تطبق في عالم الواقع - لأن الواقع لا يضم مجتمعاً مسلماً تحكمه شريعة الله ، ويصرّف حياته الفقه الإسلامي - ويحتقر الذين يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بمثل هذه المباحث في أقضية لا وجود لها بالفعل ؛ ويسميهم " الأرأيتيين " الذين يقولون : " أرأيت لو أن كذا وقع فما هو الحكم ؟ " .

إن نقطة البدء الآن هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام . . أن يوجد في بقعة من الأرض ناس يدينون دين الحق ؛ فيشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع ؛ ويطبقون هذا في واقع الحياة . . ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان . . ويومئذ - ويومئذ فقط - سيكون هناك مجال لتطبيق النصوص القرآنية والأحكام الإسلامية في مجال العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات . . ويومئذ - ويومئذ فقط - يجوز الدخول في تلك المباحث الفقهية ، والاشتغال بصياغة الأحكام ، والتقنين للحالات الواقعة التي يواجهها الإسلام بالفعل ، لا في عالم النظريات !

وإذا كنا قد تعرضنا لتفسير هذه الآية - من ناحية الأصل والمبدأ - فإنما فعلنا هذا لأنها تتعلق بمسألة اعتقادية وترتبط بطبيعة المنهج الإسلامي . وعند هذا الحد نقف ، فلا نتطرق وراءه إلى المباحث الفقهية الفرعية احتراماً لجدية المنهج الإسلامي وواقعيته وترفعه على هذا الهزال !