وبعد أن أمر الله المؤمنين بالأكل مما ذكر اسم الله عليه ، نهاهم صراحة عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه لشدة العناية بهذا الأمر فقال - تعالى - :
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } أى : لا تأكلوا أيها المسلمون من أى حيوان لم يذكر عليه اسم الله عند ذبحه ، بأن ذكر عليه اسم غيره ، أو ذكر اسم من اسمه - تعالى - ، أو غير ذلك مما سبق بيانه من المحرمات .
وقوله { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } جملة حالية والضمير يعود على الأكل من الذى لم يذكر اسم الله عليه ، أى : وإن الأكل من ذلك الحيوان المذبوح الذى لم يذكر اسم الله عليه لخروج عن طاعة الله - تعالى - وابتعاد عن الفعل الحسن إلى الفعل القبيح ، وفى ذلك ما فيه من تنفيرهم من أكل ما لم يذكر اسم الله عليه .
ثم كشف للمسلمين عن المصدر الذى يمد المشركين بمادة الجدل حول هذه المسألة فقال : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } .
أى : وإن إبليس وجنوده ليوسوسون إلى أوليائهم الذين اتبعوهم من المشركين ليجادلوكم فى تحليل الميتة وفى غير ذلك من الشبهات الباطلة { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } فى استحلال ما حرمه الله عليكم { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } .
قال ابن كثير : أى : حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك ، كقوله - تعالى - { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } الاية ، وقد ورى الترمذى فى تفسيرها عن عدى بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ما عبدوهم فقال : " بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم " .
هذا ، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل غذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلما ، وقد اختلف الفقهاء فى هذه المسألة على ثلاثة أقوال .
فمنهم من قال لا تحل الذبيحة التى يترك اسم الله عليها سواء كان الترك عمدا أو سهوا ، وإلى هذا الرأى ذهب ابن عمر ونافع وعامر والشعبى ومحمد بن سيرين ، وداود الظاهرى وفى رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل .
واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية التى وصفت ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه بأنه فسق ، كما احتجوا بقوله - تعالى - { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } وبالأحاديث التى وردت فى الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد كحديث عدى بن حاتم وفيه " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل " .
وحديث رافع بن خديج وفيه " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " .
أما القول الثانى فيرى أصحابه أن التسمية ليست شرطا بل هى مستحبة ، وتركها عن عمد أو نسيان لا يضر ، وقد حكى هذا المذهب عن ابن عباس وأبى هريرة وعطاء وهو مذهب الشافعى وأصحابه وفى رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل .
وحجتهم أن هذه الآية { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ .
. . } واردة فيما ذبح لغير الله بأن يذكر على الذبيحة اسم الصنم كما كان يفعل المشركون عند ذبائحهم .
واحتجوا أيضاً بما رواه الدارقطنى عن ابن عباس أنه قال : " إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله " .
أما القول الثالث فيرى أصحابه أن ترك التسمية نسيانا لا يضر ، أما عمدا فلا تحل الذبيحة ، وإلى هذا المذهب ذهب على وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصرى وهو المشهور من مذهب أحمد بن حنبل وعليه أبو حنيفة وأصحابه .
واحتجوا لمذهبهم بأحاديث منها ما رواه عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
ولعل هذا المذهب أقرب المذاهب إلى الصواب ، لأن المتعمد هو الذى يؤاخذ على عمله أما الناسى فليس مؤاخذا .
وقد تولت بعض كتب التفسير بسط الأقوال فى هذه المسألة فليرجع إليها من شاء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَفِسْقٌ وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىَ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ : لا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات فلم تذبحوه أنتم أو يذبحه موحد يدين لله بشرائع شرعها له في كتاب منزّل فإنه حرام عليكم ، ولا ما أهلّ به لغير الله مما ذبحه المشركون لأوثانهم ، فإن أكْلَ ذلك فسق ، يعني : معصية كفر . فكنى بقوله : «وإنه » عن «الأكل » ، وإنما ذكر الفعل ، كما قال : الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمانا يراد به : فزاد قولهم ذلك إيمانا ، فكنى عن القول ، وإنما جرى ذكره بفعل . وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ : اختلف أهل التأويل في المعنّي بقوله : وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْليائهمْ فقال بعضهم : عنى بذلك : شياطين فارس ومن على دينهم من المجوس إلى أوْلِيَائِهِمْ من مَرَدِةِ مشركي قريش ، يوحون إليهم زخرف القول بجدال نبيّ الله وأصحابه في أكل الميتة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري ، قال : حدثنا موسى بن عبد العزيز القنباري ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، لما نزلت هذه الاَية بتحريم الميتة ، قال : أوحت فارس إلى أوليائها من قريش أن خاصِموا محمدا وكانت أولياءهم في الجاهلية وقولوا له : إن ما ذبحت فهو حلال ، وما ذبح الله قال ابن عباس : بشمشار من ذهب فهو حرام ، فأنزل الله هذه الاَية : وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ قال : الشياطين : فارس ، وأولياؤهم : قريش .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عمرو بن دينار ، عن عكرمة : أن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم ، وكاتبتهم فارس ، وكتبت فارس إلى مشركي قريش أن محمدا وأصحابه يزعمون أنه يتبعون أمر الله ، فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه للميتة وأما ما ذبحوا هم يأكلون . وكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ، فنزلت : وَإنّهُ لَفِسْقٌ وَإنّ الشّياطِينَ ليَوُحُونَ . . . الاَية ، ونزلت : يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا .
وقال آخرون : إنما عني بالشياطين الذين يغرون بني آدم أنهم أوحوا إلى أوليائهم من قريش . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن سماك ، عن عكرمة ، قال : كان مما أوحى الشياطين إلى أوليائهم من الإنس : كيف تعبدون شيئا لا تأكلون مما قتل ، وتأكلون أنتم ما قتلتم ؟ فرُوي الحديث حتى بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : وَلا تأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ قال : إبليس الذي يوحي إلى مشركي قريش . قال ابن جريج عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : شياطين الجنّ يوحون إلى شياطين الإنس ، يوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم . قال ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، قال : سمعت أن الشياطين يوحون إلى أهل الشرك يأمرونهم أن يقولوا : ما الذي يموت وما الذي تذبحون إلا سواء يأمرونهم أن يخاصموا بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم ، وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْرِكُونَ قال : قول المشركين : أما ما ذبح الله للميتة فلا تأكلون ، وأما ما ذبحتم بأيديكم فحلال .
حدثنا محمد بن عمار الرازي ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، قال : حدثنا شريك ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن المشركين قالوا للمسلمين : ما قتل ربكم فلا تأكلون ، وما قتلتم أنتم تأكلونه فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم : وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لما حرّم الله الميتة أمر الشيطانُ أولياءه ، فقال لهم : ما قتل الله لكم خير مما تذبحون أنتم بسكاكينكم ، فقال الله : وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ .
حدثنا يحيى بن داود الواسطي ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن سفيان ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : جادل المشركون المسلمين ، فقالوا : ما بال ما قتل الله لا تأكلونه وما قتلتم أنتم أكلتموه ، وأنتم تتبعون أمر الله فأنزل الله : وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ يقولون : ما ذبح الله فلا تأكلوه ، وما ذبحتم أنتم فكلوه فأنزل الله : وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة : أن ناسا من المشركين دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها ؟ فقال : «اللّهُ قَتَلَها » . قالوا : فتزعم أن ما قتلت أنتَ وأصحابُك حلال ، وما قتله الله حرام ؟ فأنزل الله : وَلا تأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الحضرميّ : أن ناسا من المشركين ، قالوا : أما ما قتل الصقر والكلب فتأكلونه ، وأما ما قتل الله فلا تأكلونه .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ بآياته مؤمِنِينَ قال : قالوا : يا محمد ، أما ما قتلتم وذبحم فتأكلونه ، وأما ما قتل ربكم فتحرّمونه فأنزل الله : وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْركُونَ وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه ، إنكم إذن لمشركون .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : قال المشركون : ما قتلتم فتأكلونه ، وما قتل ربكم لا تأكلونه فنزلت : وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْركُونَ قول المشركين : أما ما ذَبَحَ الله للميتة فلا تأكلون منه ، وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ قال : جادلهم المشركون في الذبيحة ، فقالوا : أما ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه ، وأما ما قتل الله فلا تأكلونه يعنون : الميتة . فكانت هذه مجادلتهم إياهم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تَأْكُلُوا ممّا لَمْ يُذكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّه لَفِسْقٌ . . . الاَية ، يعني : عدوّ الله إبليس ، أوحى إلى أوليائه من أهل الضلالة ، فقال لهم : خاصموا أصحاب محمد في الميتة ، فقولوا : أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون ، وأما ما قتل الله فلا تأكلون ، وأنتم تزعمون أنكم تتبعون أمر الله فأنزل الله على نبيه : وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْركُونَ وإنا والله ما نعلمه كان شرك قط إلا بإحدى ثلاث : أن يدعو مع الله إلها آخر ، أو يُسجد لغير الله ، أو يُسمى الذبائحَ لغير الله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إن المشركين قالوا للمسلمين : كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله ، وما ذبح الله فلا تأكلونه ، وما ذبحتم أنتم أكتلموه ؟ فقال الله : لَئِنْ أطَعْتُمُوهُمْ فأكلتم الميتة إنّكُمْ لَمُشْركُونَ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ قال : كانوا يقولون : ما ذُكِرَ الله عليه وما ذبحتم فكلوا فنزلت : وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ . . . إلى قوله : لِيُجادِلُوكُمْ قال : يقول : يوحي الشياطين إلى أوليائهم : تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون مما قتل الله ؟ فقال : إن الذي قتلتم يذكر اسم الله عليه ، وإن الذي مات لم يذكر اسم عليه .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، في قوله : وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ هذا في شأن الذبيحة ، قال : قال المشركون للمسلمين : تزعمون أن الله حرّم عليكم الميتة ، وأحلّ لكم ما تذبحون أنتم بأيديكم ، وحرّم عليكم ما ذبح هو لكم وكيف هذا وأنتم تعبدونه ؟ فأنزل الله هذه الاَية : وَلا تأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ . . . إلى قوله : المُشْرِكُونَ .
وقال آخرون : كان الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قوما من اليهود . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال ابن عبد الأعلى : خاصمت اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال ابن وكيع : جاءت اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : نأكل ما قتلنا ، ولا نأكل ما قتل الله فأنزل الله : وَلا تأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله أخبر أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة بما ذكرنا من جدالهم إياهم . وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أوليائهم منهم ، وجائز أن يكونوا شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس ، وجائز أن يكون الجنسان كلاهما تعاونا على ذلك ، كما أخبر الله عنهما في الاَية الأخرى التي يقول فيها : وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا ، بل ذلك الأغلب من تأويله عندي ، لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجنّ والإنس ، كما جعل لأنبيائه مِن قبله يوحي بعضهم إلى بعض المزيّنَ من الأقوال الباطلة ، ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرّم الله من الميتة عليهم .
واختلف أهل التأويل في الذي عني الله جل ثناؤه بنهيه عن أكله مما لم يذكر اسم الله عليه ، فقال بعضهم : هو ذبائح كانت العرب تذبحها لاَلهتها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : ما قوله : فَكُلُوا مِمّا ذُكر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ؟ قال : يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح . قلت لعطاء : فما قوله : وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ؟ قال : ينهي عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان كانت تذبحها العرب وقريش .
وقال آخرون : هي الميتة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَلا تَأكُلُوا مِمّا لِمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهُ عَلَيْهِ قال : الميتة .
وقال آخرون : بل عنى بذلك كلّ ذبيحة لم يذكر اسم الله عليها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن حميد بن يزيد ، قال : سئل الحسن ، سأله رجل قال له : أتيت بطير كذا ، فمنه ما ذبح ، فذكر اسم الله عليه ، ومنه ما نسيب أن يذكر اسم الله عليه واختلط الطير ؟ فقال الحسن : كلْه كلّه قال : وسألت محمد بن سيرين ، فقال : قال الله : وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن أيوب وهشام ، عن محمد بن سيرين ، عن عبد الله يزيد الخطميّ ، قال : كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين ، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن أشعث ، عن ابن سيرين ، عن عبد الله بن يزيد ، قال : كنت أجلس إليه في حلقة ، فكان يجلس فيها ناس من الأنصار هو رأسهم ، فإذا جاء سائل فإنما يسأله ويسكتون . قال : فجاءه رجل فسأله ، فقال : رجل ذبح فنسي أن يسمي ؟ فتلا هذه الاَية : وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ حتى فرغ منها .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عني بذلك : ما ذبح للأصنام والاَلهة ، وما مات أو ذبحه من لا تحلّ ذبيحته . وأما من قال : عنى بذلك ما ذبحه المسلم فنسي ذكر اسم الله ، فقول بعيد من الصواب لشذوذه ، وخروجه عما عليه الحجة مجمعة من تحليله ، وكفى بذلك شاهدا على فساده . وقد بيّنا فساده من جهة القياس في كتابنا المسمى «لطيف القول في أحكام شرائع الدين » فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وأما قوله لَفِسقٌ فإنه يعني : وإنّ أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة وما أهلّ به لغير الله لفسق .
واختلف أهل التأويل في معنى الفسق في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : المعصية . فتأويل الكلام على هذا : وإنّ أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لمعصية لله وإثم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإنّهُ لَفِسْقٌ قال : الفسق : المعصية .
وقال آخرون : معنى ذلك : الكفر .
وأما قوله : وَإنّ الشيّاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ فقد ذكرنا اختلاف المختلفين في المعنيّ بقوله : وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ . والصواب من القول فيه . وأما إيحاؤهم إلى أوليائهم ، فهو إشارتهم إلى ما أشاروا لهم إليه ، إما بقول ، وإما برسالة ، وإما بكتاب . وقد بيّنا معنى الوحي فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقد :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا عكرمة ، عن أبي زميل ، عن أبي زميل ، قال : كنت قاعدا عند ابن عباس ، فجاءه رجل من أصحابه ، فقال : يا أبا عباس ، زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة يعني المختار بن أبي عبيد فقال ابن عباس : صدق فنفرت فقلت : يقول ابن عباس صدق ؟ فقال ابن عباس : هما وحيان : وحي الله ، ووحي الشيطان فوحي الله إلى محمد ، ووحي الشياطين إلى أوليائهم . ثم قال : وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ .
وأما الأولياء : فهم النصراء والظهراء في هذا الموضع .
ويعني بقوله : لِيُجادِلُوكُمْ ليخاصموكم ، بالمعني الذي قد ذكرت قبل .
وأما قوله : وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْرِكُونَ فإنه يعني : وإن أطعتموهم في أكل الميتة وما حرم عليكم ربكم كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ يقول : وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ فأكلتم الميتة .
وأما قوله : إنّكُمْ لَمُشْركُونَ يعني : إنكم إذا مثلهم ، إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالاً ، فإذا أنتم أكلتموها كذلك فقد صرتم مثلهم مشركين .
واختلف أهل العلم في هذه الاَية : هل نسخ من حكمها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم : لم ينسخ منها شيء وهي محكمة فيما عُنيت به ، وعلى هذا قول عامة أهل العلم . ورُوى عن الحسن البصري وعكرمة ، ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصريّ قالا : قال : فَكُلُوا ممّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ بآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ فنسخ واستثنى من ذلك ، فقال : وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلّ لَهُمْ .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن هذه الاَية محكمة فيما أنزلت لم ينسخ منها شيء ، وأن طعام أهل الكتاب حلال وذبائحهم ذكية . وذلك مما حرّم الله على المؤمنين أكله بقوله : وَلا تأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ بمعزل ، لأن الله إنما حرّم علينا بهذه الاَية الميتة وما أهلّ به للطواغيت ، وذبائح أهل الكتاب ذكية سَمّوْا عليها أو لم يسموا لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله يدينون بأحكامها ، يذبحون الذبائح بأديانهم كما ذبح المسلم بدينه ، سمى الله على ذبيحته أو لم يسمه ، إلا أن يكون ترك من ذكر تسمية الله على ذبيحته على الدينونة بالتعطيل ، أو بعبادة شيء سوى الله ، فيحرم حينئذٍ أكل ذبيحته سمى الله عليها أو لم يسمّ .
المقصد بهذه الآية النهي عن الميتة إذ هي جواب لقول المشركين تتركون ما قتل الله ، والنهي أيضاً عما ذبح للأنصاب ، ومع ذلك فلفظها يعم ما تركت التسمية عليه من ذبح الإسلام ، وبهذا العموم تعلق محمد بن سيرين وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن عمر ونافع وعبد الله بن يزيد الخطمي والشعبي وغيرهم فما تركت التسمية عليه نسياناً أو عمداً لم يؤكل ، وقالت طائفة عظيمة من أهل العلم : يؤكل ما ذبح ولم يسم عليه نسياناً ، ولا يؤكل ما لم يسم عليه عمداً ، وهذا قول الجمهور ، وحكى الزهراوي عن مالك بن أنيس أنه قال : تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمداً أو نسياناً ، وعن ربيعة أيضاً قال عبد الوهاب : التسمية سنة فإذا تركها الذابح ناسياً أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه ، وإذا تركها عمداً فقال مالك لا تؤكل ، فحمل بعض أصحابه قوله لا تؤكل على التحريم ، وحمله بعضهم على الكراهة ، وقال أشهب : تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمداً إلا أن يكون مستخفاً ، وقال نحوه الطبري ، وذبائح أهل الكتاب عند جمهور العلماء في حكم ما ذكر اسم الله عليه من حيث لهم دين وتشرع ، وقال قوم نسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب ، قاله عكرمة والحسن بن أبي الحسن ، والضمير في { إنه } في قوله : { وإنه لفسق } عائد على الأكل الذي تضمنه الفعل في قوله { ولا تأكلوا } ويحتمل أن يعود على ترك الذكر الذي يتضمنه قوله { لم يذكر } ، والفسق الخروج عن الطاعة ، هذا عرْفه في الشرع ، وقوله تعالى : { وإن الشياطين } الآية ، قال عكرمة عنى بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس ، وذلك أنهم كانوا يوالون قريشاً على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم فخاطبوهم منبهين على الحجة التي ذكرناها في أمر الذبح من قولهم : تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل الله ، فذلك من مخاطبتهم هو الوحي الذي عنى به ، «والأولياء » قريش ، «والمجادلة » هي تلك الحجة ، وقال ابن عباس وعبد الله بن كثير : بل { الشياطين } الجن واللفظة على وجهها وكفرة الجن أولياء الكفرة قريش ، ووحيهم إليهم كان بالوسوسة حتى ألهموهم لتلك الحجة أو على ألسنة الكهان ، وقال أبو زميل : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إن إسحاق يعني المختار زعم أنه أوحي إليه الليلة . فقال ابن عباس صدق ، فنفرت فقال ابن عباس : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } ثم نهى الله عز وجل عن طاعتهم بلفظ يتضمن الوعيد وعرض أصعب مثال في أن يشبه المؤمن بمشرك ، وحكى الطبري عن ابن عباس قولاً : إن الذين جادلوك بتلك الحجة هم قوم من اليهود .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن اليهود لا تأكل الميتة ، أما أن ذلك يتجه منهم على جهة المغالطة كأنهم يحتجون عن العرب .
جملة : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } معطوفة على جملة : { فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 118 ] .
و ( ما ) في قوله : { مما لم يذكر اسم الله عليه } موصولة ، وما صْدق الموصول هنا : ذَكِيَ ، بقرينة السّابق الّذي ما صْدقه ذلك بقرينة المقام . ولمّا كانت الآية السّابقة قد أفادت إباحة أكل ما ذكر اسمُ الله عليه ، وأفهمت النّهيَ عمَّا لم يذكر اسم الله عليه ، وهو الميتة ، وتَمّ الحكم في شأن أكل الميتة والتفرقةُ بينها وبين ما ذُكّي وذُكر اسم الله عليه ، ففي هذه الآية أفيد النّهي والتّحذير من أكل ما ذُكر اسم غيرِ الله عليه . فمعنى : { لم يذكر اسم الله عليه } : أنَّه تُرِك ذكر اسم الله عليه قصداً وتجنّبا لذكره عليه ، ولا يكون ذلك إلاّ لقصد أن لا يكون الذّبح لله ، وهو يساوي كونه لغير الله ، إذ لا واسطة عندهم في الذكاة بين أن يذكروا اسم الله أو يذكروا اسم غير الله ، كما تقدّم بيانه عند قوله : { فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 118 ] . وممّا يرشّح أنّ هذا هو المقصود قولُه هنا : { وإنه لفسق } وقوله في الآية الآتية : { أو فِسْقا أهِلّ لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] ، فعلم أنّ الموصوف بالفسق هنا : هو الّذي وصف به هنالك ، وقيد هنالك بأنَّه أُهلّ لغير الله به ، وبقرينة تعقيبه بقوله : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } لأنّ الشّرك إنَّما يكون بذكر أسماء الأصنام على المذكَّى ، ولا يكون بترك التّسمية .
وربّما كان المشركون في تَحيّلهم على المسلمين في أمر الذكاة يقتنعون بأن يسألوهم ترك التّسمية ، بحيث لا يُسمّون الله ولا يسمّون للأصنام ، فيكون المقصود من الآية : تحذير المسلمين من هذا التّرك المقصود به التمويه ، وأن يسمّى على الذّبائح غيرُ أسماء آلهتهم .
فإن اعتددنا بالمقصد والسّياق ، كان اسم الموصول مراداً به شيء معيّن ، لم يذكر اسم الله عليه ، فكان حكمها قاصراً على ذلك المعيّن ، ولا تتعلّق بها مسألةُ وجوب التّسمية في الذكاة ، ولا كونها شرطاً أو غير شرط بله حكم نسيانها . وإن جعلنا هذا المقصد بمنزلة سبب للنّزول ، واعتددنا بالموصول صادقاً على كلّ ما لم يذكر اسم الله عليه ، كانت الآية من العامّ الوارد على سبب خاصّ ، فلا يخصّ بصورة السّبب ، وإلى هذا الاعتبار مال جمهور الفقهاء المختلفين في حكم التّسمية على الذّبيحة .
وهي مسألة مختلف فيها بين الفقهاء على أقوال : أحدها : أنّ المسلم إن نسي التّسمية على الذبح تؤكل ذبيحته ، وإن تعمَّد ترك التّسمية استخفافاً أو تجنّبا لها لم تؤكل ( وهذا مثل ما يفعله بعض الزّنوج من المسلمين في تونس وبعض بلاد الإسلام الّذين يزعمون أنّ الجنّ تمتلكهم ، فيتفادَون من أضرارها بقرابين يذبحونها للجنّ ولا يسمّون اسم الله عليها ، لأنَّهم يزعمون أنّ الجنّ تنفر من اسم الله تعالى خِيفة منه ، ( وهذا متفشّ بينهم في تونس ومصر ) فهذه ذبيحة لا تؤكل .
ومستند هؤلاء ظاهر الآية مع تخصيصها أو تقييدها بغير النّسيان ، إعمالاً لقاعدة رفع حكم النّسيان عن النّاس . وإنْ تعمّد ترك التّسمية لا لقصد استخفاف أو تجنّب ولكنّه تثاقل عنها ، فقال مالك ، في المشهور ، وأبو حنيفة ، وجماعة ، وهو رواية عن أحمد : لا تؤكل . ولا شكّ أنّ الجهل كالنّسيان ، ولعلّهم استدلّوا بالأخذ بالأحوط في احتمال الآية اقتصارا على ظاهر اللّفظ دون معونة السِياق .
الثّاني : قال الشّافعي ، وجماعة ، ومالك ، في رواية عنه : تؤكل ، وعندي أنّ دليل هذا القول أنّ التّسمية تكملة للقربة ، والذكاة بعضها قربة وبعضها ليست بقربة ، ولا يبلغ حكم التّسمية أن يكون مفسداً للإباحة . وفي « الكشاف » أنَّهم تأوّلوا ما لم يذكر اسم الله عليه بأنَّه الميتة خاصّة ، وبما ذُكر غيرُ اسم الله عليه . وفي « أحكام القرآن » لابن العربي ، عن إمام الحرمين : ذِكر الله إنَّما شرع في القُرَب ، والذبحُ ليس بقربة . وظاهر أنّ العامد آثم وأنّ المستخفّ أشدّ إثماً . وأمّا تعمّد ترك التّسمية لأجل إرضاءِ غير الله فحكمه حكم من سمَّى لِغير الله تعالى . وقيل : إنْ ترَك التّسميةَ عمداً يُكره أكلها ، قاله أبو الحسن بن القصّار ، وأبو بكر الأبهري من المالكيّة . ولا يعدّ هذا خلافاً ، ولكنّه بيان لقول مالك في إحدى الرّوايتين . وقال أشهب ، والطبرِي : تؤكل ذبيحة تارك التّسمية عمداً ، إذا لم يتركها مستخِفاً . وقال عبد الله بن عمر ، وابن سيرين ، ونافِع ، وأحمد بن حنبل ، وداودُ : لا تؤكل إذا لم يسمّ عليها عَمْداً أو نسياناً ، أخذاً بظاهر الآية ، دون تأمّل في المقصد والسّياق .
وأرجح الأقوال : هو قول الشّافعي . والرّوايةُ الأخرى عن مالك ، إنْ تعمّد ترك التّسميه تؤكل ، وأنّ الآية لم يُقْصد منها إلاّ تحريم ما أهل به لغير الله بالقرائن الكثيرة التي ذكرناها آنفاً ، وقد يكون تارك التّسمية عمداً آثماً ، إلاّ أنّ إثمه لا يُبطل ذكاته ، كالصّلاة في الأرض المغصوبة عند غير أحمد .
وجملة : { وإنه لفسق } معطوفة على جملة { ولا تأكلوا } عطف الخبر على الإنشاء ، على رأي المحقّقين في جوازه ، وهو الحقّ ، لا سيما إذا كان العطف بالواو ، وقد أجاز عطف الخبر على الإنشاء بالواو بعض من منعه بغير الواو ، وهو قول أبي عليّ الفارسي ، واحتجّ بهذه الآية كما في « مغنى اللّبيب » . وقد جعلها الرّازي وجماعة : حالاً { مما لم يذكر اسم الله عليه } بناء على منع عطف الخبر على الإنشاء .
والضّمير في قوله : { وإنه لفسق } يعود على { مما لم يذكر اسم الله عليه } والإخبار عنه بالمصدر وهو { فسق } مبالغة في وصف الفعل ، وهو ذكرُ اسم غير الله ، بالفسق حتّى تجاوز الفسق صفة الفعل أن صار صفة المفعول فهو من المصدر المراد به اسم المفعول : كالخَلق بمعنى المخلوق ، وهذا نظير جعله فسقاً في قوله بعدُ : { أو فسقاً أهِلّ لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] . والتّأكيد بإنّ : لزيادة التّقرير ، وجعل في « الكشاف » الضّمير عائداً إلى الأكل المأخوذ من { ولا تأكلوا } ، أي وإنّ أكْلَه لفسق .
وقوله : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجدلوكم } عطف على : { وإنه لفسق } ، أي : واحذروا جَدَل أولياء الشّياطين في ذلك ، والمراد بأولياء الشّياطين : المشركون ، وهم المشار إليهم بقوله ، فيما مرّ : { يُوحي بعضهم إلى بعض } [ الأنعام : 112 ] وقد تقدّم بيانه .
والمجادلة المنازعة بالقول للإقناع بالرأي ، وتقدّم بيانها عند قوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } في سورة النساء ( 107 ) ، والمراد هنا المجادلة في إبطال أحكام الإسلام وتحبيب الكفر وشعائره ، مثل قولهم : كيف نأكل ما نقتل بأيدينا ولا نأكل ما قتله الله .
وقوله : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } حُذف متعلّق { أطعتموهم } لدلالة المقام عليه ، أي : إن أطعتموهم فيما يجادلونكم فيه ، وهو الطّعن في الإسلام ، والشكّ في صحّة أحكامه . وجملة : { إنكم لمشركون } جواب الشّرط . وتأكيد الخبر بإنّ لتحقيق التحاقهم بالمشركين إذا أطاعوا الشّياطين ، وإن لم يَدْعوا لله شركاء ، لأنّ تخطئة أحكام الإسلام تساوي الشرك ، فلذلك احتيج إلى التّأكيد ، أو أراد : إنَّكم لصائرون إلى الشّرك ، فإنّ الشّياطين تستدرجكم بالمجادلة حتّى يبلغوا بكم إلى الشرك ، فيكون اسم الفاعل مراداً به الاستقبال . وليس المعنى : إن أطعتموهم في الإشراك بالله فأشركتم بالله إنَّكم لمشركون ، لأنَّه لو كان كذلك لم يكن لتأكيد الخبر سبب ، بل ولا للإخبار بأنّهم مشركون فائدة .
وجملة : { إنكم لمشركون } جواب الشرط ، ولم يَقترن بالفاء لأنّ الشّرط إذا كان مضافاً يحسن في جوابه التّجريد عن الفاء ، قاله أبو البقاء العُكبري ، وتبعه البيضاوي ، لأنّ تأثير الشّرط الماضي في جزائه ضعيف ، فكما جاز رفع الجزاء وهو مضارع ، إذا كان شرطه ماضياً ، كذلك جاز كونه جملة اسميّة غير مقترنة بالفاء . على أنّ كثيراً من محقّقي النّحويين يجيز حذف فاء الجواب في غير الضّرورة ، فقد أجازه المبرّد وابن مالك في شرحه على « مشكل الجامع الصّحيح » . وجعل منه قوله صلى الله عليه وسلم " إنك إنْ تَدَعْ ورثتَك أغنياء خيرُ من أن تدعهم عالة " على رواية إنْ بكسر الهمزة دون رواية فتح الهمزة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ": لا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات فلم تذبحوه أنتم أو يذبحه موحد يدين لله بشرائع شرعها له في كتاب منزّل فإنه حرام عليكم، ولا ما أهلّ به لغير الله مما ذبحه المشركون لأوثانهم، فإن أكْلَ ذلك فسق، يعني: معصية كفر...
"وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ":... إن الله أخبر أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة بما ذكرنا من جدالهم إياهم. وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أوليائهم منهم، وجائز أن يكونوا شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس، وجائز أن يكون الجنسان كلاهما تعاونا على ذلك، كما أخبر الله عنهما في الآية الأخرى التي يقول فيها: "وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا"، بل ذلك الأغلب من تأويله عندي، لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجنّ والإنس، كما جعل لأنبيائه مِن قبله يوحي بعضهم إلى بعض المزيّنَ من الأقوال الباطلة، ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرّم الله من الميتة عليهم...
وأما قوله "لَفِسقٌ "فإنه يعني: وإنّ أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة وما أهلّ به لغير الله لفسق...
وأما الأولياء: فهم النصراء والظهراء في هذا الموضع.
ويعني بقوله: "لِيُجادِلُوكُمْ": ليخاصموكم...
وأما قوله: "وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْرِكُونَ "فإنه يعني: وإن أطعتموهم في أكل الميتة وما حرم عليكم ربكم...
وأما قوله: "إنّكُمْ لَمُشْركُونَ" يعني: إنكم إذا مثلهم، إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالاً، فإذا أنتم أكلتموها كذلك فقد صرتم مثلهم مشركين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومن حق ذي البصيرة في دينه أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان؛ لما يرى في الآية من التشديد العظيم، وإن كان أبو حنيفة رحمه الله مرخصاً في النسيان دون العمد، ومالك والشافعي رحمهما الله فيهما...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمرهم بالأكل مما ينفعهم ويعينهم على شكره محذراً من أكل ما يعيش مرأى بصائرهم، أتبعه نهيهم نهياً جازماً خاصاً عن الأكل مما يضرهم في أبدانهم وأخلاقهم، وهو ما ضاد الأول في خلوه عن الاسم الشريف فقال {ولا تأكلوا مما لم يذكر} أي مما لا يقبل أن يذكر {اسم الله} أي الذي لا يؤخذ شيء إلا منه، لأن له الكمال كله فله الإحاطة الكاملة، وأشار بأداة الاستعلاء إلى الإخلاص ونفي الإشراك فقال: {عليه} أي لكون الله قد حرمه فصار نجس العين أو المعنى، فصار مخبثاً للبدن والنفس مما ذكر عليه غير اسمه سبحانه بما دل عليه من تسميته فسقاً، وتفسير الفسق في آية أخرى بما أهل به لغير الله و كذا ما كان في معناه مما مات أو كان حراماً بغير ذلك، واسمه تعالى منزه عن أن يذكر على غير الحلال، فإن ذكر عليه كان ملاعباً فلم يطهره، وأما ما كان حلالاً ولم يذكر عليه اسم الله ولا غيره فهو حلال -كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قالوا: يا رسول الله! إن هنا أقواماً حديث عهد بشرك يأتوننا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله أم لا! قال:"اذكروا أنتم اسم الله وكلوا" قال البغوي: ولو كانت التسمية شرطاً للإباحة لكان الشك في وجودها مانعاً من أكلها كالشك في أصل الذبح- انتهى.
ولما كان التقدير: فإنه خبيث في نفسه مخبث، عطف عليه قوله: {وإنه} أي الأكل منه أو هو نفسه لكونه السبب {لفسق} فجعله نفس الفسق -وهو الخروج عما ينبغي إلى ما لا ينبغي- لأنه عريق جداً في كونه سببه لما تأصل عندهم من أمره وانتشر من شره، وهذا دليل على ما أولت به لأن النسيان ليس بسبب الفسق، والذي تركت التسمية عليه نسياناً ليس بفسق، والناسي ليس بفاسق -كما قاله البخاري، وإلى ذلك الإشارة بما رواه عن عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوماً يأتونّا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا! فقال:
"سموا عليه أنتم وكلوه"، قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر- انتهى. فهذا كله يدل على أن المراد إنما هو كونه مما يحل ذبيحته، وليس المراد اشتراط التسمية بالفعل.
ولما كانت الشبه ربما زلزلت ثابت العقائد، قال محذراً منها: {وإن الشياطين} أي أخابث المردة من الجن والإنس البعيدين من الخير المهيئين للنشر المحترقين باللعنة من مردة الجن والإنس {ليوحون} أي يوسوسون وسوسة بالغة سريعة {إلى أوليائهم} أي المقاربين لهم في الطباع المهيئين لقبول كلامهم {ليجادلوكم} أي ليفتلوكم عما أمركم به بأن يقولوا لكم: ما قتله الله أحق بالأكل مما قتلتموه أنتم وجوارحكم -ونحو ذلك، وأهل الحرم لا ينبغي أن يقفوا في غيره، والغريب لا ينبغي أن يساويهم في الطواف في ثيابه، والنذر للأصنام كالنذر للكعبة، ونحو هذا من خرافاتهم التي بنوا أمرهم فيها على الهوى الذي هم معترفون بأنه مضل مضر، ومبالغون في الذم باتباعه والميل إليه، ويكفي في هدم جميع شبههم إجمالاً أن صاحب الدين ومالك الملك منع منها.
ولما كان التقدير: فإن أطعتموهم تركتم الهدى وتبعتم الهوى، وكان من المعلوم أن الهوى يعود إلى الشرك، عطف على هذا قوله: {وإن أطعتموهم} أي المشركين تديناً بما يقولونه في ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه والأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، أو في شيء مما جادلوكم فيه {إنكم لمشركون} أي فأنتم وهم في الإشراك سواء كما إذا سميتم غير الله على ذبائحكم على وجه العبادة، لأن من اتبع أمر غير الله فقد اشركه بالله
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أمر الله تعالى بالأكل مما ذكر اسمه عليه في مقام بيان ضلال المشركين وإضلالهم بأكل ما ذكر اسم غيره عليه، ثم صرح بالمفهوم المراد من ذلك الأمر، ولم يكتف بدلالة السياق على القصر لشدة العناية بهذا الأمر الذي هو من أظهر أعمال الشرك، أي ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح عند تزكيته والحال أنه لفسق أهل به لغيره كما قال في آية المحرمات {أو فسقا أهل لغير الله به} (الأنعام 145} فالآية لا تدل على تحريم كل ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح فضلا عن غيرها من الأطعمة خلافا لمن قال بهذا وذاك لأنها خاصة بتلك القرابين الدينية وأمثالها بقرينة السياق كما تقدم شرحه وبدليل تقييد النهي بالجملة الحالية كما حققه السعد التفتازاني ويؤيده قوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} أي وإن شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ليوحون إلى أوليائهم بالوسوسة والتلقين الخادع الخفي ما يجادلونكم به من الشبهات في هذه المسألة وإن أطعتموهم فيها فجاريتموهم في هذه العبادة الوثنية الباطلة إنكم لمشركون مثلهم وإن كان لأجل التسول بذلك الغير إليه ليقرب المتوسل إليه زلفى ويشفع له عنده كما يفعل أهل الوثنية. ومن المعلوم أن أولياء الشياطين لم يجادلوا أحدا من المؤمنين فيما لم يذكر اسم الله ولا اسم غيره عليه من الذبائح المعتادة التي لا يقصد بها العبادة وأن من يأكل هذه الذبائح لا يكون مشركا وكذلك من يأكل الميتة لا يكون مشركا بل يكون عاصيا إن لم يكن مضطرا وإن كان قد وقع الجدال في هذه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... لمّا كانت الآية السّابقة قد أفادت إباحة أكل ما ذكر اسمُ الله عليه، وأفهمت النّهيَ عمَّا لم يذكر اسم الله عليه، وهو الميتة، وتَمّ الحكم في شأن أكل الميتة والتفرقةُ بينها وبين ما ذُكّي وذُكر اسم الله عليه، ففي هذه الآية أفيد النّهي والتّحذير من أكل ما ذُكر اسم غيرِ الله عليه. فمعنى: {لم يذكر اسم الله عليه}: أنَّه تُرِك ذكر اسم الله عليه قصداً وتجنّبا لذكره عليه، ولا يكون ذلك إلاّ لقصد أن لا يكون الذّبح لله، وهو يساوي كونه لغير الله، إذ لا واسطة عندهم في الذكاة بين أن يذكروا اسم الله أو يذكروا اسم غير الله، كما تقدّم بيانه عند قوله: {فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 118]. وممّا يرشّح أنّ هذا هو المقصود قولُه هنا: {وإنه لفسق} وقوله في الآية الآتية: {أو فِسْقا أهِلّ لغير الله به} [الأنعام: 145]، فعلم أنّ الموصوف بالفسق هنا: هو الّذي وصف به هنالك، وقيد هنالك بأنَّه أُهلّ لغير الله به، وبقرينة تعقيبه بقوله: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} لأنّ الشّرك إنَّما يكون بذكر أسماء الأصنام على المذكَّى، ولا يكون بترك التّسمية.
وربّما كان المشركون في تَحيّلهم على المسلمين في أمر الذكاة يقتنعون بأن يسألوهم ترك التّسمية، بحيث لا يُسمّون الله ولا يسمّون للأصنام، فيكون المقصود من الآية: تحذير المسلمين من هذا التّرك المقصود به التمويه، وأن يسمّى على الذّبائح غيرُ أسماء آلهتهم.
فإن اعتددنا بالمقصد والسّياق، كان اسم الموصول مراداً به شيء معيّن، لم يذكر اسم الله عليه، فكان حكمها قاصراً على ذلك المعيّن، ولا تتعلّق بها مسألةُ وجوب التّسمية في الذكاة، ولا كونها شرطاً أو غير شرط بله حكم نسيانها. وإن جعلنا هذا المقصد بمنزلة سبب للنّزول، واعتددنا بالموصول صادقاً على كلّ ما لم يذكر اسم الله عليه، كانت الآية من العامّ الوارد على سبب خاصّ، فلا يخصّ بصورة السّبب، وإلى هذا الاعتبار مال جمهور الفقهاء المختلفين في حكم التّسمية على الذّبيحة...