وقوله - تعالى - { وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } معطوف على قوله { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ . . . إلخ } أي : بعد أن أمرنا الملائكة بالسجود لآدم ، قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، فهذه تكرمه أكره الله بها بعد أن أكرمه بكرامة الإِجلال من تلقاء الملائكة .
وقوله : { اسكن } أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن على وجه الاستقرار .
والزوج : يطلق على الرجل والمرأة والمراد به هنا حواء ، حيث تقول العرب للمرأة زوج ، ولا تكاد تقول زوجة .
والجنة : هي كل بستان ذي شجر متكاثف ، ملتف الأغصان ، يظلل ما تحته ويستره ، من الجن ، وهو ستر الشيء عن الحاسة .
وجمهور أهل السنة على أن المراد بها هنا دار الثواب . التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة ، لأن هذا هو المتبادر إلى الذهن عند الإِطلاق .
ويرى جمهور علماء المعتزلة أن المراد بها هنا بستان بمكان مرتفع من الأرض ، خلقه الله لإِسكان آدم وزوجه ، واختلفوا في مكانه ، فقيل بفلسطين . وقيل بغيرها .
وقد ساق الإِمام ابن القيم في كتابه ( حادي الأرواح ) أدلة الفريقين دون أن يرجح شيئاً منها .
والأحوط والأسلم : الكف عن تعيينها وعن القطع به ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدي في التأويلات ، إذ ليس لهذه المسألة تأثير في العقيدة .
والمخاطب بالأمر ، بسكنى الجنة آدم وحواء ، ولكن الأسلوب جاء في صيغة الخطاب لآدم وعطفت عليه زوجه ، لأنه هو المقصود بالأمر وزوجه تبع له .
ثم بين - سبحانه - أنه قد أباح لهما أن يأكلا من ثمار الجنة أكلا واسعا فقال : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } أي كلا من مطاعم الجنة وثمارها أكلا هنيئاً أو واسعاً في أي مكان من الجنة أردتم .
يقال : رغد عيش القوم أي : اتسع وطاب ، وأرغد القوم ، أي : اخصبوا وصاروا في رزق واسع .
والضمير في قوله { مِنْهَا } يعود إلى الجنة ، والمراد بالأكل منها : الأكل من مطاعمها وثمارها ، لأن الجنة تستلزم ثماراً هي المقصودة بالأكل .
ثم بين - سبحانه - أنه نهاهم عن الأكل من شجرة معينة فقال : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } .
القرب : الدنو ، والمنهى عنه هو الأكل من ثمار الشجرة ، وتعليق النهي بالقرب منها إذ قال { وَلاَ تَقْرَبَا } القصد منه المبالغة في النهي عن الأكل ، إذ في النهي عن القرب من الشيء قطع لوسيلة التلبس سبه ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } فنهى عن القرب من الزنا ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه وهي القرب منه . وأكد النبي بأن جعل عدم اجتناب الأكل من الشجرة ظلماً فقال : { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } وقد ظلما أنفسهما إذ أكلا منها ، فقد ترتب على أكلهما منها أن أخرجا من الجنة التي كانا يعيشان فيها عيشة راضية .
وقد تكلم العلماء كثيراً عن اسم هذه الشجرة ونوعها فقيل هي التينة ، وقيل : هي السنبلة ، وقيل هي الكرم . . الخ . إلا أن القرآن لم يذكر نوعها على عادته في عدم التعرض لذكر ما لم يدع المقصود من سوق القصة إلى بيانه .
وقد أحسن الإِمام ابن جرير في التعبير عن هذا المعنى فقال : " والصواب في ذلك أن يقال : إن الله - تعالى - نهى آدم وزوجه عن الأكل من شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة ، وقد قيل : كانت شجرة البر ، وقيل كانت شجرة العنب . وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به .
{ وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هََذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظّالِمِينَ }
قال أبو جعفر : وفي هذه الآية دلالة واضحة على صحة قول من قال : إن إبليس أخرج من الجنة بعد الاستكبار عن السجود لاَدم ، وأسكنها آدم قبل أن يهبط إبليس إلى الأرض ألا تسمعون الله جل ثناؤه يقول : وَقُلْنَا يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنةَ وكُلا مِنْهَا رَغدا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِمِينَ فأزَلّهُما الشّيْطانُ عَنْها فأخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ . فقد تبين أن إبليس إنما أزلّهما عن طاعة الله ، بعد أن لُعن وأظهر التكبر لأن سجود الملائكة لاَدم كان بعد أن نفخ فيه الروح ، وحينئذٍ كان امتناع إبليس من السجود له ، وعند الامتناع من ذلك حلت عليه اللعنة . كما :
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن عدوّ الله إبليس أقسم بعزّة الله ليغوينّ آدم وذريته وزوجه ، إلا عباده المخلصين منهم ، بعد أن لعنه الله ، وبعد أن أخرج من الجنة ، وقبل أن يهبط إلى الأرض ، ويعلّم الله آدم الأسماء كلها .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما فرغ الله من إبليس ومعاتبته ، وأبى إلا المعصية ، وأوقع عليه اللعنة ، ثم أخرجه من الجنة أقبل على آدم وقد علّمه الأسماء كلها ، فقال : يا آدَمُ أنْبئْهُمْ بأسْمَائِهِمْ إلى قوله : إنكَ أنْتَ العَلِيم الحَكِيم .
ثم اختلف أهل التأويل في الحال التي خلقت لاَدم زوجته والوقت الذي جعلت له سكنا . فقال ابن عباس بما :
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فأخرج إبليس من الجنة حين لعن ، وأسكن آدم الجنة ، فكان يمشي فيها وَحْشا ليس له زوج يسكن إليها . فنام نومة فاستيقظ ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه ، فسألها : من أنت ؟ فقالت : امرأة ، قال : ولم خلقت ؟ قالت : تسكن إليّ . قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ علمه : ما اسمها يا آدم ؟ قال : حوّاء ، قالوا : ولم سميت حوّاء ؟ قال : لأنها خُلقت من شيء حيّ . فقال الله له : يا آدَمَ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا . فهذا الخبر ينبىء عن أن حوّاء خلقت بعد أن سكن آدم الجنة فجُعلت له سكنا .
وقال آخرون : بل خلقت قبل أن يسكن آدم الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، قال : لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها ، فقال : يا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بِأسْمَائِهِمْ إلى قوله : إنّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ . قال : ثم ألقى السّنة على آدم فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم ، عن عبد الله بن عباس وغيره ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما وآدم نائم لم يهبّ من نومته حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حوّاء ، فسوّاها امرأة ليسكن إليها . فلما كشف عنه السنة وهبّ من نومته رآها إلى جنبه ، فقال فيما يزعمون والله أعلم : لحمي ودمي وزوجتي . فسكن إليها . فلما زوّجه الله تبارك وتعالى وجعل له سكنا من نفسه ، قال له ، فتلا : يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَجُكَ الجَنّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبا هَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِمِينَ .
قال أبو جعفر : ويقال لامرأة الرجل زوجه وزوجته ، والزوجة بالهاء أكثر في كلام العرب منها بغير الهاء ، والزوج بغير الهاء يقال إنه لغة لأزد شنوءة . فأما الزوج الذي لا اختلاف فيه بين العرب فهو زوج المرأة .
القول في تأويل قوله تعالى : وكُلاَ مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا .
قال أبو جعفر : أما الرغد ، فإنه الواسع من العيش ، الهنيء الذي لا يُعَنّي صاحبه ، يقال : أرغد فلان : إذا أصاب واسعا من العيش الهنيء ، كما قال امرؤ القيس بن حجر :
بَيْنَمَا المَرْؤُ تَرَاهُ ناعِما *** يَأمَنُ الأحْدَاثَ فِي عَيْش رَغَدْ
وحدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وكُلاَ مِنْهَا رَغَدا قال : الرغد : الهنيء .
وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : رَغَدا قال : لا حساب عليهم .
وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : وكُلا مِنْهَا رَغَدا أي لا حساب عليهم .
وحدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : وكُلا مِنْها رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا قال : الرغد : سعة المعيشة .
فمعنى الآية : وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، وكلا من الجنة رزقا واسعا هنيئا من العيش حيث شئتما . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : يا آدَم اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنّةَ وكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُما ثم إن البلاء الذي كتب على الخلق كتب على آدم كما ابتُلي الخلق قبله أن الله جل ثناؤه أحلّ له ما في الجنة أن يأكل منها رغدا حيث شاء غير شجرة واحدة نُهي عنها . وقدم إليه فيها ، فما زال به البلاء حتى وقع بالذي نُهي عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلاَ تَقْرَبا هَذِهِ الشجرَةَ .
قال أبو جعفر : والشجر في كلام العرب : كل ما قام على ساق ، ومنه قول الله جل ثناؤه : وَالنّجمُ وَالشّجَرُ يَسْجُدَانِ يعني بالنجم : ما نجم من الأرض من نبت . وبالشجر : ما استقلّ على ساق .
ثم اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم ، فقال بعضهم هي السنبلة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي . قال : حدثنا عبد الحميد الحماني ، عن النضر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدمُ هي السنبلة .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عتيبة جميعا ، عن حصين ، عن أبي مالك في قوله : وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال : هي السنبلة .
وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قالا جميعا : حدثنا سفيان عن حصين عن أبي مالك ، مثله .
وحدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي عن عطية في قوله : وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال : السنبلة .
وحدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد عن سعيد ، عن قتادة قال : الشجرة التي نُهي عنها آدم هي السنبلة .
وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم . قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثني رجل من بني تميم أن ابن عباس كتب إلى أبي الخَلْد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها ، فكتب إليه أبو الخلد : سألتني عن الشجرة التي نُهي عنها آدم ، وهي السنبلة . وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم ، وهي الزيتونة .
وحدثنا ابن حميد . قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن رجل من أهل العلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، أنه كان يقول : الشجرة التي نُهي عنها آدم : البُرّ .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة . وابن المبارك ، عن الحسن بن عمارة ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت الشجرة التي نُهي الله عنها آدم وزوجته السنبلة .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة . عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل اليمن ، عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول : هي البرّ ولكن الحبة منها في الجنة ككُلَى البقر ألين من الزبد وأحلى من العسل . وأهل التوراة يقولون : هي البرّ .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة : أنه حدث أنها الشجرة التي تحتكّ بها الملائكة للخُلْد .
وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان عن جابر بن يزيد بن رفاعة ، عن محارب بن دثار قال : هي السنبلة .
وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن ، قال : هي السنبلة التي جعلها الله رزقا لولده في الدنيا .
قال أبو جعفر ، وقال آخرون : هي الكرمة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس ، قال : هي الكرمة .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي ، في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال : هي الكرمة . وتزعم اليهود أنها الحنطة .
وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : الشجرة هي الكرم .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن جعدة بن هبيرة ، قال : هو العنب في قوله : وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ .
وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن خلاد الصفار ، عن بيان ، عن الشعبي ، عن جعدة بن هبيرة : وَلا تَقْرَبا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال : الكرم .
وحدثنا ابن المثنى ، قال : حدثني الحسين ، قال : حدثنا خالد الواسطي ، عن بيان ، عن الشعبي ، عن جعدة بن هبيرة : وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال : الكرم .
وحدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن جعدة بن هبيرة ، قال : الشجرة التي نُهي عنها آدم : شجرة الخمر .
وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، قال : حدثنا سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير قوله : وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال : الكرم .
وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، قال : العنب .
وحدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، قال : عنب .
وقال آخرون : هي التّينة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : تينة .
قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم وزوجته أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عن الأكل منها ، فأتيا الخطيئة التي نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها ، بعد أن بين الله جل ثناؤه لهما عين الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها وأشار لهما إليها بقوله : وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ . ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطبين بالقرآن دلالة على أيّ أشجار الجنة كان نهيه آدم أن يقربها بنصّ عليها باسمها ولا بدلالة عليها . ولو كان لله في العلم بأيّ ذلك من أيّ رضا لم يُخْلِ عبادَه من نصب دلالة لهم عليها يصلون بها إلى معرفة عينها ، ليطيعوه بعلمهم بها ، كما فعل ذلك في كل ما بالعلم به له رضا .
فالصواب في ذلك أن يقال : إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها ، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه ، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به . ولا علم عندنا أيّ شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا في السنة الصحيحة ، فأنى يأتي ذلك من أتى ؟
وقد قيل : كانت شجرة البرّ . وقيل : كانت شجرة العنب . وقيل : كانت شجرة التين . وجائز أن تكون واحدة منها ، وذلك إن علمه عالم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضرّه جهله به .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِمِينَ .
قال أبو جعفر : اختلف أهل العربية في تأويل قوله : وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِمِينَ فقال بعض نحويي الكوفيين : تأويل ذلك : وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ فإنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين . فصار الثاني في موضع جواب الجزاء ، وجواب الجزاء يعمل فيه أوّله كقولك : إن تقم أقم ، فتجزم الثاني بجزم الأول . فكذلك قوله : فتكونا لما وقعت الفاء في موضع شرط الأول نصب بها ، وصيرت بمنزلة «كي » في نصبها الأفعال المستقبلة للزومها الاستقبال ، إذ كان أصل الجزاء الاستقبال .
وقال بعض نحويي أهل البصرة : تأويل ذلك : لا يكن منكما قُرْبُ هذه الشجرة فأن تكونا من الظالمين . غير أنه زعم أنّ «أن » غير جائز إظهارها مع «لا » ، ولكنها مضمرة لا بد منها ليصح الكلام بعطف اسم وهي «أن » على الاسم ، كما غير جائز في قولهم «عسى أن يفعل » . عسى الفعل ، ولا في قولك : «ما كان ليفعل » . ما كان لأن يفعل .
وهذا القول الثاني يفسده إجماع جميعهم على تخطئة قول القائل : سرّني تقوم يا هذا ، وهو يريد : سرّني قيامك . فكذلك الواجب أن يكون خطأ على هذا المذهب قول القائل : لا تقم ، إذا كان المعنى : لا يكن منك قيام . وفي إجماع جميعهم على صحة قول القائل : لا تقم ، وفساد قول القائل : سرّني تقوم بمعنى سرّني قيامك ، الدليل الواضح على فساد دعوى المدعي أن مع «لا » التي في قوله : وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ ضمير «أن » ، وصحة القول الاَخر .
وفي قوله : فَتَكُونَا مِنَ الظّالِمِينَ وجهان من التأويل : أحدهما أن يكون «فتكونا » في نية العطف على قوله : وَلاَ تَقْرَبَا فيكون تأويله حينئذ : ولا تقربا هذه الشجرة ، ولا تكونا من الظالمين . فيكون «فتكونا » حينئذ في معنى الجزم مجزوم بما جزم به وَلاَ تَقْرَبَا ، كما يقول القائل : لا تكلم عمرا ولا تؤذه ، وكما قال امرؤ القيس :
فَقُلْتُ لَهُ صَوّبْ وَلاَ تَجْهَدَنّهُ *** فَيُذْرِكَ مِنْ أُخْرَى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ
فجزم «فيذرك » بما جزم به «لا تجهدنه » ، كأنه كرر النهي .
والثاني أن يكون : فتكونَا منَ الظالمينَ بمعنى جواب النهي ، فيكون تأويله حينئذ : لا تقربا هذه الشجرة ، فإنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين كما تقول : لا تشتم عمرا فيشتمك مجازاة . فيكون «فتكونا » حينئذ في موضع نصب إذ كان حَرْفَ عطف على غير شكله لمّا كان في ولا تقْربَا حرف عامل فيه ، ولا يصلح إعادته في «فتكونا » ، فنصب على ما قد بينت في أول هذه المسألة .
وأما تأويل قوله : فَتَكُونَا مِنَ الظّالِمِينَ فإنه يعني به فتكونا من المتعدّين إلى غير ما أذن لهم وأبيح لهم فيه . وإنما عنى بذلك أنكما إن قربتما هذه الشجرة كنتما على منهاج من تعدّى حدودي وعصى أمري واستحلّ محارمي لأن الظالمين بعضهم أولياء بعض ، والله وليّ المتقين .
وأصل الظلم في كلام العرب وضع الشيء في غير موضعه ومنه قول نابغة بني ذبيان :
إلا أُلاوَارِيّ لأْيا ما أُبَيّنُها وَالنّؤْيُ كالحَوْضِ بالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ
فجعل الأرض مظلومة ، لأن الذي حفر فيها النوى حفر في غير موضع الحفر ، فجعلها مظلومة لوضع الحفرة منها في غير موضعها . ومن ذلك قول ابن قميئة في صفة غيث :
ظَلَمَ البِطَاحَ بِها انْهلالُ حَرِيصَة ٍفَصَفا النّطافُ لَهُ بُعَيْدَ المُقْلَعِ
وظلمه إياه : مجيئه في غير أوانه ، وانصبابه في غير مصبه . ومنه : ظلم الرجل جَزوره ، وهو نحره إياه لغير علة وذلك عند العرب : وضع النحر في غير موضعه .
وقد يتفرع الظلم في معان يطول بإحصائها الكتاب ، وسنبينها في أماكنها إذا أتينا عليها إن شاء الله تعالى وأصل ذلك كله ما وصفنا من وضع الشيء في غير موضعه .
وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 35 )
{ اسكن } معناه لازم الإقامة ، ولفظه لفظ الأمر ومعناه الإذن ، و { أنت } تأكيد( {[479]} ) للضمير الذي في { اسكن } ، { وزوجك } عطف عليه والزوج امرأة الرجل وهذا أشهر من زوجة ، وقد تقدم ، و { الجنة } البستان عليه حظيرة ، واختلف في الجنة التي أسكنها آدم ، هل هي جنة الخلد أو جنة أعدت لهما ؟ وذهب من لم يجعلها جنة الخلد إلى أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها ، وهذا لا يمتنع ، إلا أن السمع ورد أن من دخلها مثاباً لا يخرج منها( {[480]} ) ، وأما من دخلها ابتداء كآدم فغير مستحيل ولا ورد سمع بأنه لا يخرج منها .
واختلف متى خلقت حواء من ضلع آدم عليه السلام ؟ فقال ابن عباس «حين أنبأ الملائكة بالأسماء وأسجدوا له ألقيت عليه السنة وخلقت حواء ، فاستيقظ وهي إلى جانبه » فقال فيما يزعمون : لحمي ودمي ، وسكن إليها ، فذهبت الملائكة لتجرب علمه ، فقالوا له يا آدم ما اسمها ؟ قال : حواء . قالوا : ولم ؟ قال : لأنها خلقت من شيء حي ، ثم قال الله له : { اسكن أنت وزوجك الجنة } .
وقال ابن مسعود وابن عباس أيضاً : لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشاً ، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصيرى( {[481]} ) ، ليسكن إليها ويستأنس بها ، فلما انتبه رآها ، فقال : من أنت ؟ قالت : امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي ، وحذفت النون من { كلا } للأمر( {[482]} ) ، والألف الأولى لحركة الكاف( {[483]} ) حين حذفت الثانية لاجتماع المثلين وهو حذف شاذ ، ولفظ هذا الأمر ب { كلا } معناه الإباحة ، بقرينة قوله : { حيث شئتما } والضمير في { منها } عائد على { الجنة } .
وقرأ ابن وثاب والنخعي «رغْداً » بسكون الغين ، والجمهور على فتحها ، والرغد العيش الدارّ الهنيّ الذي لا عناء فيه ، ومنه قول امرىء القيس : [ الرمل ] .
بينما المرء تراه ناعماً . . . يأمن الأحداث في عيشٍ رَغَدْ
و { رغداً } منصوب على الصفة لمصدر محذوف وقيل : هو نصب على المصدر في موضع الحال ، و { حيث } مبنية على الضم ، ومن العرب من يبنيها على الفتح ، ومن العرب من يعربها حسب موضعها بالرفع والنصب والخفض ، كقوله سبحانه : { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون }( {[484]} ) [ الأعراف : 82 ، القلم : 44 ] ومن العرب من يقول «حوث » ، و { شئتما } أصله شيأتما حوّل إلى فعلتما تحركت ياؤه وانفتح ما قبلها جاء شائتما ، حذفت الألف الساكنة الممدودة للالتقاء وكسرت الشين لتدل على الياء فجاء شئتما .
قال القاضي أبو محمد : هذا تعليل المبرد ، فأما سيبويه فالأصل عنده شيئتما بكسر الياء ، نقلت حركة الياء إلى الشين ، وحذفت الياء بعد .
وقوله تعالى : { ولا تقربا هذه الشجرة } معناه لا تقرباها ، بأكل ، لأن الإباحة فيه وقعت .
قال بعض الحذاق : «إن الله لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ تقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب »( {[485]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا مثال بين في سد الذرائع .
وقرأ ابن محيصن هذي على الأصل ، والهاء في هذه بدل من الياء ، وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير هذه ، وتحتمل هذه الإشارة أن تكون إلى شجرة معينة واحدة ، أو إلى جنس .
وحكى هارون الأعور عن بعض العلماء قراءة «الشِّجرة » بكسر الشين و «الشجر » كل ما قام من النبات على ساق .
واختلف في هذه { الشجرة } التي نهى عنها ما هي ؟
فقال ابن مسعود وابن عباس : «هي الكَرْم ولذلك حرمت علينا الخمر » .
وقال ابن جريج عن بعض الصحابة : «هي شجرة التين » .
وقال ابن عباس أيضاً وأبو مالك وعطية وقتادة : «هي السنبلة وحبها ككلى البقر ، أحلى من العسل ، وألين من الزبد » .
وروي عن ابن عباس أيضاً : «أنها شجرة العلم ، فيها ثمر كل شيء » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لا يصح عن ابن عباس .
وحكى الطبري عن يعقوب بن عتبة : «أنها الشجرة التي كانت الملائكة تحنك( {[486]} ) بها للخلد » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أيضاً ضعيف .
قال : «واليهود تزعم أنها الحنظلة ، وتقول : إنها كانت حلوة ومُرَّت( {[487]} ) من حينئذ » .
قال القاضي أبو محمد وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر ، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها ، وفي حظره تعالى على آدم الشجرة ما يدل على أن سكناه في الجنة لا يدوم ، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ، ولا يؤمر ولا ينهى .
وقيل إن هذه الشجرة كانت خصت بأن تحوج آكلها إلى التبرز ، فلذلك نهي عنها فلما أكل منها ولم تكن الجنة موضع تبرز أهبط إلى الأرض .
وقوله { فتكونا } في موضع جزم على العطف على { لا تقربا } ، ويجوز فيه النصب على الجواب ، والناصب عند الخليل وسيبويه «أن المضمرة » ، وعند الجرمي( {[488]} ) الفاء ، والظالم في اللغة الذي يضع الشيء غير موضعه ، ومنه قولهم : «من أشبه أباه فما ظلم( {[489]} ) » ومنه «المظلومة الجلد »( {[490]} ) لأن المطر لم يأتها في وقته ، ومنه قول عمرو بن قميئة : [ الكامل ]
ظلم البطاح بها انهلالُ حريصةٍ . . . فصفا النطافُ له بعيدَ المقلعِ( {[491]} )
والظلم في أحكام الشرع على مراتب ، أعلاها الشرك ، ثم ظلم المعاصي وهي مراتب ، وهو في هذه الآية يدل على أن قوله : { ولا تقربا } على جهة الوجوب ، لا على الندب ، لأن من ترك المندوب لا يسمى ظالماً ، فاقتضت لفظة الظلم قوة النهي( {[492]} ) .
عطف على { قلنا للملائكة اسجدوا } [ البقرة : 34 ] أي بعد أن انقضى ذلك قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة . وهذه تكرمة أكرم الله بها آدم بعد أن أكرمه بكرامة الإجلال من تلقاءِ الملائكة .
ونداء آدم قبل تخويله سكنى الجنة نداء تنويه بذكر اسمه بين الملإ الأعلى ، لأن نداءه يسترعي إسماع أهل الملإ الأعلى فيتطلعون لما سيخاطب به ، وينتزع من هذه الآية أن العالم جدير بالإكرام بالعيش الهنيء ، كما أخذ من التي قبلها أنه جدير بالتعظيم .
والأمر بقوله : { اسكن } مستعمل في الامتنان بالتمكين والتخويل وليس أمراً له بأن يسعى بنفسه لسكنى الجنة إذ لا قدرة له على ذلك السعي فلا يكلف به .
وضمير { أنت } واقع لأجل عطف { وزوجك } على الضمير المستتر في { اسكن } وهواستعمال العربية عند عطف اسم ، على ضمير متصل مرفوع المحل لا يكادون يتركونه ، يقصدون بذلك زيادة إيضاح المعطوف فتحصل فائدة تقرير مدلول المعطوف لئلا يكون تابعه المعطوف عليه أبرز منه في الكلام ، فليس الفصل بمثل هذا الضمير مقيداً تأكيداً للنسبة لأن الإتيان بالضمير لازم لا خيرة للمتكلم فيه فلا يكون مقتضى حال ولا يعرف السامع أن المتكلم مريد به تأكيداً ولكنه لا يخلو من حصول تقرير معنى المضمر وهو ما أشار إليه في « الكشاف » بمجموع قوله : وأنت تأكيد للضمير المستكن ليصح العطف عليه .
والزوج كل شيء ثان مع شيء آخر بينهما تقارُن ، في حال ما . ويظهر أنه اسم جامد لأن جميع تصاريفه في الكلام ملاحظ فيها معنى كونه ثاني اثنين أو مماثل غيره ، فكل واحد من اثنين مقترنين في حالٍ ما يسمى زوجاً للآخر قال تعالى : { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } [ الشورى : 50 ] أي يجعل لأحد الطفلين زوجاً له أي سواه من غير صنفه ، وقريب من هذا الاستعمال استعمال لفظ شفع .
وسميت الأنثى القرينة للرجل بنكاح زوجاً لأنها اقترنت به وصيرته ثانياً ، ويسمى الرجل زوجاً لها لذلك بلا فرق ، فمن ثم لا يقال للمرأة زوجة بهاء تأنيث لأنه اسم وليس بوصف . وقد لحنوا الفرزدق في قوله :
وإن الذي يَسعى ليُفسِد زوجتي *** كساعٍ إلى أُسْد الثرى يستبيلُها
وتسامح الفقهاء في إلحاق علامة التأنيث للزوج إذا أرادوا به امرأة الرجل لقصد نفي الالتباس في تقرير الأحكام في كتبهم في مثل قولهم : القول قول الزوج ، أو القول قول الزوجة وهو صنيع حسن .
وفي « صحيح مسلم » عن أنس بن مالك " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه يا فلان فجاء فقال له : هذه زوجتي فلانة " الحديث ، فقوله : زوجتي بالتاء فتعين كونه من عبارة راوي الحديث في السند إلى أنس وليست بعبارة النبيء صلى الله عليه وسلم .
وطوى في هذه الآية خلق زوج آدم ، وقد ذكر في آيات أخرى كقوله تعالى : { الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] وسيأتي ذلك في سورة النساء وسورة الأعراف ( 189 ) .
ولم يرد اسم زوج آدم في القرآن واسمها عند العرب حواء وورد ذكر اسمها في حديث رواه ابن سعد في « طبقاته » عن خالد بن خداش عن ابن وهب يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الناس لآدم وحواء كطف لصاع لن يملأوه " الحديث ( طف المكيال بفتح الطاء وكسرها ما قرب من ملئه ) أي هم لا يبغون الكمال فإن كل كمال من البشر قابل للزيادة . وخالد بن خداش بصري وثقه ابن معين وأبو حاتم وسليمان بن حرب وضعفه ابن المديني . فاسم زوج آدم عند العرب حواء واسمها في العبرانية مضطرب فيه ، ففي سفر التكوين في الإصحاح الثاني أن اسمها امرأة سماها كذلك آدم قال : لأنها من امرىء أخذت . وفي الإصحاح الثالث أن آدم دعا اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي . وقال ابن سعد نام آدم فخلقت حواء من ضلعه فاستيقظ ووجدها عنده فقال : أثا أي امرأة بالنبطية ، أي اسمها بالنبطية المرأة كما سماها آدم . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وعلم آدم الأسماء } [ البقرة : 31 ] أن آدم دعا نفسه ، إيش ، فلعل أثا محرفة عن إشّا . واسمها بالعبرية ( خمواه ) بالخاء المعجمة وبهاء بعد الألف ويقال أيضاً حيوا بحاء مهملة وألف في آخره فصارت بالعربية حواء وصارت في الطليانية إيا وفي الفرنسية أي . وفي التوراة أن حواء خلقت في الجنة بعد أن أسكن آدم في الجنة وأن الله خلقها لتؤنسه قال تعالى : { وجعل منها زوجها ليسكن إليها } [ الأعراف : 189 ] أي يأنس .
والأمر في { اسكن } أمر إعطاء أي جعل الله آدم هو وزوجه في الجنة . والكنى اتخاذ المكان مقراً لغالب أحوال الإنسان .
والجنة قطعة من الأرض فيها الأشجار المثمرة والمياه وهي أحسن مقر للإنسان إذا لفحه حر الشمس ويأكل من ثمره إذا جاع ويشرب من المياه التي يشرب منها الشجر ويروقه منظر ذلك كله ، فالجنة تجمع ما تطمح إليه طبيعة الإنسان من اللذات .
وتعريف ( الجنة ) تعريف العهد وهي جنة معهودة لآدم يشاهدها إذا كان التعريف في ( الجنة ) حكاية لما يرادفه فيما خوطب به آدم ، أو أريد بها المعهود لنا إذا كانت حكاية قول الله لنا بالمعنى وذلك جائز في حكاية القول .
وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين هذه الجنة فالذي ذهب إليه جمهور السلف أنها جنة الخلد التي وعد الله المؤمنين والمصدقين رسله وجزموا بأنها موجودة في العالم العلوي عالم الغيب أي في السماء وأنها أعدها الله لأهل الخير بعد القيامة وهذا الذي تقلده أهل السنة من علماء الكلام وأبو علي الجبائي ، وهو الذي تشهد به ظواهر الآيات والأخبار المروية عن النبيء صلى الله عليه وسلم ولا تَعْدُو أنها ظواهرُ كثيرة لكنها تفيد غلبة الظن وليس لهذه القضية تأثير في العقيدة .
وذهب أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بَحْر وأبو القاسم البلخي والمعتزلة عدا الجبائي إلى أنها جنة في الأرض خلقها الله لإسكان آدم وزوجه ، ونقل البيضاوي عنهم أنها بستان في فِلسطين أو هو بين فَارس وكِرْمان ، وأحسب أن هذا ناشىء عن تطلبهم تعيين المكان الذي ذكر ما يسمى في التوراة باسم عَدْن .
ففي التوراة في الإصحاح الثاني من سفر التكوين « وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عَدْن ليعملها ويحفظها ثم قالت فأخرجه الرب الإله من جنة عدْن ليعمل الأرض التي أخذ منها » وهذا يقتضي أن جنة عدن ليست في الأرض لكن الذي عليه شراح التوراة أن جنة عَدْن في الأرض وهو ظاهر وصف نهر هذه الجنة الذي يسقيها بأنه نهر يخرج من عَدْن فيسقي الجنة ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤُوس اسم الواحد ( قيشون ) وهو المحيط بجميع أرض الحويلة وهم من بني كوش كما في الإصحاح من التكوين واسم النهر الثاني ( جَيحون ) وهو المحيط بجميع أرض كوش ، واسم النهر الثالث ( حِدّا قِلْ ) وهو الجاري شرق أشَور ( دجلة ) . والنهر الرابع الفُرات .
ولم أقف على ضبط عَدْن هذه . ورأيت في كتاب عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهودياً وأسلم وألف كتاباً في الرد على اليهود سماه « الحُسام المحدود في الرد على اليهود » كتَبه بغِيدِن وضبطه بالعلامات بكسر الغين المعجمة وكسر الدال المهملة ولعل النقطة على حرف العين سهو من الناسخ فذلك هو منشأ قول القائلين أنها بِعَدْن أو بفلسطين أو بين فارس وكرمان ، والذي ألجأهم إلى ذلك أن جنة الثواب دار كمال لا يناسب أن يحصل فيها العصيان وأنها دار خُلد لا يخرج ساكنها ، وهو التجاء بلا ملجىء لأن ذلك من أحوال سكان الجنة لا لتأثير المكان وكلُّه جعل الله تعالى عندما أراده .
واحتج أهل السنة بأن أل في { الجنة } للعهد الخارجي ولا معهود غيرها ، وإنما تعين كونها للعهد الخارجي لعدم صحة الحمْل على الجنس بأنواعه الثلاثة ، إذ لا معنى للحمل على أنها لام الحقيقة لأنها قد نيط بها فعل السكنى ولا معنى لتعلقه بالحقيقة بخلاف نحو الرجلُ خير من المرأة ، ولا معنى للحمل على العهد الذهني إذ الفرد من الحقيقة هنا مقصود معين لأن الأمر بالإسكان جزاء وإكرام فلا بد أن يكون متعلقاً بجنة معروفة ، ولا معنى للحمل على الاستغراق لظهور ذلك . ولما كان المقصود هو الجزاء تعين أن يكون متعلقاً بأمر معين معهود ولا معهود إلا الجنة المعروفة لا سيما وهو اصطلاح الشرع .
وقد يقال يختار أن اللام للعهد ولعل المعهود لآدم هو جنة في الأرض معينة أشير إليها بتعريف العهد ولذلك أختار أنا أن قوله تعالى : { اسكُن أنت وزوجك الجنة } لما كان المقصود منه القصص لنا حكي بالألفاظ المتعارفة لدينا ترجمة لألفاظ اللغة التي خوطب بها آدم أو عن الإلهام الذي ألقي إلى آدم فيكون تعريف { الجنة } منظوراً فيه إلى متعارفنا فيكون آدم قد عرف المراد من مسكنه بطريق آخر غير التعريف ويكون قد حُكي لنا ذلك بطريقة التعريف لأن لفظ الجنة المقترن في كلامنا بلام التعريف يدل على عين ما دل عليه الطريق الآخر الذي عَرَف به آدم مراد الله تعالى ، أي قلنا له اسكن البقعة التي تسمونها أنتم اليومَ بالجنة ، والحاصل أن الأظهر أن الجنة التي أُسكنها آدم هي الجنة المعدودة داراً لجزاء المحسنين .
ومعنى الأكل من الجنة من ثمرها لأن الجنة تستلزم ثماراً وهي مما يقصد بالأكل ولذلك تجعل { من } تبعيضية بتنزيل بعض ما يحويه المكان منزلة بعض لذلك المكان . ويجوز أن تكون { من } ابتدائية إشارة إلى أن الأكل المأذون فيه أكل ما تثمره تلك الجنة كقولك هذا الثَّمر من خيبر .
والرغَد وصف لموصوف دل عليه السياق أي أَكلاً رغَداً ، والرغَد الهنيء الذي لا عناء فيه ولا تقتير .
وقوله : { حيث شئتما } ظرفُ مكان أي من أي مواضع أرَدْتُما الأكل منها ، ولما كانت مشيئتهما لا تنحصر بمواضع استفيد العموم في الإذن بطريق اللزوم ، وفي جعل الأكل من الثمر من أحوال آدم وزوجه بين إنشائها تنبيه على أن الله جعل الاقتيات جبلة للإنسان لا تدوم حياته إلا به .
وقوله : { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } يعني به ولا تأكلا من الشجرة لأن قربانها إنما هو لقصد الأكل منها فالنهي عن القربان أبلغ من النهي عن الأكل لأن القرب من الشيء ينشىءُ داعية وميلاً إليه ففيه الحديث " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " وقال ابن العربي سمعتُ الشاشي في مجلس النظر يقول : > اهـ . وهو غريب فإن قَرُب وقَرِب نحو كرم وسمع بمعنى دنا ، فسواء ضممت الراء أو فتحتها في المضارع فالمراد النهي عن الدنو إلا أن الدنو بعضه مجازي وهو التلبس وبعضه حقيقي ولا يكون للمجازي وزن خاص في الأفعال وإلا لصار من المشترك لا من الحقيقة والمجاز ، اللهم إلا أن يكون الاستعمال خص المجازي ببعض التصاريف فتكون تلك الزنة قرينة لفظية للمجاز وذلك حَسن وهو من محاسن فروق استعمال الألفاظ المترادفة في اللغة العربية مثل تخصيص بَعِدَ مكسور العين بالانقطاع التام وبعُد مضموم العين بالتنحّي عن المكان ولذلك خص الدعاء بالمكسور في قولهم للمسافر لا تبعَد ، قالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية :
إخْوَتِي لا تَبْعَدوا أبدا *** وَبَلى واللَّه قَد بعِدوا
وفي تعليق النهي بقربان الشجرة إشارة إلى منزع سد الذرائع وهو أصل من أُصول مذهب مالك رحمه الله وفيه تفصيل مقرر في أصول الفقه .
والإشارة بهذه إلى شجرة مرئية لآدم وزوجه ، والمراد شجرة من نوعها أو كانت شجرةً وحيدة في الجنة .
وقد اختلف أهل القصص في تعيين نوع هذه الشجرة فعن علي وابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي أنها الكرمة ، وعن ابن عباس والحسن وجمهور المفسرين أنها الحنطة ، وعن قتادة وابن جريج ونسبه ابن جريج إلى جمع من الصحابة أنها شجرة التين . ووقع في سفر التكوين من التوراة إبهامها وعبر عنها بشجرة معرفة الخير والشر .
وقوله : { فتكونا من الظالمين } أي من المعتدين وأشهر معاني الظلم في استعمال العرب هو الاعتداء ، والاعتداء إما اعتداء على نهي الناهي إن كان المقصود من النهي الجزْم بالترك وإما اعتداء على النفس والفضيلة إن كان المقصود من النهي عن الأكل من الشجرة بقاء فضيلة التنعُم لآدم في الجنة ، فعلى الأول الظلم لأنفسهما بارتكاب غضب الله وعقابه وعلى الثاني الظلم لأنفسهما بحرمانها من دوام الكرامة .