والمراد بالوراثة فى قوله - تعالى - : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ . . . } وراثة العلم والنبوة والملك . أى : وورث سليمان داود فى نبوته وعلمه وملكه .
قال ابن كثير : " وقوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } : أى : فى الملك والنبوة وليس المراد وراثة المال ، إذ لو كان كذلك ، لم يخص سليمان وحده من ين سائر أولاد داود .
. . ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة فإن الأنبياء لا تورث أموالهم ، أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " .
ثم حكى - سبحانه - ما قاله سليمان على سبيل التحدث بنعم الله عليه ، فقال - تعالى - : { وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ . . } .
أى : وقال سليمان - عليه السلام - على سبيل الشكر لله - تعالى - : يأيها الناس : علمنا الله - تعالى - بفضله وإحسانه فهم ما يريده كل طائر إذا صوت أو صاح ، وأعطانا - سبحانه - من كل شىء نحتاجه وننتفع به فى ديننا أو دنيانا .
وقدم نعمة تعليمه منطق الطير ، لأنها نعمة خاصة لا يشاركه فيها غيره ، وتعتبر من معجزاته - عليه السلام - .
وقيل : إنه علم منطق جميع الحيوانات ، وإنما ذكر الطير لأنه أظهر فى النعمة ، ولأن الطير كان جندا من جنده ، يسير معه لتظليله من الشمس .
قال الآلوسى : " والجملتان - علمنا منطق الطير ، وأوتينا من كل شىء - كالشرح للميراث .
وعن مقاتل : أنه أريد بما أوتيه النبوة والملك وتسخير الجن والإنس والشياطين والريح .
وعن ابن عباس : هو ما يريده من أمر الدنيا والآخرة " .
وعبر عن نعم الله - تعالى - عليه بنون العظمة فقال { أُوتِينَا } ولم يقل أوتيت ، للإشعار بأنه عبد من عباد الله المطاعين ، الذين سخر لهم جنوداً من الجن والإنس والطير ، ليكونوا فى خدمته ، وليستعملهم فى وجوه الخير فى فى وجوه الشر ، فهو لم يقل ذلك على سبيل التباهى والتعالى ، وإنما قاله على سبيل التحدث بنعمى الله .
وإسم الإشارة فى قوله - تعالى - : { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } يعود إلى ما أعطاه الله - تعالى - إياه من العلم والملك وغيرهما .
أى : إن هذا الذى أعطانا إياه من العلم والملك ، وكل شىء تدعو إليه الحاجة ، لهو الفضل الواضح ، والإحسان الظاهر منه - عز وجل - .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَأَيّهَا النّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَيْءٍ إِنّ هََذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } .
يقول تعالى ذكره : وَوَرِثَ سُلَيْمانُ أباه دَاوُدَ العلم الذي كان آتاه الله في حياته ، والمُلك الذي كان خصه به على سائر قومه ، فجعله له بعد أبيه داود سائر ولد أبيه . وَقالَ يا أيّها النّاس عُلّمْنا مَنْطِقَ الطّيْرِ يقول : وقال سليمان لقومه : يا أيها الناس علمنا منطق الطير ، يعني فهمنا كلامها وجعل ذلك من الطير كمنطق الرجل من بني آدم إذ فهمه عنها ، وقد :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب وَقالَ يا أيّها النّاسُ عُلّمْنا مَنْطِقَ الطّيْر قال : بلغنا أن سليمان كان عسكره مئة فرسخ : خمسة وعشرون منها للإنس ، وخمسة وعشرون للجنّ وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاث مئة صريحة ، وسبع مئة سرية ، فأمر الريح العاصف فرفعته ، وأمر الرّخاء فسيرته فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض : إني قد أردت أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح فأخبرته . وقوله : وأُوتينا مِنْ كلّ شَيْءٍ يقول : وأُعطينا ووُهب لنا من كلّ شيء من الخيرات إنّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ يقول : إن هذا الذي أوتينا من الخيرات لهو الفضل على جميع أهل دهرنا المبين ، يقول : الذي يبين لمن تأمّله وتدبره أنه فضل أُعطيناه على من سوانا من الناس .
{ وورث سليمان } ملكه ومنزلته من النبوءة بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمي ميراثاً تجوزاً ، وهذا نحو قولهم : العلماء ورثة الأنبياء ، وحقيقة الميراث في المال والأنبياء لا تورث أموالهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة » ، ويحتمل قوله عليه السلام «إنا معشر الأنبياء لا نورث »{[1]} أن يريد به أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم وإن كان فيهم من ورث ماله كزكرياء على أشهر الأقوال فيه ، وهذا كما تقول : إنا معشر المسلمين إنما شغلنا العبادة ، فالمراد أن ذلك فيه فعل الأكثر ، ومنه ما حكى سيبويه أنا معشر العرب أقرى الناس لضيف . وقوله { علمنا منطق الطير } إخبار بنعمة الله عندهما في أن فهمهما من أصوات الطير المعاني التي نفوسها ، وهذا نحو ما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يسمع أصوات الحجارة بالسلام وسليمان عليه السلام حكى عن البلبل أنه قال : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء إلى كثير من هذا النوع وقال قتادة والشعبي وغيره : إنما كان هذا الأمر في الطير خاصة والنملة طائر قد يوجد له الأجنحة ، قال الشعبي : وكذلك كانت هذه القائلة ذات جناحين ، وقالت فرقة : بل كان في جميع الحيوان وإنما ذكر الطير لأنه كان جنداً من جنود سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص لكثرة مداخلته ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد أمْر الطير ، والنمل حيوان فطن قويّ شمام جداً يدخر القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت ويشق الكزبرة بأربع قطع لأنها تنبت إذا قسمت شقين ويأكل في عامه نصف ما جمع ، ويستبقي سائره عُدَّه ، وقوله { وأوتينا من كل شيء } معناه يصلح لنا ونتمناه وليست على العموم ، ثم ردد شكر فضل الله تعالى .
طوى خبر ملك داود وبعض أحواله إلى وفاته لأن المقصود هو قصة سليمان كما قدمناه آنفاً . وقد كان داود ملكاً على بني إسرائيل ودام ملكه أربعين سنة وتوفي وهو ابن سبعين سنة .
فخلفه سليمان فهو وارث ملكه والقائم في مقامه في سياسة الأمة وظهور الحكمة ونبوءة بني إسرائيل والسمعة العظيمة بينهم . فالإرث هنا مستعمل في معناه المجازي وهو تشبيه الأحوال الجليلة بالمال وتشبيه الخلفة بانتقال ملك الأموال لظهور أن ليس غرض الآية إفادة من انتقلت إليه أموال داود بعد قوله : { ولقد آتينا داوود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضَّلنا } [ النمل : 15 ] فتعين أن إرث المال غير مقصود فإنه غرض تافه .
وقد كان لداود أحدَ عشر ولداً فلا يختص إرثُ ماله بسليمان وليس هو أكبرهم ، وكان داود قد أقام سليمان ملكاً على إسرائيل . وبهذا يظهر أن ليس في الآية ما يحتج به لجواز أن يورث مال النبي ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا نُورث ما تركنَا صدقة " ، وظاهره أنه أراد من الضمير جماعة الأنبياء وشاع على ألسنة العلماء : إنا أو نَحن معاشرَ الأنبياء لا نورث ، ولا يعرف بهذا اللفظ ، ووقع في كلام عمر بن الخطاب مع العباس وعلي في شأن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر : « أنشدكما الله هل تعلمان أن رسول الله قال : لا نُورث ما تركنا صدقة ، يريد رسولُ الله نفسَه » وكذلك قالت عائشة ، فإذا أخذنا بظاهر الآية كان هذا حكماً في شرع من قبلنا فينسخ بالإسلام ، وإذا أخذنا بالتأويل فظاهر . وقد أجمع الخلفاء الراشدون وغيرهم على ذلك ، خلافاً للعباس وعلي ، ثم رجعا حين حاجهما عمر . والعلة هي سدّ ذريعة خطور تمني موت النبي في نفس بعض ورثته .
{ وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين }
قال سليمان هذه المقالة في مجمع عظيم لأن لهجة هذا الكلام لهجة خطبته في مجمع من الناس الحاضرين مجلسه من الخاصة والسامعين من العامة . فهذه الجملة متضمنة شكر الله تعالى ما منحه من علم ومُلك ، وليقدر الناس قدره ويعلموا واجب طاعته إذ كان الله قد اصطفاه لذلك ، وأطلعه على نوايا أنفر الحيوان وأبعده عن إلف الإنسان وهو الطير ، فما ظنك بمعرفة نوايا الناس من رعيته وجنده فإن تخطيط رسوم الملك وواجباته من المقاصد لصلاح المملكة بالتفاف الناس حول ملكهم وصفاء النيات نحوه ، وبمقدار ما يحصل ذلك من جانبهم يكون التعاون على الخير وتنزل السكينة الربانية ، فلما حصل من جانب سليمان الاعتراف بهذا الفضل لله تعالى فقد أدى واجبه نحو أمته فلم يبق إلا أن تؤدي الأمة واجبها نحو مَلِكها ، كما كان تعليم فضائل النبوة من مقاصد الشارع ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
« أنا سيِّد ولدِ آدم ولا فخر » أي أقوله لقصد الإعلام بواجب التقادير لا لقصد الفخر على الناس ، ويعلموا واجب طاعته .
وعِلم منطق الطير أوتيه سليمان من طريق الوحي بأن أطلعه الله على ما في تقاطيع وتخاليف صفير الطيور أو نعيقها من دلالة على ما في إدراكها وإرادتها . وفائدة هذا العلم أن الله جعله سبيلاً له يهتدي به إلى تعرف أحوال عالمية يسبق الطير إلى إدراكها بما أودع فيه من القُوى الكثيرة ، وللطير دلالة في تخاطب أجناسها واستدعاء أصنافها والإنباء بما حولها ما فيه عون على تدبير ملكه وسياسة أمته ، مثل استخدام نوع الهدهد في إبلاغ الأخبار وردها ونحو ذلك .
ووراء ذلك كله انشراحُ الصدر بالحكمة والمعرِفة لكثير من طبائع الموجودات وخصائصها . ودلالة أصوات الطير على ما في ضمائرها : بعضُها مشهور كدلالة بعض أصواته على نداء الذكور لإناثها ، ودلالة بعضها على اضطراب الخوف حين يمسكه مُمسك أو يهاجمه كاسر ، ووراء ذلك دلالات فيها تفصيل ، فكل كيفية من تلك الدلالات الإجمالية تنطوي على تقاطيع خفية من كيفيات صوتية يخالف بعضها بعضاً فيها دلالات على أحوال فيها تفضيل لما أجملته الأحوال المجملة ، فتلك التقاطيع لا يهتدي إليها الناس ولا يطلع عليها إلا خالقها ، وهذا قريب من دلالة مخارج الحروف وصفاتها في لغة من اللغات وفكّها وإدغامها واختلاف حركاتها على معاننٍ لا يهتدي إليها مَن يعرف تلك اللغة معرفة ضعيفة ولم يتقن دقائقها . مثل أن يسمع ضَلَلْت وظَللت ، فالله تعالى اطلع سليمان بوحي على مختلف التقاطيع الصوتية التي في صفير الطير وأعلمه بأحوال نفوس الطير عندما تصفر بتلك التقاطيع ، وقد كان الناس في حيرة من ذلك كما قال المعري :
أَبَكَتْ تِلكمُ الحمامةُ أمْ غَنّ *** تْ على غصن دوحها الميَّاد
وقال صاحبنا الشاعر البليغ الشيخ عبد العزيز المسعودي من أبيات في هذا المعنى :
فمن كان مسروراً يراه تَغنياً *** ومن كان محزوناً يقول ينوح
والاقتصار على منطق الطير إيجاز لأنه إذا عَلِم منطق الطير وهي أبعد الحيوان عن الركون إلى الإنسان وأسرعها نفوراً منه ، علم أن منطق ما هو أكثر اختلاطاً بالإنسان حاصل له بالأحرى كما يدل عليه قوله تعالى فيما يأتي قريباً : { فتبسّم ضَاحكاً من قولها } [ النمل : 19 ] ، فتدل هذه الآية على أنه علِّم منطق كل صنف من أصناف الحيوان . وهذا العلم سماه العرب علم الحُكْل ( بضم الحاء المهملة وسكون الكاف ) قال العجاج وقيل ابنه رؤبة :
لو أَنني أوتيتُ علم الحُكْل *** عِلْم سليمان كَلامَ النمل
أو أنني عُمِّرت عُمْر الحِسْل *** أو عُمر نُوح زَمَن الفِطَحْل
وعُبر عن أصوات الطير بلفظ { منطق } تشبيهاً له بنطق الإنسان من حيث هو ذو دلالة لسليمان على ما في ضمائر الطير ، فحقيقة المنطق الصوتُ المشتمل على حروف تدل على معان .
وضمير { عُلِّمنا أُوتينا } مراد به نفسه ، جاء به على صيغة المتكلم المشارك ؛ إما لقصد التواضع كأنَّ جماعة عُلموا وأُوتوا وليس هو وحده كما تقدم في بعض احتمالات قوله تعالى آنفاً : { وقالا الحمد لله الذي فضّلنا } [ النمل : 15 ] ، وإما لأنه المناسب لإظهار عظمة الملك ، وفي ذلك تهويل لأمر السلطان عند الرعية ، وقد يكون ذلك من مقتضى السياسة في بعض الأحوال كما أجاب معاوية عُمر رضي الله عنهما حين لقيه في جند ( وأبهة ) ببلاد الشام فقال عمر لمعاوية « أَكِسْرَوِيَّةً يا معاوية ؟ فقال معاوية : إنا في بلاد من ثغور العدوّ فلا يرهبون إلا مثل هذا . فقال عمر : خَدعة أريب أو اجتهادُ مصيب لا آمرك ولا أنهاك » فترك الأمرَ لعهدة معاوية وما يتوسمه من أساليب سياسة الأقوام .
والمراد ب { كل شيء } كل شيء من الأشياء المهمة ففي { كل شيء } عمومان عموم { كلّ } وعموم النكرة وكلاهما هنا عموم عرفي ، ف { كلّ } مستعملة في الكثرة و { شيء } مستعمل في الأشياء المهمة مما له علاقة بمقام سليمان ، وهو كقوله تعالى فيما حكى عن أخبار الهدهد . { وأوتِيَتْ من كل شيء } [ النمل : 23 ] ، أي كثيراً من النفائس والأموال . وفي كل مقام يحمل على ما يناسب المتحدث عنه .
والتأكيد في { إن هذا لهو الفضل المبين } بحرف التوكيد ولامه الذي هو في الأصل لام قسم وبضمير الفصل مقصود به تعظيم النعمة أداء للشكر عليها بالمستطاع من العبارة .
و { الفضل } : الزيادة من الخير والنفع . و { المبين } : الظاهر الواضح .