ثم حكى - سبحانه - شبهات المشركين ورد عليها ، وصور أحوالها الليمة عندما تقبض الملائكة أرواحهم ، فقال - تعالى - : { وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا . . . بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض } هذا قول منكرى البعث أى : هلكنا وبطلنا وصرنا ترابا . وأصله من قول العرب : ضل الماء فى اللبن إذا ذهب ، والعرب تقول للشئ غلب عليه غيره حتى خفى فيه أثره : قد ضل . .
أى : وقال الكافرون على سبيل الإِنكار ليوم القيامة وما فيه من حساب أئذا صارت أجسادنا كالتراب واختلطت به ، أنعاد إلى الحياة مرة أخرى ، ونخلق خلقاً جديداً . .
وقوله - سبحانه - : { هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } إضراب وانتقال من حكاية كفرهم بالبعث والحساب إلى حكاية ما هو أشنع من ذلك وهو كفرهم بلقاء الله - تعالى - الذى خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم . . أى : بل هم لانطماس بصائرهم ، واستيلاء العناد والجهل عليهم ، بلقاء ربهم يوم القيامة ، كافرون جاحدون ، لأنهم قد استبعدوا إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم ، مع أن الله - تعالى - قد أوجدهم ولم يكونوا شيئاً مذكوراً .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوَاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبّهِمْ كَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وقال المشركون بالله ، المكذّبون بالبعث : أئِذَا ضَلَلْنا في الأرْض أي صارت لحومنا وعظامنا ترابا في الأرض وفيها لغتان : ضَلَلْنا ، وضَلِلْنا ، بفتح اللام وكسرها والقراءة على فتحها ، وهي الجوداء ، وبها نقرأ . وذكر عن الحسن أنه كان يقرأ : «أئِذَا صَلَلْنا » بالصاد ، بمعنى : أنتنا ، من قولهم : صلّ اللحم وأصلّ : إذا أنتن . وإنما عنى هؤلاء المشركون بقولهم : أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ أي إذا هلكت أجسادنا في الأرض ، لأن كلّ شيء غلب عليه غيره حتى خفي فيما غلب ، فإنه قد ضلّ فيه ، تقول العرب : قد ضلّ الماء في اللبن : إذا غلب عليه حتى لا يتبين فيه ومنه قول الأخطل لجرير :
كُنْتَ القَذَى في مَوْج أكْدَرَ مُزْبدٍ *** قَذَفَ الأَتِيّ به فَضَلّ ضَلالاَ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ يقول : أئذا هلكنا .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ هلكنا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد : قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ يقول : أئذا كنا عظاما ورفاتا أنبعث خلقا جديدا ؟ يكفرون بالبعث .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، وَقالُوا أئِذَا ضلَلْنا في الأرْض أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ قال : قالوا : أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ؟ .
وقوله : بَلْ هُمْ بِلِقاء رَبّهِمْ كافِرُونَ يقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء المشركين جحود قدرة الله على ما يشاء ، بل هم بلقاء ربهم كافرون ، حذرا لعقابه ، وخوف مجازاته إياهم على معصيتهم إياه ، فهم من أجل ذلك يجحدون لقاء ربهم في المعاد .
والضمير في { قالوا } للكفار الجاحدين البعث من القبور والمستبعدين لذلك دون حجة ولا دليل .
وموضع { إذا } نصب بما في قوله { إنا لفي خلق جديد } لأن معناه لنعاد ، واختلفت القراءة في { أئذا } وقد تقدم استيعاب ذكره في غير هذا الموضع . وقرأ جمهور القراء «ضللنا » بفتح اللام ، وقرأ ابن عامر وأبو رجاء وطلحة وابن وثاب «ضلِلنا » بكسر اللام والمعنى تلفنا وتقطعت أوصالنا فذهبنا حتى لم نوجد ، ومنه قول الأخطل : [ الكامل ]
كنت القذا في متن أكدر مزبد . . . قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا{[9417]}
فآب مضلوه بعين جلية . . . وغودر بالجولان حزم ونائل{[9418]}
أي متلفوه دفناً ، ومنه قول امرىء القيس : «تضل المداري في مثنى ومرسل »{[9419]} . وقرأ الحسن البصري «صلَلنا » بالصاد غير منقوطة وفتح اللام ، قال الفراء وتروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعناه صرنا من الصلة وهي الأرض اليابسة الصلبة ، ويجوز أن يريد به من التغير كما يقال صل اللحم{[9420]} ، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس وأبان بن سعيد بن العاصي ، وقرأ الحسن أيضاً «صلِلنا » بالصاد غير منقوط وكسر اللام ، وقرأ علي بن أبي طالب وأبو حيوة «ضُلِّلنا » بضم الضاد وكسر اللام وشدها ، وقولهم { إنا لفي خلق جديد } أي إنا لفي هذه الحالة نعاد ويجدد خلقنا . وقوله تعالى : { بل } إضراب عن معنى استفهامهم كأنه قال ليسوا مستفهمين «بل هم كافرون » جاحدون بلقاء الله تعالى ، ثم أمر تعالى نبيه أن يخبرهم بجملة الحال غير مفصلة ، فبدأ بالإخبار من وقت يفقد روح الإنسان إلى الوقت الذي يعود فيه إلى ربه فجمع الغايتين الأولى والآخرة ، و { يتوفاكم } معناه يستوفيكم .
أزيني الأردم ليسوا من أحد . . . ولا توفيهم قريش في العدد{[9421]}
الواو للحال ، والحال للتعجيب منهم كيف أحالوا إعادة الخلق وهم يعلمون النشأة الأولى ، وليست الإعادة بأعجب من بدء الخلق وخاصة بدء خلق آدم عن عدم ، وخُلوّ الجملة الماضوية عن حرف ( قد ) لا يقدح في كونها حالاً على التحقيق .
والاستفهام في { أءذا ضللنا } للتعجب والإحالة ، أي أظهروا في كلامهم استبعاد البعث بعد فناء الأجساد واختلاطها بالتراب ، مغالطة للمؤمنين وترويجاً لكفرهم . والضّلال : الغياب ، ومنه : ضلال الطريق ، والضالة : الدابة التي ابتعدت عن أهلها فلم يعرف مكانها . وأرادوا بذلك إذا تفرقت أجزاء أجسادنا في خلال الأرض واختلطت بتراب الأرض . وقيل : الضلال في الأرض : الدخول فيها بناء على أنه يقال : أضلّ الناسُ الميت ، أي : دفنوه . وأنشدوا قول النابغة في رثاء النعمان بن الحارث الغساني :
فآب مُضِلّوه بعين جَلية *** وغُودر بالجَوْلان حَزم ونائل
وقرأه نافع والكسائي ويعقوب : { إنا لفي خلق جديد } بهمزة واحدة على الإخبار اكتفاء بدخول الاستفهام على أول الجملة ومتعلقها . وقرأ الباقون { أإنا لفي خلق جديد } بهمزتين أولاهما للاستفهام والثانية تأكيد لهمزة الاستفهام الداخلة على { أإذا ضللنا في الأرض . } وقرأ ابن عامر بترك الاستفهام في الموضعين على أن الكلام خبر مستعمل في التهكم .
وتأكيد جملة { إنَّا لفي خلق جديد } بحرف { إنَّ } لأنهم حكوا القول الذي تعجبوا منه وهو ما في القرآن من تأكيد تجديد الخلق فحكوه بالمعنى كما في الآية الأخرى : { وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل يُنَبِّئكم إذا مُزِّقْتُم كلَّ ممزَّق إنكم لفي خلق جديد } [ سبأ : 7 ] ، أي : يُحَقِّق لكم ذلك .
و { إذا } ظرف وهو معمول لما في جملة { إنا لفي خلق جديد } من معنى الكون . والخلق : مصدر . و { في } للظرفية المجازية ومعناها المصاحبة .
والجديد : المحدث ، أي غير خلقنا الذي كنا فيه .
و { بل } من { بل هُم بلقاء ربهم كافرون } إضراب عن كلامهم ، أي ليس إنكارهم البعث للاستبعاد والاستحالة لأن دلائل إمكانه واضحة لكل متأمل ولكن الباعث على إنكارهم إياه هو كفرهم بلقاء الله ، أي كفرهم الذي تلقوه عن أيمتهم عن غير دليل ، فالمعنى : بل هم قد أيقنوا بانتفاء البعث فهم متعنّتون في الكفر مُصرّون عليه لا تنفعهم الآيات والأدلة . فالكفر المثبت هنا كفر خاص وهو غير الكفر الذي دل عليه قولهم { أإذا ضَلَلْنا في الأرض إنا لفي خلق جديد } فإنه كفر بلقاء الله لكنهم أظهروه في صورة الاستبعاد تشكيكاً للمؤمنين وترويجاً لكفرهم .
وتقديم المجرور على { كافرون } للرعاية على الفاصلة ، والإتيان بالجملة الاسمية لإفادة الدوام على كفرهم والثبات عليه .